) الصراع على المستوى المحلي:
الصراع على الموارد في ولاية شمال دارفور:
أ) الملامح الجغرافية للإقليم:
يصنف ثلثا مساحة السودان الواقعة في الشمال والوسط ضمن الأقاليم الجافة وشبه الجافة. ويتراوح المطر من صفر في المناطق الصحراوية إلى أكثر من 1500 ملم في جنوبي البلاد (جدول رقم 1). ويمكن التمييز بين المناطق المصنفة صحارى حارة التى يقل فيها المطر عن 400 ملم وتلك المصنفة مناطق الحشائش الحارة (استبس) والتى يقل فيها المطر عن 800 ملم. وتقع ولاية شمال دارفور ضمن المناطق الجافة وشبه الجافة فيما يعرف بحزام الساحل أو الساحل الإفريقي الذي يمتد عبر القارة من الشرق إلى الغرب ويمثل التخوم الجنوبية للصحراء الكبرى (الشكل 3) (الجدولين 1 و 3). وقد عاني هذا الحزام كثيراً خلال تاريخه الطويل من شح الأمطار وتذبذباتها مما أدى إلى موجات من القحط والجفاف والمجاعة عبر فترات متقطعة مؤكدة معاناة الإنسان نتيجة لشح الموارد الأرضية المائية والنباتية والزراعية. وتؤكد موجة الجفاف الأخيرة في الثمانينيات من القرن الماضي ما ذهبنا إليه حيث هلكت أعداد من الأنفس في المجاعة ونفقت أعداد كبيرة من الماشية مما اضطر السكان للنزوح إلى جهات أخرى من السودان.
ويمكن تحديد ولاية شمال دارفور بدائرتي عرض 13° - 20° شمالاً وخطي طول 22° - 27.5° شرقاً. وتبلغ مساحة الولاية حوالي 122.479 كم2 (الشكل 4) وبلغ عدد سكانها حسب تعداد 1993م حوالى 1.155.800 نسمة وكانت الكثافة السكانية في حدود 9.4/كم2. وإذا ما اعتبرنا الزيادة السكانية السنوية في حدود 3% خلال الفترة الماضية فيمكننا تقدير السكان في الوقت الراهن بحوالي 1.5 مليون نسمة بالحساب البسيط وذلك يعنى كثافة سكانية في حدود 12.2/كم2. وقد يشير متوسط الكثافة السكانية إلى أرقام متدنية نتيجة لشح الموارد ولكن الكثافة الفعلية خاصة في الأماكن التى تتوافر فيها المياه والمراعي عادة ما تكون عالية. وتتميز ولاية شمال دارفور بأنها هضبة مستوية يتراوح ارتفاعها بين 500 – 1000م فوق سطح البحر عدا منطقة جبل مرة حيث يتراوح ارتفاعها بين 1000–1500م بينما تصل قمة الجبل إلى 3150 م فوق سطح البحر. أما متوسط الأمطار الساقطة في العام فيقل عن 500 ملم في حدها الأقصى وتتناقص باتجاه الشمال إلى أقل من 25 ملم (الشكلين 5 و 6) وبتطبيق طريقة ديمارتون تصبح ولاية شمال دارفور ضمن النطاقات الجافة وشبه الجافة (جدول رقم 2). أما النباتات فتتراوح بين الصحراوية وشبه الصحراوية إضافة إلى أراضي السافنا والشجيرات ذات الأمطار القليلة في الأراضي الطينية والرملية (Barbour: 1964 ، محمدين وأحمد : 1981، القصاص: 1999م). وبما أن الإقليم يتميز بقلة الأمطار وتذبذباتها وارتفاع درجات الحرارة التي لا تقل عن 30°م طوال أشهر السنة فإن القيمة الفعلية للمطر تظل قليلة نتيجة لعمليات البخر – نتح.
