المياه والصراعات حولها في دول المشرق العربي
د. عبد الأمير دكروب أستاذ في الجامعة اللبنانية
إذا كان الماء والهواء عنصران حيويان بالنسبة لحياة البشر لا يمكن العيش بدونهما, فإنه في ما يخص الهواء يعتبر متوافراً لأي كان بشكل مجاني في أي بقعة من بقاع الأرض. اما الماء العنصر الحيوي الذي لا حياة بدونه لكائن ما كان من انسان وحيوان ونبات فإنه غير متوفر في كل رقعة من بقاع الأرض, واذا توفر فإن وجوده وتوزيعه يختلف من منطقة إلى اخرى ومن قارة إلى قارة, بل داخل الدولة الواحدة, تبعاً للظروف المناخية والطبيعية, والاقتصادية والديمغرافية وغيرها من العوامل التي تتحكم في توزيع المياه.
والحقيقة انه حتى الوقت الراهن كُتِب الكثير حول موضوع المياه, وظهرت العديد من الدراسات سواء من افراد او مؤسسات او مراكز مختصة في العالم العربي وغيره. ومعظم هذه الدراسات كانت تأخذ الطابع الجيوسياسي, وان كانت بحاجة اكثر الى طابع علماني, سواء من حيث تقدير كميات المياه السطحية والجوفية, والمقارنة بين الموارد المائية المتوافرة والاستهلاك, والتنبؤات المستقبلية, الترشيد والمحافظة على هذه الثروات وكيفية تقاسمها... ويرجع ذلك الى غياب البيانات والمعلومات الدقيقة الكافية لأداء المهام البحثية. وهذه بحاجة الى مؤسسات متخصصة على صعيد الدولة والمنطقة كما في الدول المتقدمة, وإلا اصبحت هذه الكتب والدراسات ضحلة تجتر ذاتها كما هو حاصل الآن الى حدٍ كبير.
واذا كان العالم محظوظ ببعض بقاعه بوفرة المياه , فان مناطق أخرى تعتبر محرومة, او ذات موارد محدودة ومنها شرقنا العربي.
ولذا نرى ان معظم الدراسات عن المياه تؤكد ان مطلع هذا القرن سيكون مرحلة صراع على المياه في منطقة الشرق الأوسط لأسباب شتى, وان وضع المياه في هذه المنطقه والصراع حولها سيكون أعقد من مرحلة الصراع على النفط فيها. وقد عزّز هذا الرأي ما جاء في البيان الختامي للمؤتمر الدولي حول المياه والبيئة والمنعقد في دبلن عام 1992 والقائل “بأن الوضع المائي سينتقل من حالة الوفرة الى حالة الندرة, خصوصاً في المياه العذبة وسوء استخدامها. كما أشار البيان الى “ان صحة الإنسان ورفاهيته والأمن الغذائي والتنمية الصناعية والنظم الأيكولوجية معرضة جميعاً للخطر ما لم تتم ادارة الموارد المائية العالمية حالياً ومستقبلاً بفاعلية تفوق الأدارات السابقة.
كذلك أكد مؤتمر ريو دي جنيرو عام 1992 على ضرورة وضع استراتيجية دولية لحماية نوعية موارد المياه العذبة وامداداتها بهدف حماية البيئة والتنمية المستدامة”(1).
أهمية المياه وارتباطها بمشاريع التنمية:
من المؤكد انه في النصف الثاني من القرن العشرين, حدثت تطورات هائله على صعيد الكره الأرضية. سواء كانت تطورات صناعيه وتكنولوجية او عمرانية او سكانية, رافقها استغلال كبير للأراضي والموارد المائية المتوافرة. وقد حصلت هذه التطورات ولو بنسب مختلفة في شرقنا العربي, حيث تزايد عدد السكان بشكل هائل, وأصبحنا بحاجة الى ما يسمى بالأمن الغذائي. ويكفي ان نعرف ان الصادرات الزراعية العربية كانت تغطي أقل من 24 % من الواردات الزراعية عام 1998, وان العجز في الميزان التجاري الزراعي لذلك العام بلغ 21.6 مليار دولار في هذه الدول(2).
هذه الأرقام تظهر الصورة الهشة للأمن الغذائي العربي, ومدى التبعية الغذائية العربية وارتباطها بالخارج. ولكي يتوفر الأمن السياسي لأية دولة لا بد ان يكون مدعوماً بالأمن الغذائي, الذي كي يتحقق, لا بد من توفر الأكتفاء الذاتي والقيام بعملية تنمية متكاملة. ولتنفيذ مشاريع التنمية, والزراعية منها على وجه الخصوص, لا بد من توفير الموارد المائية والمحافظة عليها, او بالأحرى تحقيق الأمن المائي.
لكن تحقيق الأمن المائي في دول المشرق العربي هو من أعقد الأمور وأصعبها, اذ ان القسم الأكبر من اراضي هذه المنطقه يصنف مع الأراضي الجافة وشبه الجافة. كما ان سقوط الأمطار فيها يتميز بالتذبذب والتغير من عام لآخر. واذا كان العالم العربي يشكل 10.2% من مساحه العالم و5% من عدد سكانه, إلا ان موارده المائية العذبة لا تمثل اكثر من 0.5% من المياه العالمية المتجددة. ويعتبر العالم العربي الأفقر ماءً بالمقارنة مع باقي المناطق الكبيرة في العالم, اذ يبلغ المعدل السنوي لنصيب الفرد من المياه العذبة فيه حوالي 1000م3 سنوياً مقابل 7700م3 في العالم(3).
الى ذلك فإن العجز الهائل في الميزان الغذائي في الدول العربية, تلزمه كميات هائلة من المياه لتغطيته. وكلما مرّ الزمن ودارت عجلة التطور والتنمية وزاد عدد السكان, فإن الموارد المائية القليلة اصلاً في العالم العربي سوف تعجز عن تلبية الأحتياجات. وفي هذه الحالة سوف تتم تغطية العجز المائي بمزيد من استيراد المواد الغذائية مما يزيد العجز عن تحقيق الأمن الغذائي.
واذا كنا نتكلم عن الدول العربية والأمن المائي, فالمشكلة أعقد في شرقنا العربي, اذ يكفي ان نلاحظ ان معظم المياه السطحية القادمة الينا تتمثل بالأنهار الرئيسية الثلاثة: دجلة والفرات والنيل, ومنابع هذه الأنهار تقع خارج حدود الدول العربية. ولا يمكن لهذه الدول ان تتحكم بمنابع دجلة والفرات القائمة في تركيا, ولا في المشاريع الهائلة المتمثلة بالسدود الضخمة المقامة عليها كما هو حاصل في تركيا. وبالتالي فالأمن المائي لهذه الدول هو مخترق. ومن الممكن اذا زاد خرقه أن يؤدي الى معارك على موارد المياه, وكذلك الأمر بالنسبة لنهر النيل, بل هو أعقد, كون منابع النيل تقع في أثيوبيا وغيرها من الدول الافريقية.
