أنت زائر للمنتدى رقم |
.: 12465387 :.
|
|
| الأصول التاريخية والنظرية للأنثروبولوجيا | |
| | كاتب الموضوع | رسالة |
---|
salim 1979 التميز الذهبي
تاريخ الميلاد : 27/05/1979 العمر : 45 الدولة : الجزائر عدد المساهمات : 5285 نقاط : 100012179 تاريخ التسجيل : 06/11/2012
| موضوع: الأصول التاريخية والنظرية للأنثروبولوجيا الإثنين سبتمبر 23, 2013 5:03 pm | |
| الأصول التاريخية والنظرية للأنثروبولوجيا مفهوم الأنثروبولوجيا كلمة الأنثروبولوجية هي كلمة يونانية تتألف من مقطعين الأول هو (انتربوس) ويعني الإنسان والمقطع الثاني هو (لوجوس) ويعني العلم أو الدراسة أو الموضوع فيصبح المرادف العربي لكلمة انثروبولوجيا هو (علم الإنسان) والإنسان هو الإطار الوحيد الذي يحدد الموضوعات التي يدرسها هذا العلم, أما الزمان أو المكان فلا يقيدان الموضوعات التي تدخل في نطاقه بمعنى أنه العلم الذي يدرس الإنسان وأجداده وأصوله في كل بقعة أرض منذ القدم حتى يومنا هذا, ولكن لسعة علم الإنسان نقول أنه الدراسة التي تغطي العلم بالجنس البشري فيدرس أجسام أفراده ومجتمعاتهم ووسائل اتصالهم فيما بينهم وتفاعلاتهم المادية والعلائقية الاجتماعية والفكرية الروحية, أي أنّ الأنثروبولوجيا هي الإطار الذي تتحدد فيه الصورة البايولوجية والاجتماعية والحضارية لتكون إطاراً متناسقاً يظهر فيه تفاعل تلك الجوانب بمنظر يظهر جمالية اللوحة وهذا ما يميز الأنثروبولوجيا عن غيرها من العلوم الاجتماعية وهو حدود مضمونها بما يضفيه من معطيات حول الإنسان عبر تطوره وارتقاءه من الأشكال الأولية, وما طرأ على أنماط سلوكه وبيئته الاقتصادية والاجتماعية وتعاقب حضارته لتستمد من ذلك المنظور التاريخي منطلقاً لفهم الإنسان المعاصر ومشاكله السلوكية والحضارية والمجتمعية . إنّ علم الأنثروبولوجيا في دراسته للإنسان يحاول أن يكشف ويصنف النواحي الجسمية التي تميز الإنسان عن بقية المخلوقات التي تعاصره وتلك التي انقرضت, ويحدد الصفات التي تميز الأجناس البشرية وكيفية تفاعل تلك الأجناس مع البيئة ليستخلص التباين بين مختلف الحضارات فهو علم يتعدى نطاق الوصف البايولوجي والحضاري والاجتماعي وصولاً لمحاولة تحديد القوانين والأنساق التي تتحكم في تكوين المجتمعات والحضارات ونموها, إنّ مفهوم الأنثروبولوجيا هذا مستمد من معطيات محددة يمكن أن نجملها بما يلي: ✺1 1- إنّ الأنثروبولوجيا تشمل دراسة الإنسان بوصفه نسقاً متميزاً تتفاعل فيه الجوانب العضوية مع الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والحضارية والبيئية. ____________________________________ ✺ الأنثروبولوجيا وتنمية المجتمعات-د. محمد صفوح الأخرس – وزارة الثقافة السورية – 2001-ص26. 2- يشكل الإنسان في تفاعله مع البيئة والآخرين تراثاً حضارياً يشمل كل الجوانب المادية والفكرية والروحية والقيم الاجتماعية التي تحدد نظرة الإنسان إلى نفسه وإلى العالم الخارجي لذا يعد مفهوم الحضارة من أهم المفاهيم في نطاق الأنثروبولوجيا بشكل عام. 3- إنّ انتقال المجتمعات من مرحلة إلى أخرى يتولد ضمن ظروف اقتصادية محددة لذا فإنّ دراسة أنماط التغيير الاجتماعي والعوامل المحددة للتشكيل الطبقي وتقسيم العمل والقوى المحددة لعملية الإنتاج ذاتها تعد من الموضوعات الرئيسية والهامّة في نطاق الأنثروبولوجيا . تعريف الأنثروبولوجيا: هي علم الإنسان من حيث هو كائن اجتماعي ومنها الأنثروبولوجية الطبيعية والاجتماعية والحضارية والتطبيقية ...د. شاكر مصطفى سليم)✺1 أو ( هي دراسة المؤثرات الخارجية التي يخضع لها العقل والتغيرات التي تتم فيه بمقتضاها ...راوخ) أو (هي العلم الذي يدرس الإنسان ككائن اجتماعي ويشمل موضوع دراستها جميع ظواهر الحياة الاجتماعية دون تحديد زمني أو مكاني ...بواس) أو( هي علم دراسة جماعات الناس وسلوكهم وإنتاجهم وهي أساساً علم خاص بدراسة التاريخ الطبيعي لمجموع أوجه النشاط البشري التي أصبحت منجزاتها الراقية في المجتمعات المتمدنة منذ زمن بعيد ميداناً للعلوم الإنسانية...كروبر) أو ( هي علم دراسة الإنسان وأعماله ...لنتون) أو (هي العلم الذي يهدف إلى فهم الإنسان من خلال عدّة ميادين عملية قد تكون مستقلة لكنها متصلة بعضها ببعض و الأنثروبولوجية قسمان طبيعية وثقافية ويندرج تحت الطبيعة دراسة السلالة والعنصر والبايولوجية البشرية ويندرج تحت الثقافة الانتولوجيا والاثنوغرافيا والآثار والفولكلور واللغويات و الأنثروبولوجيا الاجتماعية فهي ذلك الفرع من دراسة الإنسان الذي ينظر إلى الإنسان من حيث علاقته بمنجزاته....العالم إحسان محمد الحسن) أو ( هي دراسة الأصول البشرية وتصنيفها ودراسة حياة الشعوب التي تعرف باسم الشعوب البدائية ....اتفاق ضمني بين العلماء الأنثروبولوجيين) ✺2 لمحة تاريخية تعود دراسات علم الإنسان إلى المؤرخ الإغريقي هيرودوتس الذي وصف في بحوثه عادات البربر وتقاليدهم, واستخلص من ذلك الخصائص التي تتسم بها شعوب الحضارات القديمة, ثمّ أعقبه تاسيتوس الذي درس عادات وتقاليد وأعراف الشعوب الجرمانية ✺3 ومن العلماء العرب برز العالم ابن خلدون في دراساته الأنثروبولوجية والاجتماعية ____________________________________ ✺1 المدخل إلى الأنثروبولوجيا - د. شاكر مضصطفى سليم – مطبعة العاني – بغداد 1975- ص7. ✺2 موسوعة علم الاجتماع- أ.د. إحسان محمد الحسن- الدار العربية للموسوعات – بيروت-ص96و97. ✺3 الأنثروبولوجيا وتنمية المجتمعات-د. محمد صفوح الأخرس – وزارة الثقافة السورية – 2001-ص23. من خلال أعماله في التاريخ وعلم العمران ودراساته المفصلة للبدو وعاداتهم وأعرافهم وقيمهم وعصبيتهم وفي وصف الإنسان الذي درسه بدراساته لأحوال الأمم والشعوب والانتقال الحضاري وكان ذلك من أبرز ما سجله الباحثون الاجتماعيون منذ القرن الرابع عشر إلى هذا اليوم .✺1 لقد حظيت الدراسات الأنثروبولوجية باهتمامات رجال السياسية مع بدء الغزوات الاستعمارية للأوطان بشكل استثنائي, إذ بدأت بالرحلات الاستكشافية في القرن الخامس عشر لجمع المعلومات المفصلة عن عادات وأعراف الشعوب ليسهل للمستعمرين التعامل معها عند الغزو ولذلك اتسمت الدراسات الأنثروبولوجية بالسعة والامتداد والشمول وتنوعت أدوات البحث وطرقه من أجل الوصول إلى الواقع المتنوع والمتجدد, كما اعتمد الباحثون الأنثروبولوجيون فلسفات متعددة ومناهج متباينة في تصنيف المجتمعات وتطور الحضارات, فتوزعت دراسات علم الإنسان في ميادين عدة تناول كل منها جانب محدد من الإنسان فظهرت أول ما ظهرت بالتصنيف الأنثروبولوجيا الطبيعية و الأنثروبولوجيا الحضارية (الثقافية) ثم الأنثروبولوجيا الاجتماعية, ثمّ الأنثروبولوجيا التطبيقية, فالأولى تناولت الإنسان في طبيعته البشرية كالتشريح ووظائف الأعضاء وعلم الحياة (Anatomy-physilogy-biology) والثانية تتناول الإنسان في سلوكه الجمعي ورموزه الاجتماعية ذات الدلالات وجوانبه الروحية والفكرية والمادية المرتبطة بالبيئة (Anthropology Cultaral) والثالث بتناول جانب تحليل البناء الاجتماعي للمجتمعات الإنسانية لا سيما تلك المجتمعات شبه البدائية التي يظهر فيها بوضوح تكامل ووحدة البناء الاجتماعي(seciol Anthrpology)✺2 أما الرابع فهو التطبيق العملي للنظريات والدراسات الأنثروبولوجية (Applied Anthropology) لا سيما الأنثروبولوجية الثقافية و الأنثروبولوجيا الاجتماعية في الإدارة والتعليم والتخطيط والتنظيم الصناعي والتجاري وقد صاغ هذا المصطلح العالم البريطاني برينتون عام 1895 ✺3 وهذا التنوع في المناهج أضفى صورة على الأنثروبولوجيا هي أقرب للفلسفة منه للعلم البحت القائم بذاته فأصبحت الأنثروبولوجيا المعاصرة تحتل موقعاً بين اثنين متباينين موقع الشمول المعرفي وموقع الاختصاص المهني فكل باحث فيها يرى نفسه في مكان من هذين المرقعين شعر بذلك أم لم يشعر وهذا لا يشكل ضيراً لأنّ فلسفة العلم واحدة ولكن مناهج البحث متباينة من ميدان لآخر. نشأة وتطور الأنثروبولوجيا إنّ الأنثروبولوجيا كعلم قائم بذاته خاص بدراسة التاريخ الطبيعي لمجموعة أوجه النشاط البشري مرّ بالمراحل التالية: 1- المرحلة الأولى وهي مرحلة الدراسات الوصفية للرحالة/ لقد اعتمدت الدراسات الأولى نظرياً ومنهجياً على الوصف والتحليل المستخلص من الحكايات الشعبية والأساطير بهدف استنباط نمط الانجازات الحضارية في __________________________________________ ✺ علم الاجتماع السياسي- د. صادق الأسود- مطبعة الإرشاد- بغداد 1973-ص12. ✺ الانثربولوجيا الاجتماعية – محمد الخطيب – دار علاء للنشر- سورية- 2008 – ص12و14. ✺ موسوعة علم الاجتماع –أ.د.إحسان محمد الحسن – الدار العربية للموسوعات – بيروت – ص97. تاريخ تطور الإنسان منذ وجد فتوصلت الأنثروبولوجيا إلى انجازات الإنسان الحضارية في اكتشاف النار وصناعة بعض الأدوات وبعض تقنيات إنتاج الطعام , ومنذ عهد الاستكشافات الكبرى بالقرن الخامس عشر تراكمت كميات من المعلومات الأنثروبولوجية التي جمعها الرحالة والمبشرين والجنود عن شعوب الأصقاع التي جابوها, وكانت مصادر المعلومات هي التحليلات الصورية وما تناقلته الأفكار والألسن من قصص وحكايات وأساطير, لهذا تعرضت جوانب كثيرة من المعلومات للتشويه وهكذا انتشر اسم هذا المصطلح تدريجياً في تداول هذه المادة العلمية مع بداية القرن السادس عشر وأخذ نظرة أكثر علمية وجديّة وتجلى ذلك لدى العلامة الإنكليزي هادون فهو أول من استخدم مصطلح الأنثروبولوجيا ليربطه مع مصطلح شاع بالحضارة الإغريقية استخدمه الفيلسوف أرسطو لوصف الشخص الذي يتكلم عن نفسه ثمّ بعد ذلك استخدمه المفكر هانت عنواناً لكتابه الذي نشره عام (1501) الذي تضمن دراسة خصائص جسم الإنسان من الناحية التشريحية, ثمّ ظهر المصطلح عام (1655) في كتاب باللغة الانكليزية يبحث في الطبيعة البشرية بشقيها التشريحي والنفسي ولربما كان هذا هو رابط مفهوم علم الأنثروبولوجيا قديماً بأنّه يشير إلى ربط الروح مع الجسد ثمّ انتشر المصطلح متجاوزاً هذا التفسير إلى الأصول الاجتماعية والحضارية والبايولوجية المكونة لسلوك الإنسان وعاداته وتقاليده, وتجسدت تلك بدراسات الفيلسوف الفرنسي مونتسيكو بالقرن الثامن عشر الذي ميّز بكتابه روح القوانين بين البناء الاجتماعي ونظام القيم ودعا للتوجه نحو الأصول التاريخية للأنساق والبنى الاجتماعية , فاتجه علماء الأنثروبولوجية نحو المجتمعات البدائية حيث رأوا فيها مصدراً ثميناً لجمع المعلومات عن مراحل تاريخية يفترض أنّ مجتمعات معاصرة مرت بها. 2- المرحلة التالية هي مرحلة الدراسات الجيولوجية: تركزت عملية جمع المادة العلمية لعلم الأنثروبولوجيا في هذه المرحلة التي بدأت مع النصف الأول للقرن التاسع عشر على ما يعثر عليه الجيولوجية من بقايا عظمية إنسانية أو من أدوات كان يستخدمها الإنسان في حياته اليومية فقد صنف العالم لينو الأجناس البشرية المختلفة عام 1750على ضوء الدراسات الجيولوجية وعلم الحفريات القديمة ثمّ تلتها دراسات العالم الفرنسي يوشيه ديبرت بين عامي (1847-1864) التي أشارت إلى عثوره على أدوات حجرية في وادي سوم بأوروبا عام 1830 وأعطت دليلاً على وجود الإنسان في أوروبا بالعصر الجليدي الرابع ثمّ أعقبه سيرجون ليبوك عام 1865 الذي أشار إلى معلومات تبين الفرق بين ثقافات الإنسان في العصرين الحجريين الحديث والقديم , ثمّ أكد اكتشاف هيكل إنسان النياتدرتال في ألمانيا عام 1865 على وجود الإنسان القديم فيها وكان ذلك الاكتشاف عبارة عن ركيزة للأنثروبولوجيا حيث كانت بداية بحوث علمي الآثار و الأنثروبولوجية الطبيعية . 3- ثمّ تلت ذلك مرحلة دراسات الشعوب البدائية: إنّ أبرز سمات هذه المرحلة تمثلت باهتمام علماء الأنثروبولوجيا بدراسة شعوب بدائية أو شبه بدائية معاصرة تعيش في بعض الأماكن كأفريقيا وأندونيسيا واستراليا واستخلاص أساليب تطور تلك الشعوب ومن تلك الدراسات يستنتج علماء الأنثروبولوجيا حياة شعوب ما قبل التاريخ وتجلت هذه الدراسات عند أنصار المدرسة التطورية أمثال باخ أوفن, تايلر, مورغان للفترة بين عام (1861-1877) الذين استنتجوا من دراساتهم أنّ التقدم البشري يتبلور من خلال الانتقال من المرحلة الحيوانية إلى البدائية ثمّ إلى البربرية ثمّ إلى التمدن, وهذا كان أسلوب مورغان وأنجلز في دراساتهم لتطور العائلة ونظام الزواج وروابط القرابة ونسب الأبناء الأموي وأبوي وملكية القبيلة للأبناء وظهور العشيرة التي ارتبط بنظام الزواج وملكية الثروة في نهايات المرحلة البربرية من عصر المشاعية البدائية,✺ وكيف أنّ شخصية الفرد تنصهر في شخصية الجماعة التي تمثل كل شيء بالنسبة له وتتشابه الأدوار بالأسرة وتعتمد على الجنس (ذكر وأنثى) والعمر (أطفال, شباب, كهول, شيوخ) والمركز في النظام العائلي (أب, أم, عم, خال, ابن, بنت) وتقوم عمليات الضبط الاجتماعي على أسس معيارية متفق عليها وكان الأنثروبولوجيون يفترضون إنّ مراحل تطور المجتمعات الإنسانية واحدة وبالتالي في حالة تعذر دراسة الأصول التاريخية لمجتمع ما فإنّه ممكن دراسة مجتمعات أخرى في مرحلة تطور أدنى وصولاً إلى جذور المجتمعات المعاصرة, لكن هذا الافتراض النظري ثبت عدم دقته مؤخراً لظهور دراسات أثبتت أنّ انساق تطور المجتمعات لا يتم بشكل واحد. 4- المرحلة الأخرى في نشوء وتطور الأنثروبولوجيا هي الحملات الاستعمارية: لا يتحرج المستعمرون أبداً من اعترافهم بأنّ دراساتهم الأنثروبولوجية للشعوب هو لتأمين قاعدة للإرشادات السياسية والسيطرة الإدارية لهم على تلك الشعوب, فهم يرون ذلك وضعاً شرعياً وضرورياً وإنسانياً يسوغه تفوق المجتمع الغربي في مجال العلوم الاجتماعية, والحجة هي نقل هذه الشعوب إلى مرحلة المدنية والتقدم, ولذلك فإنّ الدراسات الأنثروبولوجية المعمقة لتلك الشعوب لمعرفة تاريخها وعاداتها وحاجاتها ونقاط ضعفها كانت ميداناً خصباً لأفكار علماء الأنثروبولوجيا وانطلاقاً من ذلك اتجهت الدراسات الأنثروبولوجية في القرن التاسع عشر نحو دراسة النظم والبنى الاجتماعية من منظور تطوري في ماضيها لمعرفة المراحل التي مرت بها تلك النظم مفترضين أن كل مرحلة تاريخية استتبعت في أشكال تطورها اتجاهات متباينة ترتبط بفترات الماضي من جهة وبالواقع الراهن من جهة أخرى, والفكرة حول ذلك أنّ النظام الاجتماعي هو نظام إنساني يمكن أن ينشأ في مكان وينتشر في مكان آخر حيث يتفاعل مع معطيات المجتمع وبالتالي يولد نسقاً جديداً من البنى الاجتماعية يتميّز عما كانت عليه في مكان ولادتها الأولى, وهذا يتطلب من علماء الأنثروبولوجية التمييز بين ثلاثة مفاهيم في الأنثروبولوجيا مفهوم نشأة النظام ومفهوم تطور النظام ومفهوم انتشار النظام, وهذا يعني أنّ البحوث الأنثروبولوجية يجب أن توجد قاعدة اقتصادية واجتماعية للاستعمار الجديد في جغرافية وأمم البلدان التي ستستعمرها وهذا ما طغى على البحوث الأنثروبولوجية في القرن العشرين وعلى ذلك بنى قراره عندما أوجد حاكم أفريقيا الغربية أنظمة جديدة للقضاء في مناطق متعددة من أفريقيا سهلت الأعمال التجارية ________________________________________ ✺ مشكلة المرأة / الحل التاريخي – د. بدر الدين السباعي- دار الجماهير- دمشق 1985-ص65و67. والاقتصادية والاجتماعية للشركات الرأسمالية الاحتكارية ✺1, وأحدث ذلك في حينها خلافاً بين علماء النظرية الوظيفية خاصة مالينوفسكي ورادكليف من جانب وميرتون من الجانب الآخر في وجوب إعادة النظر في مفهوم الوظيفي واللاوظيفي بالنظرية لكي لا يبقى الالتباس الذي يستثمره مشرعوا قوانين الطبقة الرأسمالية لمصالحهم الخاصة أي لمصالح الأغنياء على حساب قوت الفقراء✺2 وفضح ذلك مالينوفسكي في مقال له بعنوان (إفريقيا 1930) الصيغة غير الإنسانية للتقدم التقني فوصف الأنثروبولوجيا بأنها لم تعد الحارس الأعمى للمدنية بل حارس الحياة الأصيلة إزاء إحباطات المجتمع الصناعي. 5- الأنثروبولوجيا المعاصرة والتوجهات التنموية: تعتبر هذه المرحلة أهم المراحل التي تمر بها الأنثروبولوجيا أثناء نشوئها وتطورها, فقد انطلقت الدراسات في النصف الثاني من القرن العشرين نحو دراسة النظم الاجتماعية كما هي في الوقت الراهن دون البحث بأصولها التطورية أو انتشارها الحضاري فاستهدفت تحديد خصائص ووظائف النظام الاجتماعي وأسلوب تفاعله وطريقة توائمه مع الأنظمة الاجتماعية الأخرى مما يؤدي إلى ديمومته واستمراره, فاتخذت البحوث الأنثروبولوجية المعاصرة طابعاً مضافاً لتوجهها السابق وهو دراسة المجتمعات المتمدنة كالأحياء السكنية بالمدن الكبيرة أو المجتمعات المحلية في القرى وبذلت جهود من قبل علماء الأنثروبولوجيا في الدول النامية لفهم آلية عمل المتغيرات الاجتماعية في المجتمعات المحلية القروية وأسلوب انتقالها من مراحل قطف الثمار والزراعة والصيد إلى أسلوب حياة المصانع والمزارع الجماعية والسدود ووسائل الري الحديثة, فحققت الأنثروبولوجية خطوة للأمام نحو وجهة تنموية لدراسة مسائل التكيف الحضاري والمشكلات التي ترتبط بقضايا التنمية والتحول المجتمعي,وتوافق ذلك مع جهود جهات أخرى مهتمة بدراسة المجتمعات المتخلفة لتأثيرها على مسار التقدم بالمجتمعات المتقدمة والنامية ومثال ذلك في مجال الصحة حيث ترى تلك المؤسسات أنّ انتشار وباء ما في المجتمعات المتخلفة قد يؤدي إلى تهديد القطاع الصحي في مجتمعات أخرى متقدمة, كما ظهرت دراسات أنثروبولوجية أخرى متخصصة بتحديد معالم حضارات المجتمعات المتقدمة, ودراسات أخرى عن عمليات الصراع والامتزاج بين الحضارات المتقدمة عندما يحدث تلافي بينها بسبب الهجرات والحروب ودراسات أخرى في بلدان العالم الثالث تحررت من سيطرة العلماء الأجانب وتحولت إلى أيدي علماء وطنيين سخروها في خدمة عمليات التنمية الوطنية وهذا _____________________________________ ✺1الأنثروبولوجيا وتنمية المجتمعات-د. محمد صفوح الأخرس – وزارة الثقافة السورية – 2001-ص34. ✺2النظرية المعاصرة في علم الاجتماع – د. إبراهيم عيسى عثمان – دار الشروق- عمان 2005-ص68, يعني أنّ الاستخدام التاريخي للعلم القائم على فلسفة سياسية معينة لا يحدد قيمة ووجود العلم في المرحلة الراهنة, فالاتجاه التنموي دفع مسيرة علم الأنثروبولوجيا باتجاهات مغايرة للاتجاهات التقليدية, وذلك خلق تغيرات في المحاور النظرية ووسائل البحث وأدوات التحليل بما يواكب ما تشهده العلوم الاجتماعية الأخرى. الأنثروبولوجيا وعلاقتها بالعلوم الأخرى نظراً لشمولية المجال العلمي للأبحاث في دراستها لذلك المخلوق الحي الإنساني دراسة كليّة متكاملة لتشمل مسيرة تطوره العضوي والثقافي من خلال الظروف الموضوعية المحيطة به زماناً ومكاناً قد جعل هذا من علم الأنثروبولوجيا علماً شمولياً يستعين بمعطيات علوم كثيرة لدرجة يندر عندها أن يكون هناك علم لا ينهل منه بهدف تفسير الظواهر الإحيائية والثقافية المادية منها وغر المادية للإنسان الذي يشكل المضمون لعلم الأناسة بكامله, كما أن الكثير من العلوم الأخرى الطبيعية منها والإنسانية تستفيد من المعطيات العلمية التي يتوصل إليها باحثون وعلماء الأنثروبولوجية ومن ابرز العلوم التي ترتبط بعلم الأنثروبولوجيا هي: 1- علم الجيولوجيا : يتبادل هذا العلم مع الأنثروبولوجيا من خلال المعلومات التي تقدمها الدراسات الجيولوجية التاريخية عن الفترات الزمنية التي عاش بها كل نموذج من أفراد النوع البشري لتواجد بقاياه العظمية بين ثنايا القشرة الأرضية المنطبقة فوق بعضها حسب خاصية النشوء والتقادم لكل طبقة وبذلك تحدد الفترة الزمنية التي عاش بها ذلك الهيكل ومن دراسته مع الهياكل الحيوانية الأخرى التي يعثر عليها بنفس الطبقة يتم التعرف على بيئته ويمكن التعرف على الأحوال المناخية التي كانت سائدة. 2- العلوم الجغرافية الطبيعية: تستفيد الدراسات الأنثروبولوجية من المعطيات العلمية الجغرافية خاصة التضاريس والمياه وتوزيعهما وكذلك المناخ والبعد والقرب من خط الاستواء والارتفاع والانخفاض عن سطح البحر والقرب والبعد عن الشواطئ والقرب والبعد عن السلاسل الجبلية, لأنّ هذه العوامل تؤثر على الحياة الإنسانية في جوانبها العضوية والاجتماعية والثقافية إذ أنّ الأحوال المعيشية والبنى الاجتماعية متباينة في المجتمعات البشرية كتباين الظروف الجغرافية التي تعيش عليها, هذا من جانب ومن جانب آخر يتشابه سكان الطبيعة الجغرافية الموحدة رغم تباين مجتمعاتهم البشرية مثلاً سكان الصحارى في كل المجتمعات متشابهون يسودهم النمط الرعوي والزراعة المؤقتة وسكان الجبال متشابهون في قساوة لهجتهم وطباعهم وصحّة أبدانهم ومغلقون على أنفسهم غير مستعدون للاحتكاك ببنى ثقافية أخرى, وسكان السواحل أكثر انفتاحاً في علاقاتهم الخارجية قياساً بالمجتمعات التي ليس لديها ساحل حيث تكون العلاقات الأسرية شبه منغلقة على نفسها والتمسك بالعصبية القبلية, كما أنّ الجغرافية تؤثر على حياة الإنسان لأنّها مصدر رزقه وبنفس الوقت تتحكم في تنقلاته وهذا يؤثر على ثقافته, وتتحكم في هجرته, كما يستعين علم الأنثروبولوجية بمعطيات علمي الحيوان والنبات وذلك من تتبع مواطنها جغرافياً فيستدل وجود حياة إنسانية هناك. 3- الأنثروبولوجيا والتاريخ: إنّ علم الأنثروبولوجيا في دراساته للإنسان وثقافته يرتبط بعاملي الزمان والمكان إذ يرتبط التاريخ التطوري العضوي والثقافي بحلقات تكون مع بعضها سلسلة واحدة تشكل كل حلقة منها مرحلة من مراحل الثقافية التي مرّ بها النوع البشري طالت أم قصرت كي ينتقل منها إلى مرحلة أكثر تطوراً وتلاؤماً وتكيفاً مع الظروف الجغرافية المحيطة ويظهر الأثر التاريخي واضحاً في الاتجاهات الفكرية في علم الأنثروبولوجيا. 4- الأنثروبولوجيا وعلم الآثار : تستعين الدراسات الأنثروبولوجية الطبيعية منها والثقافية بالمعطيات العلمية لعلم الآثار من حيث الاستفادة من تحديد عمر اللقى العظمية والمادية التي يعثر عليها الآثاريون والتي يخضعها الأنثروبولوجيون إلى دراسات حقلية منها مثلاً طريقة الفحم C14 المشع مما يساعد على تصنيف البقايا المادية التي عثر عليها تصنيفاً زمنياً وهذا يقدم تسهيلات للباحثين الأنثروبولوجين في الدراسات الثقافية المقارنة, كما أنّه من خلال اللقى الأثرية كأدوات العمل أو الحلي أو أدوات الطبخ يتوصل الباحث إلى النمط المعيشي الذي كان يسود في هذا الموقع الأثري من خلال العامل الزمني إضافة إلى معرفة العناصر الثقافية التي كانت تكون ثقافة الإنسان اليومية أو الروحية أو الثقافة الخارجية ومصدرها. 5- الأنثروبولوجيا وعلم اللغات: اللغة ظاهرة ثقافية ذات طابع اجتماعي حيث لا يمكن دراسة قواعدها ونحوها وتطورها إلا من خلال البيئة الاجتماعية للمجتمع البشري الذي يتكلمها, إذ لكل لغة كنهها الخاص وحتى ضمن اللغة الواحدة قد لا يكون للكلمة نفس الدور من لهجة إلى أخرى إذ من خلال الدراسة المورفولوجية والتاريخية للغات يمكننا معرفة مدى تقارب الشعوب عن بعضها أو مدى تباعدها تاريخياً, فالشعوب القائمة المتقاربة اللغات نحواً وصرفاً ونطق مخارج الحروف لا شك أنها من أصل بشري مشترك واحد ومع مرور الزمن انقسمت اللهجات المحلية وكونت كل لهجة لغة قائمة بذاتها, فكلما كان الانفصال قديماً كان الأصل والفرع متباعدين عن بعضها والعكس, ونتيجة لأهمية الدراسات اللغوية في علم الأنثروبولوجية في توضيح صلة القرابة أو البعد ما بين شعب وآخر من خلال الدراسة المقارنة التشريحية والتاريخية للغة كل منهما لهذا الغرض أنشات انثروبولوجيا خاصة بالدراسات اللغوية. 6- الأنثروبولوجيا وعلم الوراثة: للأنثروبولوجيا الطبيعية بالذات صلة مع علم الوراثة سواء كانت تتعقب تطورنا البدني أو عن طريق انتقال الصفات السلالية عند أفراد أنوع البشر, وعلاقة هذه الظاهرة ذات الطابع البايولوجي مع السلوك الفردي والإبداع الثقافي عند الإنسان, فقد ربط الأنثروبولوجيون الغربيون التطور والتقدم بالصفات السلالية للعنصر الأبيض وميزوه على التطور الثقافي بقدرته على الإبداع الذي ينفرد به عن باقي الأجناس, وهناك عنصريون أنثروبولوجيون نادوا بتميّز العنصر الجرماني عن غيره من البشر حتى من ذوات البشرة البيضاء, لكن هذا كلّه فنّده العالم بياجيه ✺ فقال: (مصدر الذكاء لا يكمن ضمن المجموعة ___________________________________________ ✺(جان بياجيه: سويسري الأصل وهو عالم لغة نفسي وأستاذ مادة علم النفس التجريبي في جامعة جنيف, ومن أهم الكتاب المؤثرين في المدرسة الدلالية مع العالمة اللغوية (آيف كلارك) قضى نصف قرن يدرس مادة (عملية التفكير عند الطفل) اهتم بالنطق ومصادر المعرفة والعلم النفسي والإدراكي من خلال كتابه (لغة وفكر الطفل) عام 1932 والذي يعدّ مرجعاً بالعلم النفسي والتعلم للأطفال وهو عمود معرفي من خلال نظريته في فهم نمو وتطور العمليات الذهنية عند الأطفال ) الاجتماعية بل في سيطرة الطفل على اللغة وإنّ النمو العقلي المعرفي هو نمو المعرفة عند الطفل خلال سنوات حياته وطريقة معرفته للعالم هو اكتساب تدريجي للقدرة على التفكير باستخدام المنطق) ✺1 أما عوامل الوارثة يعطي صفات أخرى كثيرة لن المؤكد أن الذكاء لا يرتبط بالجانب البايولوجي بل بالجانب البيئي. 7- الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع: إنّ للأنثروبولوجيا علاقة وثيقة بعلم الاجتماع خاصة الأنثروبولوجية الاجتماعية التي عرفت أنها علم الاجتماع المقارن, في البداية كانت الأنثروبولوجيا تقوم على دراسة المجتمعات والشعوب البدائية, في حين كان علم الاجتماع يقوم على دراسة الحضارة الأوروبية الغربية, ورغم اختلاف مناهج البحث بين كلا العلمين إلا أنّ إيفانز بربيشارد يرى أن الأنثروبولوجيا ينبغي أن تعتبر جزء من الدراسات الاجتماعية, أي فرع تنصب دراسته على المجتمعات البدائية, ولكن هناك فروقات كبيرة في مناهج البحث إذ أن الأنثروبولوجيا تقوم على دراسة المجتمعات بشكل مباشر إذ يقيم الباحث الأنثروبولوجي في تلك المجتمعات لأشهر أو لسنين في حين باحث علم الاجتماع يعتمد منهجية بصورة رئيسية على الوثائق والإحصائيات, كما إن الأنثروبولوجي يدرس المجتمعات بوصفها كيانات فيدرس بيئتها واقتصادها ومؤسساتها السياسية والقضائية والبنى العائلية ونظم القرابة والأديان والتقنيات والفنون وكل التفاصيل للحياة اليومية لتلك المجتمعات, أما الباحث الاجتماعي فمنهجه ينكب على الظاهرة التي يطلب البحث والدراسة فيها كالطلاق والجريمة والصحّة العقلية والاهتياج المجتمعي والعوامل المحفزة للصناعة, لكن يمكننا القول بانّ الجذور النظرية والتطبيقية لعلم الاجتماع هي جذور أنثروبولوجية طالما أنّ المجتمع المعقد الذي يتخصص بدراسته علم الاجتماع متأصل في المجتمع البدائي البسيط الذي هو موضوع دراسة علم الإنسان أو علم الأنثروبولوجي✺2 8- الأنثروبولوجيا والأثنولوجيا والأثنوغرافيا: لقد علمنا أنّ الأنثروبولوجيا هي العلم الذي يدرس الإنسان ككائن اجتماعي ويشمل موضوع الدراسة جميع ظواهر الحياة الاجتماعية دون تحديد زماني أو مكاني, أما الأثنولوجيا فهي العلم الذي يدرس الأجناس والسلالات البشرية نشأتها, خصائصها, نموها, تطورها, العوامل التي خضعت لها في هذا التمايز وما هي الخصائص والمميزات السلالية والثقافية التي على ضوئها صنفت الشعوب ومتى ترد الإنسانية إلى جنس واحد أي(علم تصنيف الشعوب والمجتمعات على أساس خصائصها ومميزاتها السلالية والثقافية كما يسميها العالم برنشارد) أما الأثنوغرافيا فهي الدراسة الوصفية للمجتمعات الإنسانية وبخاصة المجتمعات البدائية أو التي لا تزال في مراحل متميزة اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وفكرياً وأكثر من اشتهر بهذا العلم هم العرب فمن منا لم يسمع بابن بطوطة أو الإدريسي أو المسعودي إنّ علم ________________________________________ ✺1 ثقافة تربية الأطفال بين الوعي والعلم – شاكر الخشالي – دار بصمات – سورية 2010-ص271. ✺2 المدخل إلى علم الاجتماع – أ.د.إحسان محمد الحسن- دار الطليعة – بيروت -1988-ص27. الاثنوغرافيا هو المصدر الذي يجهر الاثنولوجيا بالمعلومات عن الشعوب والمجتمعات الصغيرة الحجم, أما الارتباط والعلاقة بين الثلاثة فكما ذكرنا الاثنوغرافيا تزود الأثنولوجيا بالمعلومات الوصفية عن المجتمعات الصغيرة البدائية والأثنولوجيا تشترك مع الأنثروبولوجيا في دراسة حضارة الإنسان وتمايزها من مجتمع للآخر وما هي الطرائق التي يستجيب بها الإنسان لهذا التمايز وما هي العناصر التي تشكل حضارة كل مجتمع وما هي عوامل انتشارها من مجتمع لآخر بالتثاقف أم بالهجرة أم بالغزو أم بالتجارة أم بالتبادل ...إلخ وكيف تنتقل من جيل لآخر في نفس المجتمع. | |