والمطر هو المصدر الأساسي للمياه ويعتمد عليه النبات والإنسان والحيوان. وتساعد الأمطار الساقطة في تغذية الخزانات الجوفية السطحية التي يتم استغلالها في المناشط المختلفة. وتقوم الجهات الرسمية بحفر الآبار العميقة والسطحية والحفائر وبناء الخزانات كما يقوم الأهالي بحفر الآبار السطحية. ولكن من الواضح أن المنشآت المائية غير كافية لسد حاجة الأعداد المتزايدة من السكان والحيوان. وتفتقر ولاية شمال دارفور ، كغيرها من ولايات السودان، إلى المسوح المائية (الهيدرولوجية) الدقيقة للتعرف على المخزون من المياه الجوفية السطحية والعميقة والتي تشكل الأساس في عمليات التنمية. ويعتمد السكان على الطرق التقليدية البدائية في الاستفادة من المياه المتوافرة. ونستطيع القول إن عدم كفاية المياه يعد العامل الحاسم في محدودية التنمية الاقتصادية المرتبطة بالزراعة والرعي (كوزى : 2004م). كما أن التوسع الزراعي بطرق غير مدروسة والرعي الجائر والاحتطاب كانت السبب المباشر في تدهور البيئة وما تبعه من نقص في المحاصيل الزراعية والأعلاف. فقد توسعت الزراعة في أراضٍ يتراوح المطر فيها ما بين 250 – 350 ملم وهى مناطق لا يكون المحصول فيها مضموناً وفي ذات الوقت تأخذ هذه التوسعات الزراعية من أرض المرعي. أما فيما يخص القطع الجائر للأشجار تقول بعض الدراسات إن الأسرة الواحدة في شمال دارفور تقطع 325 شجرة وشجيرة في السنة وذلك بواقع شجرة كل يوم تقريباً دون الاهتمام باستزراع الغابة. فإذا كان تعداد السكان حوالي 1.5 مليون نسمة كما أسلفنا وأن حجم الأسرة في حدود سبعة أشخاص فهذا يعنى أن عدد الأسر في شمال دارفور يكون في حدود 200 ألف أسرة يقطعون من الأشجار ما يعادل 65 مليون شجرة وشجيرة في العام الواحد (عبدالمقصود:1997م). وتستخدم الأخشاب مصدراً للوقود ومادة لبناء المساكن وعلفاً للحيوان. إن قطع الأشجار بهذه الطريقة في البيئة الجافة دون استزراع الغابة لا شك يقود إلى كارثة بيئية ويضر كثيراً بالزراعة والمرعي لما يترتب على ذلك من تعرية للأرض وجرف للتربة وتدهور للبيئة الهشة. وكل هذا بالطبع يزيد من حدة التنافس بين المجموعات على موارد الأرض. وفوق هذا وذاك تسجل الولاية تزايداً في أعداد السكان والحيوان مما يزيد من حدة الضغط على الموارد المتاحة ومن ثم يقود إلى النزاع والصراع بل الاقتتال والحرب بين المجموعات المتنافسة.
ب) زيادة أعداد السكان والحيوان والضغط على الموارد:
النزاع والصراع بين القبائل في شمال دارفور صراع قديم بدأ في عهد الاستعمار وهو نزاع يلازم المجتمعات القبلية في كل مكان. من ذلك النزاعات القبلية في الجزيرة العربية قبل اكتشاف النفط. والصراعات الدائرة في أفغانستان حتى اليوم صراعات قبلية وحتى الصراعات في منطقة البلقان لا تعدو كونها صراعات قبلية. فقد رصد أكثر من ستين نزاعاً بين القبائل في شمال دارفور خلال الفترة 1930 – 2001م وذلك بواقع نزاع كل عام. وكانت معظم هذه النزاعات على الأرض (93%) وشكل النزاع على المرعى (76%) من جملة النزاعات بينما كان نصيب النزاعات حول الحدود الإدارية (17%). إذاً فالنزاع على الأرض ومواردها يشكل أهم أنواع الصراع غير أن هناك أسباباً أخرى للنزاع بعضها ثقافي وعرقي والبعض الآخر سياسي. وتدل كثرة النزاعات في الآونة الأخيرة على أن الصراع على الموارد هو الأهم والأكثر تكراراً.