اما على الصعيد الداخلي في هذه المنطقة, فتوجد عدة أنهار داخلية مهمة مثل العاصي والليطاني ونهر الأردن الذي يعتبر من اهمها, ومعظم منابعه في سوريا ولبنان. لكن اسرائيل تستأثر بالقسم الاكبر من مياهه, إما بالسرقة او باستخدام سياسة القوة. لذا فإن الدول العربية المشرقية في حالة لا تحسد عليها, وهي مضطرة ان تحقق الحماية لأمنها المائي, سواء على الجبهة الخارجية مع الدول المتحكمة بالمنابع, او على الجبهة الداخلية المتمثلة بالعدو الأسرائيلي الذي من صلب عقيدته واستراتيجيته السطو على مياه جيرانه, وهو الطامع المتربص بالمياه الداخلية في كل بلد عربي مجاور, وعلى سبيل المثال تربصه التاريخي والمتواصل بنهر الليطاني. ولا يمكن الحفاظ على الحق المائي العربي إلا بتظافر الجهود العربية وإيجاد استراتيجية عربية موحدة تجابه المخاطر الخارجية على هذه الثروة المائية. وذلك يكون بالمحافظة على هذه الثروة وترشيد استخدامها لحمايتها من الشح والنضوب.
من الواضح مدى الترابط بين الأمن الغذائي والأمن المائي, وهذا الأخير بحاجة الى استراتنيجية عسكرية وعوامل قوة لتأمين الحفاظ عليه.
واذا قلنا بتوازن القوة, فهذه القوة لن تتوفّر في ظل أنظمة فقيرة ذات اقتصاديات متواضعة. فالقوة العسكرية يجب ان تكون مدعومة بقوة اقتصادية. وللوصول الى الحفاظ على الأمن المائي لا بد من تحقيق الأمن الغذائي. وهذا الأخير مرتبط بعمليات التنمية المستدامة. والمياه عصب هذه التنمية. فالزراعة حتى تنهض في بلادنا لا بد لها من المياه, كون معظم الدول العربية تعتمد في زراعتها على الريّ. واذا كانت الدول النامية ومنها البلاد العربية قد اعطت الأولوية في برامج تنميتها الى الصناعة والمظاهر العمرانية في المدن, فإنها عادت وتراجعت نسبياً عن هذا الخطأ, اذ بعد وقوعها في الفجوة الغذائية الهائلة اضطرت الى إيلاء الزراعة بعض حقها, والى التوسع في مشاريع الريّ واستصلاح الأراضي مما يتطلب كميات هائلة من المياه.
والزراعة وان كانت اكثر القطاعات الاقتصادية حاجة الى المياه في عملية تنميتها, فالصناعة لا تقل عنها حاجة, وكذلك الخدمات على اختلافها. واذا أخذنا بالحسبان الزيادة السكانية الهائلة مع عملية التنمية البشرية من جميع وجوهها, الى التقدم الحضاري وارتفاع مستوى المعيشة, فكل ذلك من شأنه زيادة الطلب على المياه في ظل عمليات التنمية. واذا كانت بعض الدراسات تشير احياناً الى ان الموارد المائية في المنطقه قد تكون كافية على الأقل في المستقبل القريب, شرط ان يتم استهلاك المياه بإشراف سياسة رشيدة, فإن آراء بعض المتخصصين لا تتوافق مع ذلك, ويرى بعضهم ان “هذه الموارد ليست موزعة بين بلدان المنطقة بالتساوي وبشكل يتناسب مع حاجاتها, اضافة الى ان القسم الأكبر من مصادر المياه في المنطقة هو عبارة عن انهار عابرة للحدود. ومن هنا خطر البعد الإقليمي المتزايد على مسألة المياه. وبما ان لهذا البعد الأقليمي, اضافة الى الجانب الاقتصادي التنموي, جوانب اخرى متعددة (سياسية, حقوقية وعسكرية), فإن مسألة التنمية في المنطقة في جوانبها المتعلقة بالمياه
اصبحت ترتبط الى حد بعيد بمسألتي التعاون والصراع بين دول المنطقة حول مصادر
المياه”(4).
أسباب تفاقم الصراع حول المياه في المشرق العربي
مما لا شك فيه انه في النصف الثاني من القرن العشرين ازداد استهلاك المياه العذبة بعشرات الأصعاف عما كان عليه سابقاً. والسبب المباشر لهذا الأستهلاك المفرط هو الزيادة السكانية الهائلة وارتفاع مستوى المعيشه لدى الشعوب. وفي الوقت الراهن ولا سيما في الثلث الأخير من القرن العشرين, تفاقمت أزمة المياه العذبة على الصعيد العالمي عموما وكذلك في شرقنا العربي. حتى قيل في مؤتمر استوكهلم عام 1982 حول المياه :” ان المياه العذبة ستأخذ مكانها الى جانب مصادر الطاقه الأخرى, كقضية سياسية اساسية خلال العقد القادم, وان منطقة الشرق الأوسط هي الأكثر حساسيه في هذا الأمر “(5). وفي الوقت ذاته أفادت بعض تقارير وكاله الأستخبارات الأميركية التي صدرت في الثمانينات بأن هناك عشر مناطق في العالم مرشحة لحروب بسبب النزاع على المياه العذبة, على رأسها منطقة الشرق الأوسط (بين العرب واليهود وبين العرب والأتراك). ومن ابرز الأسباب لخلق ازمة المياه في منطقة الشرق العربي ما يلي:
1- زرع الكيان الصهيوني:
ان منطقة الشرق الأوسط تشكل واحدة من بؤر التوتر العالي في العالم. وكان زرع الكيان الصهيوني في هذه المنطقة وتشريد سكانها, السبب الأبرز في تأجيج المشاكل والأزمات وخلق ما يسمى اليوم بالصراع العربي الأسرائيلي. واذا كان هذا الصراع في بداياته يأخذ شكل المجابهة العسكرية, فإن مشكلة شحّ المياه وأطماع العدو الصهيوني صاحب الأيديولوجية الزراعية المائية في مياه جيرانه وسطوه عليها, فتح الصراع على جبهة اخرى هي جبهة المياه.
2- تقسيم المنطقه الى كيانات سياسية:
اذا كانت منطقة الشرق الأوسط قد بقيت هادئة لفترة طويلة على جبهة المياه, وكانت كل دوله تأخذ احتياجاتها من المياه سواء منها السطحية ام الجوفية بدون أية مشاكل, فالسبب في ذلك يعود بالدرجة الأولى الى قلة عدد السكان آنذاك من جهة والى وجود هذه المنطقة في ظل سلطة مركزية واحدة, فلا يمكن ان ينشب صراع مثلاً على مياه دجلة والفرات بين تركيا من جهة والعراق وسوريا من جهة اخرى, كون السلطة العثمانية كانت هي المسيطرة على كل هذه المنطقة.
