مقدمة:
ارتبطت الأزمة السياسية في الوطن العربي بفساد القيم السياسية وانهيار المشروع الوطني المرتبط بها وتفاقم أزمة الدولة التي تسببت دون شك في الميل العميق نحو التسلط والاستبداد في مصدريه البنيوي والتاريخي معا، مما ولد تحويل مسار الدولة في اتجاه الانحرافات في وظائفها والانخراط في هياكلها والقطيعة التي تشهدها جل الأقطار العربية بين الدولة ومؤسساتها والمجتمع وأفراده وإذا كانت أزمة أنظمة الحكم العربية متعددة الجوانب سواء الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية إلا أن الجانب السياسي في هذه الأزمة يبدو هو الأكثر حدة وقسوة بالنظر إلى الحياة اليومية للمواطنين في البلاد العربية. فمعظم الأنظمة تفتقد إلى الشرعية بنظر مواطنيها الذين فقدوا من جانبهم حقوقهم الأساسية السياسية والمدنية، وهذا الخلل يؤدي بطبيعة الحال إلى تعطيل القدرة الإنتاجية للمجتمع ولا نقصد بالقدرة الإنتاجية معناها المادي الاقتصادي فحسب، وإنما معناها الحضاري العام أي القدرة على إنتاج حضارة رفيعة ومدينة متقدمة، وبمعنى أدق تعطيل الجانب الإبداعي في الفرد أو المواطن المدني بشعوره الدائم بعدم شرعية السلطة، ولهذا نجد أن المشاركة السياسية في الدول العربية تتأرجح بين السيئ والأسوأ دائما، كما نقصد بالجانب الإنتاجي أو القدرة الإنتاجية الجانب الروحي كما تشمل المادي والفكري والاقتصادي والسياسي والأخلاقي
.
والواقع أن الأزمة السياسية التي تعاني منها الأنظمة العربية، هي جزء من مشهد أكبر تعاني منه المجتمعات القائمة في البلاد العربية ذلك هو مشهد التخلف العام، الذي ينطوي من ضمن ما ينطوي عليه، على حالة " التخلف السياسي" الذي كانت الأزمة السياسية للأنظمة جزءا من مفرداته، والتخلف السياسي ظاهرة تشمل بآثارها الفاعلين السياسيين الأساسيين في المجتمع وهم: الحكام، والقوى السياسية، والأفراد، وقد انعكست هذه الظاهرة على علاقة الحكام بالقوى السياسة والجماهير من جهة، وعلى علاقة القوى السياسية فيما بينها أولا، وفيما بين الجماهير ثانيا، من جهة أخرى. وعلى دور الجماهير في الحياة السياسية العامة من جهة ثالثة.
فالتخلف السياسي يعد المرحلة الثانية التي تلي مرحلة الفساد، فهذا الأخير يتسبب في تهديم القيم السياسية والاقتصادية والاجتماعية في ظل غياب دول الحق والقانون ودولة المؤسسات التي ما فتئت تبرز مع المنظومة الدولية القيمية الجديدة المبينة على أساس التعقيد المؤسساتي والتباين السلطوي، واحترام حقوق الإنسان، والشفافية ومحاربة الفساد وكل هذا يندرج تحت ما يسمى بالدولة الحديثة أو دولة التقدم )والتحديث كمجسد لهذا التقدم(.
وعليه فإن هذه الإشكالية أصبحت تهدد مجتمعات كثيرة ودول عديدة بالجمود السياسي، وتفاقم الأزمات زاد من وثيرة مطالبة الشعوب بضرورة التغيير والتداول بدل التدوير في السلطة وهذا ما جعل العديد من الدول العربية ت تبنى سياسة التعددية السياسية والانفتاح خاصة في الفترة التي تلت انهيار الاشتراكية وظهور الأحادية القطبية كنموذج مفروض من خلال المؤسسات الدولية، وتبنيها للنموذج الديمقراطي كمعيار لتصنيف الدول، كما أن هذا الاهتمام المتزايد الذي واكبه دعوات لحث العديد من دول العالم على القيام بإصلاحات سياسية واقتصادية، كان الهدف المعلن منه تمكين تلك الدول من التصدي لأزمة الفساد بشكل أكثر فعالية مما كان في السابق للخروج من دائرة التخلف، فهذه العلاقة الوثيقة بين مكافحة الفساد وأشكال الإصلاح السياسي والاقتصادي مطلوبة بحدة لتمكين المجتمعات والدول للتصدي الفعال لظاهرة التخلف السياسي.
الاشكالية:
يعتبر التخلف السياسي من بين أهم الأزمات التي تتعرض لها النظم السياسية العربية، نتيجة للظروف التي تعيشها كل منطقة على حدا، هذا فضلا على الاختلاف بين العديد من الدول العربية في كيفية تسيير نظام الحكم من حيث الوراثي والانتخابي نهيك عن الصراعات والانقلابات العسكرية، ومشكلات الفقر والتخلف والفساد سواء كان الإداري أو السياسي أو الاقتصادي، كل هذا ساهم في تعقيم الوضع في المنطقة وجعله من الصعوبة بما كان من ناحية دراسة الظاهرة ومحاولات إصلاحها بناءا على المعايير الدولية في تصنيف الدول، ودعوة الهيئات والمنظمات الدولية للإصلاح.
ولهذا فإن الدراسة مبنية على مستويات وهي مرحلة التهيؤ للظاهرة وكيفية التعامل معها، والمرحلة الثانية هي تحديد المعايير الدولية والإقليمية والمرحلة الثالثة فهي طبيعة معالجة الظاهرة بالأساليب الحضارية السليمة.
فمن هنا فإن إشكالية الدراسة هي:
كيف يمكن أن نفسر ظاهرة التخلف السياسي في الدول العربية من خلال منظور المقاربة الدولية والإقليمية للظاهرة ؟ والى اي مدى ساهمت في التحولات السياسية في المنطقة العربية؟
التخلف السياسي مقاربة معرفية:
إن مصطلح التخلف((sous développement من المفردات الشائعة في الأدبيات السياسية والإقتصادية والإجتماعية المعاصرة، وهو يشكل نقطة إلتقاء للعلوم الإجتماعية، كما يشكل المدخل الرسمي لبحوث التنمية، والمفاهيم المطروحة للتخلف من حيث طبيعته وأسبابه، وطرق علاجه لا تقل تنوعا عن حجم شيوع هذه المفردة، رغم أن الطابع السائد في بحوث التخلف هو الطابع الإقتصادي(1)، إلا أنه، وكما جاء في موسوعة علم السياسة فإن الاتجاه السائد في الأوساط الغربية خاصة في أمريكا هو أن الدولة تعتبر متخلفة سياسيا إذا لم يكن بالوسع تصنفيها وفق نموذج الديمقراطية الغربية، أي على أساس نظام تعدد الأحزاب والنظم الانتخابية، والتمثيلية، ومقدار تداول الصحف والمجلات والاتفاق على المبادئ الأساسية للحكم، والاستقرار السياسي، هذا الأخير عد أهم معيار من المعايير الموضوعية في قياس التخلف السياسي.
