حقوق الإنسان
إن عبارة حقوق الإنسان التي أصبحت ترد في كثير من الكتابات، وتتردد في الخطابات والمنتديات، تتعلق بمجالات واسعة ليس من السهولة الإحاطة بها، وتحديد كل مضامينها، وهي مزيج من تعاليم الديانات السماوية، والتراكم الثقافي الذي أنتجه الفكر الإنساني عبر مراحل وأحقاب زمنية طويلة، قبل أن تتولى منظمة الأمم المتحدة تقنينها واعتمادها كإعلانات ومواثيق دولية، بدءا بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 10 دجنبر 1948.
والاهتمام بحقوق الإنسان بالمغرب وفق المعايير التي تحددها المواثيق الدولية، ليس وليد الثمانينات من القرن العشرين كما يزعم البعض، وإنما ترجع بذوره الأولى إلى مرحلة الكفاح الوطني من أجل الحرية والاستقلال، وقد تأسست أول عصبة لحقوق الإنسان بمدينة تطوان، على يد أحد القادة الأوائل للحركة الوطنية بشمال المغرب وهو الحاج عبد السلام بنونة، وذلك سنة 1933، وبعد الاستقلال ارتبط الاهتمام بحقوق الإنسان بالنضال من أجل الدستور والديمقراطية، وبدأ هذا الاهتمام يتخذ مجراه المستقل عن النضال السياسي الديمقراطي، من خلال بعض الأنشطة الخاصة لهيئات المحامين، قبل ظهور مجتمع مدني متخصص مع تأسيس العصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان سنة 1972، وتأسيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان سنة 1979، والمنظمة المغربية لحقوق الإنسان سنة 1988، وعرفت تلك المرحلة نشاطا متميزا لحركة الدفاع عن حقوق الإنسان، توج بإصدار الميثاق الوطني لحقوق الإنسان من طرف خمس جمعيات حقوقية سنة 1990، وتوالى فيما بعد تأسيس العديد من الجمعيات التي تهتم بحقوق الإنسان في شموليتها أو تختص بجوانب معينة منها، في إطار التوسع والديناميكية التي عرفها المجتمع المدني ابتداء من العقد الأخير من القرن العشرين.
وكان طبيعيا أن يتزايد الاهتمام بقضايا حقوق الإنسان ببلادنا في أواخر الثمانينات بعد انهيار أنظمة الحزب الوحيد في أوربا الشرقية، وانعكاسات ذلك على كثير من البلدان العربية والإفريقية، حيث بدأ يتغير مضمون الخطاب الأيديولوجي بالتخلي عن المفاهيم المرتبطة بالمدرسة الماركسية، والتوجه نحو الثقافة الديمقراطية التي تقول بالتعددية الحزبية، وضمان الحريات الفردية والجماعية، وإقرار حق الجميع في المشاركة في الحياة السياسية وفي تدبير الشأن العام، والحق في الاختلاف مع الآخذين بزمام الأمور، وانتقاد سياساتهم وممارساتهم.
وعرفت سياسة تغييب الرأي المخالف للسلطة، وتهميش القوات الحية إفلاسا كبيرا من الناحية النظرية على الأقل، وأصبحت المواثيق الدولية لحقوق الإنسان تشكل مرجعية أخلاقية وسياسية معترف بها من طرف الدول والمنظمات القطرية والإقليمية والدولية، وتبوأ موضوع حقوق الإنسان موقع الصدارة في العلاقات الدولية، وأصبح معيارا للتعامل بين الدول، وذريعة تتخذها مجموعة الشمال لفرض الشروط في التعامل، وفي تقديم المساعدات لبلدان الجنوب، مستغلة ما تعانيه هذه الأخيرة من ضعف، أو غياب لضمانات حقوق الإنسان في أنماط أنظمتها، وتشريعاتها، وممارسة السلطة بها.
وكان من الطبيعي أن تؤدي التطورات المذكورة إلى تنامي الوعي لدى الشعوب بالقيم الأصيلة لحقوق الإنسان، وإدراك دورها في فرض احترام الكرامة البشرية، وحمايتها من أي اعتداء أو ممارسات مشينة، وأن تتنامى قناعة الشعوب بكون القيود على الحريات الفردية والجماعية، والتضييق على الطاقات الفكرية، والقدرات الإبداعية للإنسان، والانتهاكات التي تمس حقوقه الطبيعية، وتخدش كرامته الإنسانية، تشكل العرقلة الأساسية نحو تحقيق النمو الاقتصادي، والتقدم الاجتماعي، والتطور الحضاري.
وفي محاولة للتأقلم مع هذه التطورات الهامة، أصبحت عبارات الحقوق والحريات الأساسية،والكرامة الإنسانية والتعددية الحزبية،ودولة الحق والقانون،والديمقراطية...أدوات لتزيين الخطاب السياسي الرسمي في كثير من بلدان العالم الثالث، التي تتمسك في العمق بالرأي الواحد، ومظاهر الحكم المطلق، إما بكيفية مباشرة لغياب التعددية السياسية، وانعدام التمثيلية الديمقراطية، أو بكيفية غير مباشرة عن طريق تعددية شكلية مصنوعة، وديمقراطية مزيفة.