تشير الأرقام إلى أن سكان ولاية شمال دارفور زادوا من 530 ألف نسمة في عام 1973م إلى 1.15 مليون نسمة في عام 1993م كما أننا قدرنا الأعداد بحوالي 1.5 مليون نسمة في عام 2003م. وهذا يعنى أن السكان تضاعفوا ثلاث مرات خلال الثلاثين عاماً الماضية. ويذكر كوزى (2004م) أن أعداد السكان في محلية كبكابية قد زاد من 89 ألف نسمة إلى 270 ألف نسمة في الفترة (1973 –2003م) كما أن الكثافة السكانية ارتفعت من 8/كلم2 إلى 23/كم2 خلال نفس الفترة. وهذه الزيادة على مستوى المحلية تدل على أن السكان تضاعفوا ثلاث مرات كذلك خلال الفترة المذكورة. أما مساحة الأرض المزروعة في ولاية دارفور الكبرى فقد كانت في حدود 760 ألف فدان في عام 1961م وصلت هذه المساحة في ولاية شمال دارفور وحدها إلى 2.5 مليون فدان في عام 2002م. فبالإضافة إلى أن التوسع في الأراضي الزراعية يكون على حساب المرعي ويزيد من الاحتكاك بين الرعاة والمزارعين فإن العمليات الزراعية تقود إلى جرف التربة وتعريتها مما يزيد من عمليات التدهور البيئي وتدني إنتاجية الفدان من الحبوب والغلات. إن التدني في إنتاجية الأرض يقود المزارعين إلى الرغبة في التوسع الأفقي للمزارع للحصول على الغلات اللازمة لإطعام المزيد من السكان. وصحبت الزيادة السكانية زيادة في أعداد الحيوان. فزادت رؤوس الماشية من 3.7 مليون رأس في عام 1976م إلى 13 مليون رأس في عام 2002م (كوزى : 2004). أي تضاعفت أعداد الماشية أكثر من ثلاث مرات خلال 26 عاماً. من هذا نخلص إلى أن زيادة أعداد السكان والحيوان والتنافس على الموارد الأرضية الشحيحة وتضارب المصالح تمثل لب النزاع والصراع بين الرعاة والمزارعين في الولاية والنزاع عادة ما يبدأ فردياً ثم يتطور إلى نزاع قبلي وأخيراً أخذ النزاع أطواراً خطيرة عندما بدأت التحالفات بين القبائل مما يزيد من حدة الصراع ويجعله عاماً وشاملاً وأكثر دموية. ثم بعد ذلك أخذ الصراع طابعاً سياسياً عندما قامت المجموعات المسلحة بمحاربة الحكومة.
ج) ممارسات الرعاة والمزارعين التى تزيد من الاحتكاك والنزاع: 1) ممارسات الرعاة:
- عدم الالتزام بمواعيد الرجوع في 28 فبراير من كل عام مما يولد احتكاكاً مع المزارعين الذين لم يكملوا عمليات الحصاد.
- دخول حيوانات الرعاة المزارع وإتلاف الزروع.
- زيادة أعداد الحيوان التى تطلب مساحات أكبر من المرعى.
- نظرة الرعاة الدونية للزراعة والمزارعين.
2) ممارسات المزارعين:
- القبض على الحيوانات التى دخلت مزارعهم مطالبين بغرامات عالية.
- التوسع الزراعي في أراضي المرعى والمراحيل.
- حجز مساحات واسعة من المرعي كزرائب مما يقلل من مساحة المرعى.
- عدم اكتفاء بعض المزارعين بالقبض على الحيوانات التى دخلت مزارعهم بل يتم الاستيلاء على كل القطيع دون تمييز (كوزى : 2004م) (الشكل
.