كما اقترن مفهوم التخلف بمفهوم التنمية في الكتابات العربية، فلم تهتم بتعريف المصطلح وتوضيح أبعاده، استنادا إلى أن المفهوم أصبح بديهيا وليس بحاجة إلى تعريف، حتى اختلط المعنى العلمي بالمعنى الشائع الذي لا يستند إلى أساس صحيح من الاستخدام(2)، فمفهوم "التخلف" الذي حمل بمضامين عديدة، تهدف في مجملها إلى إطلاق حكم قيمي، غير مستند إلى معيار ينظر إلى أوضاع المجتمعات غير الأوربية، قياسا إلى المجتمعات الأوربية، دون النظر إلى الاختلافات الاجتماعية والثقافية بل والجغرافية، فهذا المفهوم بالرغم من أنه غامض وغير محدد، إلا انه أصبح مفهوما سائدا في الكتابات العربية، دون التفرقة بين ما يعد تخلفا بالمفهوم الأوروبي وما لا يعد ذلك(3).
" فالتخلف السياسي" ظاهرة شاملة تسيطر على المجتمع غير الأوروبي متعددة الأبعاد والجوانب، تؤدي إلى محدودية النخبة الحاكمة ومركزية القرار السياسي، وعدم عقلانيته، مع سيطرة ثقافة غير ديمقراطية، ولا تشجع على المشاركة، وقد ترتبط الدولة المتخلفة بهيمنة الحزب السياسي الواحد أو التنظيم السياسي الواحد، وقد تعاني من عدم الاستقرار وعدم التكامل، ووجود فجوة هائلة بين الأعباء والموارد والإعتماد على تصدير سلعة واحدة، والتبعية الاقتصادية للخارج، والإعتماد الشديد على القروض الخارجية، وانتشار البطالة، وضعف الميل إلى الإدخار، وتفشي الأمية والجهل الشديد لدى الأكثرية من سكانها، وانفجار النمو السكاني ووجود هوة عميقة بين الريف والحضر"(4).
ويعد فكر كل من "صامويل هانتينغتون" Huntington ولوسيان بايPYE هو الأكثر قبولا لدى المنشغلين بظاهرة التخلف السياسي، والأوسع انتشارا بين صفوفهم بحيث يعد كليهما علما بارزا في مجال دراسة تلك الظاهرة، ومرجعا أصيلا يرجع إليه في هذا المجال، وتأسيسا على ذلك نعرض فيما يلي رؤية المفكرين لهذه الظاهرة:
يرى " هنتنجتون" أن ثمة مقومات ثلاثة للحداثة السياسية وهي:
-ترشيد السلطة(Rationalization of Authority) والتي تعني استنادها إلى أساس قانوني ينظم اعتلائها وممارستها وتداولها.
-التمايز(Differentiation) تباين الهيئات التي تقوم على الوظائف السياسية والقضائية للدولة (الفصل بين السلطات).
-المشاركة السياسية:(Political Participation) أي ممارسة الجماهير للدور المنوط بها في الحياة السياسية.
وبمفهوم المخالفة فإن " هنتنجتون " يرى أن سمات التخلف السياسي تتمثل في:
-1 استناد السلطة إلى اعتبارات غير رشيدة: كالانتماء الطبقي أو العرقي.
-2 تركيز وظائف الدولة السياسية في يد هيئة واحدة.
-3 تدني معدلات مشاركة الجماهير في الحياة السياسية.
ويلاحظ أن " هنتنجتون " قد ركز على سمات تخلف النظام مهملا سمات تخلف بنية المجتمع السياسي ذاته.
أما "لوسيان باي" فقد قدم أعمق الرؤى الفكرية المتعلقة بتلك الظاهرة و أكثرها إلماما بواقعها، حيث يرى أن هناك أزمات خمس تعاني منها البلدان المتخلفة تشكل سمات التخلف السياسي، وهذه الأزمات هي (أزمة الهوية، أزمة الشرعية، أزمة المشاركة ، أزمة التغلغل، أزمة التوزيع) (5) ، وبذلك فقد تجاوز " باي" القصور الملاحظ عند "هنتنجتون"، وأمتد تعريفه إلى سمات تتصل ببنية المجتمعات المتخلفة ذاتها. ورغم هذا فلا يمكن اعتبار أن تلك الأزمات هي سمات التخلف السياسي على سبيل الحصر، لذلك نرى أنه ثمة أزمات أخرى زيادة على ما أشار إليه "باي" تتصل بالمجتمعات العربية وأظهر هذه الأزمات؛ أزمة الثقافة السياسية، وأزمة تنظيم السلطة، وإن كنا نعتبرها إما أزمات متفرعة عن الأزمات السابقة أو متضمنة فيها(6)
ومن خلال هذه الورقة سوف نحاول التركيز على واقع التخلف السياسي في الوطن العربي وفق مؤشرات النظام السياسي الداخلية بالإضافة الى المعايير الدولية، وهذا عن طريق تحليلنا لأسباب الظاهرة في المنطقة.
I. الدولة والحكم في العالم العربي:
يسجّل العالم العربي انخفاضًا في معظم مؤشرات الحوكمة الصادرة عن البنك الدولي، من حيث حرية التعبير والمساءلة، تأتي المنطقة العربية في المرتبة الأسوأ في العالم، وحتى في مرتبة أدنى من دول جنوب الصحراء في أفريقيا، ومن حيث المؤشرات الأربعة الأخرى - الاستقرار السياسي(Political stability)، وفاعلية الحكومة(Government Effectiveness)، وسيادة القانون(The rule of law)، ومكافحة الفساد(Anti-corruption ) – تأتي المنطقة العربية في المرتبة الثانية الأسوأ في العالم، بعد دول جنوب الصحراء في أفريقيا(7)، وهذه التصنيفات تشير إلى وجود نمط خطير يتطلب درسا وتفسيراً.
فوفق مؤشر الديمقراطية العربية، وهو أول مؤشر للديمقراطية وضعته مجموعة من مراكز الأبحاث العربية، إن أياً من الدول العربية ليست في حالة "تحوّل ديمقراطي متقدمة "، لكنها تُظهِر بعض "النزعات الديمقراطية". يدرس المؤشر أربع فئات من الحوكمة: المؤسسات العامة القوية والمسؤولة، واحترام الحقوق والحريات، وسيادة القانون، والمساواة والعدالة الاجتماعية، ويجد المؤشر بعض الاتجاهات المُشجِّعة في جميع الفئات، لكنه يرى أيضاً أن الحالة الموصفة في النصوص الدستورية والقانونية أفضل بكثير مما يحدث فعلاً على أرض الواقع(
.
