منتدى قالمة للعلوم السياسية
بسم الله الرحمن الرحيم .. أخي الزائر الكريم ..أهلآ وسهلآ بك في منتداك ( منتدى قالمة للعلوم سياسية ) إحدى المنتديات المتواضعة في عالم المنتديات والتي تزهو بالعلم الشرعي والمعرفة والفكر والثقافة .. نتمنى لكم قضاء أسعد الأوقات وأطيبها .. نتشرف بتسجيلك فيه لتصبح أحد أعضاءه الأعزاء وننتظر إسهاماتكم ومشاركاتكم النافعة وحضوركم وتفاعلكم المثمر .. كما نتمنى أن تتسع صفحات منتدانا لحروف قلمكم ووميض عطائكم .. وفقكم الله لما يحبه ويرضاه , وجنبكم ما يبغضه ويأباه. مع فائق وأجل تقديري وإعتزازي وإحترامي سلفآ .. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . المشرف العام
منتدى قالمة للعلوم السياسية
بسم الله الرحمن الرحيم .. أخي الزائر الكريم ..أهلآ وسهلآ بك في منتداك ( منتدى قالمة للعلوم سياسية ) إحدى المنتديات المتواضعة في عالم المنتديات والتي تزهو بالعلم الشرعي والمعرفة والفكر والثقافة .. نتمنى لكم قضاء أسعد الأوقات وأطيبها .. نتشرف بتسجيلك فيه لتصبح أحد أعضاءه الأعزاء وننتظر إسهاماتكم ومشاركاتكم النافعة وحضوركم وتفاعلكم المثمر .. كما نتمنى أن تتسع صفحات منتدانا لحروف قلمكم ووميض عطائكم .. وفقكم الله لما يحبه ويرضاه , وجنبكم ما يبغضه ويأباه. مع فائق وأجل تقديري وإعتزازي وإحترامي سلفآ .. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . المشرف العام
منتدى قالمة للعلوم السياسية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخولصفحتنا عبر الفيسبوكمركز تحميل لكل الإمتدادات
منتدى قالمة للعلوم السياسية يرحب بكم
تنبيه:إن القائمين على المنتدى لا يتحملون أي مسؤولية عن ما ينشره الأعضاء،وعليه كل من يلاحظ مخالفات للقانون أو الآداب العامة أن يبلغ المشرف العام للمنتدى ، أو بتبليغ ضمن قسم اقتراحات وانشغالات
بحـث
 
 

نتائج البحث
 
Rechercher بحث متقدم
المواضيع الأخيرة
» المحاضرة الثالثة لمادة تاريخ الفكر السياسي
في الرؤية الغربية لتاريخ الحداثة Emptyمن طرف salim 1979 الأربعاء أكتوبر 09, 2024 8:21 am

» المحاضرة الثانية لمادة تاريخ الفكر السياسي 2024/2025
في الرؤية الغربية لتاريخ الحداثة Emptyمن طرف salim 1979 الخميس أكتوبر 03, 2024 4:37 pm

» المحاضرة الأولى لمادة تاريخ الفكر السياسي 2024/2025
في الرؤية الغربية لتاريخ الحداثة Emptyمن طرف salim 1979 الخميس أكتوبر 03, 2024 4:29 pm

» برنامج محاضرات الفكر السياسي 1
في الرؤية الغربية لتاريخ الحداثة Emptyمن طرف salim 1979 الخميس أكتوبر 03, 2024 4:24 pm

» عام ينقضي واستمرارية في المنتدى
في الرؤية الغربية لتاريخ الحداثة Emptyمن طرف salim 1979 الإثنين مايو 27, 2024 10:25 am

» امتحان تاريخ الفكر السياسي ماي 2024
في الرؤية الغربية لتاريخ الحداثة Emptyمن طرف salim 1979 الإثنين مايو 27, 2024 10:19 am

» امتحان مادة علم الاجتماع السياسي ماي 2024م
في الرؤية الغربية لتاريخ الحداثة Emptyمن طرف salim 1979 الأربعاء مايو 15, 2024 9:33 am

» امتحان تاريخ الفكر السياسي جانفي 2024م
في الرؤية الغربية لتاريخ الحداثة Emptyمن طرف salim 1979 الثلاثاء يناير 16, 2024 8:08 pm

» الإقرار وفق القانون الجزائري
في الرؤية الغربية لتاريخ الحداثة Emptyمن طرف salim 1979 الخميس مايو 11, 2023 12:00 pm

أنت زائر للمنتدى رقم

.: 12465387 :.