د) الأبعاد السياسية للصراع:
بدأت السياسة تدخل في النزاعات القبلية في عهد مايو (1969م) عندما قامت الحكومة آنذاك بحل الإدارة الأهلية واستبدالها بنظام الحكم الإقليمي الذي ساعد بدوره على المنافسة بين المجموعات للحصول على المناصب على أساس قبلي. وقد تميزت الإدارات الأهلية السابقة لمايو بقوتها وصرامتها في تطبيق القوانين مما جعلها مهابة الجانب. واستطاعت هذه الإدارات بما لديها من حنكة وحكمة منع النزاع والصراع والحروب بين المجموعات المتنافسة على الموارد الأرضية. هذا في الوقت الذي فشلت فيه الإدارات الجديدة منذ مايو في استتباب الأمن ومنع الصدامات المسلحة بين القبائل مما أدى إلى انفلات الأوضاع الأمنية. وقد تصّعد الصراع في دارفور في الوقت الذي كانت فيه الحكومة تولى جل اهتمامها لمشكلة جنوب السودان. وقد ساعد المتمردون في جنوب السودان في إشعال نار الفتنة في دارفور لتوسيع جبهة القتال مع الحكومة. وقد أدى ضعف الأجهزة الأمنية الرسمية إلى أن سعت المجموعات المتنازعة للحصول على السلاح دفاعاً عن النفس وساعد تدفق السلاح على الولاية من الدول المجاورة على انتشار ظاهرة النهب المسلح مما زاد من مشكلة النزاع على الموارد تعقيداً. وحتى النهب المسلح نفسه فله علاقة بشح الموارد إذ يعتبره بعض ضعاف النفوس طريقة سهلة للحصول على دخل ولكن من الناحية الشرعية فهو أخذ أموال الناس بالباطل. وتتبع عمليات النهب المسلح عمليات الثأر خاصة وأن الأجهزة الأمنية أصبحت غير قادرة على مطاردة الجناة ومعاقبتهم (كوزى: 2004، رأفت : فبراير 2005، النحاس: فبراير 2005م، نعمة : أبريل 2005م). والنهب المسلح نوع من أنواع الإفساد في الأرض وتكون معاقبته بنص الكتاب. يقول سبحانه : (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة:33). وقد ساعدت كل من الحرب الليبية التشادية والحروب الأهلية التشادية في توافر السلاح وتداوله بين المجموعات المتنازعة في دارفور مما أشعل فتيل الحرب كما أن القبائل الممتدة بين السودان وتشاد ساعدت في تأجيج الأوضاع الأمنية حيث إنها تقدم على الغزو والنهب ثم التسرب سريعاً عبر الحدود إلى تشاد.
هـ) الأبعاد الإثنية والثقافية للصراع:
وبما أن مجتمع دارفور مجتمع قبلي تتفشى فيه العصبية القبيلة والجهل فقد احتدم فيه النزاع والصراع بين المجموعات القبلية (الشكل 7). أما القبلية والعصبية فتمثل أبغض أنواع الصراع بين البشر وقد جاء الإسلام للقضاء عليها. وقد ركز الإسلام على الأسرة نواة المجتمع والأمة الإسلامية وحارب العصبية القبلية. يقول سبحانه وتعالى في كثير من الآيات: (يَأ يُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء:1). ويقول جل من قائل: (يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13). ويقول جل شأنه: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ) (الروم:22). ويقول رسول الهدى عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم: "كلكم من آدم وآدم من تراب". ويقول (صلى الله عليه وسلم ): "لا فضل لعربي على أعجمي ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى". فليس في الدين قبلية وليس في الدين عصبية والمهم عند الله ليس الصلة بالرحم والعلاقة بالدم ولكن أهم رابط بين الناس هو الدين الحنيف. يقول الحق سبحانه: (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (هود:45-46). والدين الإسلامي واللغة العربية هى أهم القواسم المشتركة بين سكان شمال السودان بما في ذلك دارفور على الرغم من الاختلافات العرقية. وسكان دارفور هم مسلمون 100%. أما سكان شمال السودان المسلم فيشكلون مزيجاً من الدماء النوبية والعربية والإفريقية وثقافة أهل شمال السودان واحدة هى الثقافة العربية الإسلامية. كل هذه القواسم المشتركة تجعل من إقليم دارفور إقليماً لا يتجزأ عن عموم إقليم شمال السودان.