| | | salim 1979 التميز الذهبي
تاريخ الميلاد : 27/05/1979 العمر : 45 الدولة : الجزائر عدد المساهمات : 5285 نقاط : 100012179 تاريخ التسجيل : 06/11/2012
| موضوع: رد: الأصول التاريخية والنظرية للأنثروبولوجيا الإثنين سبتمبر 23, 2013 5:06 pm | |
| الاتجاهات النظرية لعلم الأنثروبولوجيا يستطيع المتتبع لمسارات الفكر الاجتماعي الأنثروبولوجي أن يلاحظ اتجاهات نظرية متعددة تسيطر على منهج البحث فيه, ومن أبرز تلك الاتجاهات النظرية التطورية والنظرية الوظيفية ونظرية الانتشار الحضاري والاتجاه البنيوي: 1 - النظرية التطورية : تؤمن هذه النظرية أنّ المجتمعات تنتقل عند تطورها من البسيطة البدائية إلى المركبة المعقدة مثلما تتطور الأجزاء العضوية في الكائن البايولوجي عندما ينمو, وينطبق ذلك تماماً على الحضارات الإنسانية فإنّها تطورت عبر مراحل عديدة حتى وصلت إلى مرحلتها الراهنة, وعلى ضوء ذلك فإنّ هناك حضارات دنيا أفرزتها المجتمعات البدائية وحضارات تمثل قمّة التقدم الحضاري والثقافي أفرزتها مجتمعات متطورة, ويتم التطور عبر خط مستقيم ومتصاعد تشكل كل مرحلة أساساً لما بعدها حسب نظام لا يزاغ عنه يرتكز على ثلاثة قواعد هي حتمية التطور وتصاعدية المسار وتعاقب المراحل, ولعل أبرز من أنضج الصورة من الفلاسفة هو أوغست كونت في قانونه الاجتماعي الذي يرسم ثلاثة مراحل لتطور الحضارة هي المرحلة اللاهوتية والمرحلة الميتافيزيقية ومرحلة العلوم العقلية, فهو يرى أنّ التطور الحضاري يتبع خطاً معيناً خلال مراحل واضحة نحو غاية يمكن استجلاؤها وتقصيها لكن كونت اختلف عن الآخرين بأنه ركز على معايير روحية وليس تقنية, ثمّ بعد كونت أثار سبنسر فكرة توحيد الأفكار الخاصة بالتطور الاجتماعي مع نظرية التطور العضوي البايولوجية, مبيناً أنّ قوانين العلوم الطبيعية تنطبق على العلوم الاجتماعية في تقدم وتطور المجتمعات, ثمّ رأى التنويريون بالقرن الثامن عشر والتاسع عشر نفس الرؤيا, فقد طرح مونتسيكو نظرية تطورية للمجتمعات تتكون من ثلاثة مراحل هي مرحلة الصيد أو الوحشية ومرحلة الرعي أو الهمجية ثمّ مرحلة الحضارة, ولاقت هذه النظرية رواجاً بالقرن التاسع عشر من قبل المفكرين الاجتماعيين أمثال مورغان وتايلر ثمّ من التنويريين ظهر الاسكتلندي فيرجسون الذي طور نظرية التطور الثقافي فذهب إلى أن مرحلة البربرية تتميز عن المرحلة الوحشية بظهور الملكية الخاصة, ووصف مرحلة الحضارة التي أعقبت المشاعية البدائية بظهور المجتمع المتمدن الراقي خلقياً ذو النظم السياسية غير الاستبدادية. لقد ظهر بالقرن التاسع عشر جيل من علماء الأنثروبولوجية التطوريون أثرت أعمالهم تأثيراً بالغاً على هذا العلم معتمدين على شواهد ثقافية مقارنة وتاريخية وأثرية للتقدم الاجتماعي والثقافي الشامل ولأصول بعض النظم الاجتماعية مثل الدين والزواج والأسرة ومن أبرزهم مورغان الذي أثرت نظريته على أعمال ماركس وأنجلز ولو أنّ ماركس أثر بوجود حركة التطور من الأنقص إلى الأكمل عبر المواقف لكنه يرى أنّ الجوهر المحرك لهذا التطور هو المادة وليس الروح التطورية المطلقة فهو اعتبر المادة هي أصل الوجود, المهم أنّ هذا الاتجاه التطوري بالتقدم والرقي يراه البعض بشكل خط مستقيم ويراه آخرون يشكل خطاً متعرجاً ومنهم ماركس وهيجل ومنهم من يراه بشكل لولبي بدورات تسير للأمام لكن لا تعود إلى أصلها بل تذهب صعوداً أو نزولاً لكنها تسير باتجاه الأمام, وآخرون يرونه بأشكال أخرى والمهم في هذا كلّه هو مفهوم التقدم السائر في الاتجاه ومن منطلق إلى غاية لكن مع بدايات القرن العشرين تحدت الدراسات الأنثروبولوجية ما كان سائداً بالقرن التاسع عشر وأوضحت أنّ لكل مجتمع حضارة خاصة به تميزه عن الحضارات الأخرى ونسفت فكرة الحضارات الدنيا والعليا لتراث حضاري انتقل بأقنية حضارية من جيل إلى جيل وأوضحت أن التطور البايولوجي العضوي شيء مادي لا يمكن أن يقارن بالشيء الفكري والذوق الذي تبنى به الحضارات وأن مروجي ذلك من العلماء الذي يصنفون الناس على أساس بايولوجي يؤيدون العنصرية التي تضع العرق (الآري) في قمة الأجناس الأخرى بغض النظر عن الأمور السياسية, وأكدوا أن توزع الإنسان ضمن سلالات يخضع لعوامل غير بايولوجية فبرزت بهذا الاتجاه نظرية (ألاحدية) التاريخية في الولايات المتحدة مؤكدة العمل مع شعوب غير غربية للرد على النظريات التخمينية حول العلاقة بين العرق واللغة والثقافة وقد فسح نقد المدرسة التطورية هذا مجالاً واسعاً لظهور المدرسة الوظيفية والبنيوية للأنثربولوجيا فوصفت المجتمع وشرحت الثقافة استناداً إلى وظائفها ورغم الدفاع المستميت لأنصار التطورية من الأنثروبولوجيين الذي استخدموا المبادئ التالية في حججهم: أ- إنّ ثقافة أي مجتمع تتطور في طريق واحد خلال مراحل محددة وفق قوانين تحكم الثقافة الإنسانية لتمررها بمراحل تطورية حتمية مميزة . ب- إنّ اكتساب السمات الثقافية أو توارثها تعتمد على القدرات العقلية للإنسان وهذا مرتبط بوحدة التكوين الفسيولوجي للإنسان, وطالما أنّ الإنسان يتوارث مكوناته الفسيولوجية فإنّ أفراد المجتمع يرثون الثقافة بالقدر الذي تتيحه لهم قدراتهم العقلية, أي أنّ التقدم والتطور مرده إلى تفوق أو تخلف العقل البشري. ج- إنّ عناصر الثقافة ومكوناتها قابلة للإعارة أو الانتقال من ثقافة إلى أخرى. ه- إنّ عوامل التغيير الثقافي تنمو ذاتياً وتظهر مع ظهور المرحلة التطورية بغض النظر عن تأثير الزمان والمكان. و- إنّ الثقافات تتطور ذاتياً وتنتقل من مرحلة إلى أخرى لمجرد ظهور العوامل والشروط الكافية لظهور هذه المرحلة . ورغم حجج ومبادئ التطوريون فقدت التطورية دورها وأصبحت غير ذا قيمة أمام بريق الوظيفية البنيوية لأسباب كثيرة أهمها: أ- اعتمدت معلومات التطورية على ما جمعه الرحالة والمستكشفون والجنود والتجار والمبشرون فجاءت انطباعاتهم مجتزءة واستندت إلى تفسيرات افتراضية وتخمينات لم يستطيعوا أن يقدموا تفسيراً واضحاً لفكرتهم عن التطور المتوازي للثقافة المرتبط بالتقدم. ب- وصفت كتابات تايلر ومورغان بالغموض في بنائهم لمراحل تطور الجنس البشري. ج- تمركز التطوريون خاصة بالقرن التاسع عشر حول العرق. 2 – النظرية الوظيفية: انتشرت الوظيفية بنطاق واسع في مجال علم الحياة مما شجّع الباحثين والعلماء على تبين منطلقاتها في العلوم الطبيعية, كما تأثرت البحوث الاجتماعية بذلك الانتشار, ولعلّ أهم توظيف لتلك النظرية كان في نطاق البحوث التي تعني العلاقات الاجتماعية ضمن المنظومة الاجتماعية لأجل فهم التغيرات والتفاعلات في رحابها لرصدها والتفاعل معها فكان اتجاه تلك البحوث نحو تفسير آلية عمل النظام الاجتماعي. يرتبط مفهوم الوظيفية بالغائية التي ترى أنّ ظواهر الحياة بأجمعها تسير إل غاية موجهة وفقاً لنظام ثابت ومحدد يؤثر فيه كل عضو بالأعضاء الآخرين وبنفس الوقت يستجيب لتأثيرات من أولئك الأعضاء ويكون هدف العلاقات الوظيفية متمثل باستمرار الحياة, فالغائية من هذا المنظور تتمثل في وحدة وظيفية ضمن منظومة تنتظم فيها ظواهر ووظائف وفق نظام ثابت تتكيف متغيراتها الوظيفية تبعاً للشروط الأساسية التي تستوجب لقاء الكائن الحي في بيئته.✺1 يستخدم علماء الاجتماع تعبير الوظيفية للدلالة على ترابط الظواهر الاجتماعية بعضها مع البعض الآخر في نسق وظيفي يوضح وظائف الأجهزة الاجتماعية التي تقوم بها في سبيل استمرار حياة المجتمع الإنساني والتفاعلات التي تتم فيه ضمن البناء الاجتماعي الواحد. إنّ المقصود بالبناء الاجتماعي هو النظم الاجتماعية أو الجماعات الاجتماعية المستمرة في الوجود بحيث تستطيع الاحتفاظ بكياناتها كجماعات رغم التغيرات التي تحدث للأفراد الذين يكونون تلك الجماعات فلكل مجتمع صورة أو نمط معين نصفه أنّه نسق أو بناء يعيش فيه أفراده وينزلون على مستلزماته, وكلمة بناء هنا تعني التماسك والتوافق بين أجزاءه إلى الحدّ الذي يمكن تجنب التناقض الصارخ أو الصراع المكشوف وإنّ البناء يتمتع بدرجة من الديمومة أكثر مما تحظى به معظم الأشياء العابرة السريعة في الحياة الإنسانية إلى الحدّ الذي قد لا يفطن أفراد المجتمع نفسه أنّ لمجتمعهم بناءً مميزاً✺2, يمكن تشبيه البناء الاجتماعي مثل المادة الإسمنتية التي توضع بين طابوق بناء الجدار والتي تعمل على تماسك الطابوق ليكوّن الجدار . _______________________________________ ✺ الأنثروبولوجيا وتنمية المجتمعات-د. محمد صفوح الأخرس – وزارة الثقافة السورية – 2001-ص61. ✺ الأنثروبولوجيا الاجتماعية – محمد الخطيب – دار علاء الدين للنشر- سورية 2008-ص52. فالعالم الأنثروبولوجي مهمته الكشف عن هذا البناء ما هي مكوناته وكيف امتزجت وما هي صفات كل منها على انفراد وكيف توالفت صفات الجزء مع صفات الجزء الآخر لتشكل مكون جديد بشد أجزاء البناء لبعضها, فمكونات البناء هي النسق القرابي والنسق الاقتصادي والنسق السياسي وفي كل نسق بالبناء تأخذ ظواهر السلوك والتصرف الاجتماعي شكل النظم الاجتماعية كنظم الزواج والعائلة والأسواق وأدوات السلطة السياسية وغير ذلك, وعلى هذا الأساس ركز الوظيفيون على (البناء) و (الوظيفة) أي بناء النظم والطريقة التي تعمل فيها هذه النظم كأجزاء في النسق لتؤمن احتياجات المجتمع لتحقيق التوازن الاجتماعي, وإنّ فكرة التكامل الوظيفي تعني أنّ أي جزء في أي نظام لا يمكن فهمه إلا من خلال علاقته الوظيفية ببقية مكونات النظام في المجتمع, وهذا يعني أنّ أنماط السلوك الإنساني تستهدف إشباع حاجات لا يدرك معناها إلا في ارتباطها بالأنماط الوظيفية الأخرى ضمن نفس البناء.✺1 فالوظيفية كمنهج تبحث عن الارتباط المتداخل بين الظواهر الثقافية يهدف الكشف عن كيف يعمل المجتمع فهي تنبش في عُقد كيفية ترابط وتفاعل عناصر النسق وتتسائل لماذا وجدت واستمرت أنماط ثقافية دون أخرى وفي مجتمع دون غيره, مثال: لماذا وجدت واستمرت ثقافة (السحر) في مجتمع (جزر التروبرياند) فلاحظوا أنّها وجدت واستمرت لتخفيض القلق وتبديد الخوف من العالم المجهول حولهم, ومثال آخر أوضحه رادكليف لماذا وجدت واستمرت الشعائر الدينية في (جزر الأندمان) في استراليا فوجدوا أنّها لتحقيق التماسك الاجتماعي. خلاصة القول أنّ رؤية الوظيفيون للثقافة أنّها أكبر من مجرد الأجزاء المكونة لها وإنما هي تكوين بنائي وظيفي تربطه علاقات متبادلة ومتشابكة بين المكونات وأنّ أي تغير بهذه المكونات يترتب عليه رد فعل بالمكونات الأخرى, مدركين أنّ السمات الثقافية (مكونات الثقافة) تؤدي أغراضاً وتحقق وظائف وهناك ترابط بين السمات والوظائف والحاجات التي تشبعها .✺2 إذن ترتكز عناصر التحليل الوظيفي على وجود منظومة اجتماعية تحددها أطر تميزها عن غيرها, لأفرادها توقعات شرعية ومردودات تتوافق مع أدوارهم, ولهذه المنظومة أهداف حيوية لبقاء النظام الاجتماعي, يستند نشاط المنظومة على اعتماد متبادل بين خلاياها واعتماد الخلية على التكوين الكلي للخلايا, فعند حدوث خلل بإحدى الخلايا تتأثر بقية الخلايا وتتأثر المنظومة ككل. _______________________________________ ✺1 البناء الاجتماعي الإطروحة – محمد الخطيب-ص52. ✺2 نظريات معاصرة في علم الاجتماع – شاكر الخشالي – الموقع الإلكتروني للأكاديمية العربية المفتوحة بالدنمارك-2010-ص23.
3 - نظرية الانتشار الحضاري: تتنوع وسائل الانتشار الحضاري بتعدد أهدافه وبتباين مقاصده وتشكل وسائل التبادل التجاري والاحتكاك الثقافي والحركات السكانية والسفر والهجرات القسرية من أهم تلك الوسائل, فالسفر له أهداف معلومة يتوقف علمها على ما يبغيه المسافر, والانتقال من مكان لآخر فيه تجديد للمعرفة والبحث العلمي والسفر احتكاك بالحضارات وانفتاحاً على الثقافات للعالم الخارجي ونقلاً للتراث الحضاري , ولمهمة السفر منجزات مفيدة بعيدة المدى على المستوى الشخصي والاجتماعي والحضاري, والسفر فيه أخذ وعطاء فالتفاعل مع الأقران والأصدقاء يطلع على علومهم ومخزونهم المعرفي ويفيدهم بعلمه ومخزونه المعرفي. يرى علماء الأنثروبولوجية الاجتماعية أنّ انتشار السمات الثقافية لمجتمع ما قريباً أو بعيداً يساعد على تهيئة الظروف بأحداث التغيير الثقافي أو الانتقال من مرحلة إلى أخرى في المجتمع الذي حلت به تلك السمات وبهذا يرى الانتشاريون أهمية الاتصال الثقافي أو التفاعل بين الجماعات لكي تنتقل السمات الثقافية من مجتمع لآخر وقد قسم الأنثروبولوجيون أفكار وآراء عموم علماء الأنثروبولوجية بهذه الصدد إلى ثلاثة مدارس أساسية✺: أولاها البريطانية وهذه ترى أنّ مصر بأهراماتها وعبادة الشمس من قبل فراعنتها كانت هي المراكز الذي انتشرت منه الحضارة فقلدها العراقيون والمكسيك واليابانيون فيعتقد الانتشاريون أنّ هذه الأبنية الضخمة لا يمكن ابتداع إنشائها بواسطة تلك الشعوب فالناس يميلون للاستعارة أكثر من الابتكار وقد اسند هؤلاء انتشار صناعة النسيج والخزف والفنون ونظم الحكم والإدارة والديانة إلى نفس النظرية , وثانيتها الأمريكية فهي تؤيد الانتشار بأنّ فكرة الملامح المميزة لثقافة ما قد وجدت في مركز ثقافي محدد ثم انتقلت إلى مناطق أخرى, لكن هذه المدرسة تؤيد احتمال التطور المتوازي المستقل , كما تنتقد تناول البريطانية لموضوع انتشار السمة الثقافية الذي رأت أنّه يجري بطريقة ضحلة لأنّ الموضوع يجب أن يدرس من جانب قبول أو رفض السمة أو حتى مجرد تعديلها بالمجتمع الذي حلت فيه, أما الثالثة فهي مدرسة الاتجاه التاريخي التي ترى التركيز على جميع الحقائق من تاريخ الثقافات والشعوب وذلك بدراسة ديناميات الثقافة وتفاعل الثقافات من خلال التحليل المقارن للأنماط الثقافية والدراسة المرتكزة على المادة الاثنوغرافية المحددة والتي تعين على مسار الثقافة وتفاعلها, لكن يرى أصحاب هذا الرأي أنّ المعرفة الاثنوغرافية المتوفرة حالياً لدى الأنثروبولوجيون لا تمكنهم من وضع نظريات موضوعية عن الحياة الاجتماعية لهذه الشعوب ولكن ربما يأتي اليوم الذي يتمكن به الأنثروبولوجيون من ذلك. إنّ الدراسات التي تجري بهذا الاتجاه وجهت أنظار الباحثين إلى دراسة عدد من الموضوعات المحددة مثل الانتشار الثقافي أو الاستعارة الثقافية أو التغيير الثقافي والاتصال الثقافي(التثاقف) وما إليها واعتمد الباحثون أسلوبين لجمع المادة ليتمكنوا من بناء أو تحديد السمات العامة أو مظاهر التنوع الإقليمي أو الكشف عن السمات الثقافية الهاجرة وهي: ______________________________________________________ ✺ الأنثروبولوجيا الاجتماعية – محمد الخطيب – دار علاء الدين للنشر- سورية 2008.-ص49. أ- ما ذكره شهود العيان في المراحل الأولى أو ما كتبه الرحالة والمبشرون والتجار. ب- الدراسات الاثنولوجية الحديثة المعتمدة على الأبحاث الميدانية وأخيراً لا شكّ أنّ تحليل المادة المستوحاة من هذين المصدرين يمكن أن يساعد في تكوين صورة عن نمط الحياة في المجتمعات القبلية التقليدية . 4 – الاتجاه البنيوي: لقد نشأت الأنثروبولوجيا البنيوية في فرنسا وتطورت على يد الباحث الأنثروبولوجي شتراوس فمفهوم البنية ينظره يتكون من عناصر يكون من شأن أي تحول يطرأ على أحدها أن يحدث تحولاً في باقي العناصر الأخرى, لأنها ما هي إلا نسق أو نظام متكامل ويوضح شتراوس مفهومه للبنية بما يلي: يرى شتراوس أنّ العبرة في دراسة الظواهر أو النظم الاجتماعية هي الوصول إلى العلاقة القائمة بينها لكن واقع حقيقية الظواهر لا تتمثل في ظاهرها على نحو ما تبدو للملاحظة بالعين بل تكمن على مستوى أعمق وهو مستوى دلالتها, مثال أنّ الظواهر الاجتماعية الكثيرة التي يدرسها عالم الاجتماع من طقوس وعقائد وأساطير يربطها جميعها شيء مشترك هو (البيئة) والتي هي عبارة عن العلاقات الثابتة القائمة بين وقائع متنوعة وهذه الوقائع هي الظواهر التجريبية نفسها, فالبيئة بنظر شتراوس هي العلاقات القائمة بين الأشياء والتي يعتبرها أبسط من الأشياء نفسها, فما هو القاسم المشترك الذي يربط الطقوس والعقائد والأساطير لمجتمع ما فهذا القاسم المشترك أو هذا الرابط هو الأنثروبولوجيا البنيوية, فمثلاً في أي مجتمع نجد أن اللغة هي القاسم المشترك الرابط بين كل نشاطات ووقائع ذلك المجتمع سواء طقوسه أو عقائده أو أساطيره, فالتفاعل الرمزي يعطيك مضمون ودلالات تلك النشاطات والوقائع, وأوضح شتراوس أنّ النظرية البنيوية ترفض التعارض بين (العيني) و (التجريد) فهي لا تعطي قيمة ممتازة للمجرد فالصورة العيانية تتحدد قيمتها بمقارنتها بمادة غريبة عنها لكن البيئة لا تمتلك مضموناً مادياً متمايزاً وإنما هي نفسها المضمون المدرَك داخل تنظيم منطقي منظور إليه باعتباره خاصية الواقع أو النشاط أو الظاهرة, وهي من وجهة شتراوس منهج وليس نظرية. إنّ شتراوس في تحليله لمفهوم البنية انطلق من النماذج اللغوية في علم اللسانيات مستهدفاً تخليص العلوم الإنسانية من كل الشوائب الميتافيزيقة وبنائها على دعائم منهجية دقيقة من خلال استلهامه لمناهج علم اللسانيات, وقد رأى العالم اللغوي النفسي جان بياجيه أنّ أحجية شتراوس ليست نماذج لغوية فقط وإنما هي نماذج رياضية ووصف شتراوس بأنّه قد عرف كيف يكتشف في صميم الأنظمة الاجتماعية متعددة القرابة أو صلة الرحم وجود بنيات جبرية تتألف بدورها من شيكات أو مجاميع من التحولات استعان في صياغتها على نحو رياضي ببعض المناهج الرياضية كمنهج فايل ومنهج جيليبو وطبق شتراوس تلك البنيات في عمليات التصنيف والتحليل للحضارات كافة التي قام بوصفها وتحليلها وتفسيرها, وأوضحت دراساته عن المجتمعات البدائية ما يلي: 1- إنّ تلك المجتمعات البدائية هي مجتمعات في غاية التعقيد في بناها الاجتماعية والثقافية واللغوية. 2- رأى شتراوس انّه ليس ثمّة إنسان طبيعي ما دام من طبيعة الإنسان أن يتمثل الطبيعة على شكل ثقافة . 3- ورأى شتراوس أنّه من الخطأ التوحيد بين العقلية البدائية للمجتمعات وبين عقلية الطفل والسبب: أ- أنّ بنية المعرفة عند الإنسان البدائي لا تختلف عندنا الآن. ب- أن الرجل البدائي لا يمثل استمراراً لمراحل تاريخية سابقة وكأنه سليل لجماعات قديمة انقرضت من على سطح الأرض لسببين: • لأنّ هذا منافي لمنطق التاريخ الذي يقوم على التطور والتغيير. • لأنّ تلك المجتمعات تغيب عن بنيتها الاجتماعية (الدولة) لعدم وجود ملكية خاصة لأنّ ملكية أدوات الإنتاج لكل الأفراد وبالتالي فهي ليست جاهلة لجهل الطفل إنما لا توجد أسباب للنزاعات والصراعات . تعقيب: في كل التجمعات الإحيائية (إنسانية – حيوانية- وحتى النباتية) يقع الصراع على الجنس والغذاء وكلا هذين النشاطين مرتبط بالملكية ففي عصر المشاعية البدائية كان الجنس والغذاء للجميع فلا يوجد تملك لا للجنس ولا للغذاء وعليه لا يقع صراع أما في الحقبة الأخيرة(العليا) من مرحلة البربرية التي تلت مرحلة الوحشية واللذان هما يشكلان عصر المشاعية في تلك الحقبة ظهرت الملكية للحيوانات والأرض وظهرت العائلة الزواجية وظهرت الصراعات, وهذا ما قاله شتراوس أن الحدّ الفاصل بين الطبيعة والثقافة وبين الإنسان والحيوان هي اللغة وعتبة العمل, لأنّ اللغة هي أداة التفاعل الذي دلالاته الجنس والغذاء, والعمل دلالاته الملكية في تلك العصور ثمّ ظهرت الدولة والسلطة وأصبح للسلطة دور في عائدية الملكية واليوم السلطة هي التي تحمي الملكية حتى في الدول الرأسمالية فالسلطة هي التي تحمي نظامها.
| |
| | | salim 1979 التميز الذهبي
تاريخ الميلاد : 27/05/1979 العمر : 45 الدولة : الجزائر عدد المساهمات : 5285 نقاط : 100012179 تاريخ التسجيل : 06/11/2012
| موضوع: رد: الأصول التاريخية والنظرية للأنثروبولوجيا الإثنين سبتمبر 23, 2013 5:15 pm | |
| ميادين الأنثروبولوجيا استهلال يغطي علم الأنثروبولوجيا في بحوثه ودراساته كل ما ينبثق عن الإنسان من تغيرات وتطورات في الجوانب الاجتماعية والثقافية والحضارية والاقتصادية والبايولوجية, وتترابط موضوعات هذا العلم من خلال محورها الأساس الذي هو الإنسان في نشوءه وتطوره وارتقائه وتفاعله مع البيئة. 1 – الأنثروبولوجيا الطبيعية يمكن أن نغطي هذا الموضوع بجانبين الأول هو مفهوم الانثربولوجية الطبيعية والجانب الثاني ميدانها: أ- الانثربولوجية الطبيعية في مجال البناء التطوري للإنسان: إنّه موضوع يتمحور حول الجوانب البايولوجية للإنسان أي تكوينه الجسمي وتطوره وكيف تكونت السلالات البشرية وتمايزت أجناسها بضوء البيئة الطبيعية والاجتماعية, لقد تعددت النظريات وتشابكت بالدين والقيم والفلسفة, فالبعض يرى أنّ نشوء الحياة وارتقاء الإنسان مرتبط بأصل الكون والمجتمع والطبيعة البيئية وما وراء الطبيعة وهنا تتردد النظريات من أن تعطي تفسير علمي قاطع عن أصل الكون والمجتمعات وأسس ارتقاء الإنسان والعوامل التي تدخلت في تطور الجوانب البنيوية والوظيفية له. فالعالم (لامارك 1744-1829) درس المخلوقات الحيّة من أسفلها مرتبة ذي الخلية الهلامية الواحدة إلى أرقاها الفقرية اللبونة ذات الدم الحار وبيّن أنّ الإنسان تطور هكذا بتأثير عوامل أسندها للبيئة الطببعية والبيئة الاجتماعية, وأغفل في حينها التأثير الجيني الوراثي, يختلف لامارك عن دارون في تفسير التطور فهو لا يعتقد بالحظ والصدفة (محاربة البيئة لكائن دون آخر) ولا يعتقد بالانتخاب الطبيعي (البقاء للأقوى) وإنما اعتمد على البيئة في تفسير كل شيء. إن لامارك يؤمن أنّ الإنسان نشأ وتطور من مخلوق هلامي لا شكل له يعيش في البحار ثم البوليبات ثم الديدان البحرية ثمّ الحيوانات الرخوية ثمّ الأسماك ثم الزواحف ثمّ الطيور ومنها تطورت الثديات البرمائية ومن الأخيرة اشتقت سائر أنواع الثديات وبذلك شبّه الحياة بسلماً مطرداً في الارتقاء. في بداية عام 1859 وعلى ضوء تباين الآراء حول كتاب دارون (أصل الأنواع) استعرض جوليان هاكسي نظرية دارون المتضخمة خمسة نقاط هي: • تنتج عمليات الحياة كائنات تختلف عن أصولها أي أنّ الأنواع في تكاثرها لا تتكرر وإنما تتنوع. • تتمتع بعض الكائنات الجديدة بخصائص تجعلها أكثر ملائمة للبقاء في بيئة خاصة أكثر من كائنات أخرى. • تتاح للكائنات الجديدة الأكثر صلاحية للبقاء فرصة الاستمرار والتكاثر بينما تنقرض الكائنات الأخرى . • إنّ تحول عالم الحياة بطيء وتدريجي ويستغرق زمناً طويلاً وليس مفاجئاً ولا يتم عبر قفزات . • إنّ الأحياء كلّها تعود إلى أصل واحد مشترك. حلل العالم جوليان هاكسي هذه النقاط الخمسة ورأى فيها الحقائق التالية: • إنّ الأنواع الإحيائية ومنها الإنسان تتكاثر وفق متوالية هندسية في حين الموارد الغذائية تتكاثر وفق متوالية عددية. • إنّ عدد أفراد النوع الواحد رغم وفرة الخصب والتكاثر يبقى ثابتاً تقريباً. • تختلف الكائنات الحيّة عن بعضها ولا يتشابه اثنان تمام التشابه أبداً فحتى أفراد النوع الواحد يختلفون قوّة وضعفاً وخفيفاًَ ومقاومة للأمراض إن لم يكن بكل التفاصيل فإنّه يكون ببعض التفاصيل الدقيقة للغاية. أما استنتاج دارون عن الحقيقيتين الأوليتين فكان أنّ هناك تنازعاً على البقاء ولا بدّ من ضحايا ولم يقصد دارون حرباً بين الكائنات فقط بل قصد اعتماد بعض الأنواع على بعضها الآخر وعلى البيئة في سبيل البقاء وأنّ هناك قوى طبيعية تحد من كمية ونوع المخلوق على وجه البسيطة ويشتد التنازع بين الأنواع المتشابهة أو المتقاربة مع بعضها بالبيئة الواحدة, إذن هذه القوى هي التي توازن أنواع الأحياء وعديدها في أي بيئة وهو ما أسميناه ضرب (الحظ والصدفة) , أما الاستنتاج عن الحقيقة الثالثة هو أنّ بعض الأفراد أو السلالات تنجح بالتفوق على غيرها في التنازع على البقاء وهي تلك التي لها صفات أكثر ملائمة لظروف البيئة وهو ما أسميناه (البقاء للأقوى). وهكذا فالانثربولوجية الطبيعية تدرس العلميات التي أصبح فيها الإنسان من خلال تفاعله مع البيئة متميزاً عن بقية الحيوانات فهي لا تكتفي بدراسة البيئة الطبيعية له وإنما تهتم بالبيئة الاجتماعية المحيطة به وبشكل خاص الامتزاج الاجتماعي ومدى تأثير الاختلاط والانعزال الاجتماعي على مصير كثير من الخصائص الجسمية, ولهذا نلاحظ أنّ الشعوب المنعزلة تتغير ببطء في شكلها الجسماني في حين المجتمعات التي تختلط تطرأ عليها تغييرات جذرية في البناء الجسمي لأنّها تتعرض لدراسة الخلط بين الأجناس ونتائجه وينصب اهتمامها بشكل خاص حول قوانين الوراثة. ب- الانثربولوجيا الطبيعية في مجال البناء العضوي التكويني للإنسان: إنّ هذا العلم يستخلص مادته المعرفية من العلوم الطبيعية وبشكل خاص من علم التشريح وعلم وظائف الأعضاء وعلم الحياة, و الانثربولوجية الطبيعية تنتمي أصلاً إلى طائفة العلوم الطبيعية وتختص بدراسة الإنسان العاقل من جوانب مختلفة لكي تصل إلى أصل الجنس البشري الحالي ✺1ويرى المختصون بهذا العلم أنّ جنس الإنسان العاقل قد تطور من أجناس بشرية أخرى انقرضت خلال ملايين السنين يمكن التعرف عليها من عظام الحفريات وقد عثر العلماء على بعضها ومنها الإنسان القرد في جنوب إفريقيا الذي تفرع منه نوع آخر أكثر تطوراً هو الإنسان الماهر ثمّ الإنسان المنتصب ثمّ الإنسان العاقل, وهذا يستند على بحوث علمية يقوم بها علماء الانثربولوجية الطبيعية لتحديد خصائص عظام تلك الحفريات وإعطائها أسماء عليمة تحدد عصرها والخصائص التطورية التي حدثت في كل منها وهذا له فرع تخصصي مستقل في علم الانثربولوجية الطبيعية باسم فرع العظام الذي يدرس بقايا الإنسان العظمية المتحجرة أو غير المتحجرة ومقاييسها وهناك منه علم آخر هو علم البناء الإنساني الذي يدرس مقاييس الأجسام الحيّة الآن ومنه علم الجراحة, كل هذه العلوم تغذي فرع العظام في علم الانثربولوجيا الطبيعية بالمادة المعرفية, ويرسمون خطوطاً تطورية تمثل مراحل التطور البايولوجي ويعتقدون أنّ تلك العظام تمثل أجناساً بشرية انقرضت هي أصول الجنس البشري الحالي, ويدعم اعتقادهم هذا التشابه من الناحية التشريحية بين المخلوقات الحيّة الموجودة اليوم مثل التشابه بين جسم الأرنب وجسم القرد وجسم الإنسان العاقل ✺2 وهناك فرع تخصصي آخر في علم الانثربولوجيا الطبيعية يختص بدراسة البيئة الاجتماعية وتطور السلوك الاجتماعي من خلال دراسات مقارنة للمجموعة البشرية التي ينتمي إليها الإنسان من الناحية البايولوجية وأصول الحياة الاجتماعية عنده والبدايات الأولى لثقافته. ✺3 وفرع تخصصي آخر ينبثق من الانثربولوجيا الطبيعية يعنى بدراسة التأثيرات المتبادلة بين الإنسان وبيئته الطبيعية التي تشمل الأرض والماء والهواء والنباتات والحيوانات وكل المخلوقات الحيّة التي تشارك الإنسان عالمه, ويدرس أيضاً ما هو تفاعلها وتأثيرها على الخصائص الجسمية للسلالات البشرية بتلك البيئة وعلى هجرتها وتحركها ودور العوامل الجغرافية كالمناخ والإقليم بأسلوب حياتها ويتم ذلك بالتعاون مع علماء الجغرافية البشرية, إضافة إلى تفرعات أخرى في دراسة علم الوراثة وعلم وظائف الأعضاء وهو ما يطلق عليه(قياس الحياة) وعلم فصائل الدم وعلم الأجنة, فأصبح علم الانثربولوجيا الطبيعية يدرس في كليات الطب وعلوم الأحياء إلى جانب كليات العلوم الاجتماعية والإنسانية. ____________________________________ ✺1 الأنثروبولوجيا وتنمية المجتمعات-د. محمد صفوح الأخرس – وزارة الثقافة السورية – 2001-ص76. ✺2 الأنثروبولوجيا الاجتماعية – محمد الخطيب – دار علاء الدين للنشر- سورية 2008-ص13. ✺3 الأنثروبولوجيا وتنمية المجتمعات-د. محمد صفوح الأخرس – وزارة الثقافة السورية – 2001-ص76.