لذلك فإذا اردنا ان نبحث اسباب تفاقم الصراع في المنطقة على المياه من الجائز القول بأن اتفاقية سايكس بيكو التي قسّمت المنطقة الى دويلات, وجعلت لكل دويلة مصالحها المائية المنفردة, فكان ذلك من الأسباب الواضحة في تأجيج الصراع على المياه. وكما نرى فإن القانون الدولي لم يدخل في كل هذه التفاصيل الدقيقة في توزيع مياه الأنهار المشتركه وبقيت هنا الغلبة للأقوى, بينما لم تكن المشكلة مطروحة بالأساس لو كانت المنطقة ضمن ادارة سياسية واحدة.
3- الظواهر المناخية:
بأستثناء لبنان الذي يعتبر واحة الدول العربية حيث تتلقى معظم اراضيه كمية لا بأس بها من الأمطار تسمح بقيام زراعات بعلية, فإن الصحارى تسيطر على اراضي معظم الدول العربية التي تزيد مساحتها عن 14 مليون كلم2 ولا تشكل الأراضي الزراعية او الصالحة للزراعة فيها أكثر من 11% منها. وهناك 69% من هذه الأراضي يقلّ فيها معدل الأمطار عن 100ملم سنوياً, و20% منها يتراوح هذا المعدل فيها بين 100و400 ملم سنوياً(6).
ومن المعروف ان المناخ في معظم البلاد العربية يتّسم بارتفاع درجات الحرارة أغلب أشهر السنة, ويسيطر الجفاف اكثر كلما اتجهنا نحو الداخل الصحراوي. ويزداد المدى الحراري الفصلي واليومي, ويقل عدد الأيام الماطرة. واذا كانت السنة اصبحت تتميز بفصلين واضـحين هما الصيف والشتــاء, فـإن فصل المطر يعتبر قصيراً نسبياً. واذا كانت الأمطار تتساقط في فصل الشتاء, فهي تتميّز بالذبذبة بين عام وآخر. واذا كانت الحاجة الى المياه في فصل الشتاء قليلة نسبياً في ما يخصّ الزراعات المروية, فإن هذه الحاجة تبلغ أوجها في فصل الصيف الذي يعتبر فصل الجفاف حيث يخف تصريف الأنهار وتقل المياه الجوفية وتزداد حاجة النبات الى المياه.
ومما يزيد من حدة الأزمة ان هذه الظروف المناخية الصعبة والمتذبذبة ترافقها موجة من التصحّر تتمثل بغزو الكثبان الرملية للمناطق الهامشية المحاذية للصحراء, مما يقلّل من مساحات الأراضي الزراعية, وتدهور حالة المراعي الطبيعية وتراجع مساحتها من عام لآخر, يضاف الى ذلك تراجع في مساحة الغطاء النباتي المتمثل بالغابات الطبيعية.
4- التزايد السكاني:
يعتبر هذا المؤشر من أهم عوامل زيادة الصراع على المياه في المنطقة العربية, اذ يكفي ان نعرف انه على صعيد العالم العربي كان عدد السكان سنة 1970 حوالى 122 مليون نسمة(7),فأصبح عام 1985, 190 مليون نسمة, و273 مليون نسمة عام 1999(
وإذا أخذنا بمعدل النمو السكاني الذي هو حالياً 2.4 %, فإن عدد السكان حالياً هو 293 مليون نسمة في العام 2002.
هذه المؤشرات تكفي لأن نعرف بأن الموارد المائية التي كان ينالها 122 مليون نسمة عام 1970 اصبح يتقاسمها اليوم 293 مليون نسمة, واذا ما استمرّ هذا التزايد بالوتيرة نفسها حتى العام 2025 فأي موارد مائيه سوف تكفي هذه الأعداد والهائلة في ظل موجات التصحر والجفاف؟
لا شك بأن مثل هذه الزيادة السكانية سيكون لها مضاعفات هائلة على حياة البشر في هذه المنطقة من حيث أمنهم المعيشي والغذائي والإجتماعي وعلى تأجيج حدة الصراع بينهم على الموارد المائية. فتأمين الغذاء لهذه الأعداد المتزايدة من السكان يعتمد على توسيع الرقعة الزراعية, والتوسع في استصلاح الأراضي يحتاج الى موارد مائية كبيرة في منطقة تعاني من التصحر والجفاف بينما الموارد المائية فيها محدودة.
اضافة الى ذلك فإن اسرائيل بعد احتلالها لجميع الأراضي الفلسطينية عام 1967 اصبحت تضم في ذلك الوقت 3.72 مليون نسمة من عرب ويهود, وارتفع هذا العدد الى 6.43 مليون نسمة عام 1990 ومن المقدر له ان يكون قد فاق ثمانية ملايين نسمة عام 2000(9). وقد بلغ عدد السكان العرب في فلسطين المحتلة (الضفة الغربية وقطاع غزة) 3.1 مليون نسمة عام 1999. إن اسرائيل في حالة الركود السكاني سابقاً قد اشعلت حروباً ومدّت يدها الى المياه العربية في كل من سوريا والأردن ولبنان. فكيف بها اليوم وهي تتعرض لهذا السيل الهائل من المهاجرين خصوصا بعد انهيار الإتحاد السوفياتي. نجد ان تفكيرها وطموحها يذهب الى أبعد من حولها حيث منابع الأردن واليرموك ليصل الى الليطاني بل الى منابع النيل ودجلة والفرات. وهذا من صلب عقيدتها وشعارها الذي يشير الى حدودها من النيل الى الفرات. ومثل هذه الأمور لا يخفيها باحثوها وسياسيوها في جميع اقوالهم وكتاباتهم. بل جعلوها قضية دولية يروّجون لها ويدرجونها على طاولات المفاوضات.
5- التقدم الحضاري وارتفاع مستوى المعيشة:
لا شك بأن التقدم الحضاري والإجتماعي والصحي وارتفاع مستوى المعيشة والوعي لدى الشعوب سوف تزيد جميعها من مستوى الأستهلاك البشري للمياه ومواردها. وفي العقود السابقة عندما لم تكن معظم الأرياف مجهزة بشبكات المياه, وكانت وسائل نقل المياه من الأنهار والينابيع بالطرق البدائية, كانت حاجات الفرد من المياه حينذاك حوالي 20 ليتراً في اليوم. وهذا الرقم يعتبر متواضعاً جداً مع ما تعتبره المنظمات الدولية كحد ادنى لاستهلاك الفرد اليومي والذي يقدر حالياً ما بين 150200 ليتر يومياً. بينما معدل استهلاك الفرد في الدول المتقدمة يتراوح بين 400 و500 ليتر يومياً. وفي اسرائيل يبلغ المستوى 400 ليتر يومياً بينما في سوريا لا يتجاوز 100 ليتر. وعلى العموم فإن نسبة الأستهلاك المائي المتوفر للفرد العربي حالياً لا تتجاوز 14% مما هو متوفر للفرد في أوروبا(10).