يمنع النسخ
في الرؤية الغربية لتاريخ الحداثة Ql00p.com-2be8ccbbee

 

 في الرؤية الغربية لتاريخ الحداثة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
salim 1979
التميز الذهبي
التميز الذهبي



تاريخ الميلاد : 27/05/1979
العمر : 45
الدولة : الجزائر
عدد المساهمات : 5285
نقاط : 100012179
تاريخ التسجيل : 06/11/2012

في الرؤية الغربية لتاريخ الحداثة Empty
مُساهمةموضوع: في الرؤية الغربية لتاريخ الحداثة   في الرؤية الغربية لتاريخ الحداثة Emptyالجمعة أبريل 26, 2013 9:16 pm

عز الدين المولى
تمهيد
تترادف عادة عبارتا" المجتمع الحديث"و"المجتمع الصناعي"، بل غالبا ما تتبادلان المواقع، وتسدّ إحداهما مسدّ الأخرى حين الرغبة في تسمية المجتمع الأوروبي والغربي عامة في العصور المتأخرة، وعلى وجه التقريب خلال القرون الثلاثة الأخيرة. ويعود سبب هذا التلازم إلى أن النشأة التاريخية للمجتمع الحديث ارتبطت عضويا بظهور مجتمع الصناعة. ويمكن التدليل، من زوايا عدة، على ارتباط الحداثة بمجموع خصائص المجتمع الصناعي التي نجمت عن التحولات التي كانت تهز أركان المجتمع الغربي وتعيد صياغته، لا في أشكاله وواجهاته فحسب، بل في بناه العميقة: الفكرية والاقتصادية والسياسية والثقافية...
ولكن قبل ذلك سنعرض للمراحل التاريخية التي أدت إلى نشأة الحداثة والصناعة معا، حتى نفهم الأثر الكبير في صنع التحولات الكبرى للمجتمعات، وندرك خصوصية التاريخ الغربي في علاقته بمصائر هذا المجتمع بالذات، وإن بدا في بعض وجوهه مماثلا لتواريخ مجتمعات أخرى.
ثلاث مراحل مؤسّسة لهذا التاريخ، أفضت كل منها إلى الأخرى، وأدت كلها إلى العصر الحديث. أولها كان ما يصطلح عليه مؤرخو الغرب بالإصلاح الديني وعصر النهضة.
الإصلاح الديني والنهضة
بين لفضي "الإصلاح والنهضة" قدر كبير من التداخل، سواء في الأزمنة أم في الأفكار أم كل منهما من الفلاسفة والسياسيين وأصحاب النظريات الاجتماعية. ومهما كانت أقدار هذا التداخل أو الانفصال، فإن القرنين الخامس عشر والسادس عشر بوصفهما المسرح الزمني لتحولات الإصلاح والنهضة، يمثلان حلقة الوصل بين القديم والجديد في تاريخ أوروبا. وإذا كان الإصلاح الديني موجها إلى الخلف لغلق الباب على العصور الوسطى بكل ما تحمله الكلمة من معاني الجمود الفكري والاستبداد الديني والسياسي وغيره من ألوان الإقطاع والحيف الاجتماعي، فإن أفكار النهضة كانت موجهة إلى المستقبل ، وفتحت الباب على عصر الأنوار الذي ولد من رحمه أكبر حدثين تاريخيين كانا هما العتبة الحقيقية للحداثة.
مع تعدد حركات الإصلاح الديني في أوروبا المسيحية خلال القرنين المذكورين، فإن أهم الأفكار التي نادى بها المصلحون أمثال لوثر (1488-1546) وكالفن (1509-1546) وكامبن (1376-1471) وتوماس مونـزر (1490-1525)، كانت تستهدف أولاً وتحديداً مركز السلطة وبؤرة التسلط: الكنيسة. ويمكن إيجاز تلك الأفكار في النقاط التالية:
- رفض الوساطة الدينية بين الله والإنسان، والقول بعلاقة دون وسيط.
- رفض التعدد في المصادر الدينية والقول بالمصدر الواحد (الكتاب المقدس) ويعني ذلك نسف التراث الكنسي والعقائد البابوية.
- رفض الوساطة التفسيرية واحتكار التأويل للنص الديني الذي كانت تنفرد به الكنيسة، والقول –بدلاً من ذلك-بحرية الفهم وقدرة العقل الفردي على التعامل المباشر مع النص الديني وتمثله اعتقاداً وسلوكاً.
- رفض التعارض الذي أقامته التعاليم الكنسية بين مطالب الجسد ومتطلبات الروح، والدعوة إلى الاعتراف برغبات الإنسان وتنظيم إشباعها بدلاً من إنكارها وكبتها، وقد ظهرت في هذا السياق الدعوة إلى إلغاء نظام الرهبنة والمناداة بزواج الرهبان.
وكما تعددت حركات الإصلاح الديني، فإن عصر النهضة أيضاً عرف التعدد، وعبر عن نفسه في أشكال فلسفية وسياسية ودينية وعلمية. وقد سيطرت المذاهب والنـزعات الإنسانية في الفلسفة، كما تبينها أعمال مثل كتاب "ثناء على الجنون" لأرسموس1، الذي أعاد فيه بناء العقائد المسيحية على أسس إنسانية وعقلانية، وانقد الفلسفة المدرسية وخصوصاً التراث الأرسطي في الفلسفة الطبيعية، وأيد بعض المصلحين أمثال لوثر، وكتاب "يوتوبيا" لتوناس مور2 الذي حارب فيه الملكية الخاصة، وانتقد نمط العلاقات السياسية التي كانت سائدة في إنجلترا في عصره، ودعا إلى نظام اجتماعي يقوم على اشتراكية الملكية، وديمقراطية المشاركة في الشؤون العامة، وسلمية التحول السياسي، وكتاب "مدينة الشمس" لكامبانيلا3 الذي حلم فيه بمجتمع إنساني عالمي يحكمه الفلاسفة والقساوسة، ويسوده نظام من الاشتراكية يقوم على مبادئ العقل وقانون الطبيعة.