2 - الانثربولوجيا الحضارية تهتم الانثربولوجيا الحضارية في دراسة الإنسان في نطاق منظومته الحضارية فتعالج تباين سلوكه ونشاطه اليومي على ضوء تباين ظروفه الموضوعية المحددة لأدواره في المجتمع وموضوع الانثربولوجيا الحضارية وتتحدد عناصرها بما يلي: أ- فهي تشمل الرموز الاجتماعية ذات الدلالات الهامّة في حياة الأمة والمجتمع ويعتبر الفولكلور أحد عناصرها الأساسية. ب- الفعل الاجتماعي المستخلص من السلوك الجمعي ويشمل العادات والتقاليد والأعراف والقيم عندما تكون أساساً ومصاحبة لكل سلوك جمعي مما ينجم عنه فعل اجتماعي. ج- الجوانب الروحية للإنسان كالدين والمعتقد والسحر والجوانب الفكرية له كالفلسفة والأدب والفن والشعر. د- الجوانب المادية المرتبطة بعلاقته البيئية. إذن يمكن أن نجملها بمفهوم أنّها طريقة معيشة مجتمع ما سواء كان مجتمعاً بدائياً أو متخلفاً, متحضراً, نامياً أو متقدماً, فالانثربولوجيا الحضارية تعنى بدراسة النمط المعيشي لذلك المجتمع وتمايزه عن غيره وكيف يستجيب الإنسان لهذا التمايز, إنّ حضارة المجتمع تتألف من عنصرين أساسيين أحدهما مادي والآخر فكري, أما العنصر المادي فهو يشمل كل النظم الاقتصادية والاجتماعية والجانب المادي من الحضارية أما العنصر الفكري فهو الذي يشمل الأنشطة الثقافية ولكنّ العنصر المادي للحضارة كتحصيل حاصل هو نتاج العنصر الفكري لها. وتشغل الثقافة مساحة واسعة في المجال الحضاري لتشمل المسائل الروحية والفنية والعلمية والفلسفية والأدبية والجمالية التي تسود في مجتمع ما ولهذا السبب تهتم الانثربولوجيا الحضارية بدراسة الثقافة في نشأتها وتطورها وانتشارها لأنّ قدرة الإنسان على الإنتاج الثقافي تعتبر أهم خاصية تميز بها عن باقي الحيوانات وبالأخص بعنصرها الأساس والذي هو اللغة, والثقافة بدورها تزود اللغة بمعظم مضامينها وقد عرّف تايلر الثقافة بأنّها: (الكلّ المركب لأنماط السلوك المكتسبة التي يأخذ بها معظم أفراد مجتمع معين) ✺ إذن يجمع هذا التعريف كلّ أنماط السلوك التي تمثل علاقة الإنسان بالإنسان مثل النظم الاجتماعية وعلاقة الإنسان بالمادة كالنظم الاقتصادية وعلاقة الإنسان بعالم الفكر كالمبادئ والمثل العليا والقيم والوجدان, إنّ هذه المجموعات الثلاثة للعناصر الثقافية ليست مستقلة عن بعضها بالواقع الاجتماعي إنما متداخلة ومتشابكة بحيث يصعب تمييز ما هو مادي وما هو فكري وما هو اجتماعي, وللثقافة خصائص شأنها كأي ظاهرة اجتماعية فهي تكتسب بالتعليم أو عرضياً وهي تنتقل بالتراث وهي تراكمية تنقلها الأجيال جيل فوق جيل وهي _______________________________________ ✺ الأنثروبولوجيا الاجتماعية – محمد الخطيب – دار علاء الدين للنشر- سورية 2008-ص15. أداة لتكيف الفرد مع متغيرات بيئته الاجتماعية وهي تكاملية تقوم أجزاؤها على الاعتماد المتبادل فيما بينها وهي واقعية ولا تتعلق بأفراد محددين وهي مستمرة باستمرار وجود الجماعة ورضاهم وتمسكهم بها وهي إنسانية✺1 والتراث هو الموروث الثقافي, المكتوب والشفوي, الرسمي والشعبي, اللغوي والرمزي, الذي وصل إلينا من الماضي البعيد والقريب وقد عرّفه العرب بأنّه (الجانب الفكري في الحضارة العربية الإسلامية متضمناً العقيدة والشريعة واللغة والأدب والفن والكلام والفلسفة والتصوف تغشاه الشحنة الوجدانية) وقال الشاعر عمر بن كلثوم عن التراث (وَرَدْنَ دَوَارِعاً وخَرجْنَ شعثاً...كأمثال الرصائع قد بلينا.....ورثناهنَّ عن آباءِ صدقٍ..... ونورثها إذا مُتنا بَنينا) ✺2 إنّ علاقة الحضارة بالثقافة وبالمدنية تتشابك فيها المجالات الحضارية والثقافية بمفهوم أهم وأشمل هو مفهوم المدنية فالأخيرة تستوعب المجالات المادية والروحية وتنطلق إلى الإطار الأممي الأوسع فالمدنية إنسانية أممية في مدلولها وشاملة في أبعادها وتستوعب منظومات مركبة في جنباتها وهي في المستوى التحليلي أعلى من الحضارة والثقافة لذلك نقول( إنّ بعض الثقافات ترقى إلى مستوى الحضارات وبعض الحضارات ترقى إلى مستوى المدنية)✺3 مثال حضارة المغول والتتر خلت من الخصائص الإنسانية إذن يبقى الحكم عليها في نطاق مرحلتها التاريخية فقط فهي ليست مدنية, وكذلك ثقافة نظام عنصري يقوم على فلسفة اجتماعية وسياسية تتسم بالتعصب وإنكار حقّ الغير بالوجود فهو قد يحقق أسباب وجوده بالقوّة لمدة تقصر أو تطول لكن السياق الحضاري العام سيطرد من مساره الإنساني تلك العناصر الهمجية, وتتشابك كذلك على المستوى العلمي معطيات الحضارة والثقافة والمدنية والفعل الاجتماعي والسلوك الإنساني فيما بينها إلا أنّ تلك المعطيات تتمايز على المستوى التحليلي وذلك ضروري من اجل التحليل والتشخيص واقتراح سياسة العلاج, أي أن الواقع الاجتماعي والحضاري هو وحدة متكاملة لكن كيف نفهم تكوين الواقع بدون البحث النظري, إذن التفاعل ما بين النظري التحليلي والعملي التطبيقي هو الذي يطور النظرية الاجتماعية من جانب ويجعلنا نفهم الواقع الاجتماعي من الجانب الآخر, وهذا لا يتمّ إلا بمنهج وخطّة منهجية توضح طبيعة العلاقة بين الرموز الحضارية والواقع المادي وبين أسس الانتشار الحضاري ومساراته المختلفة, وأدناه إيضاح لمفهوم التجمعات والمجتمع والرموز الحضارية: أ- المجتمعات الإنسانية: يعد تجمع الناس مع بعضهم أمراً طبيعياً ظهر نتيجة تفاعل الإنسان مع بيئته الطبيعية بمختلف عناصرها فهم أفراد يعيشون مترابطين بشبكة من التفاعلات والعلاقات والتي يعبر عنها بالأدوار __________________________________________- ✺1 (المدخل إلى علم الاجتماع – أ.د. معن خليل عمر وآخرون – دار الشروق- عمان 2006-ص182. ✺2 التراث الشعبي والهوية – د.علي أسعد وطفة (مقال) مجلة المعرفة الصادر عن وزارة الثقافة السورية – العدد 559 لسنة 2010-ص39. ✺3الأنثروبولوجيا وتنمية المجتمعات-د. محمد صفوح الأخرس – وزارة الثقافة السورية – 2001-ص79.
لتحقق الأهداف الأساسية لهم, وكان لا بدّ للتجمع أن يحصل بفعل صفات الإنسان البايولوجية والنفسية فهو كائن عاجز عن العيش بمفرده دون التعاون المتبادل مع الجماعات التي تقوم بتحقيق متطلبات بقاءه وتوفر إشباعاته المختلفة الطبيعية والاجتماعية والنفسية ويختص كل بناء اجتماعي ضمن الجماعة بوظيفة أو أكثر لتحقيق ما هو مناط به وتتداخل تلك الوظائف مع وظائف أخرى لبنى اجتماعية مناسبة فتتكامل تلك الوظائف لتحقيق هدفين أولهما الانتماء وتشكيل الهوية الاجتماعية المميزة لأعضاء الجماعة عن غيرهم, وثانيهما تحديد أنماط العلاقات الاجتماعية وتراتبية التمايز بين الوظائف المختلفة ضمن الجماعة الواحدة, ثمّ المرحلة التالية كما يقول ابن خلدون هو ظهور سلطة ضبط نظم الجماعة المتمثل بالأعراف والقيم والعادات والتقاليد والمعايير الأخلاقية, إنّ الحياة الاجتماعية ظاهرة كأي من الظواهر الأخرى فالإنسان لا يستطيع أن يعيش بدون مجتمع أو سلطة تنظم حياته الاجتماعية وتبعد عوامل الفوضى والخراب فالعملية الاجتماعية فطرية تلازم الإنسان من الولادة.✺ هكذا تتحدد أسس تشكيل الجماعات الإنسانية ببناء داخلي منظم يتفرع منه بنى فرعية تحقق وظائف مختلفة وينشط عبرها الناس في أدوار مختلفة ومتباينة ويضبط الأفراد في أفعالهم الاجتماعية نظام معياري يحدد أنماط السلوك السوي أو المنحرف ويوجه الأفعال نحو النشاطات الأساسية والمهمة في حياة الجماعة, ويتشكل المجتمع من وحدات تكاملت وظائفها بشكل يسمح بتكوين بناء اجتماعي متماسك ضمن نطاق منظومة اجتماعية تتحدد فيها أشكال ثابتة للأدوار الاجتماعية ولها نشاطات اقتصادية حيوية استناداً إلى معايير تقسيم العمل, وتستقر في أنماط علاقات اجتماعية ونظم معيارية تنقل الولاء الاجتماعي من مستوى الجماعات إلى مستوى المنظومة الأوسع بما يحقق الاتصال بين الجماعات أولاً ومع العالم الخارجي لمجتمعات أخرى ثابتاً, إذن يتألف المجتمع من مجموعة عناصر ومكونات ووحدات بنيوية محددة المعالم مترابطة داخلياً تعتمد على بعضها وكل منها يؤدي وظائف هامّة في حياة الجماعة ولكل مجتمع حدوده الواضحة المميزة تعرف بالمحيط الاجتماعي, وكذلك له ترابط داخلي إذا حدث أي تغيير في عنصر من عناصر المجموعة يختل عمل المنظومة. ب- الرموز الحضارية : عندما يتفاعل الإنسان مع البيئة الاجتماعية يشكل تراثاً حضارياً يتكون من مجموعة من القيم والنظم المعيارية يعبر عنها بشكل رموز لها دلالات ومعانٍ على مستوى الأفراد والجماعات حيث أنّ التراث الحضاري يأتي نتيجة تراكمات طويلة عبر التاريخ وتتكون الحضارة عبر علاقة جدلية بين مجموعات ____________________________________ ✺ الوعي الاجتماعي والتنمية (دراسة) غير منشورة –شاكر الخشالي – تطور وزارة التربية العراقيةص3.
من الرموز المرتبطة بالواقع وبين التراث الفكري, لقد تبلورت الرموز مع المراحل المتقدمة من تطور الإنسان بايولوجياً واجتماعياً لأنّ هذه المرحلة تتطلب تجريداً فكرياً لجملة الإفرازات البيئية المادية والاجتماعية, وعندما تجتازها المجتمعات تشكل رموزاً تتعدى أبعاد الزمان والمكان وتدخل في نطاق البناء الاجتماعي, وتشكل حضوراً في النشاطات الأساسية لحياة الجماعة. والحضارة تتباين من مجتمع لآخر وتتجدد بتجدد العلاقات الاجتماعية وتبدل الظروف الاقتصادية والاجتماعية, وكان هذا مادة جيدة لعلماء الانثربولوجيا الحضارية ليبحثوا أسس تكوين الحضارات وأنماط توزيعها وأسلوب انتشارها والعوامل التي تؤدي إلى انتقالها من جيل لآخر وعناصر مضمونها والرموز التي يستخدمها الإنسان للتعبير عنها, لقد رأى العلماء الانثربولوجيون أهمية ذلك التمييز وأثره على سلوك الإنسان فالحضارة تضغط باتجاه التمايز بين المجتمعات من جهة والتصاق سلوك الأفراد برموز الحضارة ومعانيها من جهة أخرى. ورغم أنّه تنتشر في كل المجتمعات نظم معيارية تتمثل في مجموعة القيم والعادات والتقاليد والأعراف, نرى أنّ بعض المجتمعات تفرز نشاطات ترقى إلى مستوى الرموز التي لها معنى اجتماعي وإنساني واسع, وكذلك الحال فكما لكل المجتمعات ثقافة عامّة, هناك ثقافة شعبية كذلك, شفوية أو مكتوبة تتمثل بالقصائد والأقاويل الشائعة, وإنّ لبعض المجتمعات حضارات استوعبت الثقافات السابقة بعد أن أضافت لها أبعاداً في الجوانب الروحية والأخلاقية والمادية تتعدى نطاق المجتمع المحلي, والحضارات لا تطبق قسراً فالإنسان يكتسب الثقافة بسلسلة طويلة من عمليات التطبيع والتنشئة فينتقي ما يناسب قدراته ويختار ما يلائم حاجاته فرغم القسر في التطبع الاجتماعي الذي نلحظه بالتنشئة لكن نلاحظ الانتقاء في اكتساب الخبرة وتطوير المهارة. الحضارة والفولكلور الشعبي: الفولكلور الشعبي أو التراث الشعبي أو الثقافة الشعبية كلها تسميات أطلقت على الموروث الشعبي الذي يرمي إلى تأصيل السلوك الحسن والأخلاق الفاصلة عند الأفراد ومن خصائصه أنّه شعبي وليس فردي, ويغطي كل مساحة الإنسان أينما وجد بالمجتمع, وهو المعلم التربوي لكل الأعمار,✺ ويمثل الفولكلور الشعبي مدخلاً لدراسة حضارة الإنسان لأنّه يشمل الجوانب القيمية والأخلاقية والجمالية والإبداعية التي يطرحها الإنسان عبر تاريخه الطويل وتذوق الفولكلور يتأتى من فهم الناس وإدراكهم, وهذا محصلة خصائص فردية ممزوجة بقيمة اجتماعية, فإذا كان تعبير الإنسان عن اهتمامه بالآخرين أيّاً كانوا اجتماعياً مقروناً, بفهمه لأحاسيسهم فإنّ التعابير الشعبية تخرج من هذا النطاق الذاتي لتعم أوسع الناس وكلمة فولكلور سكسونية الأصل انكليزية الاستخدام مكونة من مقطعين (فولك) ويعني الشعب و(لور) وتعني العلم أو الدراسة وأول من استخدمها العالم الانكليزي(جون توماس عام 1846) _____________________________________ ✺ ثقافة تربية الأطفال بين الوعي والعلم – شاكر الخشالي – دار بصمات – سورية 2010-ص332. للدلالة على الفنون الشعبية ثمّ شاع استخدامها لتطلق على العلم الذي يدرس عادات وتقاليد وفنون شعبية, أما بالوطن العربي فقد انحسر اهتمامه على جهود فردية حافظت على هذه الفنون من الضياع أو التزيف, ولكن بالنصف الثاني من القرن العشرين ازدادت الاهتمامات به ووضعت سياسات وبرامج لذلك تضمنت دراسات وتحاليل وتصنيف وتبويب وحفظ أنواع الفنون الشعبية بكلّ دول العالم, وتركزت الدراسات التحليلية على إدراك فلسفة الشعوب من خلال تفسير وتحليل مضامين هذه الفنون ✺, أما الأصول النظرية لهذا العلم فمنهم من يرى أنّه علم قائم بذاته له نظرياته ويرتبط بالعلوم الاجتماعية, وقد حاول العالم وليم باسكوم توضيح القضايا الأساسية لهذا العلم باستعراض تاريخي لنظرياته منذ بداية القرن التاسع عشر ورأى أنّ أهم تلك القضايا التي تثيرها تلك النظريات هي الوحدة النفسية المتكاملة للجنس البشري ومسألة تفسير الحكايات الشعبية المتشابهة في مجتمعات مختلفة وما هي العوامل التي تقسر ذلك التشابه استناداً إلى نظريات تقول بالوحدة النفسية للجنس البشري وأخرى ترى ذلك التماثل في ضوء الانتشار أو الاستعارة أو الهجرة أو الاختراع والثالثة تقول بالنشأة المستقلة لتلك الحكايات. (نفس المصدر ص87), تتجاوز الوظائف الرئيسية للفولكلور من مجرد التسلية البسيطة إلى مجال التطبيع الاجتماعي ونقل الثقافة من جيل إلى جيل وشكلاً من أشكال الضبط الاجتماعي فتقدم وسيلة الإطراء للذي يتوائمون مع المعايير وأخرى لتحذير الذين ينحرفون عنها, ويرى بعض الباحثون بالفولكلور أنّ مدارسه أهملت بعضاً منه كالطب الشعبي والرقص الشعبي والعادات الشعبية, وأغفلت جانباً مهماً آخر عندما ركزت على النصوص دون الاهتمام بالسياق الثقافي – الاجتماعي الذي وردت واستخدمت فيه تلك النصوص بينما آخرون يجدون اهتماماً من علماء الانثربولوجيا المعاصرون بدراسة الفولكلور في سياقة الثقافي – الاجتماعي وفهم الفولكلور على أنّه نسق ثقافي ذو مبادئ تكاملية تميزه خاضعة للكشف والتحليل, وأنّ أي دراسة لوظائف العناصر الفولكلورية تقتصر على توجيه الأذهان نحو نصوص تلك العناصر دون الاهتمام بالسياق تعد دراسة جامدة وقاصرة, فهناك علاقة جوهرية بين النص والسياق, فالسياق يؤخذ على أنّه خلفية للنص الذي يعد صلب الدراسة, فيقوم الباحث بتسجيل النصوص في البداية ثمّ يصف السباق الثقافي الذي انتجت فيه تلك النصوص. أما مجالات الفولكلور الشعبي فالبعض يراها في دراسة الأدب الشعبي والبعض يراه في الأدب الشعبي غير المكتوب أي المتداول شفاهاً والنابع من الشعب والمتداول بين طبقاته وليس مقصوراً على الأدباء والمفكرين كالقصص الشعبية والأغاني التي تدور على السنة العامة والأمثلة والأناشيد والأساطير والأحجيات والألغاز الشعبية وكل ما يجري على ألسنة الناس من تعبيرات في المواقف المختلفة, فقد دلت تفسيرات اللقى الأثرية البابلية التي توضح مناهج التعليم السومرية – البابلية أنّ دراسة الأمثال تعتبر مرحلة متقدمة من مراحل التعليم قبل التخرج وتسمى(نسخ الأمثال) حيث _____________________________________ ✺ الأنثروبولوجيا وتنمية المجتمعات-د. محمد صفوح الأخرس – وزارة الثقافة السورية – 2001-ص86.
يعتبر حفظ ودراسة الأمثال وسيلة لاكتساب الثقافة بسبب قصر المثل وسهولة حفظه وعمق دلالته,✺1 وآخرون يتوسعون به إلى الثقافة الشعبية كلها أي كل الجوانب التي تدل على نفسية الشعب فيساونه مع الثقافة الشعبية – عادات , تقاليد, أفكار, أنماط السلوك الشعبي, ألعاب , فنون, حرف شعبية, احتفالات, أعياد, أفراح, مآتم, وآخرون أضافوا له عادات الزواج وتقاليد الختان وحياكة الملابس والأزياء الوطنية والصناعات والحرف اليدوية التقليدية وطقوساً اجتماعية كثيرة وهكذا فإنّ مجال الفولكلور واسع وممتد وعناصره متباينة ومتعددة الوجوه وهو وسيلة اجتماعية حضارية للتعبير عن التراث تتراكم عبر الأجيال , فالإحساس بالانتماء يتخطى أبعاد الزمان والمكان ليربط جميع أفراد المجتمع الواحد ومن أهم عناصر الفولكلور: ✺2 أ- الأزياء الشعبية: هو سلوكاً يحدد هوية الشخص وميزاته الفردية ثمّ التقليد الاجتماعي الذي هو الثوب الحضاري للمجتمع المعني. ب- الأغنية الشعبية: ويندرج ضمن الأغنية الشعبية في الوطن العربي الأقسام التالية: • العتابا: وهي من تفعيلات بحر(الوافر) العروضي ويؤلف بيت العتابا وحدة كاملة مما يوضح سرّ انتشاره وله ثروة لفظية كبيرة لاعتماده على فن الجناس البديعي ويلائمه إيجازه لضيق مجاله وسعة حكاياه والعتابا تتنوع جغرافياً منها العتابا الشرقية وهي القادمة من بادية العراق وجزيرته الشمال غربية وطابعها بدوي خالص وهي شكلين عراقية نسبة للعراق وعتابا فاضلية نسبة إلى عبد الله بن فاضل والعتابا الجبورية نسبةً إلى قبيلة الجبور والعتابا العقيلية والعتابا القبلية التي تنتشر في ريف حمص والعتابا الغربية على سواحل المتوسط في سوريا ولبنان والجبل وهذه تبتعد عن الألفاظ والصور البدوية ويلفظون القاف همزة. • الزجل: وهو فن عربي ساحلي (سواحل بلاد الشام) يرد على تفعيلات بحر الزجل. • الموال: يرجع مولد الموال إلى نكبة البرامكة وتحريم رثائهم على الناس الموالين لهم, فعمدوا إلى استقطاب الشعراء لينفذوا إلى غايتهم عبر فن شعبي غنائي تسرب من دهاليز التصور إلى أكواخ الفلاحين, ثمّ تنوع الموال واكتسب أوزاناً جديدة منها (الموال الحموي) نسبة إلى مدينة حماه السورية والموال المصري وهناك الموال البغدادي والموال الحلبي وهي بنفس بناء الموال الحموي بفارق بسيط. __________________________________________________________ ✺1 مناهج التعليم السومرية – البابلية منذ الألف الثالث ق.م (مقال)- فايز مقدسي- مجلة المعرفة – وزارة الثقافة السورية – العدد 558 آذار 2010- ص137. ✺2 الأنثروبولوجيا وتنمية المجتمعات-د. محمد صفوح الأخرس – وزارة الثقافة السورية – 2001- ص88. ج- الأغنية الشعبية الراقصة: ومصطلحها (الفروقة) وباللهجة العراقية المحلية (الفراكيات) وتعني التوزيع ولها أوزان وأشكال الحركات وهي نوعان شرقية والتي هي أغنية مرافقة لدبكة جماعية تنوب في إيقاعها عن الموسيقى وعلى نوبات أحرفها تنسق حركات دبك الأرجل, ويتألف بيت الفروقة الشرقية من أربعة أشطر يتشابه رؤيا الشطرين الأول والثالث كما يتشابه رؤيا الثاني والرابع ويشكل بيت الفروقة الشرقية وحدة تامة تعرض فكرة أو توجز قصة ربما تشكل حوار بين الفتى (الحبقة) والفتاة (الوردة) وهما قائدا حلقة الدبكة, أما الفروقة الغربية (الفرادي) فهي أغنية شعبية مرافقة لدبكة نسقية حيث يشكل الدابكون والدابكات نسقاً له قاعدة انطلاق وقاعدة وصول. وتعد المولية (رقصات السماح) من أهم الأغاني الشعبية التي يصحبها رقص شعبي والمولية تصغير مولاي وتعني سيدي ويرجع الرواة هذه التسمية إلى أيام معركة (الطف) وترادف المولية عبارة (أبو الزلف) وكلمة (العين) ويعلل ناقدو الأغنية الشعبية وينسبون الزلف إلى شهيد معركة الطف وينسبون العين لأنّه قاتل أعداءه على عين الماء بعد أن منعوه عنها, وخرجت المولية من بلاد الشام بالقرن السابع ميلادي وتجري عروضها على مجزوءة بحر البسيط وللمولية لازمة تتألف من أربعة أشطر ونص يتألف من ثمانية أشطر. د- الرقص الشعبي: الرقص هو إيقاع تتوازن فيه حركات الجسد مع النغمة الموسيقية وفيه يتفاعل عنصر ثالث مع الحركة والنغمة والذي هو الأحاسيس الجماعية التي ترتبط بالتراث الحضاري وبتفاعل العناصر الثلاثة هذه يتحدد ميل وتمايل الجسم ليصبح ذلك النسق من الجمال تعبيراً عن الذات الاجتماعية يقوم بها جسد الإنسان, والرقص من الأمور التربوية لأنّه يربط الماضي بالحاضر ويصعّد الميول ويصقل المواهب وبنقل العمل الفردي إلى عمل جماعي.
| |
| | | salim 1979 التميز الذهبي
تاريخ الميلاد : 27/05/1979 العمر : 45 الدولة : الجزائر عدد المساهمات : 5285 نقاط : 100012179 تاريخ التسجيل : 06/11/2012
| موضوع: رد: الأصول التاريخية والنظرية للأنثروبولوجيا الإثنين سبتمبر 23, 2013 5:16 pm | |
| 3 – الانثربولوجيا الاجتماعية: مجالات تخصص الانثربولوجيا الاجتماعية تتضمن مايلي: أ- البناء الاجتماعي: يرى رادكليف براون أن الوظيفة تطبق على الحياة الاجتماعية والبايولوجية على حد سواء ومن الممكن أن تحدد خصائص الوظائف دون وجود البناء أما البناء فيستوجب حدوث الوظائف ويسند رادكليف تحليله هذا على أن البناء الاجتماعي هو شبكة العلاقات الاجتماعية التي تربط الأفراد خلال نقطة زمنية معينة, وكان ذلك خلال تحليله للفرق بين البناء الاجتماعي والتركيب الاجتماعي,✺ ويعتبر رادكليف أنّ البناء الاجتماعي هو أساس الحياة الاجتماعية لأيّ مجتمع مستمر وقد تم توضيح مفهوم البناء الاجتماعي عند تغطية عنوان النظرية الوظيفية ص (13) في موضوع الاتجاهات النظرية لعلم الانثربولوجيا, وهكذا يتكون ____________________________________________ ✺(موسوعة علم الاجتماع- أ.د. إحسان محمد الحسن- الدار العربية للموسوعات – بيروت- ص131)
البناء من عناصر متشابكة لا يتم التفاعل بينها إلا بشكل تكاملي تبادلي فهو يرتبط بالأسس التي تعمل على تنظيم الحياة الاجتماعية أو البايولوجية , اختلف العلماء كما اختلفت المدرستين البريطانية والأمريكية في تحديد طبيعة مفهوم البناء الاجتماعي بدقة فقد عرفه العلماء عدة تعاريف منها (هو النموذج المستقر للتنظيم الداخلي لجماعة ما أو مجموعة العلاقات الموجودة بين أفراد الجماعة بعضهم مع بعض من ناحية والموجودة بينهم وبين جماعة أخرى من ناحية ثانية) أو (هو نسق اجتماعي يتميز بدرجة معينة من الثبات والاستقرار ويتألف من جماعات ورمز مثل العشائر والقبائل والأمم تقوم بتنظيم علاقات الأفراد التي تدخل في نطاقها ويسمح بالتكيف الخارجي مع البيئة الطبيعية وبالتكيف الداخلي بين الأفراد أو الجماعات ....إيفانز بريتشارد)✺1 ويمكن استخلاص أهم خصائص البناء الاجتماعي بما يلي: يتكون البناء من أنماط العلاقات الاجتماعية فلا يمكن ملاحظته بشكل مباشر إلا في صورة علاقات اجتماعية محسوسة بين أفراد وجماعات مجتمع ما. البناء الاجتماعي نسيج متشابك الأجزاء وعند الخوض به لا بدّ من دراسة كل أجزاءه وذلك بالكشف عن العلاقات المباشرة وغير المباشرة التي توجد بين عناصر وأجزاء البناء الاجتماعي من جهة وتلك التي توحد بين أجزاء كل عنصر من جهة أخرى فمهمة الباحث لا تقتصر على وصف وتحديد أجزاء البناء الاجتماعي وإنما تتعداها إلى التفسير والتحيليل وهذا من أهم خصائص الانثربولوجيا الاجتماعية التي تميزها عن غيرها من العلوم الاجتماعية. البناء الاجتماعي مستقر وذو ثبات نسبي وذلك من أهم شروطه أن يتماسك ويستمر أوقاتاً طويلة لكن ليس المقصود الجمود بل استمرار متغير يشبه الاستمرار العضوي للجسم الحي, ومن مظاهر التغيير فيه تعطل بعض الأجهزة الاجتماعية عن تأدية وظيفتها, أو تغيير في العلاقات الاجتماعية من يوم لآخر نظراً لتغير الأفراد والزمان , إلا أن سرعة التغيير تختلف من مجتمع لآخر فأحياناً يتعرض البناء الاجتماعي إلى ضغوط خارجية تعمل على تغييره بشكل سريع أو حتى على القضاء عليه كالحروب أو الكوارث. ب- العائلة والقرابة: العائلة عبارة عن منظمة اجتماعية تتكون من أفراد يرتبطون ببعضهم بروابط اجتماعية وأخلاقية ودموية وروحية وهذه الروابط هي التي جعلت العائلة البشرية تتميز عن العائلة الحيوانية,✺2 إنّ العائلة ترتبط ضمن أطر المجتمع بالتنظيمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية, ويوجد في
_____________________________________________- ✺1 الأنثروبولوجيا وتنمية المجتمعات-د. محمد صفوح الأخرس – وزارة الثقافة السورية – 2001- ص98. ✺2 المدخل إلى علم الاجتماع – أ.د.إحسان محمد الحسن- دار الطليعة – بيروت -1988-ص118.