معايير تصنيف الدول العربية:
ثمة طرق عديدة لتصنيف الدول العربية، إحدى المقاربات الشائعة تتمثّل في التمييز بين الدول المصدِّرة للنفط والغاز والدول المستوردة له، وهذا يظهر بشكل جلي الاختلافات الكبيرة في القدرات والموارد التي تميِّز الدول الغنية بالنفط - وخصوصا في منطقة الخليج - عن البلدان الفقيرة بالموارد حيث لا تتوفّر للدولة إلا موارد ضئيلة لمواجهة تحديات التنمية، بيد أن هذا التصنيف لا يفسر بسهولة الاختلاف الجذري في الحياة السياسية بين الكويت وبين المملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، أو بين دول مجلس التعاون الخليجي وبين الجزائر وليبيا.
ثمة تصنيف آخر يستند إلى البلدان ذات الدخل المرتفع والمتوسط والمنخفض، يسلّط هذا التصنيف
الضوء مرةً أخرى على وجود اختلافات كبيرة بين دول مجلس التعاون الخليجي من جهة، وبين الدول العربية الأخرى، لكنه مفيد من حيث أنه يظهِر محنة البلدان منخفضة الدخل، مثل اليمن والصومال والسودان، ومع ذلك، لا يفسر هذا التصنيف الاختلافات الهامة في مجالَي الدولة والحوكمة داخل كل فئة، على سبيل المثال بين لبنان وتونس،أو بين اليمن والسودان؛ أو بين الكويت والمملكة العربية السعودية.(9)
ويستند التصنيف الثالث على نوع النظام، بين الملكيات والجمهوريات في المقام الأول، وهو يشدّد على القواعد المختلفة التي تشكّل دعامة الشرعية والمؤسسات بين النوعين، وعلى الرغم من أهمية هذا التصنيف، إلا أنه لا يفسر المستوى المرتفع نسبياً للمشاركة السياسية في بعض الأنظمة الملكية (على غرار الكويت والمغرب( بالمقارنة مع أنظمة أخرى، ولا انخفاض مستوى المشاركة في بعض الجمهوريات )مثل سورية(، بالمقارنة مع جمهوريات أخرى )مثل اليمن(.
وثمة تصنيف رابع بين الدول السلطوية وبين شبه الديمقراطيات التي يتمّ فيها المشاركة في السلطة، وثمة دول ثلاث فقط توافِق الفئة الثانية: حالات لبنان وفلسطين والعراق؛ هذه الدول ليس فيها أنظمة سلطوية راسخة كما هو الحال في كل الحالات العربية الأخرى، لكنها تعاني التدخل الخارجي الخطير والانقسام الداخلي.
ثمة تصنيف خامس يركِّز على الاختلافات بين البلدان التي شهدت صراعات خطيرة، وبين تلك التي لم تشهد مثل هذه الصراعات، ومن شأن هذا التصنيف أن يضع البلدان التي دمّرتها الحروب الخارجية والداخلية )مثل فلسطين، والعراق، ولبنان، واليمن، والصومال، والسودان، والجزائر(في جانب، وغيرها من البلدان التي لم تتعرّض إلى ذلك، في جانب آخر وهذا أمر ضروري في دراسة ديناميكيات ما بعد الصراع، وتصميم برامج مساعدات مناسبة للتعامل معها، بيد أنه لايوفِّر الكثير من التبصر في الظروف السياسية المختلفة لبلدان متنوّعة مثل اليمن ولبنان والسودان.(10)
كل هذه التصنيفات مفيدة، ومن شأنها أن تظهر لنا واقع الدول العربية من حيث الإختلاف في البنى الوظيفية للدولة وكذا من ناحية درجات التخلف وأسباب هذه الظاهرة.
II. المؤشرات الدولية للتخلف السياسي في الوطن العربي:
لقد أدت التطورات والتغيرات التي شهدها العالم في القرن الماضي، والتي لا مجال لذكرها الأن، الى انتقال مفهوم السيادة من مفهوم سيادة "الحاكم" إلى مفهوم سيادة "الشعب"، فأصبح إنكار واجب المجتمع الدولي في حماية هذه النسخة الجديدة من مفهوم "السيادة" امرأ غير مقبول، كما كان ذلك غير مقبول في ظل النسخة القديمة منه.
لكن هذا لا يعني فرض نظام حكم معين أصبح أمرا مقبولا من وجهة النظر الدولية، وهو من بين الأسباب التي ساهمت في تخلف الدول العربية سياسية، وهذا راجع للعديد من التراكمات التي أدت إلى الانتفاضات الشعبية منذ بداية جانفي 2011 في العديد من الدول العربية فيما سمي الربيع الديمقراطي، من بين هذه المؤشرات:
1- أزمة الشرعية(the crisis of legitimacy):
إن الشرعية يجب أن تقوم على نوع من الثقافة السياسية والوعي الجمعي الوطني، الذي يدخل في قناعة الفرد، ليس فقط قبوله للسلطة العليا للحاكم، ولا حتى رضاه عن سلوكه السياسي، وإنما يرى فيه تجسيدا لهويته ولمبادئه الخاصة. إن مثل هذه الشرعية غير متوفرة لأغلب أنظمة الحكم العربية، وإن توافرت لبعضها فما هي إلا شرعية شكلية تأتي بها أجهزة الحكم ومؤسساتها الرسمية بالأساليب التعبوية التي عرفتها الممارسة السياسية العربية، ولذلك تشعر هذه الأنظمة بالقلق والخوف الدائم، وتحاول التركيز على أنها قوية وراسخة، وتمارس الاستعمال القسري والتعسفي للقوة في مواجهة أية معارضة سياسية أو اجتماعية، مستخدمة في الوقت نفسه سبلا متعددة لغرض خلق شرعيتها، وبأساليب الترهيب والترغيب. ومع أن هذه الأنظمة كانت في فترة ما قادرة على استيعاب بعض صور المعارضة، إلا أنها ضاقت في السنوات الأخيرة، حتى بتقبل المعارضة الصورية، وأصبحت ظاهرة استمرار النظام الحاكم مصاحبا لواحديته في القيادة والفكر والإيديولوجيا، وأكثر من ذلك تجسيد ظاهرة أبوية الحكام.