وفي المغرب، لوحظ أنه بعد تصاعد حدة الانتقادات الموجهة للمسؤولين، من طرف المنظمات المختصة بالدفاع عن حقوق الإنسان، على الصعيدين الوطني والدولي، وأمام الحملة الشديدة اللهجة التي نظمتها ضد حكومة المغرب في أواخر الثمانينات وبداية التسعينات من القرن الماضي، عدة هيئات دولية لحقوق الإنسان، مثل منظمة العفو الدولية، والفدرالية العالمية لحقوق الإنسان، وكذا بعض المؤسسات الرسمية في الدول الغربية، مثل التقارير التي تعدها وزارة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية، كل ذلك جعل المسؤولين الحكوميين في بلادنا يضطرون للبحث عن المنهجية المناسبة لمواجهة الحملة الخارجية على الخصوص.
ومن المؤكد أن بعض الانتقادات الخارجية لم تكن بريئة، وكانت تتخذ من انتهاكات حقوق الإنسان في المغرب ذريعة لقيامها بالفضح السياسي للحكم الذي كان سائدا في بلادنا، والذي تميز بما أصبح يعرف فيما بعد، " بسنوات الجمر والرصاص"، أو الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وتحت ضغط تلك الانتقادات، ومن أجل تحسين صورة المغرب في المحافل الدولية، تم تأسيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان سنة 1990،(1) وأحدثت وزارة مكلفة بحقوق الإنسان سنة 1993، وتم التصديق على العديد من المواثيق الدولية، وبدأت الحكومة تهتم بالتقارير التي تتدارسها اللجنة الدولية لحقوق الإنسان التابعة لمنظمة الأمم المتحدة، وصدر العفو الشامل عن عدد هام من المعتقلين السياسيين، كما وقع الاعتراف بوجود المعتقلات السرية مثل تازمامرت، وقلعة مكونة، وأكدز، ودرب مولاي الشريف، والكوربيس، بعد أن كان المسؤولون ينفون وجودها، وتقرر التعويض عن الاعتقال التعسفي بتلك المعتقلات الرهيبة، وتأسست لهذه الغاية لجنة التحكيم المستقلة، والتي حلت محلها بعد إعادة تنظيم المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، هيئة الإنصاف والمصالحة؛ وفي نفس السياق، اتسع مجال ممارسة الحريات، ووقع انفتاح الحكم على المعارضة، وأدى ذلك إلى تأسيس ما عرف بحكومة (التناوب التوافقي) سنة 1998.
المقصود بحقوق الإنسان:
لقد تجنب واضعو نصوص مختلف المواثيق الدولية لحقوق الإنسان تحديد تعريف لهذه الحقوق، باعتبار أن الإعلانات والعهود تحدد المبادئ والأحكام العامة وتترك مسألة التعاريف وتحليل المضامين ودراسة الأهداف للباحثين وفقهاء القانون.
وكلمة ( الحق ) كثيرة التردد في اللغة المألوفة بين الناس، فيقال مثلا من حقه أن يفعل شيئا معينا، أو أن له الحق في التعبير عن رأيه، أو له حق ملكية عقار أو منقول، أو له الحق في أجر عن عمل قام به...
ويبدو أن فقهاء الشريعة الإسلامية، لم يهتموا بوضع تعريف للحق بمعناه العام في ضوء الأحكام الشرعية، ويرجح البعض أن السبب في ذلك يرجع لوضوح المعنى اللغوي لكلمة (حق)، ونقل ابن نجيم المصري الحنفي تعريفا لحق الملكية عن أحد الفقهاء بأنه "اختصاص حاجز" ويبين هذا التعريف أهم ميزة للحق بمعناه العام لأن " الاختصاص هو جوهر كل حق، وهو عبارة عن علاقة أو رابطة بين شخص وآخر تمنح صاحبها استئثارا على موضوعها(2) .
ولا يمكن أن نغفل بالنسبة للشريعة الإسلامية، أن (الحق) هو أحد أسماء الله الحسنى، الذي يجسد المفهوم المطلق والشامل للحق بالمعنى اللغوي، وقد يكون ذلك من بين الأسباب التي جعلت فقهاء الشريعة يعزفون عن وضع تعريف محدد للحق.
وجاء في "لسان العرب" لابن منظور أنه لا يوجد اختلاف كبير بين الدلالات المعجمية والمعاني المتداولة لمفهوم الحق، ويلتقي أحد المعاني المعجمية العربية لمفهوم الحق مع التمثل المعجمي الفرنسي الأساسي، حيث يفيد الحق (Le Droit) ما هو مستقيم ولا اعوجاج فيه، ويتسع هذا المفهوم في الاصطلاح الفرنسي ليكتسي أبعادا قانونية وأخلاقية، إذ يفيد تارة ما يقوم على برهان منطقي سليم، ويعني تارة أخرى ما يقوم على قاعدة أخلاقية أو قانونية..
وفي عصر الأنوار أصبح مفهوم الحق يعبر عن قيمة إنسانية، على أساسها تنبني كرامة الإنسان، وتنوع بعد ذلك تداول هذا المفهوم في جميع مناحي الحياة الإنسانية، وارتبط بمفاهيم فلسفية، كالعدالة والحرية والواجب... أي بالقيم التي بموجبها يمكن أن تتفاعل وتتحقق إنسانية الإنسان.