الوطن العربي تشكيلات اقتصادية تمتد من المجتمع البدوي وحتى المجتمع الصناعي وتعيش فيه أنماط اجتماعية بعضها متفاعل مع الاقتصاد البدوي والآخر مع اقتصاد الزراعة المتطورة وثالث مع الصناعة الحديثة ويترك ذلك آثاراً واضحة على تركيب الأسرة العربية ووظائفها وأنماط العلاقات الاجتماعية بين أفرادها. لقد تعرضت العائلة إلى تغيرات أصابت خصائصها التقليدية لتتواكب مع التطور الاجتماعي خاصة في حجم الأسرة وأسلوب التنشئة الاجتماعية وتغيير السلطة الاجتماعية والاقتصادية في الأسرة إضافة إلى تقليد الزواج واختيار الشريك, لكن هذه التغيرات كانت ضمن حركة المجتمع في تطوره من مرحلة إلى أخرى وبذا فهي جزء من مسائل تحول المجتمع ولا يمكن فصلها عنه لأنّ العائلة خلية اجتماعية لها وظائف ذاتية خاصة بها ووظائف أخرى ضمن إطار المنظومة الاجتماعية فهي خلية مؤثرة في سير المجتمع , لقد وجدت العائلة مع وجود المجتمع لا بل أنّ المجتمعات الإنسانية وجدت بوجودها, كما أن تركيب العائلة ووظائفها ارتبط كغيرها بتغير المجتمعات الإنسانية, لقد أثر تطور المجتمع على وظائف العائلة فكان أن تبدلت بعض خصائصها وتقلصت وظائفها بينما تركزت وظائف وخصائص أخرى, فالعائلة سلمت وظائفها القضائية والتعليمية والاقتصادية والصحيّة والتنفيذية إلى مؤسسات اجتماعية أعقد تركيباً وأكفأ وسيلة بالتشريع والتنفيذ ولكن لن تتخلى عن وظائف أساسية هي: ✺ الزواج وتنظيم الناحية الجنسية بين الأفراد برابط اجتماعي حسب نظم المجتمع وقوانينه. استمرار الجنس البشري وتكاثره عن طريق إنجاب الأطفال. التنشئة الاجتماعية للأطفال وتأهيلهم اجتماعياً بشكل يمكنهم من اكتساب عضويتهم في المجتمع. تأمين الاستقرار النفسي لأعضاء العائلة بالحب والدفء والاطمئنان والحنان بما يساعد على تفريغ الشحنات العاطفية ويزيل عوامل القلق والاضطراب التي قد تنتاب الأفراد عند مزاولتهم أدوارهم الاجتماعية خارج العائلة. أما القرابة : فهناك القرابة البايولوجية, والقرابة الاجتماعية والتمييز بينهما يعتمد على حالة التبني فليس هناك ثمّة علاقة بايولوجية بين الأب وطفله المتبنى لأنّ العلاقة بينهما علاقة اجتماعية وهناك حالات الأبناء غير الشرعيين فهؤلاء هناك علاقة بايولوجية بينهم وبين آبائهم لكن لا توجد علاقات اجتماعية لهذا يحاول علماء الانثربولوجيا الاجتماعية التمييز بين الأب البايولوجي والأب الاجتماعي, لكن أغلب الأنظمة القرابية تعتمد على العلاقات البايولوجية التي تربط الآباء بالأبناء, ومن أشهر البحوث بهذا الصدد ___________________________________ ✺ الأنثروبولوجيا وتنمية المجتمعات-د. محمد صفوح الأخرس – وزارة الثقافة السورية – 2001. بحث العالم مكلينن والعالم مورغان والأخير وضع معاني جميع المصطلحات القرابية التي استعملها علماء الانثربولوجية الاجتماعية ✺1 وله مقولته المشهورة عن حركة وفعالية الأسرة وجمود وخمول القرابة فيقول: (إنّ الأسرة تمثل مبدأ فعالاً actif وهي ليست راكدة أو جامدة أبداً بل تتقدم من شكل إلى شكل أعلى تبعاً لتقدم المجتمع من درجة إلى درجة أعلى, أما نظم القرابة فهي على العكس منفعلة passif تسجل التقدم الذي تحققه الأسرة في فترات طويلة كل فترة على حدة ولا تتغير جذرياً إلا عندما تكون الأسرة تغيرت تغيراً جذرياً)✺2 أما العالم ريفرز فقد وضع دراسة العلاقة بين النسب والزواج والقرابة ثمّ أخيراً العالم رادكليف براون الذي وضّح بكتابه (البناء والوظيفة في المجتمع البدائي) كافة الأنظمة القرابية ومعاني مصطلحاتها. ومن أشهر العلماء الذين درسوا العائلة دراسة ميدانية هو عالم الاجتماع الفرنسي فردريك ليبلاي (1806-1882) فقد درس التطور التاريخي للمجتمع والعائلة والمرأة واعتقد اعتقاداً حازماً بأنّ كلاً من المجتمع والعائلة والمرأة تمرّ في ثلاثة مراحل أساسية هي مرحلة الاستقرار والمرحلة الانتقالية وأخيراً مرحلة عدم الاستقرار وطبق هذه المراحل على العائلة حيث قال بأنّ العائلة تمرّ عبر مراحل هي مرحلة العائلة المستقرة ومرحلة العائلة الفرعية ومرحلة العائلة غير المستقرة وفي فرنسا درس الأوضاع الاجتماعية لأسر العمال مستهدفاً تحليل الظروف الاجتماعية التي تساعد على حفظ استقرار المجتمع وزيادة ثروته فعمد إلى أن يدرس العوامل المؤدية إل عكس ذلك فإذا شخصها وعولجت حقق الغاية وسبب اختياره للعائلة لأنها وحدة أساسية تمثل غالبية المجتمع بحيث أنّ دراستها وتحليل ظروفها يؤديان إلى تعميمات صحيحة حول المجتمع ونظمه✺3, ثمّ في منتصف القرن التاسع عشر قام العالم السويسري باخوفين بدراسة تركيب العائلة معتمداً على افتراضات أساسية نشرها بكتابه (حقّ الأم 1861) وعد ذلك بداية رائدة في علم اجتماع العائلة ملخص تلك الافتراضات: إنّ الإنسان كان يعيش حالة من الاختلاط الجنسي أسماه(التسري) وهذا يجعل التأكد من أبوة الطفل متعذرة ولهذا السبب نسب الطفل إلى أمه. إنّ النساء بوصفهن أمهات أصبحن يتمتعن بمنزلة رفيعة داخل المنزل وخارجه فإليها النسب وهي التي تمتلك. ________________________________________ ✺1 المدخل إلى علم الاجتماع – أ.د.إحسان محمد الحسن- دار الطليعة – بيروت -1988-ص126-127. ✺2 (مشكلة المرأة / الحل التاريخي – د. بدر الدين السباعي- دار الجماهير- دمشق 1985- ص65. ✺3 علم اجتماع المرأة – أ.د. إحسان محمد الحسن – دار وائل – عمان – 2008-ص33. ثمّ ظهرت دراسات مورغان في كتابه (في المجتمع القديم 1877) فأخذت دراسات العائلة طابعها المعترف به فاستطاع مورغان بدراسته عشيرة الهنود الأمريكيين أن يكتشف سلسلة تطور مراحل النمو الكلاسيكية للعائلة وتطور النظام الأمومي إلى النظام الأبوي, مستنداً بدراسته هذه على تحليله لفعالية وتقدم نظام الأسرة وجمود وتحجر نظام القرابة ومستشهداً بتأييد ماركس له بأن نظريته هذه تنطبق حتى على الأنظمة السياسية والقضائية والدينية والفلسفية عموماً, كذلك استند إلى اقتناع أنجلز بانّ دراسة التراجع العكسي لمراحل تطور أشكال الأسرة ينتهي إلى مرحلة بداية كان فيها الاتصال الجنسي المطلق من أي قيود سائداً داخل القبيلة حيث كانت كل امرأة ملكاً شائعاً لكل الرجال وكل رجل ملكاً شائعاً لكل النساء أي أنّ أي قيد من القيود التي تعرفها اليوم لم يكن موجوداً في تلك المرحلة الوحشية من تاريخ الإنسانية وكان لا بدّ للأطفال أن يكونوا ملك القبيلة يعرفون أمهاتهم دون معرفة آبائهم, ويذهب مورغان إلى أنّ التطور الذي طرأ على حال الوصال الجنسي الخالِ من القيود انتهى إلى أشكال متباينة من الأسر هي: ✺ . 1) أسرة الأقرباء بالدم أو أسرة الجيل: في هذا الشكل من الأسرة تبقى حريّة الاتصال الجنسي سائدة بين جيل الأجداد والجدات وبين جيل الآباء والأمهات وبين جيل الأبناء والبنات وبين جيل الأحفاد والحفيدات وعلى هذا فإنّ منع الاتصال الجنسي يحدث بين الأجداد والأمهات والجدات والآباء وبين الآباء والبنات وبين الأبناء والأمهات وبين الحفيدات والأبناء وبين الأحفاد والبنات في حين تبقى الصلات الجنسية حرّة بين الأخوة والأفراد على مستوى الجيل الواحد. 2) أسرة الشركاء: هذه تحرم الاتصال الجنسي بين الأخوة والأخوات من الأم الواحدة أولاً ثم تحرمه بين الأخوة والأخوات الأباعد أي أولاد العم والعمات والخال والخالات من الدرجة الأولى والثانية والثالثة لأنّهم يعتبرون جميعاً أخوة وأخوات أباعد, فالأم الأولى التي أنجبت بنات وبنين مصدرهم الاتصال الجنسي بعدة رجال, تقوم الأم بجلب أزواج لبناتها من أم أخرى مثلها لكن ليست أختها وأولادها تبعثهم إلى أم أخرى مثلها لكن ليست أختها ليتزوجوا بناتها إذن حدث تزاوج الجيل الأول بين بنات وبنين لكل منهم أمهات مختلفات ولسن أخوات وهذا الجيل من التزاوج سينجبون بنات وبنين هم الجيل الثاني ويتكرر التزاوج بنفس الطريقة وهي أنّ الأولاد من أم واحدة لا يتزاوجوا بل يتزاوجوا مع أبناء وبنات أم أخرى ليست خالتهم وهكذا تتكرر الأجيال, إنّ أزواج بنات أي جيل هنا لم يكونوا أخوة لهنّ بمعنى الأخوة القريبة أو البعيدة لأنهم غير منحدرين من هذه الجدة ولهذا فهم لا ينتسبون لقرابة الأم التي تعرفها العشيرة ومع بلوغ الأسرة هذا التطور أدى إلى نشوء مؤسسة العشيرة, كما _________________________________________ ✺ مشكلة المرأة / الحل التاريخي – د. بدر الدين السباعي- دار الجماهير- دمشق 1985-ص66.
طرأت تغيرات على الاقتصاد الشيوعي المنزلي, فأصبح الاقتصاد يشمل جامعات منزلية فكانت كل مجموعة من الأخوات يصبحن معاً نواة لجامعة منزلية لأنّهن زوجات مشتركات لأزواج مشتركون, في هذا النوع من العائلة بقي النسب يلحق بالأم لعدم إمكان إثباته عن الأب لكن تمكن حصر علاقات وراثية قائمة على أساس هذا النوع من القرابة, إنّ مجموع العلاقات الوراثية ونظام القرابة الذي هو أساس تلك العلاقات الوراثية يشكلان ما يسمى بعهد الأمومة أو (عصر المرأة الذهبي). 3) الأسرة الزوجية: في هذا الشكل من الأسرة تصبح العلاقات الجنسية المعترف بها اجتماعياً منحصرة بين امرأة واحدة ورجل واحد هذا الرجل زوج المرأة والمرأة زوجته ويبقى حل الرباط الزوجي من حق الطرفين وإذا حلّ الرباط التحق الأولاد الذين يحملون نسب أمهم بها وظهر هذا الزوج في المرحلة البربرية. 4) الأسرة الوحدانية وهي من حيث الأساس تقوم على رجل واحد لزوجة واحدة وعلى زوجة واحدة لزوج واحد إلا أنها تميزت عن الأسرة الزوجية بسيطرة الرجل الكلية على المرأة وخضوع المرأة للرجل وإلغاء خط النسب الأمومي ليقوم مقامه خط النسب الأبوي وجعلت خط الوراثة من نصيب أولاده وحلّ رباط الزواج أصبح من حقّ الزوج لا الزوجة وهذا كان نهاية عهد سيطرة المرأة الذهبي بإخضاع جنس الأنثى إلى جنس الذكر. ج- المجتمع المحلي: لاحظ العلماء منذ القدم أنّ هناك نوعين من المجتمعات يتصف كل منهما بسمات تميزه عن الآخر لكنهم اختلفوا في تحديدات هذا التميّز فبعضهم رأى أنّ العلاقات الاجتماعية التي تسود في المجتمع هي كمعيار أو كأساس للتميز بينها, وبذلك رأوا أن مجتمعاً من هذين المجتمعين تسود فيه العلاقات الأولية (علاقة الوجه للوجه) ويتسم بالطابع العائلي بينما المجتمع الآخر يرتبط أفراده برباط من العلاقات الثانوية وله مسحة الطابع المعقد فأطلقوا على الأول المجتمع الريفي وعلى الثاني المجتمع الحضري , وآخرون رأوا أنّ تحديد التمايز والاختلاف يعزى إلى حجم كل منها فالمجتمع القليل روابطه متينة وتماسكه الاجتماعي قوي بينما المجتمع الكبير تكون المسؤولية الجمعية فيه تضحى مسؤولية فردية وتتفكك الروابط الاجتماعية لتغدوا روابط فردية ثانوية ويصبح تعارف الأفراد إن تعارفوا سطحياً والعلاقات سطحية وغير متينة فأصبح تحديد المجتمع الريفي على أساس العدد والحجم وحدده الأمريكان بـ(2500) نسمة دون النظر إلى طبيعة العمل أو المهنة وإضافة لهذين التحديدين آخرون يضعون المهنة كأساس لتحديد وتميز المجتمع الريفي عن المجتمع الحضري فالمهنة السائدة في المجتمع هي التي ستحدد نِحلة القوم ومعاشهم كما وصف ذلك ابن خلدون إذ رأى في ذلك نوعين من المجتمعات المجتمع القبلي (البدو) والمجتمع الحضري وأصحاب هذا الرأي (التحديد بالمهنة) يدللون عليه بأمثلة فيقولون أنّ المهنة إن أثرت على الأفراد كأفراد فإنّها تؤثر على المجتمع باعتبارهم مجموعة أفراد يتعاونون مع بعضهم البعض وأثر المهنة واضح على الفرد في تصرفاته وعلاقاته العامّة والخاصة, أما الأوروبيون فقد قسم رجال الأعمال المهن إلى ثلاثة أقسام أولية وثانوية ومهنية فالمجتمع الريفي عندهم هو المجتمع الذي يعتمد غالبية سكانه على الصناعات الأولية كاستخراج المادة الخام أو تربية الحيوانات أو صيد الأسماك أو استخراج الإسفنج وغيرها, أما ما ينحوا إليه علماء الاجتماع بشكل عام في العصر الحديث فهو السبيل الذي وصل إلى أبراز الدراسات المحلية لمل مجتمع ومن ثم تحديد معنى المجتمع على أساس هذه الدراسات , فعلم الاجتماع الريفي تبعاً لهذا يهتم بإبراز الصفات المحلية لكل مجتمع على حدة مثلما كان قدامى علماء الاجتماع يهتمون بإبراز التشابه العام بين المجتمعات, إذن المجتمع الريفي هو ذلك المجتمع الذي يمتهن معظم أفراده الزراعة ويتصف بصغر حجمه النسبي وهنا نكون قد أبرزنا المهنة وهي الزراعة ومتعلقاتها وما يتصل بها من مهن. 4 - الانثربولوجيا الطبية: تبحث الانثربولوجيا الصحية في أسس التربية الصحية القائمة على القيم الاجتماعية لمفاهيم الحياة والمرض والموت وعن تباين التصورات المحددة لهذه المفاهيم يتباين المجتمعات والظروف التاريخية التي يشهدها كل مجتمع, إنّ مفهوم التربية الصحية يرتبط بمفهوم التربية العامة وبتصورات المجتمع للصحة بأبعادها النفسية والاجتماعية والجسدية وترتبط مبادئ التربية الصحيّة بالجو القيمي السائد وبالوعي الاجتماعي وبطبيعة المؤسسات الصحية الاجتماعية, فالجو القيمي يكرس القيم الاجتماعية الصحية لارتكاز السلوك الإنساني بمعظمه عليها, والوعي الاجتماعي يدمج الأفراد بالمجتمع بما يستطيعون من خلاله تجنب الكثير من الأمراض, أما مصداقية المؤسسات الصحية في مهامها فيساعد الأفراد على التخلي من الشائعات والأقاويل المتصلة بطرق المعالجة ويدفعهم إلى الإقرار بأفضلية المؤسسات العصرية عن سواها. إنّ موضوعات الانثربولوجيا الطبية تمتد من توضيح العلاقة بين التطور البايولوجي للإنسان وسلوكه الاجتماعي إلى وضع الأساس الاجتماعي والحضاري للتقدم الصحي, ويزداد الاهتمام بموضوع الانثربولوجيا الطبية كلما ازداد التقدم التقني في المعالجة الطبية وتباعدت الفجوة بين الطبيب والمريض واختلاف تعابير وصف أعراض المرض من مجتمع لآخر, إنّ التشخيص السليم يعتمد على اللغة المشتركة بين الطبيب والمريض ثمّ نقل العلاج من لغة الطبيب الفنية إلى لغة المريض الدارجة, وتزداد أهمية التواصل الاجتماعي بين المريض والطبيب كلما اتسعت أفاق مستقبل الطب الحديث برزيادة تقنياته وتوسع الأبعاد التكنولوجية المستخدمة في التشخيص والعلاج, كما أنّ خطط الرعاية الصحية, في المجتمعات المحلية تتطلب فهماً للأوضاع الاجتماعية لكي توائم الوضع الحضاري والقيمي لتلك المجتمعات, كما على الطبيب المختص أن يقيّم التطبيب الشعبي ويستثمر إيجابيته ويقوّم سلبيته, وفي دراسة العلاقة بين التطور البايولوجي للإنسان وسلوكه الاجتماعي, توصل العلماء إلى إشارة في دماغ الإنسان مسؤولة عن سلوكه العدواني وتتقلص أهميتها مع التطور الاجتماعي والحضاري للإنسان, كما وجد العلماء بأنّ فهم حالة الإنسان المعاصر النفسية والبايولوجية تعتمد على فهم المجتمعات البدائية وتطورها, واستخلصوا مقولة أنّ الصورة الأولى للمجتمعات المعاصرة تكمن في مجتمعات بدائية تعيش الآن في بعض أماكن العالم, ورأوا أنّ المقارنة بين مجتمعات متقدمة وأخرى متخلفة في زمن واحد تعطي فهماً لمسار التطور في المجتمع الواحد عبر الزمان, ومن الموضوعات الأخرى التي تناولتها الانثربولوجيا الطبية أسلوب الرضاعة ومدتها والفطام, وتعامل الأم مع وليدها والختان وطقوسه, والمراهقة عند الشباب, والحيض وبلوغ سن اليأس عند النساء وأثر كلّ ذلك على شخصية الإنسان بالمستقبل. أما الانثربولوجيا الطبية والرعايا الصحية فهي تعالج الطرق الرئيسية للتربية الصحية من خلال الأسرة والمدرسة والمنظمات الشعبية والمؤسسات الصحية الرعوية ووسائل الإعلام, أما في مجال الأسرة فإنّ دور الأبوين بالاهتمام بالأطفال ووقايتهم ومعالجتهم وتوعيتهم صحيّاً واجتماعياً ونفسياً خلال العمليات التنشيئية مهم كما تبرز دور الانثربولوجية الصحية بالتوعية بأسس التربية الاجتماعية المتعلقة بالمسائل الصحية كعادات الطعام والراحة والنوم والترويح والنظافة وتوجيهات ارتداء ملابس الوقاية أثناء العمل والإجراءات الاحترازية من الإصابات بمعدات العمل, إذن الرعايا الصحية من المنظور الانثربولوجي تشمل الرعايا الصحية الأولية والخدمات الوقائية والعلاجية والسياسات الصحية التنموية المتعلقة بالتثقيف الصحي ووقاية الأمومة والطفولة وتنظيم الأسرة ومكافحة أخطار البيئة. أما موضوع البناء الاجتماعي ووظائف القطاع الصحي, تشكل العلاقة بين البناء الاجتماعي ووظائف المؤسسات الاجتماعية المعنية بالرعايا الصحيّة نقطة ارتكاز في ميدان الانثربولوجيا الطبية وتكمن أهمية الدراسات الانثربولوجية الطبية في القطاع الصحي في دلالتها على طبيعة العلاقة بين البناء الاجتماعي والسلوك الفردي وذلك لأهمية هذا القطاع على المستويين التحليلي والعملي, ففي إطار الوجود الحيّ يصارع الإنسان دوماً الطبيعة والمرض من أجل البقاء ويتطلب هذا الصراع دوراً إيجابياً للفرد في الحفاظ على صحته ومع أهمية تلك القيمة الأساسية في وجوده إلا أنّه كثيراً ما يسلك سلوكاً مغايراً لسلامة وجوده, كما أن وظائف القطاع الصحي تشمل تشابكاً بين البناء الاجتماعي والقيم والعادات والسلوك الفردي اليومي, فالقطاع الصحي بناءً وتنظيمات وهياكل متمثلة في مؤسسات اجتماعية رسمية وغير رسمية مثل المشافي والمستوصفات والعيادات والمراكز الصحيّة وما ينظم العمل ضمن تلك الهياكل من تشريعات وقوانين كل ذلك لكي تستقيل تلك التنظيمات مرضى يشرف على علاجهم أطباء وجهاز فني وإداري يمثلون قيم المجتمع وعاداته وتنعكس بالتالي على سلوكهم. أما علم الانثربولوجيا والتخطيط للصحة في الإطار المحلي فإنّ التنمية في المجال الصحي تشمل عناصر ترتبط بالبنية المجتمعية وبالسياسات الصحية وأخرى في مجال العادات والتقاليد والتطبيب الشعبي فالأول ضمن اهتمامات علم الاجتماع أما الثاني فهو ضمن اهتمامات عالم الانثربولوجية وكلاهما يهدفان رفع المستوى الصحي للأفراد وتوفير سبل الوقاية والعلاج وإيصال تلك الخدمات إلى أصحابها ومستحقيها فيعمل علماء الانثربولوجيا ضمن الأقنية الاجتماعية للإفادة من الموجود وربط الإمكانات المحلية والإقليمية بالخطط التنموية لإيجاد الحلول للأمراض المستعصية, بهدف التخطيط الاجتماعي الصحي لبيان أسس التخطيط للتنمية الصحيّة في إطار المجتمع فيتناول توضيح أهداف التنمية في القطاع الصحي والمشكلات الاجتماعية التي تجابهه كما انّه يستهدف تحقيق الموائمة بين الإمكانات المتاحة والأهداف النوعية التي يتوخاها العاملون في مضمار الصحّة من التنمية الصحية وكذلك يعالج التخطيط الاجتماعي الصحي المتغيرات الأساسية للبنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وأثرهما في المسألة الصحية ليتم التخطيط في القطاع الصحي على ضوء هذه المتغيرات. أما في مجال التطبيب الشعبي فإنّه يحمل عناصر إيجابية بإيجاد اللغة الطبية الاجتماعية المشتركة بين الطبيب والمريض لأنّ المفاهيم العلمية واحدة بين المختصين بالطب وهذا أمر ضروري في البحوث والدراسات التطبيقية, فالتطبب الشعبي إيجابيته تأتي من خبرات الإنسان المستمدة من تفاعله مع البيئة ونجاحه عبر العصور في العلاج خاصة تجربته في طب الأعشاب والجانب الآخر هو الوقاية الصحيّة المتحققة بالأمثال الشعبية الممثلة لحقيقة الفكر الاجتماعي بهذا المجال والذي يعني تدابير تنطوي على سلوك الفرد اليومي تحميه من الأمراض كالنظافة الشخصية والنظافة العامّة, فاستخلاص العناصر الإيجابية بالتطبب الشعبي وكشف الممارسات الخاطئة والخطيرة له المرتبطة بالخرافات والسحر كلّه من اهتمامات علم الانثربولوجية الصحية. 5 – الانثربولوجيا السياسية: تتناول الانثربولوجيا السياسية دراسة أثر التغيرات الاجتماعية والحضارية في تشكيل السلطة السياسية وتطور أنظمة الحكم في المجتمع, فالنظم الاجتماعية والعناصر الحضارية هنا تعتبر متحولات, وأمور السياسة وشؤونها عوامل تابعة تتأثر بالعوامل الاجتماعية وتتغير بتغيرها, وعليه فالفهم الدقيق للنظم والمؤسسات السياسية يتطلب تحليلاً لمرتكزاتها الحضارية ورصيداً لعناصر التغيير في المجتمع, وتستخدم الانثربولوجيا السياسية مفاهيم تحليلية تترابط مع منظومة العلوم الاجتماعية الأخرى وبخاصة علوم الاجتماع والسياسة والتاريخ,فالأخيرة تستخدم مفاهيم الطبقة والكارزما, والمكانة الاجتماعية والدور, والتماسك الاجتماعي, لغرض فهم أسس النظام السياسي المعاصر, في حين الانثربولوجيا السياسية تستخدم مفاهيم العصبية, والنزاع, والوساطة,وسبل حلّ المنازعات بين الشعوب, والمنافسة, والحسد, والشماتة في ميدان عملها السياسي, وهذه جميعها مفاهيم وجدت مع وجود الإنسان وتتلازم معه في مراحل نموه الاجتماعي والعمري. وتتركز اهتمامات الانثربولوجي السياسي بتصنيف النظم السياسية البسيطة والتقليدية وكذلك بالعلاقات الوظيفية بين الأدوار والنظم السياسية وكذلك في فهم الإطار الاجتماعي للفعل السياسي ودراسة مكونات النظام السياسي, ففي مجال تصنيف النظم السياسية يهتم الانثربولوجي بموضوع دراسة النظم السياسية السائدة في المجتمعات البسيطة والتقليدية وكيفية عملها واختلافاتها من مجتمع لآخر إذ أنّ كل نظام يعتبر كلاً وظيفياً يقوم بدور فعّال في المجتمع الذي يوجد فيه ولذلك ركز الانثربولوجي على الدور الذي تقوم به النظم السياسية في خلال الأزمات التي تحل بالمجتمع من حين لآخر, كما ركز كذلك على الخلافات التي تقع حول الإرث بين الجماعات السياسية وآخرون ركزوا على دراسة طبيعة وكيفية الكفاح ضد الكوارث والمجاعات وفريق آخر من الانثربولوجيين ألقى الضوء على الأنشطة الهدامة في المجتمع ودور الجماعات المختلفة في احتوائها والتغلب عليها, إذن ذلك يتطلب من الباحثين الانثربولوجيين تكثيف الدراسات الميدانية ذات المناهج العلمية القويمة وإجراء المزيد من المقارنات على غرار ما أجراه فورتيس وإيفانز بريتشارد, وفي مجال العلاقات الوظيفية بين الأدوار والنظم السياسية لا بدّ من توضيح كيف تتعاون وتتساند هذه الأدوار وكيف يتم في ضوئها التحكم في الأزمات والانحراف, وما هي غاية الفعل السياسي, وفي مجال الإطار الاجتماعي للفعل السياسي يدرس الانثربولوجي النظام السياسي باعتباره جزء من البناء الاجتماعي الكلي فهو يربط هذا النظام بالنظم الأخرى المكوّنة للبناء الاجتماعي ويحاول التعرف على الجماعة وعلاقاتها القرابية الداخلية وقيمها المشتركة وعلاقاتها بالجماعات الأخرى وأثر ذلك على الفعل السياسي وكما أوضحنا سلفاً فإنّ علماء الاجتماع و الانثربولوجيا والسياسة يشتركون معاً في التوجه النظري بضرورة فهم الإطار الاجتماعي للفعل السياسي بدأ من مونتسكيو وحتى الوقت الحاضر, أما في مجال دراسة مكونات النظام السياسي فيهتم الانثربولوجي بدراسة القيادة والزعامة وشكل الحكومة والانتخابات وأساليب سياسة الأمور وديناميات اتخاذ القرار وتدرج السلطة وعلاقة النظام السياسي والحكومة بعملية الضبط الاجتماعي, وتحت هذا ألقت الدراسات الانثربولوجية الضوء على تباين النظم السياسية في المجتمعات البدائية التي تفقد الزعامة الواضحة والسلطة المركزية والقادة والرؤساء بشكل واضح, فتم تركيز الدراسات على تلك المجتمعات الجزئية (مجتمعات بلا دولة) للتعرف على نظم القرابة وأشكال العلاقات القرابية فيها مما أعطى تحديد أفضل للمجال السياسي وحصر أدق لتنوع أشكاله, فظهرت دراسات قيمة بذلك مثل أعمال فورتيس وميدلتون وتيت وسوثال وبالاندية حول المجتمعات الجزئية, ومثل أعمال نادل وسميث وماكييه حول مجتمعات الدولة, وكلا المجموعتين أكدت على أهمية الدراسات التاريخية المعمقة للنظم السياسية للوقوف على الظروف التي أثرت في بناء وتنظيم النظام السياسي.✺ ومن الدراسات التي تناولت اتجاه الانثربولوجيا السياسية هي كتابات ابن خلدون عندما ربط النظم الاجتماعية بالنظم السياسية والحضارية عبر التاريخ خلال دراساته للعصبية بكل تفاصيلها النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وهناك الكثير من الأمثلة الأخرى على الدراسات الانثربولوجية للأنظمة السياسية منها مثلاً دراسة النظام السياسي وطبيعته في المعشر والقبيلة في القارة الإفريقية للدكتور محمد علي مكاوي, ودراسة زعماء الأباتشي في أمريكا الشمالية التي أجراها أوبلر, وكذلك دراسة قبائل الأريكو شمال نيويورك بأمريكا. ابن خلدون والعصبية: في ربطه للمسائل الاجتماعية المتعلقة بالبناء الاجتماعي وانساقه الحضارية مع حركة التاريخ السياسي يرى ابن خلدون أنّه لا يمكن إقامة نظام سياسي بناءً على فكرة مرسومة مسبقاً, وإنما يجب استقراء حوادث التاريخ وترتيبها ثمّ تصنيفها وتركيبها على نحو منهجي مدروس, إذ أنّ التاريخ يهدف قبل كل شيء إلى دراسة حالة __________________________________ ✺ الأنثروبولوجيا الاجتماعية – محمد الخطيب – دار علاء الدين للنشر- سورية 2008-ص153و154. الإنسان الاجتماعية والوقائع التي ترتبط بها على نحو طبيعي وكذلك معرفة الحياة الاجتماعية البدائية وتهذيب الأخلاق والنزعة العائلية والقبلية, إنّ الأساس الذي تقوم عليه العصبية والدور الذي تلعبه في الحياة الاجتماعية عموماً وفي حركة التاريخ خصوصاً مبنياً على (الوازع) لأنّ الحاجة إلى الوازع تفرضها طبيعة الإنسان كونه مخلوق مجبول على الخير والشّر معاً وعلى التعاون والعدوان✺, إنّ قيام الحياة الاجتماعية وبقاء الإنسان يتطلب وجود سلطة تحفظ للمجتمع تماسكه وتكبح العدوان بين أفراده أو جماعاته وتقوي التعاون بينهما والوازع بحسب ابن خلدون هو وازع اجتماعي أي سلطة اجتماعية تستمد خصائصها من نمط الحياة الاجتماعية السائد تفرضه الطبيعة العدوانية التي في البشر والعدوان يعتمد دوماً على القوة والغلبة لذلك فإنّ الوازع الذي يراد به دفع هذا العدوان لا بدّ أن يكون قوّة غالبة ويد قاهرة, وهذه قدرات تجمعها العصبة.