أما المذاهب السياسية فقد برزت فيها النـزعة العلمانية سواء لدى سواريز4 في معارضته لنظرية الحق الإلهي، ودعوته الصريحة إلى تأسيس الحكم المدني الذي يقوم أولاً و أساساً على الاختيار الشعبي الحر على أساس أن الشعب مصدر للسلطة، والملك نائب عنه وممثل له، لا بوصفه نائباً عن الله وممثلاً له، أو عند ميكيافيلي5 صاحب كتاب الأمير وسكرتير فلورنسا الذي اتخذ عنده الفكر السياسي طابعاً واقعياً ودنيوياً صرفاً، فلم يعد المجتمع يتطور بإرادة من الله وإنما طبقاً لقوانين الطبيعة. ونظرا لتعارض رغبات الحكام والمحكومين فقد لزم قيام دولة قوية يسعى فيها الحاكم إلى أن يكون"مرهوب الجانب أكثر من أن يكون محبوباً". وتقوم أفكار ميكيافيلي السياسية على نظرة ترى في الإنسان المدني طبيعة أنانية ميالة للهدم والتجاوز ونـزاعة للغش والخداع. ولذا كانت نصائحه للأمير عبارة عن تأليب له على مواطنيه ودعوة إلى احتقارهم وامتهانهم.
وعلى الواجهة الأخرى، كان العلم يخطو خطوات ثابتة باتجاه"الطريق الملكية"6 التي لا تؤدي إلا إلى الأمام. وكانت الإصلاحات الدينية والسياسية والفكرية عامة قد أسهمت –إلى حد كبير- في تعريفه الواقع القديم، وكشف الغطاء عن أوهام كثيرة متعلقة أساساً بمكانة العقل من أصول الاعتقاد ومكانته في فاعلية الإنسان النظرية والعلمية، وهيأت الأذهان لتقبل حقائق جديدة في ميدان حركة الطبيعة ونظام الكون وقوانين الواقع. فقبلت تأسيسات كوبرنيك7 في علم الفلك مجموع العقائد السابقة وغيرت النظرة إلى نظام الأفلاك، فلم تعد الأرض كروية الشكل وأنها تدور حول الشمس. ثم جاء كبلر8 ليعزز هذه الفتوحات مقلصاً دور المبادئ الرياضية في علم الفلك ومؤكداً أثر الملاحظة والتجربة دون أن ينفي صحة الاستنتاجات الفيثاغورية بخصوص حركة الأفلاك في مدارات دائرية.
وفي ميدان علوم الطبيعة هيمنت نظريات جاليليو9 التي فصلت بين اللاهوت والتجربة العلمية، وصاغت حركة المادة في معادلات رياضية، واكتشفت قانون سقوط الأجسام. وبذلك عدّ جاليليو مؤسساً للميكانيكا التقليدية التي أدت فبما بعد إلى قوانين نيوتن في الحركة.
مثَّل عصرٌ النهضة إذاً الحدَّ الفاصل في تكوين الوعي الأوروبي بين القديم والجديد، ونقَل مستوى المعرفة:
- من الدين مصدراً مباشراً للحقيقة العلمية إلى التجربة الإنسانية والجهد العقلي أداةً لبناء هذه الحقيقة.
- من علم الكونيات أو (الكوسمولوجيا) الأرسطية الذي ظل يهيمن على فلسفة الطبيعة حتى أواخر القرن الرابع عشر، والذي يقوم على تصور مغلق للكون يفصل بين عالين يختلفان في طبيعة العناصر المكوَّنة وفي نوع ومصدر الحركة التي تنظمها ، وهما:" عالم ما فوق القمر وعالم ما تحت القمر" 10، إلى الفيزياء الناشئة التي قامت على مفهوم العالم المفتوح والطبيعة المتسقة مع نفسها، والخاضعة إلى قوانين ذاتية تجري على كل جزء فيها، وهي قوانين قابلة للترجمة إلى معادلات رياضية.
- من المقدس مصدراً وحيداً للتشريع في شؤون الروح ومسائل البدن، إلى الفصل الصارم بين نمطين من التشريع: اللاهوت، ومجاله الروح، والعقل الذي يتولى سياسة الجوانب الأخرى من حياة الإنسان الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفنية...
الأنوار: طريق الحداثة
عصر الأنوار، أو عصر التنوير، شكّل في التاريخ الأوروبي حلقة التأسيس الفكري والفلسفي والعملي للعصر الحديث، والتجاوز الكيفي لحقبة من التخلف الشامل، تميزت بوجه خاص بتسلط الكنيسة واستبداد الملكيات المطلقة وهيمنة الإقطاع. وكانت إصلاحات القرنين الخامس عشر والسادس عشر-التي أُدخلت على أنظمة المعرفة، ووضعت للدين حدوداً، وفتحت للعقل آفاقاً جديدة- قد هيأت المناخ لما جاء بعدها في القرن السابع عشر من تحولات كبرى.