اضافة الى ذلك يشير احد تقارير البنك الدولي عن المياه في المنطقة العربية. بأن كمية المياه المتوفرة لهذه المنطقة سنة 1960 كانت 3300 مليون م3 ولسوف تنخفض هذه الكمية الى النصف في العام 2025, ويعتبر التقرير ان بعض دول المنطقة تقوم بتدمير مياهها الجوفية مما يعجّل في نضوبها, كونها تقوم بسحب كميات اكثر مما يجب. كما يذكر التقرير بأن ندرة المياه سوف يصاحبها التلوث لأن مياه الصرف تتجه الى الأنهار والبحيرات(11). كل هذه العوامل سوف تزيد من حدة الصراع على المياه في الشرق العربي. واذا كانت حصة الفرد من المياه المتجددة في مطلع الستينات داخل المشرق العربي عالية نسبياً, فإن هذه الحصة هي في تراجع مستمر. والجدول التالي يوضح ذلك.
6- حاجات القطاعات الإقتصادية الى المياه:
تختلف التقديرات حول توزيع المياه على القطاعات الإقتصادية المختلفة. لكنها تجمع على ان الزراعة هي المستهلك الأكبر للمياه في جميع بلدان العالم. وكون معظم الزراعات العربية منتشرة في مناطق مناخية جافة, فإن حاجتها الى المياه تكون اكبر ولاسيما في فصل الجفاف. ويشير احد التقارير ان المياه تتوزع في المنطقة العربية بين القطاعات الاقتصادية على الشكل التالي: 83% في الزراعة, 11.5% في الصناعة و5.5 % في الإسكان(12).
بينما يشير بعض المراجع الى ان الزراعة تستهلك 87%, في حين تستهلك الصناعة نحو 7% والإستعمالات المنزلية حوالى 6%. ويظهر الجدول التالي كيفية استخدام الموارد المائية في مختلف القطاعات الاقتصادية في بعض دول المشرق العربي.
واذا كانت الزراعة تستأثر بأكثر من 80% من المياه, فإن طرق الري غيرالمتطورة تؤدي الى هدر أكثر من 37.5 % من مجموع المياه المستخدمة. هذا اذا عرفنا ان الهكتار المروي في مثل هذه البلاد الجافة يحتاج الى حوالي 12 الف م3 سنوياً, ويمكن تخفيض هذه الكمية الى 7500م3(13) اذا ما احسنّا استغلال المياه وغيّرنا في طرق الري وهذا من شأنه ان يساعد على توسيع رقعة الأراضي المروية بالوفر المائي. ثم ان عمليات تطوير قطاع الانتاج الحيواني التابع للزراعة سوف يزيد من الضغط على كميات المياه المستخدمة كون مزارع الدواجن والأبقار وغيرها تحتاج الى كميات اكبر من المياه اذا تغيّرت من الطرق التقليدية الى الطرق المتطورة.
ولا زالت الصناعة في دول المشرق العربي في مرحلة النمو وليس هناك من صناعة ثقيلة وضخمة وهذه تستهلك المياه بكميات هائلة, اذ ان انتاج طن واحد من النحاس مثلاً يحتاج الى 500م3 من المياه . وانتاج طن من النيكل يحتاج الى 800 م3, وانتاج طن من الحديد يحتاج الى 200 م3. ومن الورق بين 450 و1000 م3(14).
هذا عدا المشكلات التي تخلقها الصناعة في تلويثها للمياه العذبة خصوصاً عندما يعاد ضخ المياه العذبة المستخدمة في الصناعة الى المجاري المائية والبحيرات وما تحمله من مخلفات كيماوية ومواد سامة. ولا يقل خطر الزراعة في تلويث المياه عنه في الصناعة. اذ ان عمليات استخدام الأسمدة الكيماوية ومواد الرش والمكافحة والمبيدات على اختلافها ومخلفات المزارع الحديثة كلها تؤدي الى تلوث المياه بنفايات يصعب التخلص منها إلا بأكلاف باهظة, كذلك الأستهلاك المنزلي المتزايد, وعلى الأخص في المدن الكبرى, وتنوع النفايات الحضارية كلها عوامل تؤدي الى زيادة الطلب على المياه وتلوثها في آن معاً. وزيادة الطلب هذه على موارد مائية محدودة من شأنه ان يؤدي الى خلق نزاعات وحروب بين الدول المتجاورة ذات المصادر المائية المشتركة وعلى الأخص في منطقة الشرق العربي.
والخلاصة فإن زيادة السكان والتوسّع الزراعي والصناعي والعمراني وإقامة مشاريع التنمية المختلفة, يضاف الى ذلك إهمال صيانة المنشآت المائية, وعدم استعمال الأساليب الحديثة في الريّ, والترشيد الأمثل في استخدام المياه, وعدم وجود توافق بين الدول المعنية بالموضوع, كلها أسباب سوف تؤدي الى تفاقم الصراعات حول المياه. وليست النزاعات والحروب هي الحل الأمثل لأن أي حرب سوف تؤدي الى ضرب مشاريع التنمية ويكون حصيلتها الدمار والتخلف. إن الأسلوب الأمثل ان يتم الحل بالتفاهم والطرق السليمة واستخدام الأساليب السياسية للوصول الى الحلول العادلة. وهذا كله ممكن بين الدول العربية ذاتها وبينها وبين تركيا. ولكن الصعوبة تكمن على الجبهة الأسرائيلية لأن الموضوع برمته خاضع للتسلط والسرقة والأنانية للدولة العبرية.
ميزان الموارد المائية والإحتياجات المستقبلية في دول المشرق العربي
أ- لبنان والوضع المائي:
أشرنا الى ان لبنان أشبه بالواحة في محيطه العربي. إذ ان معظم اراضيه تتلقى كمية من الأمطار تكفي لقيام زراعات بعلية, ما عدا منطقة الهرمل التي يحجب عنها جبل المكمل المؤثرات المناخية نظراً لأرتفاعه فتنخفض نسبة التساقط فيها, ما بين 200و400 ملم سنوياً. أما بقية المناطق اللبنانية فترتفع أمطارها من 600 الى 1000 ملم. وهذا النطاق يشمل معظم الأراضي الساحلية والهضاب التي تليها والجنوب وقسم من البقاع. بينما تزيد كمية الأمطار في مرتفعات السلسلة الغربية وجبل حرمون من 1000 الى 1500 ملم سنوياً. وهنا لا بد من الأشارة الى ان كيول الأمطار قد بدأت في لبنان منذ نهاية القرن التاسع عشر, حيث انشئت محطة في الجامعة الأميركية, ومن بعدها محطة كسارة في البقاع وهي تابعة للجامعة اليسوعية. واستمرت هذه المحطات في التزايد حتى بلغت في اوائل السبعينات 143 محطة, مشكّلة شبكة رصد كاملة لمعظم الأراضي اللبنانية بمعدل (محطة لكل 73 كلم2)(15).
