الطرد والإبادة – مصير المسلمين العثمانيين : 1821 -1922 م لـ جستن مكارثي
02/01/2014
بعد أن وضعت الحروب أوزارها، كانت مجتمعات مسلحة في منطقة بحجم أوروبا الغربية كاملة قلصت أو أبيدت. تقلصت مجتمعات البلقان التركية العظيمة إلى جزء من أعدادها السابقة. في القفقاس، طرد جركس واللاز والأنجاز والأتراك وآخرون من جماعات مسلحة صغيرة. تغيرت الأناضول، المنطقة الوحيدة التي انتصر فيها الأتراك، كليّاً، فالأقلية المسيحية فيها لم تعد موجودة، وغربي الأناضول وشرقيّها أقرب إلى الخرائب. أُنْجزت إحدى أكبر مآسي التاريخ. وكما يمكن أن يكون متوقعاً، ولكن نادراً ما يعترف به في الكتب المدرسية، أثرت وفيات وهجرة ملايين المسلمين في الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للإمبراطورية العثمانية ومن خَلَفها.
إن الآثار الرئيسية واضحة. كان التجانس العرقي والديني في المناطق من صربيا إلى القفقاس ناجماً عن طرد المسلمين. كان حجم وقوة روسيا (الاتحاد السوفييتي لاحقاً) مرتبطين مباشرة بالتوسع الروسي على حساب المسلمين في جنوبي روسيا والقِرَم والقفقاس. لكن آثاراً أخرى ليست بهذا الوضوح ربما تحتاج إلى توضيح. من ضمنها، آثار الكارثة القومية التركية في سياسات الحكومة العثمانية والحكومة الجمهورية التركية وعمل التركيبة السكانية التركية. وقد كانت مسألة الشرق جزءاً من التاريخ الدبلوماسي الأوروبي أجيالاً، فصلت مجلدات عديدة بطريقة رزينة وواقعية علمياً الحروب والمكائد الدبلوماسية التي أدّت إلى تدمير الإمبراطورية العثمانية مرفقة بمصورات تظهر الفقدان المتدرج للأراضي العثمانية. لم تذكر الخسائر في الأرواح التي صاحبت حلّ مسألة الشرق. ولكن بشأن الأتراك والمسلمين الآخرين، كانت مسألة الشرق أكثر من خسارة أرض، أكثر من إصابة الهيبة الاستعمارية لـ “رجل أوروبا المريض” بالأذى؛ كانت تمثّل خسارة فادحة في الأرواح البشرية.
نظراً إلى عدد الوفيات واللاجئين مقارنة بإجمالي عدد السكان، لم تتجشم أي دولة أوروبية أخرى خسائر بهذا الحجم منذ حرب الثلاثين عاماً. ربما تجاهل المؤرخون آثار أحداث التوازن السكانيّ في القرارات السياسية، لكن لم يكن بوسع حكومات ذاك الزمان أن تفعل ذلك. حين قاتل العثمانيون الثوريين في اليونان، كانوا يحاولون الانتقام لمقتل الآلاف من مواطنيهم الأتراك ويحبطون مصيراً مشابهاً يباغت أتراك أوروبا الآخرين، ولم يكونوا يحاولون دعم إمبراطورية في طريقها إلى الزوال فحسب. بعد عام (1878م) جلب وجود مئات الآلاف من اللاجئين على عتبة باب العثمانيين الخطر على الأتراك والمسلمين الآخرين في أوروبا إلى عقر دار العثمانيين. لذلك، عندما حاول العثمانيون التمسك بمقدونيا وشرقي الأناضول، كانوا في الحقيقة يحمون شعبهم مما لا يمكن أن يكون إلا نفياً وقتلاً. لم تكن مشكلة سياسية فقط من النوع الذي يمكن أن يقلق أي دولة أخرى. عندما خسرت فرنسا الألزاس – لورين لألمانيا، لم تتوقع أن يقتل أو يطرد الفرنسيون في هذين الإقليمين. لم تتوقع النمسا أن يقهر مصير كهذا ألمان تيرول بعد الاحتلال الإيطالي، بينما كان على الأتراك أن يتوقعوا حدوث ذلك بعد احتلال أراضيهم.