ويمكن القول إن فلسفة الأنوار هي التي جمعت بين اختلافات المثالية والتجريبية التي عرفها تاريخ الأفكار في شكل تيارين فلسفيين: أحدهما يقول بأسبقية العقل وأولويتها في تكوين المعرفة. وقد توجهت الجهود النظرية لهذين التيارين خلال القرن الثامن عشر إلى تغيير الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وكان من نتاج ذلك قيام الثورة الفرنسية التي سنعود إلى الحديث عنها في فقرة لاحقة.
وأول سمات هذا العصر -الذي يُنعَت بعصر الأنوار- حاكمية العقل وسريان قوانينه وشروطه على مختلف المجالات، سواء تلك التي كانت من اختصاصه أم تلك التي تحررت حديثاً إثر تراجع تأثير الكنيسة.
ومن المراجع الأساسية للأفكار التي أطَّرت عصر التنوير وهيمنت في تلك الحقبة وما بعدها نذكر: ديكارت وتأملاته ”Les Meditation Metaphysiques“11 وخطابه في المنهج“Le Discourse de la method” 12وفرانسيس بيكون وآلته الجديدة13 “Nouvum Organon” وسبينوزا ورسالته في الأخلاق والسياسة “Tractates Theologico-Politicus” 14 وكتاب في الأخلاق“Ethics” 15، وهوبز في كتابه التنين 16“Leviathan” والمواطن “De Cive” 17 .كما يمكن أن نذكر نيوتن وآليته، ولوك وتجريبيته، وكانط وعقلانيته النقدية. وقد انخرط في التيار التربوي إلى جانب الفلاسفة والمفكرين والعلماء وبعض ملوك أوروبا وساستها.
ويمكن فهم الأفكار الأساسية التي تحرك في إطار عصر التنوير، وانبعث في ضوئها التاريخ الحديث، بالإسهامات النظرية الكبرى التي ارتكزت على حقيقة أولى وأساسية: هي العقل.
فالعقل هو أداة الإنسان الرئيسة بل والوحيدة للوصول إلى الحقيقة. وإذا كان من سند لهذا العقل فما ينبغي أن يخرج عن دائرة الحواس التي تمده بالمستوى الأول من الإدراك، وعن أدوات منطقية تقوده في عمله استنباطاً واستقراءً واستنتاجاً ومقايسة إلى غير ذلك. وهذا العقل قادر بذاته على تجاوز كل أنواع العوائق التي تعترض طريقه للمعرفة وتمنعه من مباشرة موضوعاته، بشكل يفتح أمامه كل السبل ويلغي من عرفه كل الحدود.
وبالرغم من اختلاف التعريفات التي قدمها فلاسفة التنوير لعقل بحسب اختلاف مدارسهم ومذاهبهم (وخاصة تيارا الفلسفة البارزان: العقلانية المثالية والعقلانية التجريبية)، فإن الإجماع يكاد يكون حاصلاً حول اكتفاء العقل بذاته وقدرته المطلقة على المعرفة بما يغنيه عن كل مدد غيبي أو غيره.
وقد تبلور هذا التصور عبر مراحل تأسيسية كبرى كانت العقلانية الفرنسية مع ديكارت قد وضعت لبنائها الأولى على طريق سيادة العقل وتراجع مواقع أدوات الإدراك الأخرى. ويأتي ذلك تأسيساً على مبدأ الشك المنهجي الذي أخضع له ديكارت كل عقائده ومعارفه السابقة، متسائلاً عن مصدرها ودرجة اليقين فيها، منتهياً إلى أنها كلها قابلة للشك بما في ذلك الحقائق الرياضية. ومن الشك في المعرفة إلى الشك في أداة المعرفة(العقل)، انتهى ديكارت إلى نقطة الارتكاز الأولى في نشاطه الذهني ألا وهي الشك ذاته، أي التفكير. عندها توصل ديكارت إلى صياغة "الكوجيتو"، وأطلق مبدأ "الأنا المفكر"، لا بوصفه مبدأ منطقياً ووجودياً سابقاً على الذات فحسب، وإنما بحسبانه كذلك مبدأ مؤسساً للذات والطبيعة والإله معا.
ولا شك في أن الانقلاب الذي أحدثته النـزعة النقدية الكانطية في تاريخ الثقافة الفلسفية الغربية كان له أعمق الأثر في زحزحة التراث الفكري عامة عن أبراج التأمل الميتافيزيقي الصرف. وإحالته على الوقائع وعلى التجربة الإنسانية المباشرة. فالنقلة التي أحدثتها فلسفة كانط في المشروع الفكري الغربي وفي تراثه العقلاني بالذات تمثلت في تحويل الاهتمام الفلسفي من فلسفة الوجود (أو الأنطولوجيا) "الكلاسيكية" والمنطق المجرد، إلى قوانين العقل وحدود المعرفة ومعايير العمل. فالتساؤل الكانطي عن قيمة الحقيقة، والحقيقة المطلقة بالذات، هو تدرج نقدي بالادعاء الفلسفي التقليدي من كون مهمة الفلسفة هي الكشف عن الحقيقة من موقع امتلاكها، إلى البحث عن حقائق جزئية تسكن الوقائع الطبيعية المتحولة والمتعددة. وهو كذلك إقامة لحدود المعرفة ضمن ثلاثية العقل والحواس والتجرة. هذا الموقف النقدي أسهم في تحرير الفلسفة من مطلقاتها والعلم من مراوحته في آن واحد، ودفع بالمشروع الثقافي الغرب أشواطاً إلى الأمام.