و) الأبعاد الخارجية للصراع:
مما سبق يتضح أن معظم الصراعات والنزاعات على المستويات العالمية والإقليمية والمحلية هى صراعات على الموارد. ويشتد الصراع العالمي على الموارد التى أشرفت على النضوب مثل مصادر الطاقة. أما معظم الصراعات العالمية فهي بين الدول العظمى المهيمنة على القوة والدول النامية التي تملك الموارد. كما أن معظم النزاعات الإقليمية هي بين دول العالم الثالث والتي تكثر فيها أيضاً النزاعات الداخلية أو المحلية. تحولت أزمة دارفور بشكل متسارع من نزاع محلي كان يتكرر بين القبائل سنوياً إلى صراع إقليمي ثم دولي. ولعبت القوى الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي دوراً بارزاً في تدويل الأزمة بناءً على أجندة خاصة بها تدور كلها حول الموارد المعدنية في عموم السودان وخاصة الموارد النفطية. ولعب الإعلام الغربي والمؤسسات غير الحكومية الغربية مثل أوكسفام والأمم المتحدة الدور الأكبر في تصعيد أزمة دارفور والمبالغة في حجمها بهدف تدويلها على الرغم من أن الاتحاد الإفريقي بدأ في إيجاد الحلول للمشكلة وأرسل أول دفعة من جنود حفظ الأمن إلى الإقليم. ودون أن يمنح الاتحاد الإفريقي الفرصة الكافية في التعامل مع الأوضاع سعت كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في استصدار قرار من مجلس الأمن (رقم 1593) للضغط على حكومة السودان ولوح القرار باستخدام القوة ومعاقبة مرتكبي الجرائم في المحكمة الدولية مما أعطى إشارات خاطئة للمتمردين وجعلهم لا يرغبون في الوصول إلى حل سلمي مع الحكومة. بهذه الطريقة تم تدويل المشكلة. وقد حدث هذا التصعيد مع السودان في الوقت الذي توصلت فيه القوى الشمالية والجنوبية إلى حل سلمى لمشكلة جنوب السودان وإيقاف نزيف الدم الذي دام أكثر من عشرين عاماً. فكان بإمكان هذه القوى الخارجية تشجيع أطراف النزاع في دارفور للوصول إلى نفس الحل السلمى إذا ما كانت نواياها سليمة وصادقة ولكن يبدو أن الأ مر ليس بهذه البساطة ولا يتعلق بالنواحي الإنسانية ولا الإبادة الجماعية كما يقولون بل يتعلق بالهيمنة على موارد السودان النفطية. ولكل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أطماع لها علاقة بموارد السودان عامة وموارد إقليم دارفور خاصة. أما الولايات المتحدة فتطمع في وضع يدها على النفط في السودان وإقصاء الصين التى تحصل على 6% من احتياجاتها النفطية من السودان. أما الاتحاد الأوروبي ممثلاً في ألمانيا فقد دلت دراسات جامعة برلين الاستكشافية في شمال غرب دارفور على وجود كميات كبيرة من البترول عالي الجودة في 13 موقعاً إضافة إلى وجود اليورانيوم والنحاس والحديد الذي يصل تركيزه في الصخر 80%. وتشير دراسات أخرى إلى أن السودان غنى بالمعادن وعلى رأسها النفط عالي الجودة في شماله ووسطه وغربه. وتقول بعض التقارير إن مخزون النفط السوداني سيفوق المخزون السعودي الأمر الذي جعل البلاد محط أنظار القوى الصناعية الكبرى في العالم.