| |
| | | salim 1979 التميز الذهبي
تاريخ الميلاد : 27/05/1979 العمر : 45 الدولة : الجزائر عدد المساهمات : 5285 نقاط : 100012179 تاريخ التسجيل : 06/11/2012
| موضوع: رد: الأصول التاريخية والنظرية للأنثروبولوجيا الإثنين سبتمبر 23, 2013 5:18 pm | |
| 6 - الانثربولوجيا التطبيقية: إنّ هدف العلوم التطبيقية ومنها الانثربولوجيا التطبيقية هو الاستفادة من نتائج العلوم النظرية البحتة وتطبيقها في مجالها العلمي, وبنفس الوقت ينقل العاملون في المجال التطبيقي نتائج خبرتهم العملية وما واجهتهم من صعوبات أثناء التطبيق إلى مجال الدراسات النظرية مرّة أخرى لتتم معالجة مسببات تلك الصعوبات وتدعيم نجاحات التطبيق, وبالإضافة إلى هاتين الحلقتين فإنّ العلوم التطبيقية توجه جلّ اهتمامها على تسخير المعرفة العلمية لصالح الإنسانية لتطوير أحوال الإنسان المادية والاجتماعية والنفسية, والانثربولوجيا التطبيقية تعمل ضمن هذا المنظور بتطبيق الدراسات النظرية بقصد الضبط أو السيطرة على حياة الإنسان وتحريره وتقدمه في المجتمعات النامية أو مثلما عملت انكلترة مع دراسة مجتمعات الدول التي استعمرتها حتى وصفت الانثربولوجيا بالاستعمارية بكثير من كتابات النقاد إلى هذا العلم, وأول من استخدم مصطلح الانثربولوجيا التطبيقية هو العالم رادكليف براون حيث نقله من اللفظ الشائع (الانثربولوجيا العملية), وشملت دراسات الانثربولوجيا التطبيقية الدراسات العملية لمجتمعات العالم الثالث بالنصف الثاني من القرن العشرين, لمعرفة الأوضاع الاجتماعية وتحليل المشكلات الاجتماعية التي تعيق التنمية وتوصلوا إلى ضرورة دمج الأبعاد الاقتصادية ومع المحاور الاجتماعية في برامج التنمية واستعمل الناس هذا العمل في حلّ المشكلات التي تقف عقبة في طريق التنمية وتلك التي تنجم عن اختلالات في تنفيذ البرامج الاقتصادية, ومن الدراسات الانثربولوجية التي رأت طريقها في التطبيق هي دراسات توطين البدو ودراسات نظام الثأر, ودراسات سكان أهوار العراق, ودراسات (حوض الحماد) المشترك بين العراق والسعودية والأردن وسورية الذي تقطنه أغلبية البدو الرحل يشتركون بنمط حياة متشابه. _______________________________________ ✺ علم الاجتماع السياسي- د. صادق الأسود- مطبعة الإرشاد- بغداد 1973-ص11. 7 – الانثربولوجيا القانونية: تعني الانثربولوجيا القانونية بدراسة القانون والنظم القانونية ووسائل الضبط الاجتماعي الرسمية وغير الرسمية ومفهوم الأمن والعدالة الاجتماعية وأسس الدفاع المدني ونظم القضاء غير الرسمية والأعراف المستخدمة في حلّ المنازعات الشخصية بهدف فهم الحقيقة الكلية للقانون الرسمي وللعرف الاجتماعي ووسائل التعبير التي يمكن الإحساس بها وملاحظتها والتعرف على مداها, وتجري الدراسات الخاصة بأساليب معالجة النزاعات والادعاء ضمن إطار تاريخي يشمل جميع الحضارات والنظم القضائية فيها, فمعرفة توزيع وكيفية استخدام الأساليب المختلفة لحلّ المنازعات الفردية منها كالإدعاء والثنائية كالتفاوض وثلاثية الأطراف كالوساطة والتحكيم وإصدار الحكم هي من الأمور الأساسية في فهم الاتجاه التطوري للقوانين من مرحلة النزاع وحتى مرحلة الإدعاء بعد أن ازداد التعامل مع الغرباء, مثلاً تجمعات الصيد والزراعة والرعي وجمع الغذاء وكل المجمعات الاقتصادية البسيطة لا تطور سلطات قضائية معقدة بل تطور بعض أشكال معالجة المنازعات كالوساطة والتفاوض والمساعدات الذاتية وهذه موجودة حتى بالمجتمعات المعقدة, كما درس هذا العلم العلاقة بين الأشكال السياسية (الأجهزة السياسية المركزية) وطريقة حلّ النزاعات فوجد أنّه لا علاقة لذلك مع وجود هذه الأجهزة, وهكذا يهتم علم الانثربولوجيا القانونية بوصف العديد من الاتجاهات المعنية بالعلاقات الموجودة بين وسائل الضبط الاجتماعي وما ينبثق عنها من قوانين وأعراف وبين الحقائق الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والنفسية والحضارية, كما درس هذا العلم أسباب الجريمة والانحراف والعوامل الاجتماعية الممهدة لكليهما بجانبيها الأول وهو تأثير العوامل والتفاعلات الاجتماعية في حدوثها والثاني وهو وقع الجريمة وآثارها على المجتمع, واهتمام الانثربولوجيا القانونية بالجريمة كونها ظاهرة لازمت المجتمع منذ نشأته وارتبطت بالنظم الاجتماعية وتركت آثاراً في عمق المجتمع واختلفت باختلاف المتغيرات الاجتماعية, وللدراسات الانثربولوجية أمثلة على التباعد بين أحكام القانون وبين العرف الاجتماعي السائد فتتباين الأحكام القضائية والاجتماعية وذلك متعلق بالأعراف والتقاليد والعادات والمعايير القيمية المختلفة, مثلاً حتى منتصف القرن العشرين كان الشاب الذي يسرق ليلاً بالعراق لا يعتبر ذلك خروجاً عن المعايير الاجتماعية ويعد انحرافاً بل بالعكس يعتبرها المجتمع سمة من سمات الرجولة وأنّه بلغ المرحلة التي تؤهله للدفاع ضمن العشيرة والقبيلة وحتى يصفونه (فلان سبع لأنّه زلمة ليل) أي شجاع , بينما القانون الوضعي يعافيه عليها كجريمة سرقة والملاحظ أنّ نفس الشاب لو وقعت سرقته نهاراً لأعابه المجتمع واعتبر عمله هذا خروجاً وانحرافاً عن معايير المجتمع وعافية عليها بالنبذ أو الوصم, كذلك في المجتمعات القبلية بالبوادي والقفار في السودان تعد سرقة المواشي والإبل من البطولات التي تكمل الرجولة حتى أن بعض القبائل تشترط على الفتى أن يكون مهر عروسه من المواشي أو الإبل التي يغنمها من قبيلة أخرى وهذا بنظر القانون الوضعي السوداني جريمة يعاقب عليها في حين بنفس المجتمعات تعد أنواع السرقات الأخرى فعلاً شائناً يعاقب عليها ذلك المجتمع. الفصل الثالث التطور البايولوجي والاجتماعي للإنسان استهلال البيئة هي الوسط الخارجي الجغرافي والبايولوجي المحيط بالإنسان وحضارته ولقد عرّفها العالم وينيك بأنّها مجموعة الظروف والمؤثرات الخارجية التي تؤثر في الإنسان, لكن العالم بيتس اعتبر الكائن البشري جزء من البيئة ولا يمكن وضع الخطوط الفاصلة بينهما ذلك أنّ الكائن الحي والبيئة في حالة تفاعل مستمر تتأثر البيئة بالكائن الحي ويتأثر الأخير بالبيئة, البعض يعتقد أنّ مصطلح البيئة يعني الوسط الطبيعي الذي يعيش فيه الإنسان وآخرون يرون أنّه الوسط الطبيعي والاجتماعي والحضاري لأنّهما يؤثران في معيشة الإنسان وسلوكياته وعلاقاته وتفاعلاته وطراز حياته وتفكيره إنما البيئة الطبيعية التي يعيش فيها الإنسان تتضمن السمات الطبيعية الفيزيائية للإقليم وموارده الطبيعية الظاهرة والكامنة وأمور المناخ والمتغيرات الكونية الفلكية كالبعد/ القرب من خط الاستواء أو الارتفاع/ الانخفاض عن سطح البحر, ليل/نهار ,صيف/شتاء, حرارة/برودة, في حين البيئة الاجتماعية هي النظم والمؤسسات الاجتماعية والتفاعل والسلوك الاجتماعي والقوى والأنظمة والمؤسسات سياسية/ اجتماعية/اقتصادية/دينية, الجماعات والتجمعات, هذه كلّها هي حاضنة الإنسان وبنفس الوقت يجعلها الإنسان لتحتضنه✺,إنّ الإنسان جعل البيئة الطبيعية ملائمة ومطاوعة لرغباته واحتياجاته ومن أولى احتياجاته هي الارتقاء, فعندما كان الإنسان يبحث عن هذه الاحتياجات ويجعلها تلبي رغباته هذا يعني انّه غيرّها والتغيّر تطور والتطور ارتقاء, والارتقاء لم يقتصر على الكائن البشري بل شمل تنظيماته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية, فالإنسان كيّف وطوّع البيئة لتلبية حاجاته الأساسية, إنّ عملية تطويع البيئة وتغيرها لتلبية احتياجات الإنسان حقق ذلك ارتقاء للإنسان نفسه فعملية الصراع مع البيئة قادته إلى الاكتشاف وعملية الاكتشاف اختزلت الكثير من الجهود البدنية لصالح الجهود الفكرية والأخيرة تقوده لاكتشاف جديد يزيد من تحقيق احتياجاته ويقلل من متاعبه ويوسع من تفاعلاته مع البيئة نفسها ومع جنسه البشري وهكذا تتصل حلقات الارتقاء العليا بالدنيا. حلقات الارتقاء البايولوجي للإنسان: كثيرة هي الدلائل التي تشير أنّ نشوء الإنسان كان في إفريقيا قرب خط الاستواء ويخمن العلماء أنّ براري شمال كينيا وجنوب غرب أثيوبيا هي الأماكن المتوقعة لشهادة ارتقاء الإنسان الأولى حيث تشير الاكتشافات الجيولوجية للطبقات المتكونة على ضفاف نهر (أومو)إلى رسم خريطة وسجل زمني الذي يصوّر الحقب المختلفة من التاريخ والمطمورة __________________________________________ ✺ موسوعة علم الاجتماع- أ.د. إحسان محمد الحسن- الدار العربية للموسوعات – بيروت-ص140. تحت الأرض, في هذه الجروف والتي هي بمثابة طبقات زمنية وجدت بقايا مخلوق يشبه الإنسان في الطبقة الثالثة بدءً من الأعمق أي بالطبقة التي يتراوح عمرها بين 2-3 مليون سنة ووجدت بنفس الطبقة بقايا حيوانية أيضاً, إذن يرجح العلماء أنّ منطقة (أومو) هي التي وطأت قدم الإنسان الأرض فيها لأول مرّة. لقد وجدت الدراسات الجيولوجية خارج مدينة باريس بقايا لمخلوق يعيش على الأشجار قبل 50 مليون سنة, هذه البقايا فيها الكثير من الصفات المميزة للعائلة التي تضم الإنسان والقرد والنسناس, هذا المخلوق الذي سمي (بالليمور) له أظافر وليس مخالب كما أنّ إبهامه مقابل بقية أصابعه وليس مصفوفاً معها وثقب جمجمته يعطي وضعيه أنّ رأسه كان معلقاً وليس مثبتاً على العمود الفقري وله أسنان أكثر من 32 سن وهو نفس عدد أسنان فصيلة الإنسان والقرود, ومن دراسة الجمجمة دلت على أن هناك صفتين بارزتين تبينان بداية الإنسان وهما المدخل العظمي الأنفي وجحور العينين, فالمدخل الأنفي كان قصيراً ورغم أنّ العينين كانتا بهذا المخلوق تقعان على جانبي الوجه إلا أنّهما تبدوان أقرب إلى الواجهة الأمامية مقارنة بالمخلوقات الأخرى آكلة الحشرات التي وجدت قبل (الليمور) ورغم أنّ هذه الصفات هي محطات صغيرة على طريق التطور الطويل لبنية وجه الإنسان إلا أنها نقطة البداية, والمخلوق الثاني هو الذي وجدت بقايا جمجمته في الفيوم في مصر وتشير الدراسات أنّه كان يعيش على الأشجار, وبدأ من هذه المرحلة أي منذ ما يقرب من عشرين مليون سنة أتت المخلوقات التي يمكن أن نسميها الآن بالقرود البشرية والتي وجدت آثارها في شرق إفريقيا وآسيا وأوروبا, وقد اكتشفت أحد أفراد هذه الفصيلة بدماغ أكبر وعينين في مقدمة الجمجمة تماماً, إنّ التغير في الأسنان هو إشارة البدء للخط الذي يقود إلى الإنسان بالاكتشافات الجيولوجية وأول ما وجد هذا الانفصال في النوع وجد في (كينيا) و(الهند) وبلغ عمر هذا المخلوق 14 مليون سنة, ومواصفاته تعود إلى اقتراب من نقطة تفرع هامّة في شجرة التطور وبذلك بعض علماء الأجناس يصنفون هذا المخلوق ضمن السلالة البشرية. وأخيراً وجدت أغنى الاكتشافات في قاع بحيرة (ردولف) ويعد اكتشاف هذه الجماجم وتاريخها إنجازاً رائعاً في القرن العشرين والواقع أنّ هذه الجماجم تلقي ضوءً ساطعاً على طبيعتها كبشر. الإنسان بصورته المنتصبة: في عام 1924 اكتشفت جمجمة لطفل بعمر 5 -6 سنوات في منطقة (تونغ) على خط الاستواء من قبل العالم ريمون دارت تحليلها يشير إلى أنّها تعود إلى ما قبل مليوني سنة, وهذه الجمجمة تحققت بها صفتين رئيسيتين : الأولى أنّ ثقب النخاع الشوكي فيها عمودي قائم, أي أنّ الطفل كان منتصب الجسم مثل إنسان اليوم والصفة الثانية تتعلق بالأسنان فقد كانت صغيرة ومربعة مشابهة للأسنان الحليبية لطفل اليوم وقد وصف العالم دارت هذا المخلوق بشبه الإنسان الحالي لكنه أصغر حجماً ووزنه حوالي 45 كغم ويدل شكل الحوض أنّه كان يمشي منتصباً وأطلق عليه (الاستربيتكوس) ومن خلال الأدوات الحجرية البسيطة التي عثر عليها بجوار هذا الهيكل استدل العلماء أنّه كان يستخدم يديه للمسك وللدفاع عن نفسه ويصنع حاجياته من الحجر, ومن ذلك استنتجوا انّه بصناعته الحجرية هذه إشارة إلى تطور دماغه بسرعة, كما أنّ مرحلة المسك باليدين واستعمال السلاح للدفاع وقتل الطرائد تعتبر من المراحل المهمة في ارتقاء الإنسان عبر التاريخ, وبذلك اعتبر العلماء أنّ انتصاب القامة وتحرير اليدين يمكننا أن نعدّ هذا المخلوق أنّه ابن عم الإنسان الحالي لكنه نباتياً, ثمّ وجدت مخلوقات أخرى مشابهة لهذا المخلوق في أمكنة متعددة من أفريقيا لكن وزن الدماغ كان أقرب إلى دماغ القرد الكبير منه إلى دماغ الإنسان الحالي وحجم هذا المخلوق صغيراً إذ يبلغ طوله 4 أقدام في حين يعتقد العلماء أنّ دماغ الإنسان قبل مليوني سنة كان أكبر من ذلك الذي عثر عليه, إنّ التركيز في بحوث العلماء على الرأس لأسباب منها أنّ عظم الجمجمة يترك بقايا عظميه دائمية عكس باقي العظام وأنّ معظم المتغيرات التي تعرض لها الإنسان خلال ارتقاءه هي حجم ووضع الرأس والجانب الآخر هو أنّ الرأس حافظة مركز الإدراك ومبعث الارتقاء الفكري, إنّ اكتشافات العلماء لإنسان (الاستربينكوس) وما حوله من أدوات حجرية بسيطة استنتجوا منه استنتاجين غاية في الأهمية وهما: الأول هو أنّ المهارة اليدوية البسيطة بصناعة هذه الأدوات الحجرية والتفكير بالمستقبل وذلك من خلال خزنة هذه الأدوات بمكان قريب من تواجده, هذين الأمرين أزالا عائقاً أساسياً كانت تفرضه الطبيعة على كل المخلوقات إذ أنّ الاستعمال الطويل لنفس الأداة يدل على قوة اختراعها وكثرة وتعدد احتياجها, أما الأمر الثاني الذي استنتجه العلماء فهو ذو صيغة اجتماعية فالأعداد الكبيرة من إنسان (الاستربيتكوس) التي عثروا عليها تشير إلى أنّهم ماتوا قبل سن العشرين وهذا يعني أنّ هناك الكثير من الأطفال اليتامى تتولى رعايتهم تنظيمات اجتماعية بالمعنى المتعارف عليه الآن وأنّهم كانوا جزءاً من المجتمع الذي كان يشرف على تربيتهم وهي خطوة عظيمة في طريق الارتقاء الاجتماعي والفكري للإنسان✺1 إنّ مورغان في وصفه المجتمعات عصر المشاعية البدائية يشير إلى إن الذكور من الأطفال رغم التحاقهم بالأم نسباً إلا أنّهم كانوا ملك القبيلة وليس من المستبعد أنّهم انتظموا بمجموعات ويذهب مورغان بأنّ الإنسان بتلك الحقبة كان يعيش الغابات الاستوائية ساكناً بالأشجار خوفاً من الوحوش المفترسة.✺2 الإنسان الآدمي الأول: قبل مليون عام ظهر الإنسان الذي يمكن تسميته جنس البشر في الأرض في الصين وهو الإنسان الذي استعمل النار ويرجح العلماء عمره بحدود أربعمائة ألف عام ويتميز عن (الاستربيتكوس) بصفات تقربه من الإنسان الحالي كما أنّ الأدوات الحجرية المكتشفة قربه أكثر رقياً من تلك التي وجدت قرب إنسان (الاستربيتكوس) مما يستنتج منه أنّ هناك ثقافة بدائية آخذة بالنمو والارتقاء. وفي القرن التاسع عشر وجدت آثار إنسان (النياتدرتال) في ألمانية ويرجح العلماء عمر النياندرتال بحدود مائة ألف سنة, إنّ الاختلاف الذي وجد بالنياندرتال عن سابقيه هي وضوح مقابلة الإبهام لبقية أصابع اليد وهذه يعتبرها العلماء ________________________________________ ✺ الانثربولوجيا وتنمية المجتمعات المحلية- د. محمد صفوح الأخرس- وزارة الثقافة السورية – 2001-ص151. ✺ مشكلة المرأة / الحل التاريخي – د. بدر الدين السباعي- دار الجماهير- دمشق 1985-ص62. أهم سمة تطورية وقد استنتجوا ذلك من دقة الصناعات البدائية التي وجدوها قربه إذ ظهر على هذه الأدوات تغيراً في نوعيتها وهو ما يشير إلى تحسن بايولوجي في اليد وفي المراكز الدماغية التي تسيطر على حركة اليد, وهو ما ينفرد به الإنسان الحالي عن بقية المخلوقات وهو أنّ المركز المختص بتحريك الإبهام في المادة الدماغية أكثر من تلك المخصصة للصدر والبطن معاً, ولهذا برع الإنسان عن غيره من المخلوقات باستخدام اليد. الإنسان العاقل: تميز الإنسان العاقل عن سابقه الاستربيتكوس بالتقدم البايولوجي والفكري الذي اكتشف في أدواته لأنّ ذلك يعكس إفراز سلوكيات جديدة ولو أنّ السلوك الإنساني لا يترك آثاراً حفرية لكن استدل عنه من العظام والأسنان ويتمتع الإنسان العاقل بميزات تفتقر إليها باقي الحيوانات أهمها: 1- التركيب المخي المعقد من خلال وجود مراكز خاصة بالإنسان منها الجزء الخاص بالكلام والموجود في موقعين من الدماغ وكليهما يقعان بالفص الأيسر منه إلا ما ندر ودماغ الإنسان مبرمجاً ليكون قادراً على التعلم. 2- وجود مركز التوازن والحركة في الأذن الوسطى الذي يميزه بالمشي والوقوف في وضع الاعتدال. 3- التركيب الخاص للقدم الذي يساعده على هذا الاعتدال . 4- الحوض أكثر اتساعاً وأقل عمقاً. 5- طول الساقين مقارنة بالنسبة للجسم ولنسبة طول الذراعين . 6- السلسلة الفقرية المرنة التي مرونتها مكنت الإنسان أن يجمع بين الاستقامة والانثناء. 7- التركيب الخاص لليدين الذي يمكنها من الاستخدام لتناول الأشياء وليس للمشي. وعليه فإنّ التغيرات التي طرأت على الإنسان خلال ارتقاءه لم تحدث بشكل قفزات ومتعاجلة بل استغرقت بما يزيد على مليون سنة وبالتدرج المتناسق لتصل إلى ما نراه اليوم, فارتقاء البناء البايولوجي رافقه تغيير سلوكي, فارتقاء الدماغ واليد والعيون والأقدام والأسنان والهيكل الإنساني الكلي نتج عنه مواهب إنسانية متباينة وخارقة بذات الوقت, رسمت الصورة التي ميزته عن باقي الحيوانات الراقية فسيولوجياً وسيكولوجياً . الإنسان والتكيّف البيئي يشير العالم الاجتماعي والفيلسوف أوغست كونت بأنّ نظريات الاجتماع تتبدل بتبدل الإنسان والإنسان يتبدل إذا تبدل محيطه علماً أنّ المحيط يتأثر بالمعطيات المادية والمثالية,✺ إذن مذ خُلق الإنسان إلى اليوم يترابط مع البيئة ترابطاً جدلياً فالبيئة تجبره على تكييف ذاته ليبقى حيّاً فيقوم بترويض وتطويع البيئة لتلائم حياته فيرتقي مرحلة تنخلق بها فجوة _____________________________________________ ✺ المدخل إلى علم الاجتماع – أ.د.إحسان محمد الحسن- دار الطليعة – بيروت -1988-ص48. بينه وبين البيئة فيضطره ذلك إلى إعادة تكييف البيئة وهكذا فهو بتكيف للبيئة ويكيفها لحاجاته هناك فروق فيزيائية بين الإنسان وأقرب الحيوانات إليه (القرود) التي اعتقد العلماء أنها تشاركه بكثير من الخصائص, لكن اكتشفوا لاحقاً أنّ الحيوان المنقرض لا يترك أثراً, لما كان هو عليه أما الإنسان فإنّه يترك أثراً لما كان قد ابتدعه, ففي مجال التكيف البيئي كان الحيوان أسرع تكيفاً مع البيئة من الإنسان, لكن الذي أدهش العلماء أن الحيوانات لا تتطور إلا قليلاً جداً وذلك من دراسة هياكلها العظمية, في حين دراسة الهياكل العظمية للإنسان تشير إلى انّه تطور وارتقى كثيراً, ويعتبر العلماء أن أوسع قفزة ارتقائية للإنسان حدثت عندما مال الطقس للجفاف في إفريقيا, ورغم أن ارتقاءه هذا استغرق عدّة ملايين من السنين مع ذلك فهو أسرع من تطور أي حيوان آخر, إنّ علماء التشريع والفسيولوجية للمخ بالتنسيق مع علماء نفس النمو يربطون بين تطور ردود فعل الجنين بدأ من رفساته في بطن أمه إلى الحركات الإنعكاسة لأرجله بعد الولادة إلى الزحف بها ثمّ الحبو ثمّ الانتصاب والمشي كلها يعزونها إلى محفزات من الأدنى إلى الأعلى رقياً بفعل النشاط الدماغي التطوري وتحديداً في المخيخ, وهي نفس المحفزات التطورية الارتقائية التي تدفعه للانتقال التطوري من مرحلة إلى أخرى عبر ملايين السنين. لقد واجه الإنسان قساوة الطبيعة وخاصة البيئة المناخية وتشير الدراسات أنّ الإنسان المكتشف في الصين كان في اجتيازه العصر الجليدي الأول قد لازم الكهوف خلالها لأربعمائة ألف عام خلت ويعتقدون أنّ اكتشافه للنار كان في هذه المرحلة, أما إنسان النياندرتال فيعتقدون أنّه عاش في العصر الجليدي الثاني أي بحدود قبل مائتي ألف سنة خلت ✺ (تشير المعلومات التي دونها د, مصطفى جواد واحمد سوسة ومحمود فهمي درويش في مجلدهم تاريخ العراق ص6 إنّ إنسان النياندرتال المكتشف في كهف شاندر في شمال العراق – قرب مبركة سور يعود لثمانين ألف سنة خلت), تعقيب: لا بد لي أن أفيد الطلبة الدارسين لهذه المادة بشيء من تجربتي العملية فقد عشت بجوار الكهف الذي عثر فيه على إنسان النياندرتال ولمدة سنتين (2005 -2007), أنا اعتقد أنّ موقع الكهف يشير إلى أنّ الإنسان الذي سكنه كان يتمتع بدرجة عالية من الذكاء ولديه خزين معرفي اختزنه من تجارب الطبيعة, انّه مكان لا يمكن أن يغلق غزارة الثلج مدخله إطلاقاً حيث تحطيه فطوع عالية جداً من كل الجهات عدا جهة الجنوب غرب وهو الاتجاه الذي تدخل أشعة الشمس منه إلى الكهف وبنفس الوقت لا توجد تيارات هواء من هذا الاتجاه طيلة أيام السنة بأكملها, على كل حال اختيار الكهف يشير إلى ذكاء الإنسان بمعنى الكلمة. يعتقد العلماء أنّ حضارة الإنسان المعترف بها الآن بدأت بالتشكل في نهاية العصر الجليدي الرابع أي قبل حوالي خمسة عشر ألف سنة خلت وأنّ كل الآلات والأدوات التي عُثر عليها والرسوم التي زينت الكهوف التي عاش بها الإنسان تلقي الضوء على التطور الفكري والحضاري للإنسان في مراحله الأولى ومن أبرزها اكتشافه للنار, ورغم أنّ العلماء يؤكدون استفادة الإنسان من النار لأغراض مختلفة كالتدفئة وطرد الوحوش المفترسة وتنظيف منطقة على شكل فسحة من الأشجار, وعمل تحويلات بالمادة كالطبخ وتجفيف الأشجار وتسخين الحجارة وتفتيتها, واكتشافه للمعادن بواسطة النار الذي تعتبر قفزة كبيرة في سلم الارتقاء تضاهي ابتكاره للأدوات الحجرية وذلك لأنّها أداة لتفكيك المادة, وكل هذا لكن لن يتمكن العلماء تحديد العصر أو المرحلة التي اكتشف بها الإنسان كيفية إيقاد النار, أي كيف أوجدها هو عندما لم تكن موجودة, لم يترك لنا الإنسان منذ عاش بمأواه الكهف قبل حوالي مليون سنة إلا آثاراً عن حياته قبل ثلاثين ألف سنة عاشها كراعي وكصياد ولم يترك لنا أثراً يوضح ما كان يفكر به خلال تلك الفترة إلا في نهاية المرحلة التي كان يغطي أوروبا فيها الجليد وذلك من خلال ما عثر عليه في كهوف اكتشفت في فرنسا وإسبانيا, فقد شكلت الرسوم التي تفشت في تلك الكهوف صورة لما كان يشغل عقل الإنسان وتفكيره وهي عبارة عن صور الحيوان الذي عاش معه وطارده, والتي هي أيضاً لم تفسر لنا خياله وتصوراته بقدر ما تدلنا على مخترعاته ويتسائل العلماء لماذا ترك الإنسان هذه الآثار وعلى ماذا تدل بالنسبة له ولماذا سكن هذه الكهوف, وذهب معظمهم إلى تفسير ذلك بانّ الإنسان أراد أن يعبر عما بداخله عن القوة وانّه عليه أن يكون مستعداً لمواجهة هذه الحيوانات بقوة عند وقت الصيد, مثلما نسميه الآن يعلم النفس عندما نريد أن نزيل مخاوف الطفل من شيء يخافه بانّ نجعله يعيش ذلك الشيء تدريجياً لتبديد مخاوفه منه, ولذلك تمثل هذه الصورة بالنسبة له نظرة نحو مستقبلة بالصيد وهي بذلك تعتبر منظار خاص بالخيال والتصور, وذلك لأنّ الصورة الجامدة ما لم يرسم حركتها خيال المشاهد لتمثل له الحقيقة الخيالية التي رسمت بذهنه وتمنحها الروح . يعتقد العلماء أنّ الإنسان اجتاز قساوة العصور الجلدية بذكاءه الجماعي فقد غيّر إستراتيجيته الغذائية للاعتماد على الحيوان أكثر من النبات وفي هذا الجانب أيضاً اختار العيش على مقربة من الحيوانات التي نظامها الاجتماعي العيش بشكل قطعان وليس فرادي فضمن بذلك عدم فقدان أثرها وتحقيق صيدها, ومن الحيوانات تعلم الإنسان الهجرة من مكان لآخر يعقب هجرتها وبذلك أصبح الحيوان هو الذي يحدد مكان وزمان وسرعة الهجرة, ومن جانب آخر كسب الإنسان أنّ مصدر غذاءه أصبح ينتقل معه أينما حلّ وأينما ارتحل, وحتى يومنا هذا يذكر العلماء أنّ بعض قبائل (اللاب) التي تعيش شمال اسكندنافيا يعقب البشر فيها هجرة حيوان (وعل الرنة) الذي يعيشون عليه بهجرته عبر خلجان شبه الجزيرة الاسكندنافية, وفي نهاية العصر الجليدي وجد الإنسان نفسه على بقعه خضراء زاهية ترعى فيها قطعان الحيوانات ومن هذه المرحلة انبثقت الثورة الزراعية الممتزجة بتدجين الحيوان والتي شكلت قفزات متعاقبة حققت انجازات هامة سيطر من خلالها الإنسان على البيئة في أهم مظاهرها الحياتية, رافق ذلك ثورة حضارية تمثلت في استقرار الإنسان بتجمعات قروية ظهرت فيها الملكية للثروة الزراعية, حيوانية وتغيرت النظم الاجتماعية في القرابة والزواج والأسرة فيما بقيت بعض القبائل جوالة رحالة تجوب القفار مع الحيوانات أو معقبة لها وإلى يومنا هذا ومثال ذلك قبائل (اللاب) في أقصى شمال أوروبا وقبائل (يختياري) في إيران وقبائل (بدو) الصحراء العربية بالجزيرة والمغرب العربي, ويرى الباحثون أن أكبر خطوة في تاريخ ارتقاء الإنسان هي مرحلة التحول من البداوة إلى الاستقرار لما حققه للإنسان من بناء اجتماعي وحضاري واقتصادي وعلى كل الأصعدة الأخرى. كيف ظهرت الأجناس البشرية: إنّ التطور البايولوجي الذي يتميز به الإنسان جعله بتكيف مع كل أنواع البيئات والوسط الذي يحيط به, فالإنسان لم يترك نظامه البايولوجي الحياتي متأفلماً مع بيئة واحدة كبقايا الحيوانات حيث منها البري ومنها المائي ومنها الذي يطير فهو امتاز بعدم سجن نفسه في بيئة واحدة إذ أنّ ذكاؤه وتركيبته العاطفية وشدة بأسه جعلته يسعى إلى التغيير, فانتشر في مساحات شاسعة في تلك البقاع الخضراء سعياً وراء الصيد والطعام فعاش بمجموعات صغيرة على تلك البقع الخضراء, ووقفت الحواجز الجغرافية الطبيعية (بحار جبال) عائقاً أمام فقرة التكنولوجي مما أدى إلى انعزاله وتهيئة الشروط المثلى لنشوء العروق البشرية, ولو أننا بنو البشر متجانسون نوعاً ما رغم حدوث متغيرات بايولوجية إلا أنّها لم تكن كبيرة لأننا انتشرنا في بقاع الأرض من مكان واحد. إنّ العرق هو ما يتقاسمه الأفراد من صفات موروثة مشتركة دون أن يكون لهم بالضرورة بنية وراثية مشتركة حيث لا يوجد شخصان متشابهان وراثياً إلا التوائم المتماثل, والعرق نموذج معمم للفروق الموروثة الواقعة ضمن نوع واحد وحافظ عليها فعلاً في تجمع معين, فالعرق هو ناتج فروق تبدل الموروثة, ولذا يجب أن لا تلعب الفروق غير الموروثة أي في هذا المجال ويجب عدم الخلط بين الصفات المكتسبة كاللغة, والعادات, والدين وبين السمات العرقية والتي هي ما تحمله المورثات ويمكن نقله من الآباء إلى الأبناء عن طريق الوراثة البايولوجية الجسدية. إنّ الفروقات البايولوجية الموروثة كلون البشرة مثلاً فرضته الطبيعة الجغرافية لموطن مجموعات بعينها فإنّ أشعة الشمس على خط الاستواء قوية جداً فخلق الله لون البشرة الأسود لكي لا يتأثر البشر من كثرتها بينما في أوروبا أشعة الشم ضعيفة لكن الإنسان يحتاج إلى فيتامين D الصادر منها, ولهذا خلق الله بشرتهم بيضاء لكي لا تحجز أي شيء من الأشعة الساقطة عليها. لقد تأقلم الإنسان بشكله الظاهري مع أوضاع البيئة التي يعيش فيها من خلال سلسلة من العمليات الارتقائية التطورية والتعديلية في داخل بناءه الجسمي وبآلاف السنين وبذلك تعددت الصفات الجسمية مما أوجد تقسيمات للأجناس بضوء هذه الصفات سواء الظاهر منها أو المخفية, كلون البشرة ونعومة الشعر ولونه وطول القامة وشكل الرأس والفك والأنف وسعة العيون ولونها, وتسطح الجبهة وعلوها, وعلى أساس هذه الصفات قسم العلماء البشر إلى مجموعات جنسية كبرى هي (القوقازيين) و(الزنوج) و(المغول) والتي يماثلها حسب لون البشرة على التوالي الأبيض والأسود والأصفر, أن هذا التمايز العرقي حدث في عصور بعيدة جداً خلال الارتقاء البشري. أما العوامل التي تحدد درجة التمايز بين العروق فبعضها بايولوجي بحت مثل معدل الطفرة أو التغير الوراثي وكذلك الجنوح العشوائي الوراثي وهذه محددات فنية في علم الوراثة لا تعنينا لكن الذي يعنينا هو العوامل البيئية والاجتماعية وهي: 1- القدرة التكيفية لهذه التغيرات. 