ثم جاء الجدل الهيجلي ليوسِّع من نطاق التجربة، حتى تشمل تاريخ الإنسان، ولينتظم أبعادها الفكرية والاجتماعية والفنية والدينية في نسق من العلاقات المتنقلة من الذات إلى الموضوع تارة، ومن الوعي الفردي إلى العقل الكوني تارة أخرى. وبالرغم من الإحكام النظري الذي برهن به هيجل على تحقق المطلق في التاريخ، في سياق نقده لتاريخ الفلسفة الغربية، من منطلق أن العقل لم ينفك عن التطلع الذهني نحو المطلق، دون القدرة على تفعيل هذا المطلق في حياة الناس وواقعهم الاجتماعي والسياسي (وهذا النقد نفسه يوجهه هيجل إلى المسيحية بوصفها أرقى تعبيرات الدين التوحيدي التي انتهت إلى صيغة ما يسميه بـ"الوعي الشقي" الذي يشعر خلاله الإنسان المتدين بالتمزق بين عالم الربوبية الذي يرنو إليه وعالم الواقع الدي انفلت منه).
بالرغم من ذلك فإن المضمون المادي الذي أعطاه ماركس للديالكتيك توجه بالنقد إلى عمق المجتمع، وحوّل الاهتمام الفلسفي من أفق التجريد والتنظير إلى ساحة الممارسة والتطبيق (Praxis) ،أي من محاولة فهم العالم إلى محاولة تغييره. وصار معيار التطور يقوم على أساس علاقات الإنتاج، وحركة التاريخ تتجه نحو تحقيق التوافق بين القيمة والمادة، وبين الإنسان بوصفه قيمة ومردود عمله بما هو مادة. وبذلك ينتهي الصراع التاريخي المحتدم بين طبقات المجتمع لتتحد قوى الإنتاج في مواجهة الطبيعة، فتنفتح أمام العقل مسارب ومسالك جديدة توسع الكشوف العلمية وتحقق الرفاهية للمجتمع.
ومن نقد العقل لتحريره (كانط)، إلى نقد العقل لتفعيله (هيغل)، إلى نقد المجتمع لتغييره (ماركس)، نصل إلى دائرة الفرد التي تشكل بؤرة تفاعل تلك الأبعاد كلها، تلك التي ظلت إلى ذلك الوقت دائرة منسية؛ نصل مع الفرد إلى مرحلة أخرى من مراحل تكون الثقافة الغربية، مرحلة تميزت بإبراز الجوانب الحيوية في الإنسان.
كان فرويد أكثر من اهتم بخصوصيات الفرد، من منطلق أن أهمية الإنسان لا تكمن في كونه كائناً عاقلا، ولا في كونه كائناً تاريخياً، ولا في كونه كائئنا اجتماعياً، وإنما تكمن حقيقته المباشرة والبسيطة في كونه كائنا يحيا (حيوانا)، يفترض العناية بوعاء حياته (الجسم). ومن هنا انصب النقد الفرويدي على تاريخ الفرد، وعلى محيطه الطبيعي، وبيئته القريبة، بوصفها رموزا لقمعه، وحواجزَ تمنعه من تحقيق رغباته، وتلبية حاجاته الحيوية.
وليست هذه الموانع من قبيل السلطات والقوى الخارجية فحسب، وإنما هي قوى داخلية تمارس سلطتها على الفرد في شكل أنظمة اجتماعية وقيم أخلاقية ودينية ردعية، تنشأ عنها مواجهة حادة بين ما يصطلح عليه التحليل النفسي باسم مبدأ اللذة ومبدأ الواقع، في علاقة صراعية مسرحها الذات، وطرفاها الأنا الأعلى (ممثلاً لقيم المجتمع وسلطة الأسرة ة الأخلاق والدين) من جهة، والـ"هو" مدافعاً عن لذاته الحيوية من جهة أخرى. وهذا المكبوت الذي تتضافر قوى عديدة –داخلية وخارجية- لدفعه إلى الانتكاس والاختفاء، لا يفقد وجوده مطلقاً وإنما يظل يتوارى خلف الأشكال السلبية للحضارة مثل الانحرافات الأخلاقية، ومظاهر الجريمة، وممارسة العنف الفردي والجماعي، والأعراض النفسية والتدميرية، والحروب، وضروب الاستغلال الفردي والطبقي الخ...
غير أن فرويد، بالرغم من النتائج التي أفضت إليها تحليلاته التي تفيد في النهاية أن الحضارة إنما قامت على كبت حاجات الإنسان وقمع غرائزه وميوله، بما يجعلها على حد تعبيره "حضارة الشقاء"،
فإنه يعترف يضرورة الكبت شرطاً لبناء الحضارة وبقائها، إذ إن إطلاق العنان لتحقيق كامل الرغبات يمنع قيام أي شكل من أشكال الحضارة. ولكن تبقى أعمال فرويد في الأخير دعوة تحريرية تستهدف الكشف عن صيغ الكبت التي تمارسها الحضارة-بمختلف مؤسساتها-على الفرد بوصفه قوة حيوية.
وبذلك تتكامل ملامح المشروع الثقافي الغربي من خلال مراحله الكبرى التي تعاقبت على بنائه، واشتركت في كشف أسباب التخلف وتجاوز تراث العصور المظلمة. وسنعود لتحليل معنى العصور المظلمة في الرؤية الأوروبية للتاريخ الإنساني عامة وللتاريخ الأوروبي تحديداً.