ويختلف فقهاء القانون في تعريـف الحق، فيعرفه عبد الرزاق السنهوري بأنـه «مصلحة ذات قيمة مالية يحميها القانون »(3)، وعرفه عبد الفتاح عبد الباقي بأنه« سلطة يقررها القانون لشخص يستطيع بمقتضاها أن يجري عملا، أو يلزم آخر بأدائه لمصلحة مشروعة »(4)، وعرفه جميل الشرقاوي بأنه « قدرة الشخص على أن يقوم بعمل معين، يمنحها القانون ويحميها تحقيقا لمصلحة يقرها»(5)، وعرفه محمد سامي مذكور بأنه «سلطة يقررها القانون لشخص معين، بمقتضاها يكون لهذا الشخص ميزة القيام بعمل معين»(6)، وعرفه الفقيه البلجيكي( دابان ) بأنه « ميزة يخولها القانون للشخص ويضمنها بوسائله، يتصرف بمقتضاها في مال يؤول إليه، باعتباره مملوكا أو مستحقا له»(7)، وفي المعاجم القانونية المتخصصة، يعرف الحق على وجه العموم بأنه ما قام على العدالة أو الإنصاف وأحكام القانون ومبادئ الأخلاق(
.
غير أن كل هذه التعريفات لا تخرج عن مفهوم الحق في القانون الخاص، وقد أورد سعيد محمد مجدوب تعريفا أوسع للحقوق حيث وصفها بأنها« مجموعة الحقوق الطبيعية التي يمتلكها الإنسان، واللصيقة بطبيعته، والتي تظل موجودة وإن لم يتم الاعتراف بها، بل أكثر من ذلك حتى ولو انتهكت من قبل سلطة ما »(9).وإذا كان هذا التعريف يتجاوز المفهوم الخاص للحق، فإنه يبقى محصورا في المدلول المستقى من القانون الطبيعي.
ومن التعاريف التي انصبت على حقوق الإنسان وما يتصل بها من حريات أساسية نذكر التعريف الذي وضعه (René Cassin) الحائز على جائزة نوبل للسلام سنة 1960، والذي يقول أن«علم حقوق الإنسان يمكن تعريفه كفرع خاص من فروع العلوم الاجتماعية، موضوعه هو دراسة العلاقات القائمة بين الأشخاص وفق الكرامة الإنسانية، مع تحديد الحقوق والخيارات الضرورية لتفتح شخصية كل كائن إنساني »(9)، وهناك تعريف أورده (Karel VASAK) جاء فيه أن « حقوق الإنسان علم يتعلق بالشخص، ولا سيما الإنسان العامل، الذي يعيش في ظل دولة، ويجب أن يستفيد من حماية القانون عند اتهامه، أو عندما يكون ضحية للانتهاك، عن طريق تدخل القاضي الوطني والمنظمات الدولية، كما ينبغي أن تكون حقوقه، ولاسيما الحق في المساواة، متناسقة مع مقتضيات النظام العام»(11)،
ومن التعاريف الأكثر استيعابا لمفهوم حقوق الإنسان يقول (Yves MADIOT): « موضوع حقوق الإنسان هو دراسة الحقوق الشخصية المعترف بها وطنيا ودوليا، والتي في ظل حضارة معينة تضمن الجمع بين تأكيد الكرامة الإنسانية وحمايتها من جهة، والمحافظة على النظام العام من جهة أخرى»(12)، ويقول أحمد الرشيدي أن « التعامل مع اصطلاح حقوق الإنسان والحريات الأساسية، يشير بصفة عامة إلى مجموعة الاحتياجات أو المطالب التي يلزم توافرها بالنسبة إلى عموم الأشخاص، دون أي تمييز بينهم لاعتبارات الجنس، أوالنوع، أو اللون، أو العقيدة السياسية، أو الأصل الوطني، أو لأي اعتبار آخر»(13).
ونحن نميل إلى اعتماد تعريف أكثر شمولية، وهو التعريف الذي وضعناه في كتابنا (حقوق الإنسان بين النظرية والتطبيق) الصادر سنة 1986 وهو أن اصطلاح حقوق الإنسان، يعني حرية الأشخاص على قدم المساواة، ودون أي تمييز بينهم لأي اعتبار، في التمتع بالمزايا التي تخولها لهم الطبيعة الإنسانية، وتقرها مبادئ العدالة، وفي تلبية حاجاتهم المختلفة، بما يتلاءم مع ظروف كل عصر، ولا يضر بحقوق الآخرين، والقانون هو الذي يبين الحدود الفاصلة بين حقوق الفرد وحقوق الآخرين سواء كانوا أفرادا أو جماعات.(14)
وتجدر الإشارة إلى أن منظمة الأمم المتحدة، درجت على وصف حقوق الإنسان باعتبارها تلك الحقوق المتأصلة في طبيعتنا البشرية، والتي بدونها يستحيل علينا أن نحيا كبشر(15).
حقوق الإنسان نابعة من طبيعة الكائن البشري:
وانطلاقا من المفهوم المتعارف عليه دوليا لحقوق الإنسان، فإن هذه الحقوق لاتنبع من سلطة تجود بها على الناس، أو تتوقف على الاعتراف بها من طرف الفئات الحاكمة، أو تضمينها في مواثيق دولية، أو في قوانين وطنية، وليست مجرد فلسفة، أو مطالب سياسية واجتماعية، أو تمنيات وآمال يحلم بها الإنسان، وإنما هي نابعة من صميم طبيعة الكائن البشري، ولصيقة بكيانه، بل إنها جوهر الوجود الإنساني، وليست المواثيق الدولية، والقوانين الوطنية إلا تعبيرا عن هذه الحقوق، وأداة لتنظيم التمتع الفعلي بها من طرف الجميع، وعلى قدم المساواة، ووسيلة لحمايتها من العبث والانتهاك، من طرف أي جهة كانت.
والحق في الشيء هو حرية ممارسته، وبالتالي فإن الحق متلازم مع الحرية، بل هو مرادف لها، فحق التعبير هو حرية التعبير، وحينما يقيد أو يسلب من الإنسان هذا الحق، تكون حريته في التعبير قد انتهكت(16).