إذاً تداخلات القوى الكبرى في الشأن السوداني لها علاقة بالموارد والحصول على الموارد يستدعي إضعاف الحكومة أو حتى تفتيت البلاد إلى دويلات صغيرة لا حول لها ولا قوة. فسياسة فرق تسد يتبعها الاستعمار قديماً وحديثاً. لهذا كان التصعيد ضد حكومة السودان متعمداً فوصفت الأزمة في دارفور بأنها وصلت إلى حد الإبادة الجماعية للسكان من أصول إفريقية. ومن المسلم به أن الأزمة في دارفور لم تصل بأى حال إلى مستوى الإبادة الجماعية والتطهير العرقي مثل الذي حدث في رواندا أو البوسنا أو كوسوفو. ويبدو أن أكبر خطأ وقعت فيه الحكومة السودانية أنها فتحت الباب على مصراعيه لعشرات الوفود الأجنبية من أمريكا وأوروبا والمنظمات الدولية والطوعية لدخول دارفور الأمر الذي أدى إلى تصعيد وتضخيم الأزمة. وقد أشارت بعض هذه الهيئات نفسها إلى أن أزمة دارفور لا تصل إلى مستوى النزاع في كل من الكنغو ويوغندا وبالرغم من ذلك لم تهب الأمم المتحدة وتسعى إلى تدويل الأزمتين كما حدث مع السودان. أما اتفاقية السلام بين الحكومة ومتمردي الجنوب فإنها تمهد الطريق لفصل جنوب السودان عن الدولة الأم فلماذا لا يتم فصل إقليم دارفور كذلك خاصة وأنه إقليم غني بالموارد؟ بهذه الطريقة يتم تفتيت السودان ومن ثم إضعافه حتى تسهل الهيمنة على موارده. هذا الأمر يذكرنا بدعوة بيافرا في جنوب شرقي نيجريا للانفصال عندما اكتشف النفط في هذا الإقليم ولكن الحكومة النيجيرية آنذاك رفضت أي تدخل للقوى الخارجية باعتبار أن المشكلة داخلية وقد تمكنت الدولة من السيطرة على الأوضاع وحل الأزمة. ولنا عبرة أيضاً فيما حصل في اليمن. فبعد أن تم الاتحاد بين الشمال والجنوب عاد التمرد مرة أخرى مما جعل الحكومة اليمنية ترفض حتى تدخل الأمم المتحدة باعتبار أن المشكلة داخلية. وقد نجحت الحكومة اليمنية في توحيد البلاد. والمشكلة الكبرى حالياً أن الأمم المتحدة نفسها أصبحت أداة من أدوات البطش لدى القوى العظمى تستخدمها ليس لاستتباب الأمن العالمي ولكن لتحقيق مصالحها (El-Bushra: 2000a)) . وقد تفاعلت حكومة السودان بصورة خاطئة مع مجريات الأحداث واعتقدت أن التنازل يقود إلى حلحلة الأزمة في إقليم دارفور ولكن من الواضح أن التنازل في القاموس الأمريكي يعني المزي د من التنازل ويقود في نهاية المطاف إلى الخضوع الكامل للقوة المهيمنة.
الخاتمة :
يبدو مما سبق أن الصراع على الموارد سيظل ساخناً في المستقبل المنظور وستبقى أبعاده عالمية وإقليمية ومحلية. أما الصراع على الموارد ذات الأهمية الاستراتيجية مثل النفط فتكاد الولايات المتحدة تكون قد حسمت الأمر لمصلحتها وذلك بالسيطرة على منابعه في كل مكان. وهى الآن تسعى أن يكون لها موطأ قدم بالنسبة لبترول السودان. أما أكبر المتنافسين على هذه الموارد الحيوية إضافة للولايات المتحدة هى الصين والاتحاد الأوروبي. وليس من المستبعد أن تشعل الولايات المتحدة في حوالي منتصف القرن الحالي حرباً كبرى ضد الصين في صراعها للهيمنة على الموارد الحيوية والتفرد بقيادة العالم. أما دول العالم الثالث التي لا زالت تختزن الموارد الحيوية التى تحتاجها القوى العظمى فستبقى ضمن المتفرجين الذين ليس لهم دور يذكر في تغير موازين القوى العالمية. وقد يقود تعاظم هيمنة القوى الكبرى على أعمال منظمة الأمم المتحدة إلى انهيارها وذلك بانسحاب الدول النامية منها وذلك في حالة أن تفقد الدول الصغرى الثقة في المنظمة التي أنشئت أصلاً للمحافظة على الأمن والسلم الدوليين. فإذا ما سارت الأوضاع على النحو الذي نقول فإن الوضع العالمي سيكون مرشحاً إلى مزيد من الصراع على الموارد وقد تزيد حدة الصراع بين الدول النامية نفسها وبداخلها خاصة في ظل تزايد أعداد السكان وتناقص الموارد ومن ذلك موارد الغذاء. وقد رأينا كيف أن الدول المتجاورة تتصارع على الموارد الأرضية ومن ذلك المياه المشتركة في الأنهار الدولية أو النزاعات على الحدود السياسية.