أ.عقلنة الطبيعة
تبعا لمركزية العقل في عصر الأنوار، فإن الحقيقة التي يطلبها العقل لا بد من أن تكون قابلة للإدراك، وأن يتم إخضاعها لمناهج النظر العقلي. وحتى المجالات التي كانت تعرف في التصنيف التقليدي لنظرية المعرفة بأنها من جنس غير المعقولات، وأن أدوات إدراكها من طبيعة غير عقلية، أصبحت –مع عقلانية الأنوار- موضوعاً للعقل. ويمكن أن نقف على مثال لذلك في الفصل الأخير من كتاب العقد الاجتماعي لجان جاك روسو في حديثه عن "الدين المدني"، كما يمكن أن نقف على مثال آخر لذلك في ميتافيزيقيا الأخلاق لكانط. بل إن أصناف الموجودات صارت لدى فلاسفة مثل كانط إما قابلة للإدراك العقلي فتكسب صفة الوجود، وإما مستعصية عليه فتخرج من دائرة الوجود. وقد عبرت جدلية هيجل عن ذلك بالمطابقة بين العقل والواقع، فقال: "كل ما هو واقعي معقول، وكل ما هو معقول واقعي". وعلى هذا النحو صار ينظر إلى باقي حقول المعرفة.
فالطبيعة التي كانت في السابق مجالا للخوارق والمعجزات، ومحلا ملغزا تتجلى فيه الإرادة الإلهية بما يدعو للتأمل والتسبيح، صارت في عصر العقل مجالا للاختبار وموضعا للتجربة. ولم يعد مركز الكون مفارقا له بل صار حالاًّ فيه له، يقدم للإنسان ما يكفي من الأدلة المادية للتفسير، وينفي-على الأقل- الحاجة إليه. فالاكتشفات التي جاء بها جاليليو في شأن مبادئ الحركة، وبرزت بصورة أكثر دقة في ميكانيكا نيوتن، جعلت من الطبيعة آلة ضخمة تتحرك الأجسام فيها بمقتضى قوانين ثابتة ومحكمة الانتظام. وهي إلى ذلك مطابقة لقوانين العقل ومبادئه، فيمكن إحالة الطبيعة بوصفها أجساماً مادية إلى نظام العقل، فيجردها ، ويصوغها في شكل معادلات رياضية تيسر فهمها، وتوفر في الوقت نفسه إمكانات التحكم فيها.
ففهم حركة الأجسام من صغيرها إلى كبيرها جعل المبادئ الرياضية والهندسية تحل محل الإرادة الإلهية، وجعل العقل يتعقب "القوى الخفية" فيطردها من محالها الوهمية ويقيم بدلا منها قوانينه ومعادلاته. وبذلك أصبحت حظوظ توقع حدوث الظواهر من عدم حدوثها أوفر، فصارت إمكانية تغيير مجراها، أو على الأقل التحكم في نتائجها ممكنة. وكلما تقدمت الاكتشافات العلمية تقلصت رقعة المجهول، وضاقت دائرة "الأسرار الإلهية" في الطبيعة، فتزايد أثر الإنسان وانحسر الحضور الإلهي.
ب. عقلنة التاريخ
المجال الثاني الذي تجلت فيه الروح العلمية التي دشنها عصر النهضة، وبلورها عصر التنوير، وصار خاضعاً للمقاييس العقلية، وهو المجال التاريخي. وقد كان لعصر النهضة الإسهام الرئيسي في إعادة قراءة تاريخ الغرب ضمن التاريخ العام، والخروج بأن الغرب هو المؤسِّس للحضارة، وذلك من خلال النموذج اليوناني أولا، ثم النموذج الأوروبي الناشئ ثانيا.
فأسطورة "المعجزة اليونانية" التي دشنت بداية تاريخ العقل جعلت الرؤية الأوروبية للتاريخ تقلب التصورات السائدة وتحدث نوعاً من الفراغ بين "البداية الأولى" و"البداية الثانية"، في نوع من الانتقائية التي تُدْخِل في التاريخ ما ينسجم مع خط عقلانيتها، وتحذف منه ما تعده غير مستجيب لشروطها.
وهكذا اصطدمت هذه الرؤية برؤيتين أخريين، إحداهما كانت قائمة وتدافع عن نفسها حتى ألقت بأسلحتها أمام تطورات العلم، والأخرى ظلت إلى عصرنا هذا كامنةً تترقب أن تقول كلمتها، وعلينا نحن العرب والمسلمين بالتحديد الإسهام في الإفصاح عنها.
الأولى هي الرؤية الدينية التي كانت تجسدها الكنيسة، وتعبر عنها بكل ما كانت تتوفر عليه من سلطان مادي وروحي، تلك التي ترى في التاريخ اتجاهاً معيناً يبدأ بولادة المسيح وصلبه، ويظل يتطور عكسياً بسبب الابتعاد التدريجي عن تعاليم المسيح، هذا الابتعاد الذي يحصل بسبب تراكم الخطايا والانحرافات الأخلاقية في سلوك الإنسان، إلى أن تتحقق عودة المسيح لينتهي معها تاريخ الإنسان.
أما الثانية فهي التي ترى أن في التاريخ، وأن الحضارة بناء إنساني، توالت على إقامته وقيادته ثقافات مختلفة. هذه الإسهامات لا يرى فيها الوعي التاريخي الغربي إلا حلقة من حلقات الظلام، وعصورا من التخلف والبربرية، وغياباً تاماً لوظيفة العقل في تنظيم شؤون الحياة الخاصة والعامة. وكما تعبر عن ذلك القراءات التاريخية فإن مقاربة النظريات السياسية والاجتماعية وما قامت عليه من خلفية إنثروبولوجية تؤكد هذا المنحى في مقاربة التاريخ الإنساني وتصر عليه، ما عدا بعض القراءات التاريخية المعاصرة التي سنعرض لها أثناء تناولنا النقدي لتجربة الحداثة.
وعلى رأس ما نقصده بالإسهامات الحضارية المختلفة ما قدمته الحضارة الإسلامية للبشرية من عطاء، سواء على مستوى الممارسة السياسية والعلاقات الدولية، أو على مستوى العمارة والفنون، أو على صعيد العلم الذي انتقل إلى أوروبا في شكل مكتبات بأسرها (ما زلنا نحن المسلمين نجهل قيمته)، وظل سنوات طويلة يدرَّس في جامعات أوروبا.
وقد أدت عقلنة المجال التاريخي وإعادة قراءة الماضي في بعض البلدان إلى حركات سياسية وحدوية، فقد انتهت مراجعات ميكيافيلي في تاريخ إيطاليا مثلا إلى الدعوة إلى توحيد الممالك والإمارات وبناء الدولة الإيطالية الموحدة. وخلاصة ذلك أن عقلنة التاريخ تسلح الشعوب بوعي ماضيها، فتمسك بمعطياته، وتتحكم في توجيه حاضرها نحو المستقبل الذي تريد.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
salim 1979
التميز الذهبي
التميز الذهبي