الطابع الكوني لحقوق الإنسان:
وتتميز حقوق الإنسان بطابعها الكوني ، فهي ليست شأنا محليا، ولا تتقيد بالحدود السياسية للدول، أو المناطق الجغرافية للعالم، لأنها لا تتغير في أصولها ومبادئها، ولا في أنواعها ومجالاتها، بتغير البلدان أو القارات، وإنما ترتبط بطبيعة الكائن البشري أينما وجد، بل إن الاعتداء على حقوق الإنسان في بلد ما، أو في مناطق معينة من العالم لا يقتصر تأثيره السلبي على استقرار واطمئنان ذلك البلد، أو تلك المنطقة فقط، وإنما يعكر صفاء الحياة البشرية في جهات أخرى من أنحاء المعمور، ويمكن أن يشعل فتيل التوتر الذي قد يشتعل في العالم أجمع، وقد أظهرت الحرب العالمية الثانية، العلاقة الوثيقة بين المسلك العنيف لحكومة دولة معينة تجاه مواطنيها، والعدوان ضد الدول الأخرى، وأكدت أن احترام حقوق الإنسان من العوامل الأساسية للمحافظة على السلم والأمن الدوليين(17).
حقوق الإنسان كل لا يتجزأ:
وتتميز حقوق الإنسان بطابع الكلية، بحيث لا يمكن الفصل بينها أو تجزئتها، وما درج عليه الباحثون من تقسيمها إلى مجموعات تمثل ثلاثة أجيال، هو مجرد عمل أكاديمي لا يعني الفصل بين تلك المجموعات التي تبقى في مجملها مترابطة ولا تقبل التجزئة.
ويشكل كل من الجيل الأول والثاني، المجموعتين الرئيسيتين في منظومة حقوق الإنسان، وسنبين الارتباط الوثيق بينهما من خلال عرض أمثلة عن كل مجموعة منهما قبل أن نعرض للجيل الثالث الذي يتعلق ببعض الجزئيات التي فرضت ظروف الحياة المعاصرة أن تحظى باهتمام خاص.
ومما يندرج ضمن الحقوق المدنية والسياسية، أو ما يعرف بالجيل الأول نذكر على سبيل المثال: الحق في الحياة، والحق في السلامة الشخصية، والحق في المعاملة الإنسانية، والحماية من التعذيب، ومن الممارسات المُهينة، أوالحاطة بالكرامة، ومن الاعتقال التحكمي، والاحتجاز التعسفي، والحق في الشخصية القانونية، وحرية التنقل، والحق في مغادرة التراب الوطني والعودة إليه بحرية، والحق في المحاكمة العادلة في حالة المتابعة القضائية، والحق في عدم التدخل في خصوصيات الشخص، والحق في اعتناق آراء وأفكار خاصة والتعبير عنها، والحق في ممارسة الشعائر الدينية، والحق في الاختلاف مع السلطات الحاكمة وانتقادها بحرية، والحق في تأسيس الجمعيات والأحزاب السياسية، والمنظمات النقابية، وحرية الانخراط فيها، وحرية التعبير والصحافة، وحق المشاركة في التجمعات السلمية، وحق المساهمة في تدبير الشأن العام، وحرية التصويت في الاستفتاءات والانتخابات، وعدم التمييز في التمتع بالحقوق والحريات، بسبب الجنس، أو اللون، أو اللغة، أو الدين، أو الأصل العرقي، أو الوطني، أو الجاه والنفوذ، أو الانتماء السياسي أو النقابي...
أما الجيل الثاني الذي يتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فإنه يشمل على سبيل المثال: الحق في العمل والأجر العادل، والحق في تكوين النقابات والانضمام إليها، وحق الإضراب، والحق في الضمان الاجتماعي، والحق في حماية الأسرة، وضمان النمو الطبيعي للأطفال، وحق هؤلاء في التربية والتعليم، والتنشئة الحسنة، والحماية من الاستغلال الاقتصادي والاجتماعي، وحق كل شخص في مستوى معيشي كاف له ولأسرته، يوفر ما يفي بحاجتهم من الغذاء والكساء والسكن، والحق في التحسين المتواصل لمستوى العيش ، والحق في العلاج من المرض، والتمتع بأعلى مستوى من الصحة الجسمية والعقلية، والحق في متابعة الدراسة، والحق في الثقافة والتمتع بالفنون، وحرية البحث العلمي، والحق في الإعلام وتلقي المعلومات دون قيود، وحق الاستفادة من ثمرات التقدم...
وتصنيف حقوق الإنسان في الوثائق الدولية وفي الدراسات الأكاديمية إلى المجموعتين الرئيسيتين المشار إليهما لا يعني مطلقا أفضلية أو أسبقية مجموعة على أخرى، ولا يقصد منه تجزئة الحقوق والحريات الأساسية، لأنه لا غنى في حياة الإنسان كفرد وكعضو في المجتمع عن الحقوق المدنية والسياسية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في ذات الوقت، لأن كل واحدة من المجموعتين تشتمل على جوانب معينة في حياة الإنسان، وهي تتكامل في مجملها، وقد تمت الإشارة إلى المجموعتين معا في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المعتمد في 10 دجنبر 1948 ، وحتى حينما ظهرت كل مجموعة ضمن عهد خاص، فإن كلا من العهد المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية، والعهد المتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وقع اعتمادهما في نفس اليوم وهو 16 دجنبر 1966، تأكيدا من المنتظم الدولي لتلازمهما، وعدم إمكانية تعويض إحداهما بالأخرى، أو منح الأسبقية لأي منهما على الأخرى.