أما على مستوى الوضع الدستوري، فعلى الرغم من أن كل الدساتير العربية تظهر حالة من التوازن بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، إلا أن واقع الحال يوضح سيطرة السلطة التنفيذية التي هي في الأساس سلطة الحاكم أو رئيس الدولة وامتداداته على السلطة التشريعية. ويرى "هدسون": "إن مسألة الحكم المركزية في العالم العربي هي مسألة الشرعية السياسية، فالنقص الحاصل في هذا العنصر السياسي الذي لا غنى عنه، هو السبب الأكبر للطبيعة المتقلبة للسياسة العربية وللسمة الاستبدادية وغير المستقرة للحكومات العربية القائمة " (11).
ويفصّل "هدسون" الأنظمة السياسية العربية إلى قسمين، منطلقا من مقياس تعاملها مع مسألة الشرعية، فيرى أولا عددا من "الملكيات التحديثية "، حيث لم تزل الشرعية الشخصية تؤدي دورا أساسيا، و"الجمهوريات الثورية" القائمة على شرعية مستحدثة (خارج الاستثناء اللبناني الوحيد)، ويرى خمسة مكونات أساسية لفهم مسألة الشرعية في الدول العربية، وهي:
1-الهوية العربية: وهي قائمة برأيه على عنصرين أساسيين: اللغة والدين، وهو يشير إلى أهمية الإسلام في الحياة السياسية، إن كان ذلك في مجال شرعية الحاكم أو في مجال تجميع المعارضة.
2-التعددية الثقافية: فهناك الأقليات إلى جانب الأكثرية العربية، والطوائف الدينية إلى جانب الإسلام.
3-أزمة السلطة العربية التي ضعفت قواعدها التقليدية في وقت لم تصبح قواعدها العقلانية قوية.
4-آثار الامبريالية في المنطقة: فثقل الهجوم السياسي الغربي على العرب والذي رافقه هجوم ثقافي أشد إيذاء على الهوية العربية قد أضعف من قدرة الحكام العرب على إرساء بنى سياسية شرعية.
ويشير تقرير التنمية الإنسانية لعام 2004 الى مسألة الشرعية في الدول العربية أتى هذه التقرير ليتناول موضوع أزمة الشرعية التي تعاني منها الأنظمة العربية، في ذات الوقت الذي أصبحت فيه هذه الشرعية مصدرا للجدل والتحدي، فمن أهم القضايا التي تناولها تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2004، أزمة الشرعية الدولية التي تعاني منها أو تفتقدها معظم الأنظمة العربية، التي تستند حسب قول التقرير، إلى شرعيات تقليدية (دينية / قبلية)، أو ثورية (قومية / تحريرية)، أو أبوية تدعي الوصاية على المجتمع بحكمة رب العائلة أو " البطريرك ". وإلى هذه النماذج، أضاف التقرير ما يسميه البعض " شرعية الابتزاز".
ويشير معدو التقرير إلى أنه في ظل دولة كهذه، تكون الهيمنة المطلقة للأجهزة الأمنية والعسكرية التي تفوق صلاحياتها صلاحيات أي جهاز آخر في الدولة، ويسخر القضاء (الاستثنائي غالباً) لإقصاء المعارضين والخصوم، أو تحجيمهم كحد أدنى(13).
لذلك فإن عدم حصول بعض الأنظمة على شرعيتها بشكل ديمقراطي لعب دورا مهما في خلق الصعوبات المؤثرة على جهودها في عملية التنشئة السياسية المرغوب فيها، وهذا راجع لان غالبية الأنظمة السياسية في العالم العربي لم تصل الى السلطة السياسية بشكل ديمقراطي، بل عن طريق العنف( الانقلابات العسكرية .. موريتانيا، تونس، ليبيا..) والذي بفضله تتمسك الى حد ما بالسلطة، او أنها تقود السلطة بشكل غير ديمقراطي، وبهدف الحصول على عدد أكبر من المؤيدين تلجأ هذه السلطات الى أسلوب العنف من اجل خلق حالة من الذعر لدى الافراد يستفاذ منه في عملية استثماره وتوظيفه للبقاء على قمة الهرم السياسي(14).
2- أزمة الإستقرار السياسي(crisis of political stability):
يختلف مفهوم عدم الاستقرار السياسي بين الباحثين والدارسين للأبحاث والدراسات المجتمعية التي منها الدراسات السياسية، ذلك أنه يكاد لا يوجد مجتمع سياسي يخلو من هذه الظاهر، كونه مفهوم نسبي تزداد حدته في الدول المتخلفة بنسبة أكبر من الدول المتقدمة.
فالبعض يرى أن الإضرابات والمظاهرات ضد السلطة القائمة هي نوع من عدم الاستقرار السياسي، لكن يرى البعض الآخر أنها مجرد تعبير عن حيوية المجتمع بحيث تطفو على السطح التناقضات الموجودة فيه، ويرى آخرون أن التقلبات الوزارية الكثيرة وأعمال الشغب وتغيرات النظام نفسه عبر الإطاحة به لا يشكل عدم استقرار باعتبارها شيء من التعبير عن حرية الرأي ، لأن تقلبات الحكومات الوزارية لا يعني تغيير في شخصيات الوزراء ، أما أعمال الشغب فهي مسائل نسبية، وتغير النظام من شكل لأخر أو سقوطه، لا يعني أنه غير مستقر لأنه قد يبقى نظام ما في الحكم لمدة طويلة ويشرف على الانهيار ،رغم أنه يتداعى بشكل بسيط.
وأهم المفاهيم التي قدمها الباحثين لتعريف عدم الاستقرار السياسي هو مفهوم قدمه حمدي عبد الرحمن حسن ، والذي يرى فيه أن عدم الاستقرار السياسي هو : "عدم قدرة النظام على التعامل مع الأزمات التي تواجهه بنجاح، وعدم قدرته على إدارة الصراعات القائمة داخل المجتمع بشكل يستطيع من خلاله أن يحافظ عليها في دائرة تمكنه من السيطرة والتحكم فيها، ويصاحبه استخدام العنف السياسي من جهة، وتناقص شرعيته ، وكفاءته من جهة أخرى"(14)، فهذا التعريف يدرك أن وجود التناقض في المجتمع مع استطاعة السلطة القائمة التحكم فيه سيؤدي إلى الاستقرار ، لكن إذا ما فشلت السلطة في التحكم فيه فسيقود ذلك إلي عدم استقرار سياسي وتناقص شرعية النظام ، بحيث يصبح أمر تغييره مقبولاً من قبل بضعه مؤثرات داخل المجتمع ، حتى وإن كانت هذه المؤثرات ليست سوى مؤثرات ناتجة عن إحدى الأقليات الموجودة في المجتمع.