تاريخ الميلاد : 27/05/1979
العمر : 45
الدولة : الجزائر
عدد المساهمات : 5285
نقاط : 100012179
تاريخ التسجيل : 06/11/2012

في الرؤية الغربية لتاريخ الحداثة Empty
مُساهمةموضوع: رد: في الرؤية الغربية لتاريخ الحداثة   في الرؤية الغربية لتاريخ الحداثة Emptyالجمعة أبريل 26, 2013 9:17 pm

ﺟ. عقلنة المجال السياسي
تعد الدولة في الفكر السياسي الغربي كيانا حديثاً رغم تجذرها في التاريخ وفي حضارات قديمة. وما يجعلها كذلك هو، حسب أغلب التعريفات الجارية، أنها تجمع في تكوينها العناصر الثلاثة الآتية: أنها بناء مدني سياسي، وأنها ظاهرة قانونية، وأنها جهاز لاحتكار مشروعية استخدام العنف في حدود جغرافية معينة معترف بها داخلياً وخارجياً. وهذا المفهوم هو أساس"الدولة-الأمة" من منطلق أن سيادة الدولة هي الضامن لوحدة الأمة حسب هيغل، الذي يعني بذلك أن سلطة الدولة المتمثلة في انفرادها بحق سن القوانين ونقضها، وإصدار القرارات وتنفيذها، تجعل من سيادتها وسلطتها أداة لرد الأخطار التي تهددها من الخارج. وهذه القدرة على تنظيم الشأن الداخلي والخارجي ينبغي أن تقوم على أساس العقل، وأن يكون الشرط لا أساسي في تأهيل الحاكم هو عقلانيته. على أن قيام الثورة الفرنسية قد أضاف لهذا المفهوم النظري أبعاداً جديدة أسهمت في تشكيل النموذج السياسي لعصر الحداثة.
د. عقلنة الدين وإرهاصات التحول الصناعي
على الرغم مما يتسم به الدين و"مجال المقدّس" وبصفة عامة من طبيعة متعالية عن أدوات الإدراك البشري، وعلى الرغم مما يعنيه ذلك من معضلات في التعامل معه كما هو الشأن مع بقية الموضوعات، فإن ما قام به مصلحو القرن الخامس عشر وفلاسفة النهضة وما تبع ذلك من إسهامات القرن السابع عشر وفلسفة التنوير في القرن الثامن عشر، كل ذلك قد أفقد هذا المجال الكثير من امتيازاته ودفع بتأثيراته التقليدية خارج دوائر الحياة الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. ولا يعني ذلك أنه صار مجالاً غيرَ مفكِّر فيه، وإنما الذي حدث هو اختراق العقل لما كان حراما عليه الخوض فيه، وخصوصاً التعاطي المباشر مع النص الديني، وحرية تأويله على مقتضى حقائق العلم ومعطيات العصر. فمن لوثر وكالفن وتوماس مور إلى هوبز وسبينوزا وكانط، صار العقل يدخل في جميع مستويات النص لإصلاحه وتنقيته من شوائب التحريف ومنازع الشعوذة وعوامل التسلط.
ولم تكن البروتستانتية غير دعوة عقلانية للتحرر من الوسائط التي غيبت في ركامها نقاوة الروح الدينية. وفي هذا الصدد، يرى ماكس فيبر18 أن الكاثوليكية الرومانية خاصة، والديانات الشرقية بشكل عام(مثل الهندوسية والبوذية) هي ديانات "العالم الآخر"، إذ تؤكد مذاهبها على التأمل الديني والحياة الأخرى، في حين أن البروتستانتية-على العكس من ذلك- تعد دون منازع ديانة"هذا العالم". فقد ألغت التمييز بين الكنيسة والعالَم، وبين الدير وساحة السوق، وأعلت من شأن الجهد البشري، وأنشأت ما يسمى بـ"أخلاقيات العمل"، فصار كل نشاط يقوم به المتدين البروتستانتي يدخل في مجال العمل الديني الذي يثاب عليه. قال فيبر:"إن هذه النظرة ، بالرغم من كونها لم تكن عن قصد أو تصميم، إلا أنها أسهمت في تطوير الرأسمالية الصناعية".