وحينما كان العالم ينقسم إلى معسكرين يختلفان بكيفية جوهرية في نظاميهما السياسي والاقتصادي، كان الجدل يثور حول نوع الحقوق الذي يحظى بالأولوية، فيقول البعض أن الحريات الفردية والجماعية، كحرية الفكر والتعبير، وحرية الصحافة، وحرية تأسيس الأحزاب والجمعيات، وحرية النشاط السياسي والنقابي، هي التي تحظى بالأسبقية بالنسبة لحياة الإنسان، في حين كان البعض الآخر يرى أن الحق في التعليم والشغل والسكن اللائق والعلاج هي التي ينبغي أن تحظى بالأولوية، ولو كان ذلك على حساب الحريات الأساسية للجماعات والأفراد.
والواقع أن الاتجاهين معا كانا يجانبان الصواب، حيث يقوم كل منهما على تجزيء حقوق الإنسان، وتفضيل مجموعة منها على مجموعة أخرى، في حين أنها في جملتها تشكل كلا لا يقبل التجزئة، فلا مجال لتأجيل الحريات السياسية مثلا إلى ما بعد تحسين المستوى الاقتصادي والاجتماعي، كما أن الحقوق المدنية والسياسية تبقى عديمة الجدوى إذا لم تكن مقرونة ولو بالحد الأدنى من وسائل ومتطلبات الحياة الكريمة، كالتعليم والشغل والعلاج والسكن اللائق، فلا حرية لجائع، ولا كرامة لمن يعاني من الأمية والبطالة، أو يقيم في ظروف غير إنسانية، ولا حقوق لمريض لا يُؤَمن له العلاج، كما أنه لا يمكن تصور حياة كريمة مع الاستبداد والطغيان، ولا مجال لتحقيق أي تطور في مستوى حياة الإنسان مع مصادرة حرية الفكر والاجتهاد والإبداع.
وإن حرص عدد من الحكام في دول العالم الثالث على احتكار مواقع القرار والنفوذ، وعجزهم عن التوفيق بين إطلاق الحريات، وخلق النظام الملائم لتحقيق التنمية وتوزيع الثروات بكيفية عادلة، أدى إلى ترويج بعض الأفكار التي تنطوي على المغالطة، كالقول بأن حقوق الإنسان ليست سوى رفاهية فكرية ناتجة عن ظروف الحياة في المجتمعات الغربية المتقدمة صناعيا، والتي يتميز اقتصادها بوفرة الإنتاج، وبالتالي فإنه يكفي لمواجهة التخلف أن يوجد (مستبد عادل)، ومثل هذا القول لا يستند على أي أساس علمي أو منطقي، لأن الاستبداد يتناقض في جوهره مع العدل، وتؤكد تجارب الشعوب أن احتكار السلطة من طرف طبقة، أو الحكم الفردي المطلق، من شأنه أن يؤدي إلى الطغيان، والله سبحانه وتعالى يقول:"وإن الإنسان ليطغى"، كما أن الاستئثار بالحكم لا يقوم إلا على انتهاك أحد الحقوق الأساسية للإنسان، وهو حق المشاركة في تدبير الشأن العام، ولا يترك أي مجال للتمتع بالحريات السياسية، وينفي الحق في الاختلاف، مع العلم أن مصادرة هذه الحقوق والحريات، أو تقييدها في البلدان المتخلفة عموما، لم يؤد إلى أي تحسن في مستوى عيش الطبقات الشعبية، ولا إلى تحقيق التنمية، بل على العكس من ذلك، كان من نتائجه بصفة عامة، استحواذ فئات قليلة على مصادر الثروات، وتهميش إرادة الشعوب، وانتهاك حقوق الإنسان بجميع فروعها في تلك البلدان.
ويعد من قبيل المغالطة كذلك، القول بأن الحقوق المدنية والسياسية لا تحتاج لتدخل الدولة لحمايتها، لأنه من الواجبات الموضوعة على عاتق الدولة توفير حماية سلامة المواطنين، وضمان ممارستهم لحرياتهم، وتوفير الآليات الضرورية لاحترام حقوق الإنسان بإنشاء المحاكم، وضمان استقلال القضاء، والسهر على احترام القوانين، وضمان المساواة في تطبيقها.
ومن خلال ما تقدم يمكننا أن نستخلص بأن كل عمل على إقرار حقوق الإنسان، وضمان وسائل حمايتها، لابد وأن يأخذ بعين الاعتبار مبدأ الكلية وعدم القابلية للتجزئة، فلا مجال لتأجيل أو إلغاء أو تجاهل أي صنف أو فرع من الحقوق والحريات الأساسية للإنسان، لأنها في مجموعها تشكل عناصر الكرامة التي هي صفة أصيلة في الإنسان، والكرامة إما أن تكون كاملة غير منقوصة، أو أنها لا تقوم لها قائمة.
وإذا كانت الحقوق لصيقة بطبيعة الإنسان، وتتجاوب مع حاجاته ومتطلبات حياته، فإنها لابد أن تتطور في جزئياتها بحسب تطور هذه الحاجات والمتطلبات، وبالتالي لا مناص من إغناء مفاهيمها، وتطوير آليات حمايتها، كلما ظهرت تحديات جديدة تهدد الإنسان في كينونته ووجوده، أو في سلامته الشخصية، أو تعوق تطوره ونموه الإنساني والاجتماعي، أو تحول دون تمكنه من المعرفة وتلقي المعلومات، أو تمس كرامته، أو تحد من حرياته، أو تقيد قدرته على الإبداع..