فالاستقرار والأمن هما من بين أهمّ الأمور قيمة التي يمكن للدولة أن توفّرها لمواطنيها ومع ذلك، لم يتمتّع المواطن العربي بهذا الحقّ كاملا، فقد أدّى الصراع الإقليمي والدولي إلى زعزعة استقرار المنطقة. وأسفر إنشاء دولة إسرائيل في العام 1948 ، وتشريد السكان الفلسطينيين، والحروب التقليدية وغير التقليدية اللاحقة، إلى تدمير الأمن الفلسطيني، والتأثير على لبنان وسوريا والأردن ومصر بدرجات متفاوتة، وقد أدّى غزو العراق واحتلاله من قبل الولايات المتحدة إلى تدمير الاستقرار في العراق وتدهور الأمن هناك، وأطلق العنان للتوترات الإقليمية والطائفية إضافة إلى ذلك، يمكن للتوتّرات الإسرائيلية والأميركية مع إيران في شأن برنامجها النووي أن تطلق العنان لحرب أخرى في المنطقة، أما في داخل البلدان العربية، فقد خرّبت الحروب الأهلية لبنان، والسودان، واليمن،والصومال، والعراق، وفلسطين، وفي تلك الحالات، كانت الوحدة الوطنية ضعيفة، ولم تكن الدولة قادرةً على منع عسكرة التوترات الطائفية.
في حالات أخرى، اشتركت الدولة نفسها في شكل من أشكال الحرب الداخلية، كما هو الحال في الجزائر و سوريا ضد الإسلاميين في كل منهما، وعراق صدام حسين ضدّ الأكراد والشيعة، وحيث لم تتورّط الدولة في نزاع مفتوح، فإن مستوى الاستخبارات والتدابير القمعية التي تقوم بها للسيطرة على مختلف قطاعات المجتمع، غالباً ما تُشكِّل في حدّ ذاتها تهديداً لأمن المواطن، إذ يتعرّض المعارضون السياسيون للنظام إلى السجن والتعذيب في بعض الأحيان؛ ويتم تهميش ومعاقبة المجموعات التي تعد معادية للنظام، وتجري مراقبة عاملين في وسائل الإعلام والمجتمع المدني ومضايقتهم بشكل متواصل ؛ وتتمّ عرقلة لجوء المواطنين، الذين يعارضون المسئولين السياسيين أو الأمنيين المتنفذين إلى ملاذ العدالة.(15)
هذا نهيك عن بعض الدلالات الأخرى التي تبرز ظاهرة عدم الاستقرار السياسي في الوطن العربي بالإضافة إلى الانقلابات العسكرية كما هو الشأن في موريتانيا هناك أيضا:
1- الاغتيالات السياسية داخل الدولة.
2- الإضرابات العامة.
3- وجود حرب عصابات.
4- عدد الأزمات الحكومية داخل البناء السياسي.
5- عمليات التطهير التي تتم في أجهزة الدولة.
6- أعمال الشغب داخل نظام الدولة.
7- الثورات التي نشبت داخل الدولة
8- المظاهرات المعادية للحكومة.
3- أزمة المشاركة السياسية(a crisis of political participation):
أصبح مبدأ المشاركة السياسية للمواطنين في إدارة شؤون بلادهم في كافة المواثيق الدولية والإقليمية وحتى في الميثاق العربي لحقوق الإنسان الصادر سنة 2004، وتحديدا في المادة 24 منه، تحول هذا المبدأ إلى معيار دولي بامتياز، خصوصا بعد وصول عدد الدول التي صادقت على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية إلى 156 دولة(16).
فالمشاركة السياسية حسب كل من كريستوفر أرترتونArterton F. Christopher وهالان هانHalan Hahn في "كتاب المشاركة السياسية" لا تقتصر فقط. على التصويت في الانتخابات ولكنها تشمل الأعمال والأنشطة والمساعي كافة التي تدخل في نطاق العملية السياسية بالمعنى الأوسع، والهادفة إلى التأثير على فئة أو طبقة أصحاب النفوذ أو السلطة، ومثال ذلك الاتصالات مع المسئولين في الحكومة، والمشاركة في تمويل الحملات الانتخابية، ومناقشة القضايا العامة، وحضور الاجتماعات السياسية، ومحاولة إقناع الآخرين بتأييد مرشح معين، والعمل في إطار نشاط الأحزاب السياسية، والحصول على عضوية المنظمات أو التنظيمات السياسية، هذا بالطبع إلى جانب التصويت في العملية الانتخابية.
وتتجلى أهمية المشاركة السياسية في أنها الآلية الأساسية في إرساء البناء المؤسسي للدولة والتحديث السياسي، من تخلف المؤسسات السياسية وعجزها عن تلبية مطالب الفئات الجديدة وطموحاتها وعدم مواكبتها للتغيرات السياسية والاجتماعية، ومن ثمة تفقد شرعيتها، وكما حدد "هنتنجتون" أن هناك علاقة بين المشاركة السياسية والمؤسسات السياسية، فهو يرى أن استقرار النظم السياسية من عدمه يتحدد من خلال طبيعة العلاقة بين المتغيرين، فالمشاركة السياسية هي نتاج العمليات الاجتماعية والاقتصادية المرتبطة بالتحديث، وتأثير التحديث على الاستقرار السياسي ينعكس من خلال التفاعل بين التعبئة الاجتماعية والاقتصادية وبين الإحباط الاجتماعي وفرض الحركة السياسية، وبين المشاركة السياسية والمؤسسة السياسية.(17)
ففي الدول العربية وعلى الرغم من نمو المجتمع المدني واتساع هامش التعبير والاحتجاج السياسي، فإن غالبية الدول العربية لاتزال سلطوية، وحيث إن وجدت المشاركة فإنها تكون محدودة النطاق والتأثير، وفي كلٍّ من الدول الملكية والجمهورية السلطوية، تتركّز السلطة في يد رئيس الدولة، فيهيمن الملك أو الأمير أو الرئيس ليس على السلطة التنفيذية وحسب، بل أيضاً على السلطة القضائية والتشريعية. ومن خلال استخدام أو سوء استخدام أجهزة المخابرات، تحوز السلطة التنفيذية على نفوذ مفرط على وسائل الإعلام والمجتمع المدني وتتعزّز هذه الهيمنة بواسطة حالات الطوارئ أو الأحكام العرفية في حالات كثيرة، وهي تفاقمت بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر بسبب عدد كبير من قوانين "مكافحة الإرهاب " التي تمنح المزيد من السلطات لأجهزة الاستخبارات والسلطة التنفيذية(18).