2- دور حجم الجماعة التي تتميز في الصفات التي تميزها كجنس. 3- طول المدة الزمنية التي تحافظ فيها المجموعة على انعزالها وهذه تحددها عوامل جغرافية ونظام الصيد وحقوق الملكية الإقليمية. وازداد حجم التجمعات البشرية وتقدمت التكنولوجيا لتصنع كل حاجات الإنسان وتكسرت الحواجز الجغرافية وحدث الاختلاط بين المجموعات البشرية بواسطة الهجرات واختلطت الأجناس عن طريق التزاوج واختلطت صفات المورثات فتأثر توزيع المورثات الناتج عن ذلك فحدث فيض كبير فيها وبرزت للعالم شعوب جديدة كثمرة لاختلاط العروق. الارتقاء الفكري للإنسان يتميز الإنسان عن الحيوان بالعمليات الذهنية فسلوك الإنسان نتيجة سلسلة هائلة من العلميات الذهنية أما الحيوان فسلوكه تحكمه الغريزة والغريزة عند الحيوان أشبه ما يكون بنظام الكومبيوتر المبرمج خلقه الله سبحانه وتعالى هكذا فالحيوان لا يمتلك الإدراك ولا حريّة الاختيار ولا التذكر ولا التوهم ولا التفكير ✺1 إنّ الارتقاء الفكري للإنسان هو خلاصة العمليات الذهنية التي تقيّم العناصر البايولوجية والاجتماعية والحضارية له وتقوده إلى قفزة للأمام في تغيير واقعه إلى ما يريده ويخطط له ويتمناه, فالإنسان أهم عملياته الذهنية هي التي تقوده لرسم صورة المستقبل وهذه أهم مواهبه أنّه يخطط بعقله ويبني المخترعات بجسمه من عصر لآخر وهذا هو التطور الحضاري الفكري أو ما يسمى بارتقاء الإنسان وهذا لا يقف عند حدٍّ معين فالإنسان يتميز عن الحيوان بأن نظامه المعرفي يتكون من الاكتشاف والتحليل والاكتشاف يتحقق بالملاحظة والمراقبة والاختيار وبعد الجمع يقوم بالتحليل والاستنتاج والتفسير✺2 ثمّ التطبيق والبناء في كل مجالات نشاطه الفكري والجسمي وهكذا فالاختراعات الضخمة التي حصلت خلال العصور والحضارات المختلفة في العلوم والفنون والتكنولوجيا هي تعبير عن تصاعد مستمر في سلسلة مدارك الإنسان, أي ارتقاء سلم العمليات الذهنية والمواهب. إن عملية الارتقاء التي تتحقق في العمليات الذهنية للإنسان هي ناتج عملية الاكتشاف التي أشرنا لها أعلاه بأن أحد مراحلها هو التجريب أو الاختبار , فالتجريب هو الذي يقيّم الحال الواقع ويعطي للشخص صورة للتطوير أو التحديث أو التجديد بشكل أفضل للحال القادم, هذه العمليات الذهنية يتميز بها الإنسان فقط وبها أنجز الكثير من الاختراعات في المجال البايولوجي ففي مجال الزراعة حول القمح البري إلى نوع أهلي وروض الحيوانات التي استخدمها لمنفعته كالخيول, أما في مجال الاكتشافات الحديثة فالقائمة كبيرة جداً, إذن خلاصة الارتقاء الفكري للإنسان هو قدرته على رسم صورة المستقبل من خلال استخلاص النتائج عما يراه الآن, أي قدرة عملياته الذهنية على شمول الزمان والمكان _____________________________________ ✺1 ثقافة تربية الأطفال بين الوعي والعلم – شاكر الخشالي – دار بصمات – سورية 2010-ص81. ✺2 علم الاجتماع – روبرت نسيت – دوبرت بيران – ترجمة جرسي خوري- دار النضال – بيروت – 1990-ص19. وخلال الفترة الزمنية من (1930 -1940) استطاع علماء الانثروبولوجيا إيجاد حقائق حول قابلية الإنسان على التغيير الفكري والاجتماعي خلال فترة زمنية قصيرة وهذا ما ساهم مساهمة فعّالة في توجيه الدراسات الاجتماعية توجيهاً مثمراً✺1. البناء الحضاري للإنسان سأتناول تحت هذا العنوان كيف أنّ الارتقاء الفكري للإنسان قاده إلى بناء حضارة كمحصلة ونتاج لجهوده السالفة للصراع مع البيئة وتطويعها لصالحه, فقد كان الإنسان يصارع البيئة من اجل البقاء فكان تفكيره لذاته, ولكن بعد سلسلة من قفزات الارتقاء التي تتخلل بالإبداع والانتقال إلى الأفضل بفعل مجهوده الفكري ومهاراته المتراكمة ومتعته في ممارسة ما يتقن ويحسن عمله, انطلق من معطيات خلقية لبناء حضارة لتفيد تنظيماته الاجتماعية وهكذا أصبح الإنسان في هذه الخطوة يفكر ويبني اجتماعياً وهذا هو سر العلاقة بين الحضارة والمجتمع. مفهوم الحضارة يقول تايلر في بداية كتابه (الحضارة البدائية 1871): تدل كلمة الثقافة أو الحضارة المأخوذة بمعناها الإثنوغرافي الأكثر اتساعاً على هذا الكل المركب الذي يحتوي معاً على العلوم والمعتقدات والفنون والأخلاق والقوانين والأعراف والقابليات الأخرى التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع, أما العالم كليم فقد وصفها بأنّها الأعراف والأعلام والدين والعلم والفن والصناعات الحرفية ووقائع الحياة الخاصة والعامّة في زمن السلم والحرب, وقسّم كليم العروق الإنسانية إلى عروق نشيطة وعروق سلبية وميّز بذلك ثلاثة مراحل للتطور هي التوحش والخضوع والحرية وقسّم نشاط الشعوب إلى : صيّادين ومربي حيوانات ومزارعين ووصف الحضارة والثقافة بأنّها إرث الأجيال الماضية تنقله إلى الأجيال اللاحقة وهذا أمر يجعل الفرد هو المؤتمن على الإرث الاجتماعي✺2 ,نلاحظ فيما ورد أعلاه أنّ العلماء يرادفون كلمة حضارة بالثقافة إذ تشابك مفهوم الحضارة مع عدد من المفاهيم الاجتماعية مثل الثقافة والمدنية والمجتمع والسلوك والفعل الاجتماعي ويتجلى التشابك أكثر عند الولوج إلى أعماق التحليل على المستوى النظري والتطبيقي حيث تتشابك الخصائص المكوّنة لها, إنّ فهم الحضارة يستوجب توضيح تفاعل الإنسان مع البيئة وما نستنتجه من هذا التفاعل من وجود خصائص مشتركة بين الإنسان لا يمتلكها الحيوان وتحديداً في ميزة الإدراك الذهني والذكاء والذاكرة وهذه هي التي مكنت الإنسان من نقل الحضارة ومدّها بأسباب البقاء والاستمرار, وهذا يجعلنا نميز بين الحياة الاجتماعية والتقدم الحضاري فهناك تجمعات حيوانية لا تقلّ شاناً عن تجمعات الإنسان ومثالها ممالك النحل لكنها تعمل بالغريزة ________________________________________ ✺1 موسوعة علم الاجتماع- أ.د. إحسان محمد الحسن- الدار العربية للموسوعات – بيروت-ص474. ✺2 المطول في علم الاجتماع ج2- ريمون بوردن وآخرون- ترجمة د. وجيه أسعد – الهيئة العامة السورية للكتاب – دمشق 2007-ص233. وليس بعمليات ذهنية إدراكية تسترجع الخبرات التراكمية لبناء مركب دائم من مواد الحضارة إذ أن هذا من الخصائص الأساسية للإنسان فقط وخارج نطاق قدرة الحيوان, إنّ المقدرة البشرية على إنتاج الحضارة هي ثمرة جهازه العصبي الذي غاية في التعقيد ولكنه بنفس الوقت غاية بالمرونة وذلك من خلال قدرته على تكيّف سلوكه دون الحاجة إلى تعديل بايولوجي في عضويته, هذه القدرة في جهاز الإنسان العصبي هي التي مكنته من صنع الحضارة والحفاظ عليها من خلال استنتاجات منطقية معقدة وذاكرة عميقة شاسعة لحفظ التفاصيل واستعمال الرموز اللفظية المطابقة لما يدور في ذهنه من أفكار وعواطف وخلجات, ورغم تنوع الحضارة وتعدد العناصر المكوّنة لسماتها إلا أنّ التكامل بين تلك السمات وتفاعل العناصر المكونة لها في إطار واحد يجعلها تجاوز العدد المجرد لها في الصورة المبدعة بذهن المحلل الموهوب الذي ينطلق إلى التحليل الكيفي من خلال العدد الكمي وهذا ما تميز به الإنسان عن الحيوان, ولذلك ترى في مجتمعين لهما نفس العدد من العناصر الحضارية إلا أنهما يتباينان لأنّ عنصر الخلق والإبداع يكمن في التفاعل بين تلك العناصر وهذا يعني أنّ عنصر الجمال يكمن في التكامل وليس في التمايز العددي, فالأنظمة الاقتصادية والاجتماعية والأسرية هي عناصر موجودة في معظم المجتمعات إلا أنّ صيغة تفاعلها هي التي تميز حضارة مجتمع عن الآخر, لكن مع كل هذا يرى العلماء أنّ التناسق التام بين كافة عناصر الحضارة أمراً قد لا يقع إذ يتوقعون أن العناصر المتنافرة قد يلغي بعضها البعض أو قد تصل بالحضارة إلى تركيب جديد وشكل جديد , ورأي آخر للعلماء يقول أن التنافر عادة ما يبرز ويبقى لأنّ الحضارة ليست منظمة بشكل شعوري وموجهة في تطورها وانّ معظم السمات الحضارية يكتسب بالإعارة والإعارة متعددة ومتباينة وطالما هناك حريّة للاختبار فيمكن اختيار عناصر جديدة حتى لو كانت مغايرة لما هو قائم أصلاً لأنّها مرغوبة حتى ولو لم يكن متناسقاً تماماً مع الأشكال القائمة مسبقاً في الحضارة فإنّ ذلك محض صدفة بسيطة فسيجد ذلك سبيله إلى المركب الحضاري كونه يلبي هدفاً معيناً أو حاجة بشكل وافي ولو أن ذلك قد يؤدي إلى صراع داخل الحضارة. يرى البعض أنّ الحضارة المادية ليست حضارة ويسندون ذلك إلى كونها نتاج فكري فهي مولودة من أنماط الحضارة التي تعطي شكلاً لفكرة الإنتاج المادي وأساليب صنعه واستعماله ورغم أنّ دراسة الحضارة المادية تساهم في تعريفنا بالحضارة الواقعية لكن من المستحيل أن نعلم إلا القليل عن حياة شعب ما من خلال معرفتنا لحضارته المادية فقط, فالمعنى المرتبط بالأداة يبقى هو الأهم من الأداة نفسها, فالذي يعثر عليه منقبو الآثار هي بقايا ملموسة لحقيقة غير ملموسة فالحضارة الفعلية تنقرض بزوال المجتمع الذي حملها على الوجود فلا يمكن أن تعيش بمعزل عن المخلوقات البشرية, هكذا يرى هاري-ل-شابيرو بكتابه الإنسان والحضارة والمجتمع✺ ____________________________________________________ ✺ الانثربولوجيا وتنمية المجتمعات المحلية- د. محمد صفوح الأخرس- وزارة الثقافة السورية – 2001-ص182. خصائص الحضارة: تتميز الحضارة بمجموعة من الخصائص شانها في ذلك شان أي ظاهرة اجتماعية فهي موجودة في أي مجتمع من المجتمعات بدائياً كان أم متحضراً قديماً أم معاصراً وهي تتصف بما يلي: 1- إنسانية الحضارة : هي ظاهرة تخص الإنسان فقط لأنّها نتاج عقلي متطورة من المرحلة الرعوية ثمّ الزراعية ثمّ الصناعية وتعلمه من الذين سبقوه وهو بدوره سينقلها للأجيال القادمة لأنها من صنعه ولا تنتقل إلا من خلاله, ومن جانب آخر فإنّ عمومية الحضارة تتعدى نطاق الإنسان لتشمل الأبعاد التاريخية للقيم الاجتماعية التي تسيّر سلوك الجماعات, فالفن والشعر والأدب والفلسفة والدين والمخترعات والكشوف العلمية والمواقف الإنسانية تجاه الشعوب كلّها تكتسب صفة العمومية والإنسانية وترتبط بالقيم والقواعد الأخلاقية التي تكسب الحضارة بعدها الإنساني. 2- الحضارة ذات طابع اجتماعي: إنّ مجمل الأعمال التي يقوم بها الأفراد تتم في نطاق الجماعة وفي رحاب مؤسسات اجتماعية فإنتاج الإنسان صحيح أنّه يبدأ بالفرد لكنه ينزاح إلى الجماعات عن طريق المؤسسات فإنّ كل الأفراد لهم دور المسايرة والاكتساب والانتقاء, فالفرد هو الذي يدير رحى الحركة الاجتماعية لكنها تسوق تحت فكيها ما هو موجود في المجتمع ضمن أصالة فردية تربط بين الفرد والمجتمع والذات والموضوع والشكل والمضمون فيكون الخلق في إطار الجماعة بروح ذاتية مبدعة عبر عنها بعض الفلاسفة (بالكشف والخلق والإبداع والحدس) وكلّها مسميات لما يدور داخل الإنسان من معطيات تتفاعل في الذات مع ما هو معطى لها من الخارج, فالحضارة توجد الأفراد العباقرة والمبدعين وهم بنفس الوقت تأثروا بها ولولاها لما حققوا أعمالهم الكبرى. 3- الحضارة تكاملية (ذات بناء مركب): إنّ الحضارة ذات طابع تكاملي مركب حيث تتكون من عناصر وسمات مادية وفكرية تتجمع مع بعضها في أنماط مادية وثقافية تترابط وتتكامل مع بعضها بفضل بعض العناصر التجريدية التي يطلق عليها اسم موضوعات أساسية أو تشكيلات إذ يقول كلاكهون: إن أسلوب حياة كل جماعة هو عبارة عن بناء وليس مجرد مجموعة عشوائية من أنماط الاعتقاد والسلوك الممكنة مادياً والفعالة وظيفياً فالحضارة نسق تقوم أجزاؤه على الاعتماد المتبادل فيما بينها✺, ويرى البعض أننا يمكن أن نميز بين السمات البسيطة والمركبة المكونة للحضارة من تحليل معطياتها فالسمة الحضارية تتألف من وحدات حضارية تنتقل أو تبتكر من قبل أفراد مجتمع ما, ولا يمكن أن تنفصم إلى أجزاء أصغر منها مثال الزوجين والأطفال سمة أساسية في تركيب العائلة إذ لا وجود لعائلة دون هذه المقومات, لكنها بنفس الوقت هي منظومة فرعية ضمن المجتمع. _________________________________ ✺ المدخل إلى علم الاجتماع – أ.د. معن خليل عمر وآخرون – دار الشروق- عمان 2006-ص183. 4- الحضارة مكتسبة: الحضارة لا يرثها الإنسان بايولوجياً كما يرث لون بشرته ولون عينيه بل يكتسبها بطرق مقصودة كالتعليم أو عرضية من الإفراد الذين يتفاعل معهم ويعيشون حوله منذ ولادته كأسرته وأقرانه وغيرهم من الذين يخا | |
| | | salim 1979 التميز الذهبي
تاريخ الميلاد : 27/05/1979 العمر : 45 الدولة : الجزائر عدد المساهمات : 5285 نقاط : 100012179 تاريخ التسجيل : 06/11/2012
| موضوع: رد: الأصول التاريخية والنظرية للأنثروبولوجيا الإثنين سبتمبر 23, 2013 5:19 pm | |
| الاتجاهات النظرية في الحضارة والمجتمع: يمكن مناقشة هذه الاتجاهات تحت العناوين التالية : 1- الاتجاه التحليلي: تمثل مدرسة هذا الاتجاه أولئك الذين اهتموا بربط الانثروبولوجيا بعلم النفس في صورته التحليلية فواجهوا مشاكل منهجية وعلمية عند محاولتهم تناول العلاقة القائمة بين الشخصية والحضارة, فذهبوا إلى معالجة البناء الأساسي للشخصية مستهدفين اكتشاف ما يحدد مضمون هذه الفكرة ومدى الاختلافات الفردية بينها وبين شخصيات الأفراد المختلفة والوصول لتعليل ما يبدو لنا شاذاً في أوجه الشخصية في المجتمعات البسيطة المنعزلة فالتجأوا إلى نظريات التحليل النفسي, فتوصلوا إلى أن خيرات الطفولة هي مرآة جوانب الشخصية فصبوا جلّ اهتمامهم حول مسائل الحضانة والرضاعة والفطام وترتيبات النظافة وكل العوامل التي تحقق للطفل أمنه وطمأنينته أو تنفيهما إلى الحد الذي ربط بعض الباحثين بعضاً من مظاهر الحياة الاجتماعية كالدين والفن بهذه العوامل الأولية, من هنا بدأت الانثروبولوجيا تهتم بجمع المعلومات عن الطفولة في هذه المجتمعات زائد اهتمامات أخرى لمناهج التحليل النفسية لنشاطات إنسانية كانت مهملة سابقاً كالأحلام وغيرها فأتاح ذلك فرصة لعلماء النفس والطب النفسي بالإطلاع على أنواع السلوك الإنساني في مجتمعات متنوعة الحضارة, فأصبح مفهوم الحضارة بالنسبة لهم يعني مجموع الاتجاهات والأفكار والسلوك الذي يشارك فيه أو يتناقله أعضاء مجتمع ما مع ما يلحق هذا السلوك من نتائج مادية فتوافقوا من الانثروبولوجيين في أنّ الحضارة فيها جانبين أحدهما مادي وآخر غير مادي وخالفوهم الرأي بالجانب غير المادي إذ يراه النفسيون ينقسم إلى أنماط سلوكية تمثل الجانب الظاهر وعقائد وبواعث تمثل الباطن أو المستتر. إنّ علماء الانثروبولوجيا التحليليون يعتمدون في تقسيمهم الحضارة إلى جانب مادي وآخر غير مادي على فكرتين أساسيتين تتمثل الأولى منهما بالمنظمات الاجتماعية والثانية بفكرة البناء الأساسي للشخصية. أ- المنظمات الاجتماعية: هي تكامل أجزاء مجتمع أو مجموعة أو جماعة واعتماد مكوناتها الواحد على الآخر وتبدأ من العائلة وتنتهي بالمجتمع الكبير, إنّ الذي يربط هؤلاء هو الفكر الاجتماعي المقبول (كفكر أو كسلوك) من الجميع والخروج عنه يسبب توتراً عند الفرد أو الجماعة, وقد عرفه كاردينر ولكنه استعمل مصطلح مؤسسة بدلاً من منظمة واعتقد هو الأصح فقال (المؤسسة هو كل شكل ثابت من التفكير أو من السلوك الملاحظ في جماعة من الأفراد يمكنه أن يُنقل ويعترف به الجميع ويحدث انتهاكه ضرباً من الاضطراب لدى المفرد أو الجماعة....كاردينر1969).1✺ ب- البناء الأساسي للشخصية : لقد وضح هذا المفهوم العالم لينتون في كتابه (الفرد في مجتمعه 1939) بأنه مشتق من مفهوم الشخصية السيكولوجي (هو كوكبه من خصائص الشخصية خصائص تظهر أنها ترتبط ارتباطاً خلفياً بمجموعة من المؤسسات التي تتضمنها ثقافة معينة) وتوحي فكرة الشخصية الأساسية بأنّها نموذج من الاندماج الداخلي بثقافتهم وهو اندماج مبني على التجارب المشتركة بين أعضاء الجماعة وعلى السمات الشخصية التي لا بدّ لهذه التجارب من أن تظهرها بصورة طبيعية لينتون 1939)✺2 خلاصة القول : إنّ الشخصية الأساسية هي عبارة عن قاسم مشترك أعظم بين الشخصيات الخاصة الحقيقية للأفراد الذين يشاركون في ثقافة من الثقافات. وعلى هذا الأساس قسم الانثروبولوجيون التحليليون الحضارة إلى نوعين من المنظمات: • منظمات أولية: وهي الأقدم والأكثر ثباتاً ومثالها نظام الأسرة ونظم المجتمع المحلي ونظم تربية الطفولة كالرضاعة والفطام والطعام ونظام المحرمات الجنسية ونظام الاقتصاد ونظام النظافة وغيرها . • منظمات ثانوية: وهي منظمات تنشأ عن المنظمات الولية وتبنى عليها, ومثالها نظم الزواج ونظم الدين والطقوس والآداب الشعبية والقصص والخرافات والتعاويذ وغيرها. 2- الاتجاه التطوري: يفترض التطوريون أن تاريخ الحضارة الإنسانية ليس سوى تتابع متماثل من النظم الاجتماعية والمعتقدات وعلى ضوء ذلك أجروا دراساتهم المقارنة, لكن باعتماد نظرية البقايا التي تشير إلى عادات ومعتقدات استمرت بقوة في مرحلة جديدة في المجتمع تخالف التي وجدت فيها أول الأمر فستبقى هذه دلائل وأمثلة لمرحلة حضارية سابقة انبثقت منها مرحلة جديدة وبذلك يمكن استخدام هذه الطريقة في تتبع الحضارات الإنسانية في تطورها, وقد أقام الباحثون المعاصرون علاقة بين التكنولوجيا والبيئة من جهة وبين نمو الجماعات الاجتماعية والسياسية من جهة أخرى بحيث يمكن أن نفهم بطريقة علمية أوجه التشابه بين مختلف الحضارات, ويتم تعديل ذلك دائماً على ضوء المادة المجموعة من الميدان الذي يجري فيه البحث وأوضحوا أن مراكز الحضارات الكبرى كحضارة وادي الرافدين ومصر والهند والصين ووسط وجنوب أمريكا قد مرت بحقب زمنية كمرحلة ما قبل الزراعة ثمّ الزراعة البدائية ثمّ مرحلة الوسائل الصناعية الفنية ____________________________________ ✺1 المطول في علم الاجتماع – الجزء الثاني – ريمون بودون وآخرون- ترجمة وجيه أسعد – الهيئة العامة السورية للكتاب ص239. ✺1 نفس المصدر نفس الصفحة.
ثمّ مرحلة الانتشار والسيادة, ولو تم التغاضي عن بعض الفروق الفردية فيها لأمكن رؤيتها أنّها متشابهة حيث بملاحظة حضارات كل حقبة زمنية تبرز بوضوح بعض نواحي التشابه المنتظم لقد قسم مورغان مسيرة المجتمع البشري منذ ظهور الإنسان بجنسه البشري إلى المراحل التالية:
• المرحلة الوحشية: وتقسم إلى عليا ووسطى ودنيا. • المرحلة البربرية: وتقسم إلى عليا ووسطى ودنيا وفي المرحلة البربرية العليا بدأت معالم الحضارة في الظهور باختراع الإنسان للكتابة واستخدامها في حياته اليومية وأصبح الإنسان غنياً بأدوات عمله وإنتاجه ودفاعه إذ ظهرت الأدوات الحديدية المتقنة ومنفاخ الحداد والرحى اليدوية ودولاب الفخار وعربات النقل ومركبات الحرب وبناء السفن وتطور فن البناء والمدن المحصنة كل ذلك غدا تراثاً غنياً دفع مسبر التطور إلى الأمام بعيداً وأهم متغير هو تعلم الإنسان تحويل المنتجات الطبيعية إلى منتجات جديدة أي الصناعة والفن.✺ • مرحلة العبودية. • مرحلة الإقطاع. • مرحلة الرأسمالية . وهناك رأيين في الانتقال والتطور الحضاري الرأي الأول نظرية التطور وفق الخط المستقيم باتجاه الأمام دائماً مع الإشارة إلى أن المجتمع يمر بمراحل متباينة حسب الظروف الموضوعية والذاتية فهي التي تساعد على الانتقال من مرحلة إلى أخرى أو أحياناً يحدث حرق المراحل أو تراجع البنيان الاقتصادي والاجتماعي إلى الوراء والرأي الآخر هو رأي المفكر والفيلسوف العربي ابن خلدون الذي يرى أن الحضارة كالإنسان يشب يافعاً ثم شباباً ثمّ كهلاً ثمّ شيخاً فعجوزاً وتظهر حضارة جديدة وهكذا. 3- الاتجاه الوظيفي: أعيد لذاكرة القارئ أنّ مصطلح مجتمع معناه يدل على نسق غير مادي مثلما تقول أنّ الإنسان عنده دماغ, والدماغ هو شيء مادي يعني كتلة من الخلايا الخاصة ولكن عندما نقول الإنسان عنده عقل نعني به النشاط الوظيفي لهذه الخلايا الدماغية ونشاطها المبرمج الهائل المصنف بكلّ الدّقة والمؤرشف بكلّ التنظيم يسمى العمليات الذهنية, ومصطلح مجتمع يعني كل العمليات التي تربط مجموعة ما من البشر ليكونوا كتلة بشرية تتميز عن غيرها بسمات وخصائص, فهذه العمليات التي تربط الكتلة البشرية هي ________________________________________ ✺ مشكلة المرأة / الحل التاريخي – د. بدر الدين السباعي- دار الجماهير- دمشق 1985-ص64. حضارتها ولهذا شقّ على العلماء أن يضعوا فاصلاً بين الحضارة والمجتمع لكنهم لم يصلوا لفاصل مقنع, وبذا يرى العلماء أنّ من الدلائل التي تعبر عنها الوظيفية هي الإسهامات التي يقدمها عضو بمجموعة ما لجماع أو جماعة من الجماعات لأعضائها أي أنّها تكامل في نطاق الكل بشكل عام وإسهاماً محدداً في نطاق الجزء بشكل خاص, وخير مثال على ذلك الأسرة فإنّ وظيفتها هي إمداد المجتمع بالبشر ليبقى مجتمعاً والمجتمع يمد الأسرة بسبل بقاء كيانها كأسرة من مستلزمات اقتصادية واجتماعية, يقول أوكست كونت وهو مؤسس الوظيفية أن المجتمع وحدة واحدة تكونه بناءات ونظم ومعتقدات وأخلاقيات تربطها علاقات متساندة تلبي في مجموعها الوظائف الضرورية لاستمرار المجتمع, ويتضمن افتراض الترابط والتساند في العلاقات أنّ دراسة أي من الأجزاء تفترض تناوله في إطار الكل وعلاقته بالأجزاء الأخرى معتقداً أنّ مثل هذا التناول التكاملي بناءً وظيفياً ويمكن أن يؤدي إلى بناء نظريات وقوانين عامّة وشاملة ✺1 , كما يرى علماء الوظيفية ارتباط مفهوم الوظيفية بالغائية إذ يرون أنّ ظواهر الحياة بأجمعها تسير إلى غاية موجهة وفقاً لنظام ثابت ومحدد يؤثر فيه كل عضو من الأعضاء بالأعضاء الآخرين ويستجيب لتأثيرات من أولئك الأعضاء. كما استخدم علماء الاجتماع تعبير الوظيفية للدلالة على ترابط الظواهر الاجتماعية بعضها مع البعض في نسق وظيفي يوضح وظائف الأجهزة الاجتماعية التي تقوم بها من أجل استمرار حياة المجتمع الإنساني والتفاعلات التي تتم فيه, وأكدوا أنّ أي حضارة يجب النظر إليها بكونها كلاً وظيفياً متكاملاً ترتبط بالنسق الاجتماعي العام الذي وجدت فيه, ومثال ذلك تداخل النظام الأسري والاقتصادي فالفقر يكون سبباً في تفكك الأسرة في أغلب الأحيان وبنفس الوقت تفكك الأسرة يؤثر سلباً على النظام الاقتصادي, يقول رادكليف: إنّ من الظروف الضرورية لبقاء المجتمع توفر حدّ أدنى من التكامل بين أجزاءه ومكوناته وبهذا يشير مصطلح الوظيفية إلى العمليات التي تحافظ على استمرار التكامل والتضامن وأنّ الأوجه البنائية للمجتمع (البناء الاجتماعي) تساهم في هذا مما عزى به إلى الاهتمام ببناء القرابة والطقوس الدينية لما تقوم به من وظائف في تحقيق التكامل والتضامن ✺2, إذن كل جزء من أجزاء المجتمع لا يفهم إلا من علاقته بالكل ويرى الانثروبولوجيون الوظيفيون أنّ الذي يفسر لنا السمة الحضارية ويعطيها ذاتيتها هو وظيفتها في الحضارة والطرق التي تؤثر بها وتتأثر ببقية المكونات الأخرى للنظام الحضاري وليس تاريخها وتطورها وبهذا فإنّ دور عنصر الزمن هو دور ثانوي, لكن عندما يعكف هؤلاء لدراسة أي حضارة وتحديد الوظيفة النهائية لها فلا بدّ أن يلجأوا في تفسيرهم هذا إلى التاريخ لا للوقوف على المراحل التطورية بل ليظهروا العلاقة بين _________________________________- ✺ (نظريات معاصرة في علم الاجتماع – شاكر الخشالي – الموقع الإلكتروني للأكاديمية العربية المفتوحة بالدنمارك-2010-ص15) ✺(نفس المصدر نفس الصفحة)
الحضارة في أوجهها الرئيسية وبين الحاجات الإنسانية أي يقيمون العلاقة النسبية بين متطلبات الإنسان الجسمية والنفسية والوسائل التي يُرضي بها هذه المتطلبات وقد فسر ذلك العالم الانثروبولوجي مالينوفسكي بقوله: إنّ الإنسان بحاجة إلى إرضاء سبع حاجات بايولوجية أساسية إبقاءً لوجوده يقابلها في كل مجتمع نظام حضاري خاص بإرضاء كل واحدة من هذه الحاجات وحددها بمايلي: • التمثيل الغذائي : ويقابله نظام تعين وتقسيم الأطعمة. • الحاجة إلى التناسل والتكاثر: ويقابله نظام الزواج والقرابة. • الحاجة إلى الراحة الجسمية: ويقابلها البحث عن المأوى وطريقة إعداده. • الحاجة إلى السلام والأمن: ويقابلها وسائل الحماية المختلفة. • الحاجة إلى الحركة: ويقابلها أوجه النشاط المختلفة. • الحاجة إلى النمو: ويقابلها وسائل التدريب المختلفة سواء كان منها الجسمي أو الاجتماعي. • الحاجة إلى الصحّة : ويقابلها النظم الأساسية التي تحفظها. وهذه الاستجابات الحضارية للحاجات الجسمية تخلق من جديد حاجات أخرى مشتقة تتميز طبيعتها هذه المرة بأنها حضارية لا بايولوجية, فوسائل تحديد أنواع الطعام وطرق تقديمه وطرق تناوله تعتبر من أساسيات إرضاء الحاجة وحتى البقاء وهكذا بقية الحاجات السبعة التي ذكرها مالينوفسكي جميعها حتمية وضرورية ويمكن أن نضعها تحت أربعة أقسام حضارية كل قسم منها يجد إشباعاً له في ركن من أركان الحضارة, فالنظام الاقتصادي هو الممول والمنظمات الاجتماعية هي المنظم والموجه والمحدد للعلاقات التفاعلية بين الأفراد أما النظام المعرفي الفكري أو المهني فهو أداة الاستجابة لمعرفة الأدوار الاجتماعية , أما النظام السياسي فهو السلطة التنفيذية التي تمتلك حقّ الإجبار الشرعي لتنفيذ التشريع, وكل هذه النشاطات للأقسام الأربعة من الحضارة تحفظ وتورث بواسطة التقليد والذي أساسه اللغة. فالخلاصة أنّ الوظيفيين ينظرون إلى تفسير الوقائع الانثروبولوجية في كل مراحل تطورها ونموها من خلال وظائفها ودروها في النظام الحضاري المتكامل وترابط هذه الوظائف مع بعضها داخل النظام وعلاقة النظام ببيئته المادية فتكون حقيقة الحضارة تتمثل بالترابط العضوي بين أجزائها, وبالوظيفة التي يؤديها كل جزء تفصيلي في محيطه وبالعلاقة بين هذا المحيط الحضاري وبين البيئة الطبيعية من جهة والحاجات الإنسانية من جهة أخرى. تداخل مفهوم الحضارة مع مفاهيم أخرى: نوهنا في مكان سابق عن تداخل مفهوم الحضارة مع مفهوم المجتمع ببضعة سطور لكن سنبين هنا تفصيلاً تشابك المستويات التحليلية لمفهوم الحضارة مع كل من الفعل الاجتماعي والثقافة والمدنية والمجتمع. 1- الحضارة والفعل الاجتماعي: الحضارة هي رموز للفعل الاجتماعي المستخلص من السلوك الجمعي, فكما أننا لا نستطيع ملاحظة الفعل بل نلمس آثاره ونتائجه, كذلك الحضارة لا تستطيع ملاحظتها مباشرةً بل نلمس واقع الناس ونشاطهم وحياتهم اليومية من إنتاج وتداول واستهلاك وثقافة وتفاعلات وتواصل وتقاطع وغير ذلك, إلى أن يتحول هذا التعميم الواسع للفعل الاجتماعي إلى قوة ضغط تجبر الجماعة على ما يجب أن يكون عليه فعلهم وهذا ما يعرف بالتصنيف الحضاري بـ(النمط المثالي المعياري) والذي هو طموح ذلك المجتمع فيضع له مقاييس تلتزم بها المعايير المرتبطة بالرموز الاجتماعية في السلم الحضاري, لكن أحياناً لا ننسق الأنماط السلوكية مع هذه المعايير فتخرج عن الأنماط المثالية المعيارية وتتوائم مع الواقع, أي أنّ الفعل الاجتماعي بتباين مع النمط المثالي المعياري ويتوافق مع الواقعية, فإذا كانت الأنماط المثالية المعيارية متوافقة ومتوائمة مع ما يحدد الفعل الاجتماعي أي أنها أنماط واقعية عندئذٍ ستقود إلى الأفعال التي يمارسها الإنسان بحياته اليومية ولا يقع تباين, إذن النمط المثالي المعياري للحضارة هو الذي يوجه الفعل الاجتماعي نحو المعايير الحضارية الأساسية والواقع يطوع هذه المعايير للواقعية فتنشأ أنماط جديدة من الفعل الاجتماعي تصبح عبر الزمن رموز وأشكال في السلم الحضاري لتمارس دوراً في النمط المثالي المعياري من جديد وهكذا. 2- الحضارة والثقافة: أكثر مصطلحين اختلف فيهما العلماء وتعددت لهما التعاريف والمفاهيم, فيترادفان عند البعض ويفترقان عند الآخر ويتداخلان في بعض مكوناتها وينفصلان بالبعض الآخر ويصنفان تحليلياً تحت نفس النظريات أحياناً أو كل منهم إلى نظرياته أحياناً أخرى, ومن أبرز العلماء الذين خاضوا في هذا المضمار التنظيري لهذين المصطلحين هم (كروير, كلاهون, تايلور, دوركهايم) يقول تايلور في كتابه( الحضارة البدائية1871) إنّ الفحص التفصيلي للأقوال المأثورة, وللأمثلة السائدة ولأغنيات الأم عندما ترضع طفلها, ولممارسات وممارسات عكسية خاصة بالعلوم الخفية, كم هي إلى حدّ تكوّن الصلة التي تربط الحضارة الحديثة بحالة التوحش الأكثر خشونة بروابط مباشرة وصحيحة✺ علماً أنّ الأنشطة التي ذكرناها هي رموز ثقافية فالثقافة تحمل مجموعة معطيات فكرية وعاطفية ومادية, تكتسب دلالاتها من عمليات التشكل والتعلم والمشاركة فهي تتشكل من تفاعل الأنماط الثقافية المرتبطة بالسلوك اليومي لتكون قانوناً يأخذ شكلاً صلباً أكثر مما في المعاملات اليومية للأفراد وفي العملية الثانية المرتبطة بالتعلم ينتقل التراث الثقافي عن طريق الأخذ والاستيعاب, فتصبح الثقافة إرثاً اجتماعياً توئماً للإرث البايولوجي فارقهما أنّ الإرث البايولوجي يتم طبقاً لمورثات بايولوجية في حين الإرث الاجتماعي يتم عن طريق الأخذ والاستيعاب الاجتماعي ثمّ تتطور الثقافة بالعملية الثالثة من خلال المشاركة التي تشير إلى اشتراك جمع من الناس في موقف محدد, فالألمان يفصلون _____________________________ ✺ المطول في علم الاجتماع ج2- ريمون بوردن وآخرون- ترجمة د. وجيه أسعد – الهيئة العامة السورية للكتاب – دمشق 2007-ص234.