وقد ظهرت خلال السنين الأخيرة دعوات لإقرار حقوق قد يبدو أنها جديدة كالحق في السلم، والحق في البيئة السليمة، والحق في التنمية، وتندرج هذه الحقوق ضمن ما يعرف بالجيل الثالث لحقوق الإنسان، وإذا كان اعتماد المواثيق المتعلقة بهذه الحقوق جاء متأخرا بالنسبة للجيل الأول، حيث أن إعلان الحق في التنمية مثلا لم يعتمد إلا سنة 1986، فإن هذا الحق لا تخلو الإشارة إليه في مواثيق دولية سابقة بكيفية ضمنية، كميثاق الأمم للمتحدة الذي يرجع إلى سنة 1945، وهناك أيضا الإعلان العالمي حول التقدم والتنمية في المجال الاجتماعي الصادر سنة 1969.
وبصفة عامة يمكن القول بأن التطورات التي عرفتها البشرية تطلبت إبراز بعض الجوانب التي كانت مجرد جزئيات عند صدور الجيل الأول والثاني لحقوق الإنسان، والمواثيق التي شملت ما عرف بالجيل الثالث، ليست في الواقع سوى رد فعل على الظروف والمعطيات الجديدة، التي أصبحت تزخر بها الحياة المعاصرة، والتي تهدد حقوق الإنسان المعترف بها ضمن إعلان 10 دجنبر1948، وفي العهدين المتعلقين بالحقوق المدنية والسياسية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فالحق في السلم هو تعبير عن رفض الحروب، وما تخلفه من ضحايا وآلام وخراب، وتمسك بالحق في الحياة، كما أن الحق في البيئة السليمة، يتجاوب مع طبيعة الكائن البشري، الذي يتضرر من التلوث، وتقتضي وقاية صحته البدنية والنفسية العيش في بيئة سليمة، والحق في التنمية يجسد الرغبة في التغلب على مشاكل التخلف، التي تمس كرامة الإنسان، تعوق حقه في التحسين المتواصل لمستوى عيشه، كما تعوق النهوض بحقوق الإنسان بوجه عام.
ومهما تعددت المواثيق الدولية التي تتناول مواضيع حقوق الإنسان في جزئياتها، ومهما تطورت آليات ووسائل الحماية الدولية منها والإقليمية والوطنية، فإن ذلك لا يمس بمبدأ الكلية وعدم قابلية حقوق الإنسان للتجزئة، لأن دراسة التفاصيل، والتعمق في الجزئيات لمواكبة الحاجات الجديدة، لا يمكن أن يؤدي لنفي الارتباط التكاملي بين كل الفروع والأجزاء التي تشكل في مجموعها جوهر حقوق الإنسان.
حماية حقوق الإنسان:
لقد سبق أن أوضحنا أن حقوق الإنسان ترتبط بطبيعة الكائن البشري، الذي خلق حرا ومكرما، والأصل هو أن يتمتع كل إنسان أينما وجد بحقوقه وحرياته الأساسية دون قيود أو حواجز، وأن تتوفر له ظروف الحياة الكريمة، غير أن الصراعات التي عرفتها البشرية منذ القدم، وطغيان الحكام وذوي النفوذ في شتى المناطق من العالم، ونزعة الهيمنة لدى بعض الدول العظمى، والتخلف السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يشمل العديد من الدول، كل ذلك يهدد حقوق الإنسان، ويجعلها عرضة لانتهاكات متعددة الأشكال، الأمر الذي يحتم إيجاد الضمانات الكفيلة باحترام الحقوق والحريات الأساسية للإنسان، وتنقسم هذه الضمانات إلى نوعين: أحدهما يتعلق بالتدابير التي تتخذ على صعيد كل دولة، والنوع الثاني يتمثل في وسائل الحماية الدولية، ومن المفروض أن يكون هناك تكامل بين وسائل الحماية على المستويين الوطني والدولي باعتبار أن الهدف واحد وهو إقرار واحترام حقوق الإنسان بمفهومها الكوني.
1) الحماية الوطنية:
هناك عدة آليات لحماية حقوق الإنسان على المستوى الداخلي لكل دولة ومن أهمها نذكر على الخصوص:
أ) القوانين وفي مقدمتها الدستور الذي يسمو عن باقي التشريعات، التي لا يجوز أن تخرج عن المبادئ العامة التي يقرها، وعادة تنص الدساتير على أهم الحقوق والحريات الأساسية للإنسان، حيث ترد أحيانا في صلب البنود الدستورية، كما هو الحال في دستور الولايات المتحدة الأمريكية، أو في مقدمة أو ديباجة الدستور كما هو الشأن بالنسبة للدستور الفرنسي والدستور المغربي، وهناك قوانين تضمن تمتع الأفراد والجماعات بحرياتهم، كحرية الفكر والتعبير والصحافة، وحرية تأسيس الأحزاب السياسية، والمنظمات النقابية، والجمعيات المدنية ذات الأهداف المختلفة، وحرية الانخراط فيها، وحرية تنظيم التجمعات في الأماكن العمومية، وهناك قوانين تتوخى ضمان حقوق الدفاع والمحاكمة العادلة، كما توجد تشريعات أخرى لحماية بعض الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، كحق الملكية، وحق القيام باستثمارات لتحقيق كسب مشروع، وحقوق الشغالين كالحق في الأجر العادل، والحق في الضمان الاجتماعي، وحق الإضراب...