4- استشراء الفساد السياسي(Political corruption):
في عام 2009 تراجعت مواقع العديد من البلدان العربية في التقرير السنوي الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية عن حالة الفساد في العالم، ومع أن المنظمة العربية لمكافحة الفساد تتحفظ على مؤشر الفساد الذي تعتمده منظمة الشفافية الدولية لتطبيقه على دول تختلف ظروفها والإقتصادية والاجتماعية، إلا أنه يمكن التعامل مع هذا المؤشر كدال على اتجاه عام يتعلق بوضع الفساد في هذه الدولة او تلك، وإن كان غير دقيق تماما(19).
ويرتبط الفساد السياسي في الدول العربية بمجمل الانحرافات المالية ومخالفة القواعد والأحكام التي تنظم محل النسق السياسي ( المؤسسات السياسية ) في الدولة، ومع إن هناك فارق جوهري بين المجتمعات التي تنتهج أنظمتها السياسية أساليب الديمقراطية وتوسيع المشاركة، وبين البلدان التي يكون فيها الحكم شمولياً ودكتاتورياً لكن العوامل المشتركة لانتشار الفساد في هذه الدول العربية في كلا النوعين في الأنظمة تتمثل في نسق الحكم الفاسد ( غير الممثل لعموم الأفراد في المجتمع وغير الخاضع للمساءلة الفعالة من قبلهم).
فالفساد إذاً ملازم بدرجات متفاوتة للحياة السياسية التي هي في آن واحد صراع على النفوذ والمصالح والموارد، وهي أيضا إدارة للشأن العام، لا يعني التلازم ضرورة أو تبريراً بل مجرد ترابط متفاوت الدرجات والمواقع.
فانتشار الفساد في أنماط مختلفة من النظم العربية، ملكية وجمهورية، رئاسية وبرلمانية، يكشف بوضوح عن أن هذا الفساد ماهو إلا ثمرة طبيعية لتأبيد السلطة وتوارثها من جهة، ولغياب النخب المؤسسية التي تتحرك بوازع الحرص على المصلحة العامة وتمارس دورها الرقابي بتجرد وشفافية، من جهة أخرى(20)، فهي تؤسس إذن لظاهرة التخلف السياسي في المنطقة وفق منطق الاستغلال السياسي للشعوب.
III. المدركات الإقليمية للتخلف السياسي في المنطقة العربية:
في هذا الجزء من الورقة سوف نركز على بعض المؤشرات التي تتميز بها المنطقة العربية والتي ساهمت بدرجة كبيرة في تخلفها سياسيا، وزادت من تعميق مشكل التنمية الشاملة وتحقيق دولة الرفاهية، من هذه المؤشرات:
1- تعمق أزمة النخب "المؤسسية":
ازدادت المؤشرات في العالم العربي على تفكك النخب المؤسسية، الرسمية منها وغير الرسمية، التي تتمتع تجمعاتها بالاستمرارية وتلك التي تنشأ لمواجهة تطور داخلي أو خارجي وترتهن به وجودا وعدما، خلف تلك الظاهرة تكمن مجموعة متشابكة من العوامل، أحدها اعتبار أفراد النخب أنفسهم أكبر من المؤسسات التي ينشئونها أو ينضمون إليها، وبالتالي تغيب عنهم قواعد العمل المؤسسي وضوابطه، والأخر ارتباط نشأة معظم تلك المؤسسات بأغراض سياسية وانتخابية بشكل خاص لا شأن لها بتعميق مفهوم التعددية أو بتفعيل نشاط المجتمع المدني، والعامل الثالث هو تدخل السلطة لاستثمار التناقضات الداخلية بين قوى المعارضة من أجل تفريغ الأطر المؤسسية الفارغة المضمون.
وكانت سنة 2009 شاهدا على هشاشة الائتلاف الحكومي في كل من المغرب والجزائر اللتين شهدتا انتخابات على مستوى تجديد ثلث أعضاء مجلس المستشارين ونصف أعضاء مجلس الأمة في أكتوبر وديسمبر على التوالي، كما هو الشأن في الأردن ومصر بتعرض جماعة الإخوان المسلمين لأزمة حادة خرجت بمقتضاها بعض تفاصيل خلافاتها الداخلية إلى العلن، بالإضافة إلى الحركات الاحتجاجية التي ظهرت قبل سنوات قليلة في عدد من البلدان العربية، وكان الأمل معقودا عليها في تحريك الركود السياسي بطرح اطر جديدة للعمل الجماهيري بخلاف الأحزاب السياسية والمنظمات غير الحكومية(21).
2- الفشل السياسي كمؤشر على التخلف:
الدول الفاشلة شأنها شأن العديد من الظواهر في العلاقات الدولية لم يتم بعد وضع تعريف شامل لجميع أبعادها، فهو مصطلح مطاط، اختلفت الجهات السياسية والأكاديمية في تعريفه.
فبالنسبة لقاموس بنغوين للعلاقات الدولية فهو يعرف الدول الفاشلة بأنها "الدول التي حدث فيها انهيار للقانون والنظام والخدمات الأساسية في دول متعددة الإثنيات وتقترن هذه الظاهرة بصراع طائفي مرير وقومية إثنية عنيفة وروح عسكرية وربما صراع إقليمي مستوطن" فهذه الرؤية تربط الفشل الدولاتي بالصراع الإثني والحروب الأهلية.
وبالنسبة لوكالات العمل الدولية لمكافحة الجريمة المنظمةinternational crime threat Assessment تعرف الدول الفاشلة على أنها :"دول غير راغبة أو عاجزة على الالتزام بالمواصفات المقبولة ومسؤوليات السيطرة السيادية لإقليمها الذي قد يؤدي إلى تدهور اقتصادي حاد واضطراب سياسي يهدد الاستقرار الداخلي والإقليمي"،يضيف هذا التعريف عنصر الإرادة السياسية في عدم أداء التزام الدولة بأداء وظائفها اتجاه مواطنيها.
ففي مجملها تتميز الدولة الفاشلة ب:
أولا: وجود حالة من العنف الداخلي و المشاكل ذات نشأة داخلية.
ثانيا: الانهيار الداخلي للنظام والقانون، بحيث تتوقف كل بنى السلطة أو أنها تعمل بشكل جزئي.
ثالثا: السمة الوظيفية والتي تعني غياب المؤسسات القادرة على تمثيل الدولة على المستوى الدولي والتي لها سلطة التفاوض والتأثير على العالم الخارجي ,وان وجدت فإنها كثيرا ما لا تتمتع بالثقة والإجماع(22).
فوفق التصنيف السنوي الرابع الصادر عن المجلة الأمريكية، بالاشتراك مع "صندوق السلام"، فقد جاءت الصومال على رأس قائمة الدول "الفاشلة"، برصيد 114.2 نقطة، تلتها السودان في المركز الثاني برصيد 113 نقطة.