اما كميات المياه والثلوج المتساقطة على الأراضي سنوياً, فتختلف تقديراتها من مرجع لآخر. ولكنها كلها في النهاية متقاربة مع فروقات قليلة, ما عدا القليل الذي يظهر فارقاً يذكر. ويقدرها المدير العام السابق للتجهيز المائي والكهربائي المهندس محمد فواز بـ9700مليون م3 في السنة(16). وقد ورد الرقم ذاته في كتاب: “مياه لبنان نفط لبنان” للدكتور هيام ملاط. كذلك اعتمد وزير الموارد المائية والكهربائية السابق المهندس جعفر شرف الدين هذا الرقم في كتابه “الوضع المائي في لبنان” وهذه الأرقام كما نرى تمثل الرقم الرسمي المعتمد من قبل وزارة الموارد المائية والكهربائية. اما مجلس الإنماء والإعمار, فيقدّر كمية الهطولات السنوية في لبنان عام 1980 بحوالي9200مليون م3, والأب بلاسار واضع الخريطة المائية للبنان سنه 1970 فقد كان تقديره الأقل بين التقديرات وهو8200 مليون م3(17).
هذا مع العلم ان هذه الكمية تشكل المعدل الوسطي, وهـي عرضة للتذبذب من عام لآخــر. وقد لا تشكل في سنة جافة اكثر من 55% من المعدل الوسطي, أو قد تزيد في سنة ماطرة الى 155% عن هذا المعدل. واذا ما تم اعتماد الرقم الرسمي للهطولات الصادرة عن وزارة الموارد المائية, فإن كمية المتساقطات من امطار وثلوج على الأراضي اللبنانية تبلغ 9700 مليون م3 في السنة, ويضيع من هذه الكمية المتساقطة ما يلي:
5070 مليون م3 بالتبخر.
600 مليون م3 بالتسرب الى باطن الأرض.
415 مليون م3 الى سوريا في نهر العاصي.
95 مليون م3 الى سوريا في النهر الكبير الشمالي.
140 مليون م3 الى فلسطين في نهر الحاصباني.
وبذلك تكون الكمية الصافية للبنان والتي يمكن استغلالها
9700-(5070 +600+415+95+140)= 3375 مليون م3
والجدير ذكره ان 76% من هذه الكمية الباقية والبالغة 3375 مليون م3 تصل في الأشهر الرطبة, والباقي يعود لأشهر الصيف الجافة التي تزداد فيها الحاجة الى
المياه(18). وقد ورد هذا الرقم عن الكمية المتبقية. من المياه في مرجع آخر على انه 2700 مليون م3. وعلى أي حال فإن هذه الكمية سواء كانت بالتقدير المتوسط او بالتقدير الأدنى, فإنه لا يمكن للبنان بأي حال من الأحوال ان يستفيد منها كلياً. وأقصى ما يمكن الأستفادة منها في فصل الصيف هو حوالي 800 مليون م3 يضاف اليها ما يمكن استغلاله من المياه الجوفيه والمقدر بـ400 مليون م3. بالإضافة الى ما يمكن تخزينه في البحيرات والسدود الجبلية في فصل الأمطار والمقدرة بـ500 مليون م3. وبذلك تكون الكمية القصوى التي يمكن الأستفادة منها في الأشهر الجافة حوالي 1700 مليون م3. مع ان هذا الرقم يقدر في مراجع اخرى بحوالي 2200 مليون م3. ومهما يكن من أمر فإنه تستحيل السيطرة على كامل المياه نظراً لجريان الأنهـار اللبنانية السريع, وكلفـة السـدود, وجيولوجية الأرض المتشققة وغيرالقابلة للتخزين احياناً.
اما الكميات المستخدمة حالياً في لبنان من المياه فتقدر على الشكل التالي: 670 مليون م3 للزراعة والري, 150 مليون م3 للشفة والإستخدام المنزلي و40 مليون في الصناعة. أما في ما يخصّ الري فإن مصادر المياه السطحية تساهم بـ420 مليون م3 والمياه الجوفية بـ 250 مليون م3(19). ونظراً لغياب مشاريع الري العامة التي توقفت بسبب الحرب, فقد ازداد الضغط على المياه الجوفية من خلال حفر الآبار بدون رقابة مما أصبح يشكّل خطراً على المياه الجوفية في لبنان.
اما الأرقام الحالية فلا شك انها تختلف عن التقديرات السابقة خصوصاً بالنسبة للإستهلاك المنزلي. فإذا اعتمدنا التقدير الحالي للسكان في لبنان والذي يجاوز 3.6 مليون نسمة عام 2000. ومعدل الإستهلاك اليومي للفرد والذي تتفاوت التقديرات حوله كثيراً. يتبيّن أن المعدل الوسطي هو 165 ليتر يومياً للفرد, وهذا الرقم معتمد في اغلب الدراسات عن لبنان, وهو يقل كثيراً عن مستوى استهلاك الفرد اليومي في الدول المتقدمة والذي يزيد عن 400 ليتر. فيكون بالنتيجة ان الأستهلاك المنزلي السنوي في لبنان يقدر بحوالي 217 مليون م3 سنة 2000. اما الأستهلاك الصناعي فمن الصعب تقديره بسبب التعامل المباشر مع مصادر المياه وغالباً بدون رقابة حكومية. ومع أن أغلب المراجع قدّرت الطلب الصناعي على المياه بـ 50 مليون م3 سنوياً في التسعينات, إلا ان بعض المصادر رفعت هذا الرقم الى 240 مليون م3
عام 2010(20).
اما في ما يخص الطلب الزراعي على المياه , فيمكن القول ان مساحة الأراضي الزراعية التي يمكن توفرها كحد اقصى في لبنان وعلى المدى البعيد هي حوالي 490 الف هكتار, (وكحد ادنى على المدى القصير 385 الف هكتار). اما المساحة المزروعة حالياً عام 2000 فتبلغ 248 الف هكتار, والباقي اراض زراعية متروكة او اراض يمكن استصلاحها. اما الأراضي المروية فتبلغ حالياً في لبنان104 الآف هكتار او 40% من مجمل الأراضي المزروعة.
ومن هذه الأراضي المروية يسقى القسم الأكبر بطريقة الجر 63.5% و28% بطريقة البخّ, والباقي 8.5% بطريقة الري بالنقط(21). واذا علمنا ان الهكتار الواحد يحتاج ما بين 7 الاف و10 الاف م3 من المياه لريه سنوياً, فإن الأراضي المروية في لبنان تستهلك حاليا بمعدل 10 الاف م3 للهكتار جرّ, و7 الآف م3 للهكتار بخّ, وتنقيط حوالي 962 مليون م3. معنى ذلك ان حاجات لبنان المائية حالياً للزراعة والإستخدام المنزلي والصناعة (مع التحفظ على مستوى حاجاتها التي اوردناها في الحد الأدنى) تساوي 1229 مليون م3 سنوياً.
فكيف لو اردنا ان نروي جميع الأراضي اللبنانية الزراعية أو الصالحة للزراعة في حدها الأدنى والتي تقدر بـ 385 الف هكتار فمن الطبيعي اننا سوف نحتاج على قاعدة الإحتساب السابقة الى حوالي 3850 مليون م3. وهذا ما لا يتوفر في لبنان من جميع المصادر المائية المتاحة والتي قدرت بـ 3300 مليون م3.