ألقى النظام العالمي الجديد بظلاله على فكرة الدولة القومية وكثرت النزاعات المحلية والعرقية كما شاهدنا في حالة دول البلقان والاتحاد السوفيتى سابقاً وفي رواندا ويوغندا والسودان وإثيوبيا. وكأنما العالم يعود إلى العهود الغابرة حيث سادت العصبية القبلية والتفاخر بنقاء الأعراق. فإذا صحت هذه الاستنتاجات فهي بمثابة نذير شؤم على البشرية بما ستؤول إليه الأوضاع من زيادة النزاع والصراع وإسالة الدماء. يقول المصطفي عليه الصلاة والسلام في حديث معناه أنه سيكثر "الهرج" في آخر الزمان. قيل يا رسول الله وما "الهرج"؟ قال: "القتل". والعنف والقتل نراه في عالمنا المعاصر في كل مكان تأييداً لقول المصطفى الذي لا ينطق عن الهوى.
وبالرجوع مرة أخرى إلى الأزمة في إقليم دارفور نجد أن المجموعات البشرية عاشت في الولاية خلال الخمسين سنة الأولى من القرن العشرين في وئام وسلام دون أي أحداث كبيرة تذكر وكان ذلك بسبب قلة أعداد السكان والحيوان وضبط الأمن من قبل الإدارات الأهلية المدعومة من الاستعمار. ثم زادت وتيرة النزاعات قليلاً في الربع الثالث من القرن الماضي عندما ألغى نظام مايو (1969م)، الإدارات الأهلية ولم يتمكن نظامه الجديد المتمثل في المجالس الشعبية من حل النزاعات بالطرق السلمية بل ساعد هذا النظام في تعقيد المشكلة وذلك بتسيس القبائل بدلاً من السعي لانصهارها في بوتقة الأمة الواحدة. وزادت وتيرة الصراع بين القبائل بعد موجة الجفاف الأخيرة في الثمانينيات من القرن الماضي عندما تدهورت الظروف البيئية نتيجة لممارسات الإنسان الخاطئة في البيئة الهشة. وكان من بين أهم أسباب تدهور البيئة الضغط المتزايد على الموارد الأرضية الشحيحة من قبل الأعداد المتصاعدة للإنسان والحيوان. ففي ظل تناقص الإنتاج المحصولى والعلفي سعت المجموعات المتنافسة من الرعاة والمزارعين إلى زيادة الدخل حتى ولو كان ذلك على حساب المجموعات الأخرى (الشكل 9). وقد حدثت هذه التطورات في الوقت الذي عجزت فيه الأجهزة الأمنية الرسمية من تقديم الحماية للمواطنين مما دفع بالمجموعات المتنازعة إلى مرحلة الاقتتال. ومن الأمور التى ساعدت على جعل النزاع يأخذ طابعاً دموياً تدفق السلاح على الولاية من الدول المجاورة مثل تشاد. فظهر بعد ذلك النهب المسلح وما تبعه من أخذ للثأر. ولعبت القبائل المتداخلة والممتدة بين السودان وتشاد دوراً بارزاً في تصعيد الصراع مما جعل الجميع يحصلون على السلاح حماية لأنفسهم. وقد تكون من بين أسباب تصعيد الأزمة في دارفور انشغال الحكومة بالحرب الأهلية في جنوبي البلاد مما جعل الأزمة تتحول سريعاً من مشكلة محلية إلى إقليمية ثم دولية. ونحسب أن تدويل مشكلة دارفور هو مخطط كبير تقوم به القوى الاستعمارية الكبرى الهدف منه زعزعة الاستقرار في السودان خاصة وفي الشرق الأوسط الكبير عامة لإضعاف الدول العربية الإسلامية ومن ثم السيطرة الكاملة عليها وعلى مواردها.