أما ثالث دولة عربية فكانت العراق، التي جاءت بالمركز الخامس برصيد 110.6 نقطة، ثم لبنان في المركز الثامن عشر برصيد 95.7 نقطة، فاليمن في المركز 21 برصيد 95.4 نقطة، ثم سوريا في المركز 35 برصيد 90.1 نقطة.
وبالنسبة لمصر، فقد احتلت المركز 40 بالتصنيف الدولي، الذي شمل 177 دولة، برصيد 88.7 نقطة، لتصبح سابع دولة عربية تأتي ضمن المراكز الـ60 الأولى.
وأشار التقرير إلى أن التصنيف اعتمد على 12 مؤشر لقياس مدى نجاح وفشل حكومات الدول في التعامل مع المشكلات المختلفة التي واجهتها على مدار العام، تتنوع ما بين مؤشرات اجتماعية، وأخرى اقتصادية، وسياسية، بالإضافة إلى مؤشرات عسكرية.
وتم التوصل إلى هذه المؤشرات بعد استطلاع آراء نحو 30 ألف خبير دولي خلال الفترة من مايو/ أيار 2007 إلى ديسمبر/ من العام نفسه، وفقاً لما جاء في التقرير(23).
3- احتدام الجدل حول التوريث:
في عام 2000 اتخذت سورية الخطوة الأهم نحو توريث السلطة من الأب إلى الابن، فلم تمض إلا ساعات قليلة على وفاة الرئيس حافظ الأسد حتى دارت عجلة إعداد المسرح لتولية الابن بشار خلفا لوالده، وتعديل الدستور بخفض سن الترشيح لرئاسة الجمهورية من 40 عاما إلى 35 عاما لينطبق الشرط على بشار، كما تم تعيين بشار أمينا عاما لحزب البعث ومرشحه للرئاسة وقائدا أعلى للقوات المسلحة.
وفي العراق كان يتم إعداد عدي لحكم العراق لولا أن وقع الغزو عام 2003 وأطيح بالرئيس صدام حسين وقتل ابناه عدي وقصي في العام نفسه، وفي ليبيا كان قد تم استحداث سلطة القيادة الشعبية خلفا لسلطة مجلس قيادة الثورة الذي اختفى منذ السبعينيات، ووصف الرئيس القذافي في مارس 2000 هذه القيادة الشعبية بأنها تعد " المظلة فوق أمانة مؤتمر الشعب العام (أي البرلمان، واللجنة الشعبية العامة اي "الحكومة"، والأمن)، وان المنسق العام يصبح بمثابة رئيس دولة في يوم ما". وقد تولى سيف الإسلام هذا التنسيق العام، وبالتالي صار مهيأ لرئاسة الجماهيرية.
وفي مصر مثل عام 2000 علامة مهمة على إعداد المسرح السياسي لصعود نجم جمال مبارك، ففي هذا العام أنضم جمال إلى عضوية الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم الذي كان يرأسه والده قبل أن يسقطه الشعب المصري من على سدة الحكم، وتعديل الدستور للسماح بالانتخابات التعددية لاختيار رئيس الجمهورية بعد إحاطة المادة 76 ذات الصلة بكم من القيود لقطع الطريق على المستقلين، ولا تسمح بفرصة الفوز إلا لمرشح الحزب الوطني.
وفي اليمن، أخذ نجم احمد علي عبد الله صالح في الصعود منذ فاز بعضوية مجلس النواب عن إحدى دوائر صنعاء عام 1997، وهو حينها في الخامسة والعشرين من عمره، ثم توليه قيادة الحرس الجمهوري المكلف بحماية امن النظام(24).
4-ضعف مؤسسات المجتمع المدني
يرى البعض أن وجود ديمقراطية تعد شرطا أساسيا لنمو المجتمع المدني، كما أن المجتمع المدني يعد ركيزة أساسية لوجود الديمقراطية، وفي الوطن العربي يعرقل غياب الديمقراطية فاعلية المجتمع المدني، ويشخص سمير أمين حال الديمقراطية في الوطن العربي حين يرى الحكومات العربية وقد اعترفت بالحقوق السياسية للمواطنين، ولكنه ظل اعترافا شكليا لم يُعَمل به، فالأحزاب والنقابات والجمعيات واتحادات الطلبة وغيرها كلها موجودة في الوطن العربي وتقودها في العادة نخب ثقافية عربية، فالدولة العربية وسعت كثيرا من نفوذها وقوتها مما جعلها دولة مركزية وشمولية ووضعت العراقيل المتعددة أمام قدرة المجتمع المدني وفعاليته من خلال القيود القانونية والإدارية التي تكبله بها(25). فمؤسسات المجتمع المدني تخضع في رأي ثناء فؤاد عبد الله إلى حصار ثلاثي، فالدولة تحرص على إمساك كل الخيوط بيدها، والميراث الثقافي إضافة إلى التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية يعيقان من حرية الحركة للمجتمع المدني، تسعى الحكومات والأنظمة العربية باستمرار لابتلاع المجتمع المدني وشل قدرته على الفعل.
بعض الملاحظات الخاصة بطبيعة الأنظمة العربية:
من خلال دراستنا لواقع الأنظمة العربية من الناحية السياسية، وكذا الأسباب الأساسية لعد جدوى سياسات الإصلاح التي تزعم أنها تقوم بها وجدنا أنها تتميز بمايلي:
1- أنهم يمنعون الديمقراطية بحجة أن الأهم هو حل القضية الفلسطينية.
2- عدم وجود برنامج تدريجي للإصلاح وعدم تنازل أصحاب القرار عن امتيازاتهم.
3- وجود قيادات سياسية وبرلمانية تتربع على السلطة منذ ما يقرب 30 عاما.
4- بعض الدول العربية لا يوجد بها برلمان منتخب ولا تجرى فيها انتخابات.
5- الأنظمة العربية تريد شكلا للإصلاح يكون اقل إيذاء لمصالحها.
6- التحجج برفض الإصلاح من الخارج.
7- عدم إتاحة الفرص للمجتمع المدني والمؤسسات الغير رسمية لإشراكها في رسم السياسات.
خاتمة:
تضافرت عوامل عديدة كانت سببا في تخلف الأنظمة العربية سياسيا، الشطر الأكبر من هذه العوامل مقصود من قبل القيادات الحاكمة في هذه الأنظمة بسبب رفضها سياسات الإصلاح التي لا تخدم مصالحها، والشطر الاخر كان نتيجة تراكمات داخلية ترجع للسياق التاريخي للدولة وكذا عوامل خارجية زادة من حدة الظاهرة في المنطقة، وفي ظل كل هذا حاولنا في هذه الورقة توضيح أهم المحددات التي تبرز ظاهرة التخلف السياسي في الدول العربية، ومن هنا نصل إلى النتائج التالية:
إن غياب مظاهر الديمقراطية عن المشهد السياسي العربي هو غياب مزدوج –كما يقول محمد عابد الجابري- فهي غائبة على المستوى السياسي (نظام الحكم وأسسه)، وعلى المستوى الإيديولوجي (في المشروع النهضوي العربي) بل وحتى على المستوى الثقافي والشعبي.