مصطلح الثقافة الذي يعتبرونه في تفسيرهم يدل على التقدم الفكري الذي يحصل عليه الفرد أو المجموعة بصفة عامّة, أما الجانب المادي من حياة الأفراد والمجتمعات فيصفونه بمصطلح حضارة, لهذا عرف ألفريد فيبر الحضارة: (أنها جملة المعارف النظرية التطبيقية غير الشخصية وبالتالي تلك التي يعترف إنسانياً بصلاحيتها ويمكن تناقلها) أما الثقافة فيعرفها: (أنّها جملة من العناصر الروحية والمشاعر والمثل المشتركة التي ترتبط في خصوصيتها بمجموعة وزمن معين)✺ أما عند علماء الانثروبولوجيا في انكلترة فيعرف تايلور الثقافة أو الحضارة بالمعنى الأثنوغرافي الواسع(هي تلك المجموعة المعقدة التي تشمل المعارف والمعتقدات والفن والقانون والأخلاق والتقاليد وكل القابليات والتطبيقات الأخرى التي يكتسبها الفرد كعضو في مجتمع ما) ويتفق معه الرأي الفرنسي إميل دور كهايم ويعتبر الثقافة والحضارة معنى واحد, ويرى علماء آخرون أن الثقافة هي جزء من الحضارة ويعتبرون الحضارة جملة ثقافات تربطها روابط محددة ويستشهدون بمثالنا العربي مثلاً ثقافة المغرب العربي وثقافة المشرق العربي وكلاهما من رحم الحضارة العربية, ومحور آخر ربط فيه أندريه جادانوف مفهوم الثقافة بالالتزام وتميز المثقف وتفاعله مع قضية الجماهير ولكن ليس بشكل غوغائي بل بنفوذ علمي وموضوعي إلى جوهر قضيتهم الذي هو منها, لأنه هو جزء من الجماهير ويتميز بقدرة عالية تسمح بالنفوذ الموضوعي لاتخاذ موقف اجتماعي يدفع إلى جوهر القضية المطروحة وتجاوز الواقع بما يعمل على تغيره لصالح الجماهير, فالثقافة مرتبطة بأوسع الجماهير ومشتقة منها ومعبرة عن مصالحها وتمتد في جذورها إلى تراث تناقلته الأجيال جيلاً بعد جيل والمثقف هو الأداة المنشطة الذي يأخذ من الينبوع بطريقة الاستيعاب الاجتماعي ويغذي براعم الثقافة لتنمو بإطراد وتنتشر ظلالها من خلال البحث والفيء للإنسانية أجمع. 3- الحضارة والمدنية: إنّ التشابك بين هذين المفهومين واسع جداً, والأصوب في توضيح العلاقة بينهما هو الاتجاه صوب الأطر التي تحدد ذلك دون الارتباط بقوالب جامدة تميز أحداهما عن الأخرى, فيرى البعض أنّ المدنية هي المرحلة التي تنضج فيها الحضارة وتبدأ تفقد حيويتها الأصلية وتصبح آلية مقلدة, ويرون أن المدنية هي المصير المحتوم للحضارة, وإنّ التعاقب الذي يعبر عن هذا المبدأ يقودنا إلى الفكرة التي تحلُ على أساسها مشاكل التحول الاجتماعي فالمدنية هي نهاية الاستقرار الذي يعقبه التغيير, كان هذا رأي الارستقراطيين الذين يضعون تقابلاً بين مطالب الروح ومطالب البدن ورأيهم لا يطابق الواقع, ومن أشهر من يتقدم هؤلاء هو العالم أشبنجلر, فالحضارة التي تتميز بالتقدم الفكري والفني لا يعني ذلك أنّ التقدم الاقتصادي مستبعداً ا وانّ الاهتمام بالاقتصاد يقابله إهمال الفكر وتدهوره , هذا غير سليم ولا يوجد تعارض بين الجانبين وبالتالي لا تتعارض مظاهر الحضارة مع مظاهر المدنية. __________________________- ✺ (الانثربولوجيا وتنمية المجتمعات المحلية- د. محمد صفوح الأخرس- وزارة الثقافة السورية – 2001-ص205 لقد عرّف ألفريد فيبر المجتمع بأنّه (مجموعة من الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية) وعرّف المدنية (هي العلم والصنعة أي التكنولوجيا) وعرّف الحضارة هي (الفلسفة والدين والفن) والفارق بين المدنية والحضارة عند فيبر هو أن الكشوف العلمية والصناعية التي تتميز بها المدنية يمكن أن تنتقل من مجتمع لآخر حتى تعم جميع المجتمعات وكذلك من جيل لآخر في نفس المجتمع فهي تراكمية يبدأ الجيل اللاحق من النقطة التي وصل إليها الجيل السابق, كما يمكن أن يقتبسها مجتمع من غيره ويضيف لها أو لا يضيف أي أنّها ظاهرة جامعة لا ترتبط بمجتمع معين, أما الحضارة فإنّها ليست تراكمية ويصعب انتشارها من مجتمع لآخر فهي مستقلة وتسير في اتجاهات مختلفة ولا تتبع نظاماً ضرورياً ولا تسير في خط واحد إنما في سلسلة من الانبثاقات ولا تكاد تتصل بعضها بالبعض ومثال ذلك الفن يبدأ كل اتجاه فيه من جديد ويسير مستقلاً عن غيره وكذلك الدين والفلسفة ومن هنا كانت الحضارة عند فيبر لا تبحث إلا تاريخاً, ولكن ليس من المستحيل أن نكشف في الظواهر الحضارية كالدين والفن والفلسفة نوعاً من الاتصال والتقدم التدريجي البطيء وذلك إذا تأملنا الإنتاج البشري في هذه الظواهر خلال أوقات واسعة. أما العالم ماك آيفر فيرى المدنية هي الأداة التي يستخدمها الإنسان للتحكم في ظروف حياته, أما الحضارة فيراها حياة وتفكير وتفاعلات الفرد اليومية في الفن والفلسفة والدين فالمدنية في نظرة هي وسائل والحضارة هي غايات فقال: (إنّ حضارتنا هو ما نكونه ومدنيتنا هي ما تستخدمه) وبعبارة أخرى الحضارة تقصد لذاتها أما المدنية فهي دائماً وسيلة لغاية, وقد خالف بعض العلماء ماك آيفر في موضوعين أحدهما هو الاقتصاد حيث وضعه فيبر مع الحضارة والموضوع الثاني هو العلم فهل هو وسيلة لتغيير التحكم في ظروف الحياة والسيطرة على الطبيعة أم هو بطلب لذاته من أجل لذّة المعرفة والكشف. والخلاصة أنّ التمييز بين الغاية والوسيلة لا تتوضح حدوده لا في الجانب الاقتصادي ولا في الجانب العلمي, كما أن محاولات العلماء لإيجاد التقابل بين المدنية والحضارة واجهت النقد الكثير وتحتم بالقول أنّ المدنية إذا تميزت عن الحضارة فإنما لكونها تشتمل على الحضارة الكبرى ولكل المجتمعات حضارتها المتقدمة منها أو المتخلفة أي أن الحضارة قد تكون أكثر تحديداً في الزمان والمكان من المدنية, وحتى البعض يستخدم اللفظين بمعنى واحد ومنهم علماء الاجتماع أما علماء الانثروبولوجية فجعلوا مفهوم الحضارة شاملاً حتى على طريقة حياة المجتمع وأسلوبه في التفكير ونظمه السياسية والاجتماعية والاقتصادية, وربما يرى البعض أنّ المدنية تشمل الحضارة والثقافة وإنتاجاتهما عبر الأجيال. 4- الحضارة والمجتمع: نعود قليلاً إلى عنوان الاتجاه الوظيفي أحد الاتجاهات النظرية في الحضارة والمجتمع, لنستذكر مفهوم مصطلح (مجتمع) لكي نربطه عما سنذكره هنا لمصطلح(البنية الاجتماعية), استخدم بعض العلماء مصطلح الحضارة بما يشير إلى المضامين والنماذج الخلاقة للقيم والأفكار والرموز ذات المعنى التي تشكل تراث الشعب كما استخدموا مفهوم (المنظومة) والبنية الاجتماعية) لما يشير إلى نظام علائقي من نوع خاص للتفاعل بين الأفراد والجماعات وبهذين المفهومين- الحضارة والبنية الاجتماعية – لا يفترض أن كل العلاقات الاجتماعية القائمة بين الأفراد هي حضارية كما لا تؤلف جميع الأفعال الإنسانية عناصر أساسية للحضارة إذ أنّه لا تنخلق العناصر الأساسية للحضارة إلا عندما يكون تفاعل المتفاعلين بدلالة وبمعنى يخلق بيئة رمزية وفيزيقية غنية وخصبة قادرة على الانتقال من جيل لآخر مشكلةً تراثاً للجماعة, لأنّه ليس كلا الأحداث في مجتمع ما قابلة للانتقال من جيل لآخر لاحق, ولهذا السبب عند الدراسة المقارنة لأغراض المفاضلة بين بعض الحضارات بوجه الاهتمام إلى القيم المهمة القابلة للتحول من جيل لآخر ومن هذا المنظور نستخلص التمييز تحليلياً بين الحضارة والبنية الاجتماعية والذي سنظهره بالمواد التالية : أ- في التحليل الحضاري ينصب الاهتمام على الترابط بين رموز الحضارة ولها استقلاليتها بذلك بينما في البنية الاجتماعية نتوخى التركيز على العلاقة التفاعلية بين الفاعلين في مختلف التنظيمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتأثيراتها على منظومات القيم . ب- الموضوع الآخر يشير الحديث عن الحضارة تحليلياً إلى أنّ الموضوعات والحاجات والمتطلبات هي التي تقود وتوجه أفعال الفرد بينما نحلل البنية الاجتماعية أنّها علائق الفعل الاجتماعي التقليدي. ج- تحليلياً تختلف الجوانب الحضارية عن العلاقات التنظيمية ضمن البنية الاجتماعية فالتنظيمات تخلق نوعاً من العلاقات لا توصف أو تحدد أنّها حضارية لأنّها غير محكومة بقواعد محددة, وبذلك هناك نمطين من الأفعال الاجتماعية : نمط يوصف بأنه حضاري فهو محكوم وموجه بواسطة القيم ونمط ثاني هو ما ينجم عن الأفعال اليومية العفوية بين الأفراد, ولكن قد يتواجد بين هذه الأفعال العفوية ما يصبح جزءً من تراث الشعب لأنّ رمزية الفعل لا تقاس بذاته بل بمعناه وقيمته وصلته بالقيم الإنسانية الأخرى وتأثيره عليها. ومن الناحية العملية وفي نطاق الدراسات الميدانية فإنّ الحضارة والبنية الاجتماعية مترادفان أو يترابطان ترابطاً داخلياً محكماً وصحيحاً كما أوضح دور كهايم في دراساته للانتحار, وكذلك في دراسة ماركس عند معالجته للتنظيم الاقتصادي وعلاقاته مع الطبيعة العامّة لعمليات وفعاليات الحياة الاجتماعية والسياسية والروحية التي توجد الكثير من الأمثلة لتأثير العناصر البنيوية على الجوانب الحضارية, وكذلك في معالجة ماكس فيبر لدور الأخلاق البروتستانتية في نشوء الرأسمالية القائم بين العناصر الحضارية والتغيرات البنيوية, وكذلك في دراسة رالف لينتون لقبيلة (التانالس) إذ لاحظ كيف تتأثر التغيرات الحاصلة في العلاقات الاجتماعية بالأنشطة الرئيسية للجماعة وكيف أنّ صوراً خاصة من التكيف والتفاعل ترتبط مع الأعراف والعادات.
الفصل الرابع الحاجات الإنسانية والنظم الحضارية والاجتماعية استهلال أكد العالم الانثربولوجي مالينوفسكي وجود علاقة بين إشباع الحاجات والنظم الحضارية والاجتماعية, فالنظام الاجتماعي هو الوجه الحضاري لإرضاء حاجات الإنسان الأساسية, فالحاجات الجسمية هي حاجات بايولوجية ونفسية ولكي تتم الاستجابة لها بشكل حضاري لا بدّ من أن تنخلق من جديد حاجات تكون طبيعتها حضارية وليس بايولوجية, مثال: الحاجة للطعام نوعاً وكماً هي حاجة بايولوجية, لكن طريقة وأسلوب تهيئة وإعداد الطعام من منشئه إلى مائدة الطعام هي عملية حضارية, وهكذا بقية الحاجات كالتناسل والراحة والأمن والحركة والنمو. هذا الأمر في تحديد الاحتياجات يتطلب بحثها في مجمل سياق الإنتاج المجتمعي كمحور أساسي للتنمية يتطلب تشخيص الحاجات المشيّعة للاستمرار على وتيرة إشباعها وتلك غير المشيعة لتحقيق إشباعها وذلك ضمن خطّة الإنتاج والتوزيع والتبادل والاستهلاك, لكن بسبب تعقيد المجتمعات يصبح من المتعذر على الإنسان تحقيق ذلك دون الاستعانة بالمؤسسات الاجتماعية وجهود الدولة وذلك لتنوعها وتشعبها وتعدد أوجهها فبعضها مرتبط بحياة الإنسان كالغذاء والصحّة والسكن وبعضها براحته وبعضها بالمعرفة, كما أنّ حاجات الإنسان ليست ثابتة فهي في حالة نمو دائم وكما وصفها ابن خلدون بأنّ الحضارة تخلق الحاجات والاحتياجات هي التي ينبغي أن تقرر نمط الاستثمارات وتحدد هيكل المستوردات لتكوّن الحاجات أم الاستثمار, كما أن هناك جانب آخر في تحديد ما هو أساسي وضروري وما هو غير أساسي أي كمالي فالتحديد فيه مسالة نسبية تتطلب دراسة يشترك بها كل المعنيين بالنتيجة بمعناها الحضاري الشامل لكي يتم تلمّس هذه الحدود ومتابعة مواكبتها للتغيير الذي يعيشه المجتمع باستمرار لأنّ ما هو غير ضروري أو غير أساسي اليوم قد يكون غداً ضرورياً وأساسياً, فالإشباع يجب أن يتواكب مع التطور والتنمية المستقبلية بالتوافق مع مصالح المجتمع وفيما يلي تغطية تلك الاحتياجات بشيء من التفصيل: 1 – الغذاء حاجة الإنسان للغذاء حاجة مشتركة بين البشر زماناً ومكاناً وهو ضروري لبقاءه, والبحث عنه تتشابك به عناصر بايولوجية وحضارية واجتماعية, لقد استفاد الإنسان من موارد البيئة المحيطة به لتلبية حاجاته, ولكن توزيع موارد الغذاء تختلف من بيئة لأخرى وتتباين أصناف الغذاء وتتنوع بتنوع الحضارات وتطور المجتمعات, كان الإنسان الأول نباتياً يأكل الأعشاب والفواكه ثمّ بدأ إنسان الاسترالويتكوس يأكل غذاء حيواني –نباتي بدا بالحيوانات الصغيرة ثمّ الكبيرة ولزيادة بروتين اللحوم فقد اختصر غذاؤه إلى الثلثين وأصبح لديه الوقت الكافي للبحث عن غذاء فاتجه لصيد الحيوانات الكبيرة وذلك يحتاج إلى عمل جماعي فظهرت بشكل غير مباشر إستراتيجية العمل الجماعي بالتعاون على الصيد تخطيطاً وتدبيراً وتنظيماً , ولكن عملية الصيد هذه أثرت على إنقاص أعداد الطرائد في رقعة محددة, فأصبح أمام الصيادين أمراً لا خيار غيره هو الهجرة إلى أماكن بها طرائد كثيرة فتحركوا لمسافات شاسعة من شمال إفريقيا ثمّ إلى جاوا ثمّ الصين ثمّ أوروبا فزاد انتشار البشر على رقعة شاسعة وقلت كثافتهم, أما كيف يكتشف الإنسان غذاءه فبالنسبة للنباتات بالتجربة ابتعد عن النباتات السامّة وبالنسبة للحيوانات فإنّه خيرٌ مواسم الصيد من خلال هجرة الحيوانات وقد تعلم الهجرة منها لأنّه عقبها في هجرتها, وكان اعتماده على الطبيعة لتلبية حاجاته البايولوجية مباشرة ثمّ تعلم تهجين الحيوانات مستأنساً بها, ثمّ اكتشف جمع الحبوب من مواردها الطبيعية خاصة القمح, وقد حدثت طفرات جينية متعاقبة عديدة للقمح من كلأ الماعز إلى أن ظهر الشكل الهجين المعروف بقمح الخبز بادئ الأمر كانت تنشره الرياح فيعاد إنباته لكن عندما كبرت سنبلته أصبحت ثقيلة لا تحملها الرياح فتعلم الإنسان حصدها من الطبيعة وبذارها بمناطق سهلية لتظهر الزراعة الاصطناعية بحالتها البدائية الأولى قبل حوالي عشرة آلاف سنة في منطقة الشرق الوسط تحديداً منطقة دجلة والفرات وجزيرة الشام وشرقي المتوسط, ثمّ اكتشف زراعة الذرة ثمّ باقي الحبوب, مع الزراعة الاصطناعية بدأت مرحلة الاستقرار النسبي للإنسان قرب مزارعه وبدأت حياته تتطلب الإبداع والابتكار لما يساعده في عمله فأبدع في صناعة وسائل بدائية بسيطة كالمنجل والمخرز والإبرة والقدر وغيرها لكن هذه لها من الأهمية بمكان في تطور وارتقاء الإنسان, فغنى البشرية يأتي من تفاعل وتراكم الاختراعات وما الحضارة والثقافة سوى ثمرة الأفكار العديدة التي يبدعها الأفراد بكل وسيلة جديدة تعمل وتوسع قدرة أفراد آخرين وأروع ما ابتكر الإنسان بهذه المرحلة هو المحراث مما تتطلب منه ترويض وتأهيل حيوانات الجر لتجره ثمّ اخترع العجلة ثم المحور بين العجلات ثمّ العربة ثم قلب هذه الأداة لصنع أداة طحن الحبوب(الرحى) ثمّ طورها باستخدام قوّة الحيوانات ثمّ قوة الرياح والمياه ثمّ أصبحت العجلة نموذجاً لكل الحركات الدورانية ثمّ شيّد الأقنية لنقل الماء إلى المزرعة ومنها انبثقت القوانين التي تتحكم بحقوق المياه واتسعت المزارع وابتكر عملية حفظ الحبوب والطعام للمستقبل واستخدم لذلك الأواني الفخارية لأنّها عازلة للحرارة وهو أول إدراك للإنسان وعى فيه المتغيرات الكيمياوية وكيفية استخدامها والسيطرة عليها بصورة مبسطة ويرجح العلماء هذه الحقبة هي فترة الانتقال من الشيوعية البدائية (الوحشية والبربرية) إلى مرحلة العبودية والملكية الخاصة من هذه المرحلة تعدى الغذاء المرحلة البايولوجية إلى المرحلة الحضارية حيث أصبح لكل شعب أنواع معنية من الطعام يستذوقها فيعرف بها وتميزه عن غيره من الشعوب الأخرى, فنوع الغذاء وطرق تحضيره وتناوله والعادات والتقاليد المتبعة في ذلك ارتبط بالتراث الاجتماعي فانتقل بأقنية حضارية من جيل لآخر, فإنسان الشرق له أطعمته وطرقه وتقاليده تختلف عن إنسان الغرب والإنسان العربي يختلف عن الأوربي ولا يفسر ذلك بايولوجياً فالأمور الحضارية المرتبطة بالبيئة لا تفسر بايولوجياً, ومع ازدياد الإنتاج وظهور نظام التخصص والتخزين دخلت تلك الأمور نطاق الانثربولوجيا الاجتماعية من خلال التوزيع والاستهلاك والتنظيمات الاقتصادية وطرق الإنتاج وطبيعة التموين ومسائل الأمن الغذائي . خلاصة القول : لقد تدرجت تلبية الحاجة البايولوجية للإنسان من مرحلة قطف الثمار والصيد إلى مرحلة الرعي والزراعة ثمّ إلى مرحلة التصنيع بالحبوب والفيتامينات وانتقل الإنسان من تلبية تلك الحاجة بنفسه وبما توفره له الطبيعة إلى اعتماده في غذاءه وتوفيره على تنظيمات اقتصادية واجتماعية وسياسية واستطاع الإنسان بواسطة تكيفه مع البيئة أن يكوّن طعامه ويخضع تناوله لعادات وتقاليد تتوافق مع المعطيات الموجودة لديه بايولوجياً وحضارياً واجتماعياً. 2 – المأوى المأوى هو مكان قصده الإنسان لينعم فيه أولاً وقبل كل شيء بالطمأنينة ثمّ بالراحة ثمّ بالاستقرار بوضع أثقاله وأمتعته ثمّ الحماية من ظروف الطبيعة المناخية القاسية, وهذه كلها عوامل أسهمت في ارتقاءه بايولوجياً وحضارياً واجتماعياً, ويعتقد العلماء أنّ البداية في تشكل العائلة والزواج ارتبطت بوجود المأوى, فلا عائلة بدون مأوى ولا ارتقاء بدون تفاعل معطيات الاستقرار المرتبطة بالحماية من الطبيعة, فكان الإنسان بادئ الأمر يلتجأ إلى الكهوف لتحقق له ذلك الإيواء المنشود, ولكن بعد الاستقرار الذي تمثل في الزراعة والذي تطلب منه ثباتاً نسبياً في الأراضي التي تتوفر فيها مصادر المياه حدثت نقله نوعية في حياة الإنسان فانتقل من مرحلة الإيواء بالكهوف إلى مرحلة البناء الهندسي قرب مصادر المياه وبما يحقق له حماية بيئية وأمنية ملائمة. لقد أبدع الإنسان فكرياً واخترع مادتين للبناء فشيد مأواه من قوالب الطين أو من الحجر, إنّ استغلال مرونة الطين في التحكم بشكل مادة البناء وهندستها عكس ذوق الإنسان في بناء بيته, والذي ساعده كأداة لتنفيذ ذلك ما بذهنه من ذوق ومرونة يده, فاكتشفت له يده ما وراء الذي تشاهده عينه فأصبحت بذلك أداة ابتكار مكملة للعقل, فبواسطة ذكاءه ومرونة يده وخبرته التجريبية بالكشف والتعلم تمكن من تمييز الخطوط الأسهل لشق الخشب والحجارة, فكشف طبيعة الأشياء وتجاوز القوانين المتحكمة ببنية المادة, ثمّ برع واجتهد في توزيع القوى ومراكز الثقل وتقسيم الضغط وعلاقته بالمسافات, ثمّ تمكن من تمييز أنواع الحجر وقوّة تماسك وشد كل نوع فصمم هذه الأبنية الشاهقة معتمداً على بصيرته في تشخيص قوّة وصلابة نوع الحجر علماً لم يكن يعرف حسابات الإجهادات الحاصلة, إلى أن توصل إلى كيفية تصميم القوس ثمّ من القوس والدعائم صمم القبة, وكان أول من استخدم ذلك هم الإغريق ثم اليونان ثمّ البيرو ثم انتقلت إلى البلاد العربية, واستخدمت الأقواس والقباب أول ما استخدمت في المعابد ثمّ تفنن الإنسان بصناعة القوس من نصف دائرة ثمّ القوس البيضوي ثم تطور إلى نصف القوس أو ما يسمى بالدعائم المعلقة ثمّ الصناعة الإسمنتية المقواة بتسليح الفولاذ لشد تماسكها.