إن التدخل السافر في شؤون السودان الداخلية أعطى مؤشرات خاطئة لمتمردي دارفور ليجنحوا للعدوان بدلاً من السلم في محاولة منهم للحصول على مكاسب سياسية واقتصادية بنفس القدر الذي وصل إليه حل مشكلة الجنوب. ولكن قد نسى هؤلاء أن مشكلة جنوب السودان عمرها نصف قرن من الزمان وقد تكون لسكان الجنوب بعض الحجج المقنعة التى لا تنطبق في حالة دارفور. فإقليم دارفور جزء من شمال السودان الذي حقق قدراً كبيراً من الانصهار في بوتقة الأمة الواحدة. والروابط التى تجمع بين أهل شمال السودان عامة كثيرة أهمها الدين الإسلامي الحنيف واللغة العربية والتاريخ المشترك. وهذه قواسم مشتركة قوية تجمع بين أهل الشمال تجعل من الممكن أن يقوموا بحل قضاياهم الخلافية بالطرق السلمية. ونلاحظ أن القوى الخارجية ذات الاهتمام بالشأن السوداني والتي كانت قد ركزت في مشكلة الجنوب على الفروقات العرقية واللغوية والدينية جاءت لتركز في حالة دارفور على الاختلافات الإثنية فقسمت أهل دارفور إلى عرب وأفارقة. وهذه تقسيمات باطلة لا أصل لها في السودان حيث تتمازج الأعراق وتختلط الدماء النوبية والإفريقية والعربية بدرجات متفاوتة ويعيش الناس في وئام وسلام قرون طويلة. فعلى الجميع النظر في القواسم المشتركة والبناء عليها وليس هناك أهم من الدين واللغة في جمع شمل الشعوب وتوحيد كلمتها. أما الذين يسعون لتأجيج النزاعات وتصعيدها فهم ذوو النظرة الضيقة والنفوس الضعيفة والمتطلعين للسلطة والمنفعة الذاتية. ولنا عبرة فيما يحدث في أوروبا التي تتلاحم شعوبها وتتحد رغم اختلافاتها العرقية واللغوية ومذاهبها الدينية وتاريخها الطويل الملئ بالنزاعات والحروب فقد أصبح الاتحاد الأوروبي بعد لملمة الشمل وتوحيد الكلمة قوة اقتصادية وعسكرية وسياسية كبيرة انضوت تحت لوائه 25 دولة وهناك من ينتظر فرصته لدخول الاتحاد. لماذا هذه الصحوة الاوروبية الآن؟ والجواب أن في الاتحاد قوة. والإسلام هو الدين الذي يدعو للوحدة فلماذا لا نهتدي بهدي النبي الأعظم بدلاً من أن نحاول أن نبحث عن النصرة لدى الاعداء. يقول الحق سبحانه : (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)(المائدة: 2) ويقول جل من قائل: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء:92). ويقول صلى الله عليه وسلم ما معناه: "إذا إلتقى المسلمان بسيفيهما أو إذا اقتتل المسلمان. فالقاتل والمقتول في النار. قالوا يا رسول الله هذا هو القاتل فما بال المقتول. قال كان حريصاً على قتل صاحبه". فقتل المسلم لأخيه المسلم محرم وجزاؤه نار جهنم خالدين فيها. يقول الله في محكم التنزيل: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) (النساء:93).