إن بعض الأزمات التي أشرنا إليها والتي تعاني منها الدول العربية قد يتناقض مع بعضها الآخر حيث أن القضاء على بعض الأزمات قد يفجر بعضها الآخر، فتحقيق المشاركة السلمية مثلا قد يفجر أزمة الهوية أو أزمة الشرعية، وهذه خاصية في الدول النامية عموما.
إن معايير استحقاق الدول العربية لوصف (التخلف) ليست معايير جوهرية في ذاتها، بل هي نتاج الأصل الذي انعكست عليه، أي ما أفرزه (الروح الجمعي) من قيم ومسلمات وعقائد، ولذلك يتكرر التأكيد على ضرورة مراعاة الخصوصية العربية.(25)
إن المتأمل في الأنظمة العربية يجد أنها قائمة إما على أساس الحزب الواحد، أو العائلة الواحدة، أو أبناء جهة واحدة، ومن هؤلاء وأولئك تتكون الأجهزة القيادية والرئاسية، وعلى رأس هذه الأجهزة مجموعة أشخاص يمتون إلى تلك النظم بصلات قربى كثيرة، وهؤلاء من خلال مواقعهم في السلطة يضفون عليها طابعا اجتماعيا وسياسيا وأهليا لاسيما في إطار توزع السلطات.
إن نمط الولاءات والانتماءات القائم في الوطن العربي هو الذي يجعل النسق السياسي العربي نسقا انقساميا، وإن كانت هذه الانقسامات تقوى وتضعف أمام قوة الانتماء الفكري أو السياسي وضعفه من جهة، ووجود عصبيات أقوى وأكثر فاعلية من عصبية قربى الدم من جهة أخرى.
الهوامش:
1- محمد عبد الجبار،" كتاب التخلف السياسي"، نشر على موقع:
http//:www.awu.org/politic/08/fka8006.htm
2- احمد خليفة وآخرون، الهوية والثرات، بيروت: دار الكلمة، ط1، 1983، ص 22.
3- نصر محمد عارف، نظريات التنمية السياسية المعاصرة، مصر دار القارئ العربي، 1993، ص57.
4- فايز بكتاشي، " مفهوم التخلف السياسي في العالم الثالث"، العلوم الاجتماعية، الكويت: العدد الثالث، المجلد13، 1985
5- أحمد وهبان، التخلف السياسي وغايات التنمية السياسية، مصر: الدار الجامعية، ، 200، ص ص 14-15.
6- حسن بن كادي، التنمية السياسية في الوطن العربي وأفاقها، مذكرة مقدمة لنيل شهادة الماجستير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية فرع التنظيم الإداري والسياسي، جامعة باتنة، 2007-2008.
7- دانيال كوفمان و آخرون، "مسائل الحوكمةVIII : مؤشرات الحوكمة الإجمالية والفردية للفترة الممتدة بين العامين 1996 و 2008" ، تقرير تقني رقم 4978 )واشنطن: البنك الدولي، مجموعة أبحاث التنمية 2009).
8- خليل شيكاكي وآخرون، "حالة الإ صلاح في العالم العربي في العام 2008 : مؤشر الديمقراطية العربية "، مبادرة الإصلاح العربي. ص ص 22-27.
9- بول سالم، هل تمكن التنمية أم تعرقلها؟، أوراق كارنيغي، العدد 21 أفريل 2010، مركز كارنيغي للشرق الاوسط بيروت، ص 07.
10- نفس المرجع، ص 09.
11- أحمد ناصوري، إشكاليات وتحديات النظام السياسي (جامعة دمشق، كلية العلوم السياسية، مجموعة محاضرات غير منشورة لطلاب دبلوم الدراسات السياسية، 2005).
12- خميس والي، إشكالية الشرعية في الأنظمة السياسية العربية: مع إشارة إلى تجربة الجزائر (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، سلسلة أطروحات الدكتوراه 44، الطبعة الأولى، شباط 2003، ص ص 105-106.
13- لمزيد من المعلومات، انظر: برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، تقرير التنمية الإنسانية العربية 2004: نحو الحرية في الوطن العربي (عمان، المطبعة الوطنية، 2005).
14- سويم العزي، السلوك السياسي في المجتمع العربي، دار الالفة، الطبعة الاولى، 1992، ص 12.
15- عزو محمد عبد القادر ناجي، مفهوم عدم الاستقرار السياسي في الدولة،
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=124635
16- بول سالم، المرجع السابق، ص 08.
17- سليم الحص وأخرون، المشاريع الدولية لمكافحة الفساد، بحوث ومناقشات الندوة التي اقامتها المنظمة العربية لمكافحة الفساد، بيروت، ط 1، 2006، ص 91.
18- ثناء فؤاد عبد الله، أليات التغيير الديمقراطي في الوطن العربي، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1997 ، ص 213.
19- بول سالم، المرجع السابق، ص 09.
20- احمد ابراهيم محمود واخرون، حال الامة العربية 2009-2010، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط 1، 2010، ص121.
21- نفس المرجع، نفس الصفحة.
22- احمد ابراهيم محمود واخرون، المرجع السابق، ص123.
23- سميرة شرايطية، تأثير الدول الفاشلة على الاستقرار الامني دراسة في الفشل الدولاتي والتهديدات الامنية الجديدة، مذكرة مقدمة لنيل شهادة الماجسبير في العلوم السياسية جامعة بسكرة، 2009-2010، ص ص 54-55.
24- اعداد: هيثم العتابي، الدول الفاشلة عالمياً والدور العربي المميز في قائمتها.
http://www.annabaa.org/nbanews/70/612.htm
25- . فوز نايف عمر ريحان، العولمة وأثرها على عملية الإصلاح الديمقراطي2006في الوطن العربي منذ 1990، قدمت هذه الأطروحة استكمالا لمتطلبات درجة الماجستير في التخطيط والتنمية السياسية، بكلية الدراسات العليا في جامعة النجاح الوطنية في نابلس، فلسطين، 2007، ص155
26- حسن بن كادي، المرجع السابق، ص 117
قدمت في الملتقى الوطني الأول حول:
التحولات السياسية في المنطقة العربية: واقع وآفاق
المنعقد بجامعة 20 أوت 1955 - سكیكدة-الجزائر
يومي 24 و 25 أفريل 2011الكاتب الأستاذ: بوقنور إسماعيل و الأستاذ: بوستي توفيق أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية جامعة قالمة -الجزائر