| |
| | | salim 1979 التميز الذهبي
تاريخ الميلاد : 27/05/1979 العمر : 45 الدولة : الجزائر عدد المساهمات : 5285 نقاط : 100012179 تاريخ التسجيل : 06/11/2012
| موضوع: رد: الأصول التاريخية والنظرية للأنثروبولوجيا الإثنين سبتمبر 23, 2013 5:20 pm | |
| لم يمتلك البنائون أكثر من خزين عقولهم من النماذج والأفكار والابتكارات اجتمعت بالتجربة مع أدوات بسيطة لا تتعدى فرجال وآلة قياس سماكة ومسطرة بشكل T لقياس المستويين الشاقولي والأفقي, فكانت حرفة البناء بمثابة طلسم يحمله البنائون بعقولهم ومهارة أيديهم, سرها من أسرار المعرفة يقع خارج حدود التعلم المليء بالشكليات التي كانت تلقنه الجامعات حينئذٍ, ثمّ بعد انكشاف سرّ هذه المهنة بالقرن السابع عشر أصبح البنائون يقبلون في جمعياتهم الحرفية أعضاء جدد. يدخل في بناء المأوى عناصر متنوعة منها: العصر, التطور العملي, والآلات والأدوات المستخدمة, والمناخ, ومواد البناء, وتعدد الخيارات, فيرتب الإنسان منزله حسب ذوقه وحاجاته وراحته النفسية وبذلك فقد تعدى المأوى وظيفته البايولوجية المرتبطة بالراحة والطمأنينة وانتقل إلى وظيفة حضارية كالتفنن بالشكل والنوع والطراز, فأصبح لكل منطقة فن عمارة خاص بها, ولكل زمن طراز عمارة يسود فيه كما اختلف الريف عن المدينة بنمط السكن . يعاني الوطن العربي أزمة سكن وحل هذه الأزمة يحتاج إلى تخطيط مبني على بيانات دقيقة تبين معدل النمو الطبيعي السكاني وتوزيعه الجغرافي, معدل الزيجات السنوية وتوزيعها الجغرافي, الهجرة من الريف المدنية وتحديد مدن الجذب ومدن الرفض, حالة المباني في المدن ونسبة الإحلال والاندثار والتجديد بشكل دقيق, مساحة وطبيعة وجيولوجية الأراضي المخصصة للبناء, الطبيعة الفنية لمواد البناء ومصادرها, تكنولوجيا البناء والتشييد المستخدمة, الدراسات والتصاميم مؤسسات التنفيذ حكومية/ خاصة/ تعاون ثمّ التمويل المالي, ثمّ أنّ التخطيط العمراني لا ينبغي أن يكون كادره كلّه مهندسون بل يجب أن يضم علماء اجتماع وعلماء طبيعة المختصين بالدراسات التي تتناول الإنسان وعلاقته بالبيئة الطبيعية والاجتماعية . 3 – الكساء كان الإنسان الأول يستخدم أوراق الأشجار يلصقها على جسمه مستخدماً الطين ليواري سوئته أو ليتقي الظروف المناخية ثمّ استخدم صوف / وبر/ شعر الحيوانات على طبيعته يلصقه على جسمه لنفس الأغراض, فقد تكيف مع لباس الحيوانات دون أن يتكيف مع طبيعة تكوينه, فقد تفاعل مع المعطيات المادية حوله دون أن يفقد خصائصه كإنسان, ثم اكتشف أنّ قشر سيقان نبات الكتان تتكون منها حيال رفيعة إذا تكسر الساق فعمد إلى تكسير هذه السيقان بالحجارة وعمل خيوط من قشورها وألصقها ببعضها بواسطة الطين وعمل لباس حول جسمه, أعقب ذلك استخدام جلود الحيوانات يربطها ببعضها ولفها حول جسمه, ثمّ باكتشاف المنول استخدمه لغزل وحياكة لباسه, إنّ اكتشافه لخيوط الكتان ألزمه على زراعة هذه النبتة للاستفادة من سيقانها, كما أنّه ألزم بتربية الحيوانات ذات الصوف والشعر للاستفادة منه, ثمّ يتطور المنول وظهور الدولاب أخذ الغزل والنسيج شكله الواضح وتطور الكساء فأصبح لكل منطقة زيها الخاص بما يتلائم وبيئتها من حيث الشكل واللون وطبيعة الخيوط فالمناطق الباردة غير الحارة فأصبح الكساء أصدق صورة لتفاعل الإنسان مع البيئة الطبيعية كما أصبح وسيلة لطلب الزينة والتجميل وتقليداً شعبياً تفننت الشعوب والحضارات في اقتباس ما هو مناسب وملائم لقيمها وعاداتها وتقاليدها, إنّ تفاعل العناصر البيئية والحضارية والاجتماعية بما يتعلق بالكساء نلاحظه يظهر بالأزياء الشعبية وتطورها كما أنّ الانتقال من المجتمع الزراعي إلى المجتمع الصناعي أوجب تطويراً للكساء ليتوائم مع معطيات الآلة في المجتمع الصناعي فلا تتلائم الملابس الفضفاضة مع العمل قرب الآلة الصناعية والتحرك قربها ومن حولها لذلك جرت تعديلات كثيرة على الأزياء تناسب العصر وطبيعة العمل, أما في الوقت الحاضر فتكاد تتشابه الأزياء في معظم الشعوب والأمم وبما يواكب موضة العصر عدا بعض الأثنيات التي تتمسك بأزيائها الخاصة, ويرتبط أسلوب تلبية حاجات الإنسان للكساء بحضارته عبر الزمان والمكان, وإنّ تطور الأزياء بالوطن العربي يعطي نموذجاً للتفاعل بين البيئة وعناصرها الحضارية والاجتماعية, فالتغيرات على الزي العربي هي من صنع الشعب العربي كلّه تنتقل عبر الأجيال بصورة متوازنة ومدروسة من كل النواحي الطبيعية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية, فلم تعد الأزياء مرتبطة بالحاجة البايولوجية بل أصبحت تمثل جزء من الشخصية الحضارية, وظهرت مشكلة هي الموائمة بين ما تصنعه دور الأزياء وبين الأصول الحضارية التي رسمت رموزها اتجاهاً لأزياء شعبية تتوائم والبيئة الاجتماعية والجغرافية والعادات والتقاليد, وبشكل عام تظهر لوحة الأزياء الشعبية ارتباطاً بامتداد الحضارات عبر الزمان والمكان, وأحياناً يعطي الزي الشعبي لمجتمع ما صورة الشخصية التي يتغنى بمواصفاتها ذلك المجتمع ويربطه الحنين بتاريخها ومآثرها أيّاً كان موقعها من التاريخ, وأحياناً أخرى نراها أنّها لم تأخذ هذا الشكل اعتباطاً فقد ارتبط كل شيء فيها بسمة من السمات المحببة للناس مثلاً العمامة رمز للوقار والهيبة والتدين والأكمام العريضة سمة من سمات المصلين لكي يسهل الوضوء وعمل الجلباب مفتوح من الأمام لكي لا يعيق ركوب الخيل, وجانب آخر ارتبطت بعض أجزاء كساء الفرد بوظائف كان يستخدمها لأجلها وخير مثال على ذلك العقال العربي فقد كان أداة ربط رجل البعير لكي لا يقوى على الهرب من راكبه ثمّ استخدم أداةً لتثبيته الكوفية ولجماليته بقى استعماله على الكوفية وأخذ ألوان خاصة به, كما لا يغيب عن ذهن الشخص السمات الجمالية للكساء التي يفضيها على مرتديه كلٌ بحسب ملائمة صفاته الجسمية مع طبيعة وألوان وحياكة وخياطة وقصات تلك الأزياء, والخلاصة أنّ للأزياء الشعبية غايات وأهداف ومهام تؤخذ بنظر الاعتبار عند اختبار ألوانها وفصالها وخياطتها وتطريزها بالحلى والنقوش إضافة إلى مهمتها الأساسية وهي التعبير الحضاري للمجتمع. 4 – الصحة إنّ الصحة هي مؤشر لحالة من الرفاه والانسعاد والراحة جسمياً وعقلياً واجتماعياً وينبغي أن تحقق الطمأنينة والأمان والشعور بالذات والقدرة على العمل بكلّ أشكاله الملائمة للجنس والعمر, والصحّة من الاحتياجات الأساسية للإنسان ومن حقّ كل مواطن في المجتمع, وتترابط البيئة الاجتماعية والمستوى الثقافي والإمكانية الاقتصادية بعلاقة تبادلية مع صحة الأفراد وسلوكهم فانخفاض المستوى الصحي مرتبط بتدني الإمكانية الاقتصادية للمجتمع ويشكلان حلقة مفرغة تدور بها دول العالم الثالث, ولذلك حددت المنظمات الدولة المختصة ثلاث خصائص وسمات للتمييز بين المجتمعات المتخلفة والمجتمعات المتقدمة وهذه السمات هي: مستوى الدخل, مستوى التغذية, الصحّة, وتترابط هذه الخصائص الثلاثة بما يسمى بقانون (البيئة الدائرية) فالفقير لا يتمكن من شراء حاجاته الغذائية مما يؤدي إلى إصابته بسوء التغذية وذلك يخفض مستواه الصحيّ وتضعف قدرته على العمل فتقل كفائته الإنتاجية فيقل بسبب ذلك دخله مما يزيد في عجزه عن شراء احتياجاته الغذائية الأساسية وهكذا تستمر الحلقة في الدوران, وتعطي دراسات كشف الواقع الصحي لأي مجتمع ومنه مجتمعنا العربي دلالة على اتجاهات التطور فيه, فإنّ مؤشر معدل وفيات الأطفال ومتوسط العمر المتوقع وعدد الأفراد لكل طبيب من مجمل السكان, وعدد المستشفيات بالمدن واستيعابها السريري, والتكنولوجيا الطبية الموجودة بتلك المستشفيات ومؤشر الإصابات بالأمراض ونسبة الاتفاق في المجال الصحي كل هذه الجوانب ترسم الواقع الصحي للمجتمع, يضاف إلى ذلك أن الحالة الصحية تتأثر بعوامل التنمية الاجتماعية وبنوعية البيئة ونوعية الخدمات الصحية الوقائية والعلاجية. واستناداً لهذا الفهم فإنّ الاهتمام بالصحة يشمل جملة من المعطيات كالرعاية الصحية الأولية وتكامل الخدمات الوقائية والعلاجية والوعي والتثقيف الصحي ورعاية الأمومة والطفولة وتنظيم الأسرة ومكافحة التلوث البيئي وبالتالي فالرعاية الصحيّة هي وقاية وحماية لتحقيق صحة سليمة للفرد لذلك تقاس صحّة المجتمع بصحّة الفرد فيه. كما أنّ طبيعة التغيير الاجتماعي الذي حدث في المجتمعات ومنها مجتمعنا العربي وتغير نمط العائلة من ممتدة إلى نووية وخروج المرأة للعمل خارج المنزل أفرز التزامات اجتماعية جديدة ضمن الإطار الصحي فأوجب على الدولة رعاية كبار السن والعاجزين وذوي الاحتياجات الخاصة والأمراض المزمنة واحتضان الطفولة المبكرة مما تطلب إيجاد الملاجئ ومراكز الرعاية والاهتمام بتوفير الأمن الاجتماعي. النظم التي تلبي الحاجات الإنسانية لا يمكن أن تلبي حاجات الإنسان التي ذكرناها بشكل عشوائي فقد تجاوز الإنسان ذلك عندما غادر عصر المشاعية البدائية والمرحلة الوحشية وجزء من المرحلة البربرية والتي في نهاياتها انتظمت حياة الإنسان الاجتماعية والاقتصادية بشكل واضح بظهور الملكية والأسرة والنسب والإرث والاستقرار وهذا الأخير حقق للإنسان الراحة الفكرية وأبعد عنه عامل القلق والهواجس التي كانت تسيطر عليه من خوف الانقراض جوعاً, فأصبح اقتصاده يلبي رغباته وربما يفيض منه ما يدفعه لإدخاره للسنين العجاف فقد أظهرت الدراسات أنّ الإنسان منذ بداية استقراره أخذ يفكر بالمستقبل ولم يعيش للحظته قط ودليل ذلك الاكتشافات الأثرية لأواني ومعدات تخزين الغذاء وغيرها, إنّ من أهم وابرز النظم التي تحقق للإنسان احتياجاته هو النظام الاقتصادي فهو محور كل احتياجاته حتى العاطفية منها إذ فرض عليه النظام الاجتماعي أن تكون علاقاته العاطفية والجنسية منضبطة بنظام الزواج وهذا يلزمه أن يهيئ مستلزمات الزواج المادية وهذه لا بدّ من أن تغطيها نفقات اقتصادية, إنّ أهمية أي نظام تظهر في ضوء ما يقوم به من نشاط ومدى ما يضطلع به من وظائف وقد وجد كل نظام في المجتمع البشري ليحقق وظيفة أساسية تحافظ على استمرار الحياة الاجتماعية واستقرارها وبالتالي فإنّ وظيفة النظام هي التي تميز أهميته واعتقد لا يختلف اثنان على أهمية النظام الاقتصادي في الحياة كيف يتقدم على الأنظمة الأخرى بالأهمية, يقول فرويد: أنّ الغذاء والجنس هما الحياة ولا أحد يستطيع أن يضع أحدهما قبل الآخر ففقدان أيّ منهما يسبب انقراض الكائن الحي فإذا اختفى الغذاء مات الكائن الحي جوعاً وإذا اختفى التناسل انقرض جنس ذلك الكائن الحي. النظم الاقتصادية إذا نظرنا إلى النظام الاقتصادي وجدنا أهميته تزداد بمرور الوقت في أي مجتمع إنساني سواء كان بدائي بسيط أو صناعي حديث للوفاء بالمتطلبات المعيشية التي لا يمكن توفيرها الا من خلاله, فإنتاج السلع والمواد المختلفة التي تحتاجها الجماعة هي ركن هام في النظام الاقتصادي, والسكن والراحة والاطمئنان يوفرهما النظام الاقتصادي, وهذا الأخير متعدد الأنشطة فهو يشمل الإنتاج والتداول والتبادل والتوزيع والاستهلاك, وهذه جميعها إذا لم تتحقق بأسلوب عادل وصادق وأمين سوف لن تحقق للإنسان ما يتمناه إذ ستشوبها الصراعات والمشاكل. وعلى هذا الأساس فإنّ علماء الانثربولوجيا عندما يتناولون النظم الاقتصادية ببحوثهم بجميع جوانبها وتفرعاتها آنفاً ولكن جماعة سكانية بدراسة مقارنة, وقد تكون هذه الجماعة عشيرة أو قبيلة أو دولة أو مجتمع بأكمله يخضع لقيادة معينة, وبهذه الحالة لا يعتبر النظام الاقتصادي نظاماً مستقلاً إنما جزءً من النسق الاجتماعي العام, فيسعى الانثربولوجي على تحديد المتغيرات المتعلقة بالنظم الاقتصادية والتعرف على تفاعلها مع بعضها وتفاوتها من مجتمع لآخر, وتزداد الأهمية لذلك عند دراسة هذه النظم في المجتمعات البدائية والبسيطة. ومن ناحية أخرى عندما يكون النظام الاقتصادي جزءً من البناء الاجتماعي العام للمجتمع ويؤثر فيه وهو كذلك حتماً, فإنّ النظم الاجتماعية الأخرى تلعب دوراً بارزاً في تشكيل النظام الاقتصادي هذا وتحديد معالمه, ولذلك نلاحظ أنّ الجماعات القرابية وفئة السن تمثلان وحدات إنتاجية في المجتمعات البسيطة, كذلك تحدد شبكة القرابة نظم التوزيع, وتنظم الطقوس عمليات الإنتاج والتبادل والاستهلاك, وبذلك لا يمكن وصف الإنسان البدائي بأنّه إنسان اقتصادي لأنّه يوازن بين القيم الاقتصادية والقيم الأخرى ويرجح هذه الأخرى والتي تشمل التماسك والفن والجمال وغيرها على القيم الاقتصادية, ولا تقتصر هذه الخاصية على المجتمعات البدائية فحسب وإنما تتعداها لتشمل المجتمعات التقليدية مثل الريفية والبدوية, ولذلك يصعب تحليل النظام الاقتصادي بمعزل عن البناء الاجتماعي الكلّي, ولا يمكن دراسة النظم الاقتصادية على أنّها نظم مستقلة إلا في المجتمعات الرأسمالية الحديثة حصراً, ولهذا السبب نجد أنّ النظريات الاقتصادية الحديثة تكبو عندما نطبقها على المجتمعات البدائية البسيطة, فعندما نقارن بين نشاط اقتصادي في المجتمعات الحديثة والمجتمعات البسيطة سنواجه اختلافاً واضحاً بينهما بالكيف والنوع وليس في الدرجة, ولهذا التباين لن تصدق نظريات النقود ونظرية القيمة وقانون العرض والطلب على المجتمعات البسيطة, ويرجع سبب ذلك الاختلاف الكيفي إلى عوامل عدّة منها مثلاً الاندماج الكلي بين النظم الاقتصادية والنظم الاجتماعية الأخرى, إذ يرمز تبادل السلع إلى واجبات اجتماعية لا يمكن فهمها إلا بالرجوع إلى النظم الاجتماعية الأخرى الأسرية والدينية والسياسية. لقد اكتشف العالم مالينوفسكي خلال دراساته لبعض المجتمعات ما قبل الاستعمارية (مجتمعات دون رأس (acephales حتى السلطة فيها تعبر عن نفسها عبر لعبة أداء تبادلية بين الرئيس وبين أعضاء المجموعة الاجتماعية فوجد الزعماء يجمعون الثروات بشبكات من القرابة والعملاء ثمّ يستثمرونه بإقامة أعياد تنافسية تدبيرية تجعل مساعدة مؤيدهم تأخذ طابع رسمي,✺ كما أنّ سكان الكثير من جزر المحيط الهادي يعمدون إلى الاقتصاد التبادلي, خاصة تلك السلع ذات القيمة الاعتبارية عندهم كالأسلحة والأحجار الثمينة وغيرها, ورغم أنّ المجتمعات الحديثة نشاطها الاقتصادي له نظام خاص لكن لا يمنع ذلك من الإجراء التبادلي بين بعض النظم الاجتماعية, إنّ سبب الاختلاف الكيفي في المجتمعات البدائية والبسيطة هو عدم توافر أسس الاقتصاد الحديث فيها, كالإنتاج الضخم والسوق الحديث والتخصص الدقيق في عمليات الإنتاج والتوزيع والمكننة المعقدة, ولا يخلو مجتمع بشري من النظم الاقتصادية مهما كانت درجة تخلفه أو بدائيته فإحساس الإنسان بالجوع يدفعه للبحث عن الطعام ليبقى حيّاً ويمتلك طاقة ضرورية لحركته ونشاطه لكي يجمع طعامه وهكذا. إنّ النظم الاقتصادية هي الأساليب المستخدمة في إشباع حاجات الإنسان المادية وعلى الرغم من تنوع تلك الأساليب فإنّها تتفق في الشكل العام الذي يتمثل في نشاط يجمع ثلاثة عناصر هي الموارد والأدوات ونشاط الإنسان, فالموارد الأولية الموجودة في البيئة لا تعتبر موارد إلا إذا استغلها الإنسان فالنفط في جزيرة العرب قبل مئة عام كانوا يتضورون جوعاً وهو مخزون تحت أقدامهم ولا يعرفون عنه شيئاً والذي يعرف لا يعلم كيف يستفيد منه. العناوين التي تقع اهتمامات الانثربولوجي بدراسته النظم الاقتصادية: لا بدّ للانثربولوجي أن يوزع اهتماماته بعناية إذا أراد أن يحيط الموضوع الاقتصادي بشيء من الشمولية والدّقة لكلّ الجوانب وعليه أن يعطي الموضوعات التالية اهتماماً خاصاً. 1- موضوعات النظم الاقتصادية: عندما يريد الانثربولوجي الحصول على فهم واضح للنظم الاقتصادية لمجتمع ما فلا بدّ وضع ما يلي تحت اهتماماته: أ- مقارنة الانثربولوجي للنظم الاقتصادية الصغرى بدأً من المجتمعات المحلية المعزولة ذات التكنولوجية البدائية في المجتمعات البسيطة إلى المجتمعات الزراعية التي تأثرت بالتصنيع وصولاً إلى اقتصاد المجتمعات الصناعية الكبرى . ب- دراسة الانثربولوجي لمكونات النسق الاقتصادي كأشكال ملكية الأرض وأساليب تنظيم الإنتاج وحركة الأيدي العاملة وتقسيم العمل والحراك المهني ونظام الالتزام ودائرة ومجالات التبادل ونظم وأشكال النفوذ ومستويات الاستهلاك ومستويات المعيشة وعلاقة توزيع الثروة بالمكانة الاجتماعية. ج- دراسة الانثربولوجي لعمليات النمو الاقتصادي سواء كان ذلك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة وملاحظة تغطية عمليات الاستثمار والالتزام والتراكم واستخدام رأس المال الزراعي والإسهام في بدارستهم في تشخيص معوقات التنمية في المجتمعات والنظم التقليدية, وهجرة العمالة . ✺ (الانثربولوجيا – مارك أوجيه –جان بول كولاين – ترجمة: جورج كتورة- دار الكتاب الجديد – بيروت – 2008 –ص42 د- دراسة الانثربولوجي لتنوع الإنتاج في مجتمعات الصيد والرعي والجمع خاصة مجتمعات صيد السمك ودراسة التخصص في إنتاج بعض العناصر غير الغذائية. ه- دراسة الانثربولوجي للأسواق والعمليات التجارية وعمليات التبادل والاستدانة والأسهم وتبادل النقود والادخار وكيفية استخدام رأس المال. إنّ دراسات الانثربولوجي هذه للنظم الاقتصادية أثارت قضية علاقة الانثربولوجي بالاقتصاد وعلاقة الاقتصادي بالمفاهيم الاجتماعية وتحليل السلوك الاقتصادي في المجتمعات البسيطة, وهنا يبرز رأي مفاده أنّ الاقتصادي لا يمكن أن يساعد الانثربولوجي طالما أنّ مجال كل منهما يختلف عن الآخر حيث تختلف اقتصاديات المجتمعات البدائية عن اقتصاديات المجتمعات المتقدمة, ويخالفه رأي آخر بالقول أنّ المفاهيم والمبادئ الاقتصادية تلك المطبقة في المجتمعات المتقدمة المعقدة يمكن تطبيقها على اقتصاديات المجتمعات الصغرى, وأمام هذين الرأيين يتوجب على الانثربولوجي أن يلم بالنظرية الاقتصادية عندما يريد تفسير ظاهرة ودراستها بكفاءة وأن يضع بالحسبان أنّها قد لا تصلح لتفسير النظم الاقتصادية البدائية وبهذه الحالة يمكنه الاستفادة من الإرث الانثربولوجي حول مجتمعات متشابهه. 2- طبيعة النظم الاقتصادية: تتسم النظم الاقتصادية في المجتمعات البدائية بالبساطة إذا قورنت بالمجتمعات المتقدمة المعقدة, ومن ناحية أخرى تختلف هذه النظم الاقتصادية فيما بينها من مجتمع بدائي إلى آخر ولعل أبسط تلك النظم هو نظام جمع الطعام ويتلوه نظام الصيد وفي الغالب يوجد النظامان معاً مع تغلب أحدهما على الآخر وقد استطاع الإنسان بعد فترة طويلة اكتشاف نوع آخر من النظم الاقتصادية ذو كيفية متميزة وهو نظام استئناس الحيوان من خلال نظام الرعي واستزراع النبات (البستنة) وفيما يلي عرض مختصر لهذه الأنظمة. أ- نظام جمع الطعام: عاشت هذه المجتمعات على جذور وبذور النباتات وهي طعامهم الأساسي والوحيد حتى أطلق عليهم اسم (الحفارين) وسبب ذلك هو أنّ الحيوانات كانت نادراً جداً في أقاليمهم, وكانوا يستخدمون عصي مدببة الطرف في حفر الأرض بحثاً عن الطعام فيجمعونه بسلال بسيطة وهو عبارة عن جذور وثمار وبذور في أغلبها بذور عباد شمس وجوز ولوز, كما كانوا يصطادون بعض الحشرات (كالجندب) ويأكلونه مشوياً, وكان إذا صادفهم حيواناً وهذا نادر الحدوث كالغزال أو الماعز الجبلي فإنّهم يهجمون عليه بوحشية ويتخاطفون أشلاءه نيئة ويأكلونها ورغم كل هذه القساوة فإنّ طقوسهم الدينية حرمت عليهم أكل الكلاب والذئاب, لكن إذا اشتد بهم الجوع فإنّهم لا يتورعون عن أكل لحم البشر ومن أشهر هذه القبائل التي تعيش هكذا نمط غذائي هم قبائل (اندمان) و(تسماتيا) و(سيمانج) في بولينزيا وقبائل (الأقزام) في إفريقيا وبعض قبائل الهنود الحمر (الشوشون). ب- نظام الصيد: يعتبر أكثر النظم الاقتصادية انتشاراً في المجتمعات البدائية ولا يمارس بمفرده وإنما تعتمد المجتمعات التي تأخذ به على وسائل أخرى للحصول على الطعام وخاصة عندما يفشلون في الصيد وأهم تلك الوسائل هي جمع الجذور والبذور والفاكهة والحشرات والبيض وأفراخ الطيور, ويعد الصيد أقل بساطة من جمع الطعام وذلك لاختراع أدوات متعددة للصيد كالهراوة والحربة والنبلة والسهام والفخاخ والشراك والشباك والسدود والسنارة والبلطة والسكين وكذلك السموم التي تستخدم لقتل الفريسة, وقد يستخدم الإنسان الجوارح للصيد أو بعض الحيوانات كالحصان والجمل, كما استخدم وسائل الحيلة للتقرب من طريدته كالتخفي أو ارتداء جلود الحيوانات, ويمارس الصيد بطقوس خاصة ومعتقدات مثلاً تقام صلاة الصيد وتفرض محرمات على جميع أفراد القبيلة لضمان نجاح حملة الصيد وتنتشر التعاويذ والطقوس السحرية وغير ذلك, ففي مجتمعات (الأسكيمو) مثلاً يحرم النوم والعمل أثناء خروج حملة صيد الحوت, وتتميز المجتمعات التي تعيش على الصيد بصغر حجمها وذلك لأنّ طبيعة تلك النظم الاقتصادية لا تسمح بتوفير كمية كبيرة من الطعام, وكذلك لاحتمال عودة الصيادين بدون صيد, كما أنّ الصيد يحتاج إلى مجهود إنساني كبير نسبةً إلى عائده, ومن مميزات النشاط الاقتصادي القائم على الصيد هو التشابه التام بين نشاط العائلة الاقتصادي والنشاط الاقتصادي في نطاق المجتمع المحلي ويلاحظ كذلك أنّ كل تلك المجتمعات البدائية تمثل وحدة إنتاجية ووحدة استهلاكية بنفس الوقت. ج- نظام البستنة: استطاع الإنسان بعد شقاء وعناء لعصور طويلة معتمداً على الصيد والجمع أن يخترع نظاماً اقتصادياً أكثر وفرة واستقراراً وأقل جهداً ووقتاً هذا النظام هو استئناس النبات والحيوان وتحول الإنسان إلى مزارع وراعي, ومن الصعب تحديد أي النشاطين مارسه الإنسان قبل الثاني وذلك لأنّهما لم يمارسا في بقعة واحدة من العالم فقد مورسا تدريجياً في مراكز تجمع إنساني متعددة في العالم معدومة التواصل فيما بينها آنذاك ويبدو أنّ كل منهما قد وصل إلى هذا الاختراع العظيم مستقلاً عن المراكز الأخرى. لقد اختلف أسلوب استئناس النبات من قبل الإنسان فالأسلوب الأول والذي يسمى نظام البستنة (Horticulture) وهو الذي لا يستخدم فيه المحراث والأسلوب الثاني والذي يسمى نظام الزراعة (Agriculture) وهو الذي يستخدم فيه المحراث ولا شكّ أنّ أسلوب الزراعة تمثل نظاماً اقتصادياً أكثر تركيباً وتقدماً من نظام البستنة وتستعمل في البستنة أدوات يدوية مثل عصا الحفر والفأس, وهناك أعداد كبيرة من المحاصيل الناتجة عن البستنة كالقمح والذّرة والكسافا والبطاطا وهذه المحاصيل تعتبر العناصر الأساسية في غذاء المجتمعات التي تعيش على ذلك النظام الاقتصادي ويتطلب نظام البستنة قطع الأشجار وخلع الأعشاب ثمّ إعداد الأرض للبذار, ومن أكثر القبائل التي يمارس هذا النظام هم الهنود الحمر في أمريكا حيث كانوا يزرعون نبات الكسافا, ثمّ انتشر هذا النظام في أوروبا وإفريقيا والهند ويسمح نظام البستنة بنمو حجم المجتمع وزيادة عدد السكان إذا قورن بنظام الجمع والصيد لكنّه لا يساعد على استقرار المجتمع في مكان واحد لفترة طويلة, فاستخدام الأرض بكثرة يضعف من خصوبتها فيضطر المزارعون إلى هجر المنطقة والبحث عن أرض غيرها حيث لم يكن السماد الكيماوي قد صنع بعد ليستعيد خصوبة الأرض, لذلك كانت تلك المجتمعات تنتقل من إقليم إلى آخر وكانت تتعرض لمخاطر كثيرة منها سوء الأحوال الجوية وقضاء الحشرات والطيور على محاصيلهم. أما أقدم المجتمعات الإنسانية التي اكتشفت الزراعة فيرى العلماء أنّ منطقة الشرق الوسط وبخاصة العراق وإيران والشام ومصر هي أقدم مراكز اكتشاف الزراعة وذلك قبل حوالي 12-7 ألف عام مضى, وقد تطور نظام البستنة إلى نظام الزراعة باكتشاف وصنع المحراث واستعمال نظام الري مما أدى إلى ازدياد عدد سكان المجتمعات وتوفير فائض من المحاصيل الزراعية فنشأت المدن وظهرت المدنية, ولذلك لا تعتبر الزراعة من النظم الاقتصادية التي تطبقها المجتمعات البدائية فقط وإنما تأخذ بها المجتمعات المدنية أيضاً, أما المجتمعات المتقدمة فلا تتميز فقط باستخدام الزراعة وإنما بالتوسع في الصناعة والتقدم العلمي وارتفاع مستوى المعيشة, ولا تزال بالتوسع في الصناعة والتقدم العلمي وارتفاع مستوى المعيشة, ولا تزال في الوقت الحاضر تطبق الغالبية العظمى من المجتمعات البدائية نظام البستنة. د- نظام الرعي: مارس الإنسان البدائي الرعي تكيفاً مع ظروفه ومع البيئة فالغابات يمكن أن تكون مضماراً للصيد وللزراعة لكن الصحارى والأراضي السهلة يمكن أن تكون مراعي ومسجّات لقطعان المواشي والإبل وغيرها, يتركز نظام الرعي في آسيا وإفريقيا ويقلّ وجوده في الأمريكيتين,ففي إفريقيا توجد الصحراء الكبرى ومناطق (السفانا) شمال السودان وشرق وأقصى جنوب إفريقيا حيث مضارب قبائل (الهوتنتوت) و(الهيرور) وفي آسيا تمتد سهول (الأستبس) من بحر قزوين إلى حدود الصين وهي مضارب (للمغول) و(التتار) و (التازاك) وفي أقصى الشمال قبائل (اللاب) و(ياكوت) و(كورياك) التي ترعى حيوان (الرنا). ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ عدد المجتمعات التي تعتمد على الرعي فقط أقل بكثير من المجتمعات التي تجمع بين الزراعة والرعي وأنّ المجتمعات البدائية لا تستفيد من كلّ منافع الحيوانات التي ترعاها اقتصادياً ولهذا يرى بعض الباحثين أنّ دوافع الإنسان إلى استئناس الحيوانات هي دوافع دينية وكونها حيوانات أليفة وليس لاستثمار كل منافعها اقتصادياً. ورغم أنّ نظام الرعي قد تكون مجتمعاته أكبر حجماً من مجتمعات الصيد والجمع إلا أنّه يلزم الرعاة على الحركة والانتقال بحثاً عن الكلأ والماء, وقد ميز العلماء من خلال دراساتهم لخطوط حركة الرعاة إنّ هناك نوعين من الرحلات الرعوية, الأول يسمى (رحلات دائرية طويلة الأمد) وفيها ينتقل الرعاة من مكان لآخر سالكين طريقاً محدداً يتخذ شكل الدائرة وهذا كان سائداً بين معظم قبائل البدو في شبه الجزيرة العربية أما النوع الثاني فيسمى (رحلات موسمية) وتستغرق الرحلة الواحدة نحو عام وهذه سائدة إلى الآن في شمال العراق وبالذات عند قبيلتي (السورجيه) و(الهيركية) الكرديتين التي تتوزع قراهم الدائمية بين مدينة أربيل والحدود الإيرانية شرقاً وهذه القبائل مع بدء الصيف وتحديداً في شهر نيسان تهاجر إلى الشمال الشرقي وتتوغل أحياناً داخل الأراضي الإيرانية بمواشيها وحيواناتها ولا تعود إلى قراهم الأصلية إلا عندما يبدأ سقوط الثلج بالأماكن التي ترعى بها ويكون صعودها ونزولها بمراحل تدريجية, وكذلك إلى نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين كانت القبائل العربية بالعراق تهاجر بمواشيها من سهول العراق في وسط وشرق العراق إلى سلسلة جبال مكحول القريبة من مدينة الموصل ثمّ تتجه غرباً إلى جنوب حلب وإلى حماه وسهول بلاد الشام حتى سواحل المتوسط, وكان بعضاً من أجدادنا يرون ما حكى لهم آباؤهم عن هذه الهجرة وأنا أحد الذين روى لنا أجدادنا ذلك. تتسم القبائل الرعوية بتواضع وخفّة ممتلكاتهم من العفش والمواد وتزداد اهتماماتهم بحيواناتهم أحياناً بما يقدمونها على أنفسهم عندما يتعرضون للمجاعات وفي السنين القاحلة من شدّة حبّهم والتصاقهم بها. وأنا أضيف نوع ثالث وهو رحلة (العزيب) وهذه تعني خروج أصحاب المواشي ممن يمتهنون الزراعة والرعي سويّة في موسم الربيع بمواشيهم مع بعض من أفراد العائلة والانتقال إلى المناطق المفتوحة ذات المراعي الوفيرة الكلأ ويكون خروجهم في منتصف شهر شباط ويبقون يتجولون بتلك المناطق التي يقصدونها حتى نهاية شهر حزيران أو منتصف تموز وهذه إلى الآن يمارسها سكان قرى محافظات العراق المتاخمة للمناطق الجبلية أو المتموجة وتحديداً نينوى وديالى وواسط, كما لاحظتها في سورية حيث يقتربون من سواحل البحر المتوسط في نفس الموسم الذي ذكرته. لقد ابتدأت باستهلال هذا الفصل بمقولة العالم الانثروبولوجي مالينوفسكي بوجود العلاقة بين إشباع الحاجات والنظم الحضارية والاجتماعية وقد تطرقت إلى الحاجات الإنسانية الأساسية تفصيلاً, ثمّ في نهاية الفصل عرّجت على النظم التي أشار لها مالينوفسكي والتي من مسؤوليتها تلبية هذه الحاجات ووجدت أنّ النظام الاقتصادي هو الأساس والأهم من بين النظم الأخرى الاجتماعية والحضارية والسياسية لأنّها ترتكز على مرتكزاته ولو أنّ جميع النظم بعضها يتساند مع البعض وأي خلل بأحدها يربك البقية, ولا بدّ لي في خاتمة الفصل أن أبقى مع هذا العالم الكبير في دراسة له حول النظام الاقتصادي في جزر التروبرياند والتي تسمى بنظام (الكولا). إنّ التروبريانديين وبعض جيرانهم من سكان الجزر المجاورة يشكلون حلفاً غايته ينظم تبادل الأشياء كالعقود الصدفية الحمراء والأساور الصدفية البيضاء, وفي نظام التبادل هذا تجري العقود الصدفية الحمراء عبر الجزر متبعة خطاً دائرياً محدداً بينما تجري الأساور البيضاء وفقاً للخط الدائري المعاكس, إنّ هذه الأشياء كما لاحظ مالينوفسكي لا تتمتع بقيمة تجارية, إنما قيمتها طقسية ومدعاة للأبهة, وأبهتها تكمن في الصيت الذي يكتسبه الشخص من جراء تلقيه واقتناءه لها ثمّ وهبه لهذه الأشياء ذات التقدير الخاص لمن يحب ويرغب, أن الأشخاص الذين يزاولون هذه التبادلات لديهم شركاء مفوضون في كل جزيرة يزورونها وتتم المبادلات وسط احتفال عظيم وطبقاً لمراسيم ومجاملات معينة وبدون أية مساومة, أما بعد انتهاء مرحلة التبادلات الطقسية, فإنّ القوم ينصرفون إلى العمليات التجارية العادية ويلجأون إلى المساومات بصدد المأكولات والأصناف ذات الفائدة الشائعة. لكن الكولا بمعناها الحقيقي هي نظام تبادلي طقسي الذي تتجول بموجبه العقود والأساور عبر الجزر كل باتجاه معاكس للآخر, فهي تعود للمرور حتماً إلى المكان الذي انطلقت منه وتستمر في تجوالها الدائري إلى ما لانهاية, وألف مالينوفسكي عن عملية (الكولا) كتاباً خاصاً ألحق به بعض الأساطير والتقاليد لشعوب تلك الجزر وكيف يزرع الأهالي جنائنهم وكيف هو الوضع المجتمعي لنسائهم وكيف يصنعون زوارقهم فكانت دراسته هذه نموذجاً يوضح النظرة الانثربولوجية للنظام الاقتصادي في المجتمعات البدائية والبسيطة حيث أوضح فيها مالينوفسكي فكرته عن النسق الاجتماعي وتصوره للتحليل الوظيفي لهذا النسق, كما كتب عن قبائل (النوير) في السودان ونظامها الاقتصادي والسياسي وقبائل (كيكويو) و(أوخولو) في أثيوبيا.
المراجع 1. الانثربولوجيا وتنمية المجتمعات المحلية- د. محمد صفوح الأخرس- وزارة الثقافة السورية - 2001 2. علم الاجتماع السياسي- د. صادق الأسود- مطبعة الإرشاد- بغداد 1973 3. موسوعة علم الاجتماع- أ.د. إحسان محمد الحسن- الدار العربية للموسوعات – بيروت 4. الأنثروبولوجيا الاجتماعية – محمد الخطيب – دار علاء الدين للنشر- سورية 2008. 5. المدخل إلى الأنثروبولوجيا - د. شاكر مصطفى سليم – مطبعة العاني – بغداد 1975 6. مشكلة المرأة / الحل التاريخي – د. بدر الدين السباعي- دار الجماهير- دمشق 1985. 7. النظرية المعاصرة في علم الاجتماع – د. إبراهيم عيسى عثمان – دار الشروق- عمان 2005. 8. ثقافة تربية الأطفال بين الوعي والعلم – شاكر الخشالي – دار بصمات – سورية 2010. 9. المدخل إلى علم الاجتماع – أ.د.إحسان محمد الحسن- دار الطليعة – بيروت -1988. 10. نظريات معاصرة في علم الاجتماع – شاكر الخشالي – الموقع الإلكتروني للأكاديمية العربية المفتوحة بالدنمارك-2010. 11. التراث الشعبي والهوية – د.علي أسعد وطفة (مقال) مجلة المعرفة الصادر عن وزارة الثقافة السورية – العدد 559 لسنة 2010. 12. المدخل إلى علم الاجتماع – أ.د. معن خليل عمر وآخرون – دار الشروق- عمان 2006. 13. علم اجتماع المرأة – أ.د. إحسان محمد الحسن – دار وائل – عمان – 2008. 14. علم الاجتماع – روبرت نسيت – دوبرت بيران – ترجمة جرسي خوري- دار النضال – بيروت – 1990. 15. المطول في علم الاجتماع ج2- ريمون بوردن وآخرون- ترجمة د. وجيه أسعد – الهيئة العامة السورية للكتاب – دمشق 2007. 16. مناهج التعليم السومرية – البابلية منذ الألف الثالث ق.م (مقال)- فايز مقدسي- مجلة المعرفة – وزارة الثقافة السورية – العدد 558 آذار 2010. 17. الوعي الاجتماعي والتنمية (دراسة) – شاكر الخشالي- تطوير وزارة التربية العراقية.
| |
| | | salim 1979 التميز الذهبي
تاريخ الميلاد : 27/05/1979 العمر : 45 الدولة : الجزائر عدد المساهمات : 5285 نقاط : 100012179 تاريخ التسجيل : 06/11/2012
| موضوع: رد: الأصول التاريخية والنظرية للأنثروبولوجيا الإثنين سبتمبر 23, 2013 5:36 pm | |
| إنشاء هيأة الأمم المتحدة 24/10/1945 الكوميكون جانفي1949 حلف الناتو افريل1949 مبدأ ترومان 12/03/1947 مؤتمر بوتصدام افريل1947 مشروع مارشال 05/06/1947 أزمة برلين 1 1949/1948 مؤتمر لندن 1948 الكومنفورم 06/10/1947 انتصار ماوت صيتونغ وقيام جمهورية الصين الشعبية 01/10/1949 مؤتمر موسكو أكتوبر 1943 مؤتمر باندونغ 1955 وفاة ستالين والدعوة إلى التعايش السلمي مارس1953 حلف وارسوا ماي 1955 الحرب الكورية 1953-1950 مشروع ازنهاور 1956 حلف جنوب شرق آسيا 1954 مؤتمر جونيف 1955 منظمة اليونسكو ماي 1955 الاعتداء الثلاثي على مصر 1956 أزمة السويس 1956 انتهاء الثورة الكوبية 27/07/1953 إعلان جمال ع نا عن تأميم القناة 26جويلية 1956 أصبحت كوبا شيوعية 1959 مؤتمر يالطا فيفري1945 الثورة الكورية 1953/1949 الحرب في الهند الصينية 1954/1946 مؤتمر بغداد 1955 المعاهدة الامركية البيانية 1955 معركة ديان بيان فو 1954 تأسيس رابطة عوامي 1949 ميلاد حركة عدم الانحياز 19جويلية1956 اتفاقية سايكس بيكو 1916 وعد بلفور 1917 الانتداب البريطاني 1920 انتفاضة القدس 1929 الثورة الفلسطينية الكبرى 1939/1936 قرار التقسيم 1947 الحرب العربية الاسرائلية الأولى 1948 تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية 1964 الحرب العربية الاسرائلية الثانية 1967 الحرب العربية الإسرائيلية الثالثة 1973 انطلاق الانتفاضة 1987 قيام دولة فلسطين 1988 اتفاقية اواسو 1993 دخول عرفات الأراضي المحتلة 1994 | |
| | | | الأصول التاريخية والنظرية للأنثروبولوجيا | |
|
مواضيع مماثلة | |
|
| صلاحيات هذا المنتدى: | لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
| |
| |
| Like/Tweet/+1 | زوار المنتدى بالأعلام
|
|