أوردنا هذه المعطيات والأرقام لنتوصل الى القول بأنه مهما روّجنا لأنفسنا, بأن لبنان “قصر المياه” وان لبنان واحة الدول العربية المائية. ومهما روّج العدو من اضاليل بأن المياه اللبنانية فائضة عن حاجة البلد, وان قسماً كبيراً منها يذهب هدراً في البحر, وان لبنان مستعد لبيع قسم من مياهه لجيرانه, فإنه لا صحة لكل ذلك, اذ ان مياه لبنان اذا ما استخدمت بالشكل الأمثل في جميع الميادين التي هي بحاجة الى المياه, واذا ما طبّقت خطط التنمية في جميع المناطق اللبنانيه وظل المستوى الحضاري والإجتماعي والعمراني سائراً نحو الأفضل, فإن مجموع كمية المياه الصافية في لبنان والتي لا يمكن السيطرة عليها كلياً كما اوردنا, تعتبر غير كافية اطلاقاً. ولسنا بحاجة الى اثباتات في هذا المجال, فالأرقام تنطق بذلك والكل يدرك حالياً ذلك اذا ما لاحظنا ان المياه لا تصل بشكل منتظم وبالكمية المطلوبة الى جميع البيوت في المدن. وكذلك في الأرياف رغم عدم الأنتظام في توزيع المياه, إذ أن قرى عديدة لا زالت تشتري المياه بالصهاريج من اماكن بعيدة عنها. و في فصل الصيف تثور النزاعات وتتفاقم بين الفلاحين على موارد المياه لري اراضيهم.
ب- الوضع المائي في سوريا:
تتكون الموارد المائية السورية من عدة مصادر هي: مصادر تقليدية وهي عبارة عن الأمطار والمياه السطحية المتمثلة بالأنهار والينابيع. والمياه الجوفية. يضاف الى ذلك بعض الموارد المائية غير التقليدية والمتمثله بمياه الصرف الزراعي والصرف الصحي الموجود في المدن حيث تتجه الى الأنهار(بردى والعاصي), وان كانت قد اتخذت بعض الأجراءات لمعالجة هذه المياه قبل استخدامها في الري. وقد اتينا على ذكر هذه الموارد الأخيرة المتمثلة بالصرف الزراعي والصحي كون التقديرات المائية المتأتية عنها قدّرت حسب مصادر وزارة الري السورية بـ 975 مليون م3 عام 1998(22).
ومع ان كميات الأمطار الهاطله على سوريا تعتبر كبيره نسبياً حيث تقدر بحوالي50 مليار م3 سنوياً, إلا ان القسم الأكبر منها او اكثر من 70% يضيع بالتبخر. اما مياه الأنهار السورية فيمكن تقسيمها الى عدة فئات: فئة تنبع من خارج سوريا وتمر بها وهي الأنهار الرئيسية الفرات ودجلة والعاصي. وفئة تنبع من سوريا وتصب خارجها كاليرموك وبانياس. وفئة ثالثة هي أنهار داخلية. وهذه الأخيرة ليست مثار نزاعات بينما الفئتين الأولى والثانية عرضة للمشاكل والنزاعات.
وعلى كل فالإيرادات المائية المتاحة في سوريا تقدر بحوالي 23 مليار م3. وهي موزعة كالتالي: 10.363 مليار م3 مياه سطحية وجوفية. والجوفية وحدها تزيد عن 2 مليار م3 يضاف الى هذه الموارد مصدر هام يقدر بـ 13 مليار م3 يدخل الحدود السورية من نهري الفرات ودجلة(23). وبالرغم من هذه الثروة المائية المتاحة فإن سوريا تعتبر من الدول التي تواجه أزمات في ميزانها المائي, خصوصاً بعد الزيادة السكانية العالية. ويكفي ان نعرف ان عدد السكان في سوريا كان سنة 1985 حوالي 10.3 مليون نسمة وفي سنة 1999 أصبح 16.1 مليون نسمة, أي بزيادة قدرها 57% عما كان عليه قبل 14 عاماً. ولا زالت سوريا تعتبر من الدول ذات النمو السكاني العالي والبالغ 3.3% سنوياً(24).
ولا شك أن أثر هذه الزياده السكانية يظهر على الأقل في دمشق وضواحيها, حيث قارب مقدار هذا المجمع السكاني 3.5 مليون نسمة, مما أدى الى تفاقم أزمة المياه حالياً في هذه المنطقة. هذا وقد رأينا ابان انشاء المشاريع التركية على نهر الفرات ودجلة في تركيا وتعبئة تلك السدود التي تصل قدرة تخزينها الى 90 مليار م3. أي ما يعادل مياه نهر الفرات على مدى ثلاث سنوات. وكان لذلك العمل مردود سلبي جداً آنذاك على كل من سوريا والعراق, أدى الى نشوب أزمة حادة بين الدول الثلاث المتشاطئة على النهر. ونتيجه لذلك انخفض منسوب المياه في بحيرة الأسد على الفرات في سوريا الى ادنى مستوى له, وبقيت توربينة واحدة تعمل من اصل ثمانية لتوليد الطاقة, علماً بأن 60% من موارد الطاقة الكهربائية في سوريا تتولد من تلك المحطة. وكان الضرر اكبر في المحاصيل الزراعيه في العراق(25).
هذا عدا عن المشاكل الظاهرة في جنوب غربي سوريا والمتمثلة في سرقة اسرائيل لمياه الجولان ومياه اليرموك, اضافه الى موجات الجفاف التي تتعرض لها هذه المنطقة التي يسيطر عليها المناخ الصحراوي وشبه الصحراوي. وهذا بدوره سيؤدي الى خفض مستوى الموارد المائية السطحية والجوفية في هذا البلد. كل هذه العوامل مجتمعة تضع سوريا في خضم أزمة الصراع على المياه في منطقة الشرق الأوسط, وتجعلها عرضة للتجاذب بين جارتها الشمالية تركيا وعدوتها الجنوبية اسرائيل, علماً بأن مواردها المائية المتوفرة اقل نسبياً من غيرها من الدول المحيطة بها, لذا تعتبر أشد حاجه اليها. فإذا قلنا ان موارد سوريا القابلة للأستثمار تقدر بحوالي 23 مليار م3 فإن ثروة تركيا السطحية والجوفية تقدر بـ 214 مليار م3 وثروة العراق 76.5 مليار م3.
الوضع المائي في الأردن:
يعتبر الأردن من الدول التي تعاني نقصاً شديداً في المياه, وموارده المائية شحيحة بشكل عام. وتزيد مساحة الأردن عن 90 ألف كلم2 تشكل الصحراء اكثر من 80 % منها, لذا فإن الجفاف يسيطر على البلد, والأمطار متذبذبة فيه من عام لآخر. وهي لا تتوزع بشكل عادل على معظم المناطق. اضف الى ذلك نسبة النمو السكاني تعتبر الى حدٍ ما عالية تقارب 3% سنوياً. وموجات الهجرة التي يتعرض لها الأردن (كما في حرب 1967 وفي حرب الخليج حيث تم تهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين الى الأردن). ويكفي ان نعرف انه في الخمس عشرة سنة الأخيرة زاد سكان الأردن الى الضعف تقريباً. وبينما كان عدد السكان عام 1985 حوالي 2.7 مليون نسمة, أصبح في العام 2001 اكثر من 5 ملايين نسمة(26).