ب) ولا يكفي أن توجد قوانين جيدة لحماية حقوق الإنسان، وإنما لابد من وجود سلطة قضائية نزيهة، ومستقلة عن كل السلطات، ومحصنة من أي تأثير، لتسهر على احترام القوانين، وحسن تطبيقها، وضمان مساواة الجميع أمامها.
ج) وإلى جانب آليتي التشريع والقضاء تقوم بعض الدول بإحداث مؤسسات خاصة، مثل المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بالمغرب، الذي تقابله اللجنة الاستشارية لحقوق الإنسان بفرنسا، ويتميز المغرب بإحداث وزارة مكلفة بحقوق الإنسان، في بداية التسعينات قبل أن تلغى سنة 2004، كما تم إحداث ديوان المظالم الذي يقابل مؤسسة (الوسيط) في بعض الدول.
وإلى جانب الآليات الرسمية، توجد بعض الجمعيات التطوعية التي تعمل في إطار المجتمع المدني، وتقوم بمهمة الدفاع عن الحقوق والحريات الأساسية للإنسان، وإثارة الانتباه للخروق، كما تساهم في التوعية بقيم حقوق الإنسان، وتوجد في المغرب عدة جمعيات من هذا القبيل، منها من يختص بحقوق الإنسان بوجه عام، ومنها من يختص بالدفاع عن حقوق بعض الفئات كالمرأة، والطفل، والمعاقين...
غير أن توفر آليات الحماية الوطنية المذكورة وغيرها، لا يمنع من وجود حالات لانتهاك حقوق الإنسان في كثير من الدول ومن بينها المغرب، والدول التي تترسخ فيها مقومات الديمقراطية تهيئ المناخ الأكثر ملاءمة لاحترام حقوق الإنسان، والمجال الأكثر خصوبة لنمو قيمها، وانتشار مبادئها، وتداول ثقافتها.
2) الحماية الدولية:
لقد بدأ الاهتمام الدولي بإيجاد الآليات الخاصة بحماية حقوق الإنسان على الصعيد العالمي، عندما أشرفت الحرب العظمى الأولى على نهايتها، وبرز هذا الاهتمام في ميثاق عصبة الأمم، ثم في ميثاق منظمة الأمم المتحدة التي خصصت حيزا هاما من مجالات اشتغالها لقضايا حقوق الإنسان، وذلك انطلاقا من الإيمان بكرامة الفرد وحريته، وبما للرجال والنساء، والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية (الفقرة 2 من ديباجة ميثاق الأمم المتحدة)، وأصدرت بعد ثلاث سنوات من تأسيسها، الوثيقة الرئيسية في منظومة حقوق الإنسان، وهي إعلان العاشر من دجنبر 1948، ولجعل المبادئ الواردة في الإعلان التزامات على عاتق الدول صدر العهدان الدوليان المتعلقان بالحقوق المدنية والسياسية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، في 16 دجنبر 1966، والبرتوكولان الاختياريان الملحقان بالعهد الأول، ويتعلق أحدهما بالشكايات والتقارير التي يمكن لأي فرد أن يوجهها إلى لجنة حقوق الإنسان بمنظمة الأمم المتحدة، وقد اعتمد منذ البداية، والثاني يتعلق بمنع عقوبة الإعدام، ولم يتم اعتماده إلا سنة 1989 ، وبالإضافة إلى هذه المواثيق صدرت عشرات من الإعلانات والعهود التي تتناول حقوق الإنسان من شتى الجوانب، وتحدد الشروط والضمانات الكفيلة باحترامها، ومن المواضيع التي تشملها هذه الإعلانات والعهود، منع التمييز بجميع أشكاله، وخاصة التمييز العنصري، والتمييز ضد المرأة، وجرائم الحرب المرتكبة ضد الإنسانية، والإبادة الجماعية، وتحريم الرق والعبودية، ومناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية، أو المُهينة، أوالحاطة بالكرامة الإنسانية، وضمان المحاكمة العادلة، واستقلال القضاء، والمعاملة الإنسانية للسجناء، وضمان حقوق المرأة والطفل، وحقوق المهاجرين واللاجئين، وحقوق المعاقين، وحقوق كبار السن، والحريات النقابية، والحق في الإعلام، وحق الشعوب في السلم، والحق في التنمية...
وبالنسبة لأجهزة المنتظم الدولي، المهتمة بقضايا حقوق الإنسان، فإنه إلى جانب الدور الذي تضطلع به الجمعية العامة، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي، نذكر على الخصوص لجنة حقوق الإنسان، وهي الجهاز الأساسي الذي يعهد إليه بتحضير مشاريع الآليات الدولية لحماية حقوق الإنسان في العالم، وتقوم بتتبع أوضاع وقضايا حقوق الإنسان والمشاكل التي تطرح على الصعيد الدولي في هذا الشأن، كما تدرس التقارير التي تقدمها الدول حول الخطوات التي تنهجها في سياساتها الداخلية للنهوض بحقوق الإنسان.
وهناك لجن مرتبطة ببعض المواثيق الدولية، مثل لجنة محاربة جميع أشكال التمييز ضد المرأة، المحدثة سنة 1982، وتهتم بحقوق المرأة في إطار الاتفاقية المتعلقة بهذا الموضوع، والمعتمدة في 18 دجنبر1979، ولجنة مناهضة التعذيب والمعاملات غير الإنسانية والقاسية والحاطة بالكرامة، المحدثة سنة 1987 لتتبع القضايا التي تتناولها الاتفاقية الدولية المعتمدة في هذا الشأن سنة 1984، ولجنة حقوق الطفل التي تسهر على إعمال مقتضيات الاتفاقية الدولية المتعلقة بهذا الموضوع والمعتمدة سنة 1989.