نادراً ما جرى بحث أو تحليل تأثير توقعات معقولة كهذه في السياسة العثمانية. فعلاً، كثيراً ما كان دفاع العثمانيين عن أراضيهم يصور على أنه عمل إمبراطورية آفلة تحاول التمسك بأراضيها على نحو غير شرعي ضدّ رغبات السكان المسيحيين ومع الهزيمة المحتدمة. الانطباع هو أنها إمبراطورية وحشية أو حمقاء، وليست إمبراطورية تحاول جاهدة أن تحمي أرواح مواطينها. إن النظر إلى التاريخ العثماني الأخير على أنه دفاع نبيل عن مواطنين عثمانيين فحسب، إنما يكون تعتيماً يتعذر تسويفه على عدّة عوامل أخرى أثرت في القرارات السياسية العثمانية، تماماً كتجاهل محاولة الإمبراطورية الدفاع عن مواطنيها الذي يتعذر تسويفه أيضاً. ومهما يكن من أمر يمكن القول بأن المسلمين في الدولة العثمانية قد تعرضوا في تلك الفترة التاريخية إلى حرب طرد وإبادة وهذا ما يحاول جستن مكارثي تسليط الضوء عليه من خلال هذه الدراسة التي يقول بأنه إنما توصل لوفيات وهجرة المسلمين من خلال بحثه في عدد سكان الإمبراطورية العثمانية إبّان الحرب العالمية الأولى. ويضيف مكارثي قائلاً بأن اهتمامه آنذاك كان يكمن وببساطة في التحقق من عدد المسلمين الذين عاشوا في الأناضول وكيف تغير عددهم في القرنين التاسع عشر والعشرين. إلا أن نتائج دراسته أدهشته، إذ لم يكن في قراءاته السابقة عن التاريخ العثماني ما يهيئ لتلك الوفيات الكبيرة في تلك الفترة. ذكرت الإحصائيات أن ربع السكان المسلمين فقدوا. لم يستطع مكارثي تصديق أن فقداناً كهذا جرى تمويهه في التاريخ، إلا أنه وعند مراجعته للبيانات تلو الأخرى خلّفت الاستنتاج نفسه لديه، ليس خلال الحرب العالمية الأولى فحسب، بل طوال القرن التاسع عشر أيضاً، تجشمت الشعوب المسلمة في الأناضول والقِرَم والبلقان والقفقاس خسائر هائلة في الأرواح.
كانت خسائرهم بالنسبة لمكارثي جديرة ببحث إضافي يقوم به. وثم يجيء هذا الكتاب نتيجة هذا البحث، تاريخ الوفيات والهجرة القسرية للشعوب المسلمة. إنه يقدم خسائر المسلمين بالتفصيل، لكنه من الخطأ، كما يذكر المؤلف، التعامل مع هذه الخسائر كأنها حدثت في فراغ، فالاجتناب السابق لأي ذكر لخسائر المسلمين في عموم التاريخ لا يسوّغ أي زعم مقابل أن المسيحيين لم يعانوا أيضاً. حدث كثير من الرعب والمعاناة المفهرسين في هذه الدراسة خلال حروب عاشتها الأطراف كلها. ويتابع مكارثي قائلاً بأن كثيراً ما ترافقت خسائر المسلمين بتلك التي أصابت المسيحيين. ذاكراً ذلك كلما كان الأمر ممكناً، مصير المسيحيين الذين كانوا في صراع مع المسلمين، مبيناً بأن هذا ليس على كل حال تاريخاً عاماً للشعوب العثمانية، ولا حتى تاريخ الوفيات لزمن الحروب كلها في منطقة واحدة قائلاً بأن هذا إنما هو تاريخ معاناة المسلمين، ليس لأن المسلمين عانوا وحدهم؛ بل لأن تصحيحاً للرؤية التقليدية الأحادية الجانب لتاريخ أتراك هذه المناطق ومسلميها أصبح ضرورياً، فهو تاريخ قادر شرعياً على الصمود وحده، وهو قصة وفيات هائلة وواحدة من هجرات التاريخ الضخمة.
[رابط الكتاب]