اما كميات الأمطار السنوية في الأردن فتتركز في القسم الشمالي الغربي من البلاد ويبلغ حجمها 7200 مليون م3 . وفي السنوات المطيرة قد يرتفع هذا الرقم الى 12000 مليون م3. وتتراجع هذه الكمية الى 6000 مليون م3 في سنوات الشح. واذا كان المعدل العام للأمطار في المناطق الشمالية الغربية 500 ملم فإنه يتراجع في المناطق الجنوبية والشرقية الى اقل من 50 ملم(27). وتتراجع نسبة الأمطار كلما اتجهنا نحو الداخل في العمق الصحراوي.
ويحصل الأردن على مياهه من مصدرين هامين هما: المياه السطحية والمياه الجوفية. اما المياه السطحية فهي عبارة عن مياه الأنهار دائمة الجريان والينابيع ومياه الفيضانات. اما الأنهار بالمفهوم المتعارف عليه فلا يوجد منها في الأردن سوى نهر واحد هو نهر الأردن والروافد التي له مثل اليرموك (وهو مشترك مع سوريا), ونهر الزرقاء وبعض اودية العرب والكرك وغيرها من الأودية التي تنبع من الضفة الشرقية لنهر الأردن. وقد انشىء العديد من السدود على هذه المجاري للإستفادة بالشكل الأفضل من مياه الفيضانات والسيول والتحكم بها لأيام الجفاف.
وتقدر الكمية المتوفرة للأردن من المياه السطحية بحوالي 720 مليون م3 . بينما المصدر الثاني للمياه في الأردن تشكله المياه الجوفية, ويقدر حجمها بـ 443 مليون م3 . وهي تتعرض الآن لعملية سحب جائرة مما يزيد نسبة الملوحة فيها. ومن هذه المياه الجوفية ما يعتبر مياها جوفية متجددة, وهذا جيد لأنها تتغذى سنوياً بمياه الأمطار. مع العلم انه في العديد من مناطق المياه الجوفية في الأردن اصبح ميزان المياه سلبياً, حيث انه يتم السحب بنسبة اعلى من التجدد. اما المياه الجوفية الأخرى فتعتبر مياها غير متجددة وربما تعود مياهها لآلاف السنين, ونسبة تزويدها بمياه الأمطار والتسرب قليلة جداً نظراً لبعدها عن مناطق سقوط الأمطار, اذ هي تتواجد على الحدود الجنوبية للأردن مع السعوديه. علماً بأن السعودية تعتبر ناشطة في سحب المياه الجوفية القريبة من حدود الأردن الجنوبية, مما يعرض هذه المياه للنفاد. ويظهر ان الأردن يستنزف موارده المائية الجوفية بكثافة اعلى من أي بلد آخر, حتى ان حوالي 30% من المياه الجوفية المستخرجة لا يتم تعويضها بالتغذيــة. مما يسبب هبوطاً في مستوى هذه المياه ويزيد من نسبة ملوحتها.
وكما اشرنا تعتبر كميات المياه محدودة بشكل عام في الأردن. والمستغل منها لا يفي بحاجه السكان. وما يمكن تطوير استغلاله تعتبر تكلفته باهظة نظراً لبعد مراكز الاستخراج عن مراكز الإستهلاك. وعلى الرغم ان الأردن يعتبر اكثر من غيره تطوراً في استغلال موارده المائية المحدودة, إلا أن كونه دولة شبه داخلية ولها حدود مشتركة مع العديد من الدول المجاورة, فهو دولة معرضة للمشاركة في احواضها السطحية والجوفية مع كل من سوريا, السعودية واسرائيل. وكما هو معروف ليس هناك من اتفاقيات ثابتة تحدد حصة كل دولة من هذه المياه.
وهكذا فان الاستفادة من نهر الأردن قليلة, نظراً لأن اسرائيل حولته واستأثرت بمعظم مياهه. وليس الوضع بأفضل على نهر اليرموك الذي يعتبر الرافد الأهـم لنــهر الأردن, والذي تبلغ طاقة تصريفه السنوية بأكثر من 400 مليون م3 وهو نهر مشترك بين سوريا والأردن وقد تم الأتفاق على توزيع مياهه واقامة سد الوحدة عليه بين الدولتين عام 1987 حيث ابرمت الأتفاقية ولكنها لم تنفذ نظراً للضغوطات الأسرائيلية الكبيرة الطامعة في مياه هذا النهر.
وبعد هذا العرض يتبيّن ان اجمال الأيرادات المائية في الأردن يبلغ حوالي 1600 مليون م3. 40% منها من الأمطار, وهذه تستخدم في تطوير الزراعات البعلية, والباقي أقل من مليار م3 يؤمن الى حدٍ ما مناصفة من المياه السطحية 54% من المياه الجوفية 46%(28).
لقد دخل الأردن مرحلة أزمة تأمين الموارد المائية لسكانه. فقد ارتفع عدد السكان بشكل كبير, وكذلك تضخمت المساحات العمرانية والمدنية. كما ارتفع معدل استهلاك الفرد من المياه. فبعد ان كان معدله 60 ليتراً يومياً في اوائل السبعينات, أصبح 85 ليتراً في اوائل التسعينات. وارتفعت بشكل ملفت الحاجة الى المياه للأستهلاك المنزلي. كذلك فان الصناعة وبعد ان كانت تستهلك في اوائل السبعينات 7 ملايين م3 أصبحت تستهلك 45 مليون م3 في اوائل التسعينات وهي في ارتفاع متواصل, بينما كان يقدّر الإستهلاك المنزلي في اوائل التسعينات بحوالي 180 مليون م3. وما يصحّ عن استهلاك المياه للعمران والصناعة يصحّ كذلك في المجال الزراعي. اذ تطورت الزراعات المروية في الربع الأخير من القرن العشرين بشكل كبير, ولاسيما في منطقة الأغوار والمناطق المرتفعة. وتستهلك الزراعة ما مجموعه 650 مليون م3(29). وبذلك نرى ان الأردن يستهلك حوالي 900 مليون م3 من المياه في اوائل التسعينات وهي مرشحة لأن تفوق المليار م3 حالياً.
وهكذا يتبيّن أن الحاجة الى المياه في الأردن تزداد تفاقماً, اذ ان مصادر التزويد بالمياه تقل عن الحاجات المطلوبة. ويزداد كذلك الفرق بين الطلب على المياه وبين ما هو متوفر. وعلى الرغم من ذلك فإننا نرى الأردن مستمر في تطوير مشاريعه المائية. وقد انفق عليها الكثير من الاموال, وتتراوح حصة الإنفاق على مشاريع المياه بين 915% من مجمل مشاريع التنمية. وتتمثل هذه المشاريع بإنشاء السدود على الأنهار واقامة الخزانات السطحية في جميع انحاء المملكة وخزن مياه الأمطار. ولا يزال الأردن يضاعف جهوده لتطوير موارده المائية وترشيد استغلالها وفرض التشريعات لمنع هدرها. وفي الوقت نفسه تحاول الحكومة الأردنية التفتيش عن مصادر رديفة مثل تحلية مياه البحر, او استيراد المياه من العراق, او الأستمطار الصناعي, وهي مشاريع باهظة التكاليف لم يتم انجازها حتى اليوم.