وبالإضافة إلى اللجن التي تهتم كل واحدة منها بمواضيع معينة، هناك جهازان هامان وهما: مركز حقوق الإنسان الأممي، الذي يعد بمثابة سكرتارية تنسق بين مختلف أجهزة الأمم المتحدة المهتمة بحقوق الإنسان، والمفوضية السامية لحقوق الإنسان التي أحدثت بقرار من المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان المنعقد بفيينا سنة 1993، ولها صلاحيات هامة وواسعة في مراقبة كل الأنشطة الدولية التي تهم حقوق الإنسان.
وهناك أجهزة أممية أخرى يمكن أن تهتم بمواضيع لها صلة مباشرة أو غير مباشرة بحقوق الإنسان، مثل منظمة العمل الدولية التي تهتم بحقوق الأجراء والحريات النقابية، ومنظمة اليونسكو التي تهتم بالحقوق الثقافية، كما تهتم بنشر ثقافة وقيم حقوق الإنسان على الصعيد الدولي.
وعلى الصعيد القاري أو الجهوي، تم إبرام اتفاقيات لحقوق الإنسان، وتعمل في إطارها لجان تتولى تتبع ومراقبة أوضاع حقوق الإنسان في النطاق الجغرافي الذي تشمله الاتفاقيات المذكورة، وتتميز المنطقتين الأوربية والأمريكية، بتوفر كل منهما على محكمة جهوية لحقوق الإنسان، للفصل في المنازعات، وتقديم الاستشارات؛ وتجدر الإشارة إلى أن هناك تخلفا وتعثرا ملحوظين في هذا المجال على الصعيدين العربي والإفريقي، وعلى الصعيد الآسيوي لا يوجد حتى الآن جهاز إقليمي رسمي يهتم بحقوق الإنسان، غير أن هناك عدة منظمات غير حكومية تقوم بمبادرات وأنشطة في بعض المجالات ذات الصلة بهذا الموضوع.
ولا ينحصر الاهتمام بقضايا حقوق الإنسان على المستوى الدولي في الأجهزة الأممية والجهوية التي تمثل الحكومات، وإنما هناك أيضا العديد من المنظمات الدولية غير الحكومية المهتمة بهذه القضايا، ونذكر منها على الخصوص:
منظمة العفو الدولية:
التي ترجع فكرة إحداثها إلى سنة 1961 حينما نشر أحد المحامين مقالا في (الأوبزرفر) يعبر فيه عن اندهاشه لعدد المعتقلين في العالم بسبب آرائهم وأفكارهم، ويدعو للقيام بحملة دولية من أجل العفو، ومن أهداف هذه المنظمة:
ـ مساعدة المعتقلين من أجل الرأي، أو المواقف السياسية، الذين لم يستعملوا العنف ولم يحرضوا على استعماله.
ـ توفير الضمانات القضائية في المحاكمات السياسية.
ـ إلغاء عقوبة الإعدام.
ـ إدانة التعذيب والمعاملات اللا إنسانية والقاسية أو المهينة.
ويوجد المقر الرئيسي لمنظمة العفو الدولية بلندن، ولها فروع في العديد من الدول منها المغرب، وتنشر عدة مطبوعات منها التقرير السنوي الذي يرصد أوضاع حقوق الإنسان في مختلف أنحاء العالم (18).
وهناك عدة منظمات دولية أخرى غير حكومية تهتم بحقوق الإنسان، مثل اللجنة الدولية للحقوقيين، التي يوجد مقرها بجنيف، والجمعية الدولية للحقوقيين الديمقراطيين، التي يوجد مقرها ببروكسيل، والفدرالية الدولية لحقوق الإنسان التي يوجد مقرها بباريس، ومنظمة مراقبة حقوق الإنسان (HUMAN RICHTS WATCH) التي يوجد مقرها في الولايات المتحدة الأمريكية، وبالنسبة للوطن العربي يمكن أن نذكر اتحاد المحامين العرب، والمنظمة العربية لحقوق الإنسان (19).
وعلى الرغم من وجود ترسانة هائلة من المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وعدد هام من الأجهزة الأممية والجهوية المختصة بالموضوع في العالم، بالإضافة إلى المنظمات الدولية غير الحكومية التي ترصد الخروق، وتعمل على ضمان احترام حقوق الإنسان على الصعيد الدولي، فإن هذه الحقوق لا يمكن القول بأنها بخير، بل تتعرض للكثير من الانتهاكات، إما عن طريق الاحتلال المباشر والتنكيل بالشعوب، كما هو الحال في الأراضي الفلسطينية المحتلة والعراق، أو تحت غطاء محاربة الإرهاب، كما حصل في أفغانستان، أو عن طريق تكريس نظام دولي غير عادل، وفرض نزعة الهيمنة على الشعوب المستضعفة من طرف القوى العظمى، وكثيرا ما تقف منظمة الأمم المتحدة مكتوفة الأيدي أمام غطرسة بعض الدول التي لا تجد حرجا في انتهاك الشرعية الدولية، مما يتطلب إعادة النظر في دور المنتظم الدولي وآليات اشتغاله، لضمان التوازن والتكافؤ بين الدول، وتسهيل إقامة السلام في كل مواقع التوتر في العالم، على أساس العدل والإنصاف، واحترام إرادة الشعوب، وحماية كرامتها وسيادتها داخل بلدانها، وليس على أساس المصالح الخاصة لبعض الدول العظمى.