الوضع المائي في اسرائيل:
عرضنا وضع المياه في كل من الدول العربية المجاورة لإسرائيل في المشرق العربي. ولا يخفى على احد المطامع الإسرائيلية في السيطرة على قسم من مياه جيرانها لتدعيم كيانها الإستيطاني التوسعي. وعامل المياه يشكل جزءاً مهماً في استراتيجية الدولة العبرية. بنت وتبني عليه احلامها التوسعية منذ بدء التفكير في نشأتها. واذا كان الصراع العربي الإسرائيلي تمثل سابقاً في حروب كثيرة دارت حول اقتطاع الأراضي العربية المجاورة, فلا شك ان المياه بدأت تظهر بشكل ابرز كوجه مهم من اوجه هذا الصراع.
وبشكل عام تعتبر فلسطين من الدول غير الغنية بالمياه. وبينما تتلقى اراضيها الشمالية في منطقة الجليل كميات من الأمطار قد تصل الى 1000 ملم سنوياً نجدها تنخفض تدريجياً كلما اتجهنا نحو الجنوب حتى تصل الى حوالي 38 ملم في ايلات حيث يسيطر المناخ الصحراوي الجاف على هذه المنطقة المتمثلة بصحراء النقب. واذا كان القسم الأكبر من اسرائيل الى الجنوب من مدينة يافا لا يساهم بأكثر من 15% من المياه في اسرائيل فإن النصف الشمالي والواقع الى الشمال من يافا يساهم بـ85% من مياه اسرائيل نظراً لكثرة امطاره من جهة ولأن مياه الأمطار تجري اليه من الدول العربية المجاورة (لبنان, سوريا, والأردن) من جهه اخرى. واذا كانت مياه الأمطار فوق فلسطين تقدر بحوالي 10 مليارات م3 سنوياً فإن القسم الأكبر منها يضيع بالتبخر والتسرب.هذا وقد تضاربت الآراء حول الحد الأقصى الذي يمكن الإستفادة منه من هذه الهطولات. ما يتراوح بين 1500 مليون م3 و3200 مليون م3. إلا ان معظم المراجع الإسرائيلية اجمعت اخيراً على الرقم1850 مليون م3. بينما حددته الموسوعة اليهودية 1650 مليون م3(30). هذا مع العلم ان مصادر اخرى تقدر كمية الهطولات بحوالي 6 مليار م3 سنويا. وهي تكفي في شمال اسرائيل لقيام زراعة بعلية, اما في الجنوب فهي غير كافية ولا بد من الإعتماد على مصادر اخرى.
وتجمع الدراسات حالياً على ان اسرائيل هي في حالة من العجز المائي وان هذا العجز كان مقدّراً عام 2000 بـ 800 مليون م3. وان مواردها المائية ستقل بمعدل 30% عما هو مطلوب اذا ما استمرت على هذا المسار من استهلاك المياه, حيث ان حاجات الصناعة والإستهلاك المنزلي تتزايد بوتائر عالية نظراً للتطور الصناعي ولزيادة عدد المهاجرين اليها. واذا كان الإستهلاك الصناعي والمنزلي لم يشكلا في سنه 1974 اكثر من 25% من حجم المياه المستهلكة في اسرائيل, فإن هذا الرقم ارتفع في سنه 1979 الى 30% وفي سنه 1985 الى 35%.(31) وقد اشير الى هذا الرقم في مرجع آخر على انه 32% عام 1990. والحقيقة ان هناك الكثير من المعطيات التي تشير الى ان اسرائيل تخفي الكثير من أرقام احتياجاتها المياه او الكميات المستهلكة, لتظهر دائما بمظهر الدولة المحتاجة والتي لم تبلغ كامل حقوقها في اية مفاوضات, وإلا كيف نفسر هذا التغير في الأرقام, وأحياناً التراجع في نسب الإستهلاك, علماً ان سيل المهاجرين قد تدفق عليها بعد التسعينات واحتياجات الصناعة والسكان في تزايد مستمر الى المياه. وتعتبر اسرائيل من الدول التي تؤمن وفراً مائياً لسكانها يزيد عما هو موجود لدى جميع جيرانها, وعلى سبيل المثال اذا كانت حصة الفرد اليومية للمياه في سوريا لا تزيد عن 100 ليتر, فإنها في اسرائيل تفوق 500 ليتر يومياً.
واذا كانت اسرائيل حين نشأتها لم تستهلك من مياهها المتوفرة اكثر من 350 مليون م3 في اوائل 1949 فإن هذا الرقم قد ارتفع الى 2145 مليون م3 عام 1985 (مضافاً اليها استهلاك المناطق المحتلة في الضفة والقطاع). وقد تراجع هذا الرقم الى 1902 مليون م3 عام 1990 (بدون استهلاك المناطق المحتلة)(32).
ويتوزع استهلاك المياه في اسرائيل على القطاعات الاقتصادية المختلفة على النحو التالي:
نلاحظ من هذا الجدول ان هناك بعض الفروقات الطفيفة في العامين المذكورين بطريقة استهلاك المياه. وحيث انه زادت حصة المياه للإستخدام المنزلي وهذا أمر طبيعي نظراً لزيادة عدد السكان, نرى من جهة اخرى تناقص حصة المياه للزراعة. وهذا ما تحاول اسرائيل التخطيط له حالياً على الرغم ان القطاع الزراعي يعتبر اساساً في العقيدة الصهيونية. كذلك نلاحظ انه في هذا الجدول لم يذكر مقدار ما يستهلكه العرب في الأراضي المحتلة عام 1967 والذي يقدر بحوالي 165 مليون م3 عام 1985.
الموارد المائية في فلسطين:
اذا كان باستطاعتنا ان ندرس حاجات اسرائيل المائية وحاجات الضفة والقطاع كل على حــدة, وتحديد هذه الحاجات المستقبلية, فانه من الصعب ان نفرق في دراسة مصادر المياه لأنهم (العرب واليهود) داخل فلسطين يشتركون في شبكة هيدرولوجية واحدة, سواء منها السطحية او الجوفية. وتستقي فلسطين مواردها المائية من عدة مصادر: الأمطار والمياه السطحية المتمثلة بالأنهار والينابيع والمياه الجوفية واخيراً من معالجة المياه. وقد تطرقنا من قبل لعامل الأمطار. اما المياه السطحية فتتمثل بالأنهار دائمة الجريان والتي يأتي على رأسها نهر الأردن. ونظراً لأهمية هذا النهر وامتداد حوضه في كل من سوريا ولبنان والأردن وفلسطين, ولأنه لبّ الصراع على المياه بين العرب واسرائيل فلا بد من اعطاء تفصيل مبسط عن هذا النهر.