وهكذا يكون المذهب البروتستانتي في البلدان الأوروبية التي هيمن فيها قد أبدع الرأسمالية الحديثة، ووضع العالم في سياق من التطور لا يزال يتبعه. وبالرغم من الاعتراضات التي واجهتها تحليلات فيبر والتي ترى أن بدايات تكوّن الرأسمالية وتحولات الصناعة سبقت نشأة البروتستانتية، وأن العامل الأكبر في ذلك يعود إلى الحركية الاجتماعية التي صنعها المناخ العقلاني والثقافة العلمية والمنهج التجريبي في المعارف بالرغم من تلك الاعتراضات فإن حركة التاريخ تبدو مصدقة لفيبر، لأن ميلاد المجتمع الصناعي كان في شمالي أوروبا الغربية، وخاصة في إنجلترا وهولندا وشمالي فرنسا وشمالي ألمانيا.
هذا الواقع التاريخي لا يقبل التفسير بغير الأداة التحليلية الفيبرية، إذ إن تقدم هذا الجزء من أوروبا لم يكن منتظراً بالمقارنة مع البلدان المتوسطية، فقد كان متخلفاً على المستوى المالي والتقني، وكان في القرنين السادس عشر والسابع عشر لا يزال في مرحلة استيعاب التجديدات الحاصلة في ميدان التجارة والفنون في الإمارات الإيطالية مثلاً، كما كان يقوم بهجمات تستهدف ثروات الإمبراطورية الأسبانية الغنية والمتقدمة عمرانياً وثقافياً. فلم يكن هذا الجزء من أوروبا إذن مرشحاً لقيادة اقتصادية على الصعيد الأوروبي فضلاً عن العالمي. وهكذا كان التجديد عاملا حاسماً في تقدم مجتمعات، كما كان التقليد في تقديس الموروث الثقافي والاجتماعي وراء انحطاط مجتمعات أخرى.
الثورة الصناعية والثورة الفرنسية وميلاد المجتمع الحديث
تكاد كتب التاريخ الأوروبي تجمع على أن الحداثة تعود في نشأتها إلى أصلين اثنين في القرن الثامن عشر: الأول اقتصادي، والثاني سياسي. وهذان الأصلان أو الحدثان قد وضعا الغرب- بعد التحولات التي جاء بها عصر النهضة والإصلاح الديني- على طريق من التطور، مخالف نوعيًّا لما ظلت عليه بقية مجتمعات العالم.
الحدث الأول هو الثورة الصناعية في بريطانيا، والثاني هو الثورة الفرنسية. وإذا كانت الثورة الصناعية قد حددت الملامح الاقتصادية للمجتمع الحديث، فإن الثورة الفرنسية (وكذلك الثورة الأمريكية) قد حددت ملامح السياسة.


أ.الثورة الصناعية والأسس الاقتصادية
لم يكن الحدث الهائل الذي شهده تاريخ أوروبا والعالم بأسره بداية من النصف الثاني للقرن الثامن عشر مجرد تطور نوعي في نظام التصنيع وكميات الإنتاج، بقدر ما كان تحولاً شاملاً في نمط الاجتماع ذاته، جعل إنجازات هذه الثورة تتجاوز -بكل المقاييس- ما أنجزته القرون السابقة مجتمعة، وأصبح معها المستقبل خارجاً عن حدود القياس.
وقد عرفت هذه الحقبة من تاريخ بريطانيا من التغيرات الهيكلية في بنية المجتمع والاقتصاد بمختلف قطاعاته، يمكن إجمالها في العناصر الآتية: الحركة المكثفة من الأرياف إلى المدن، وتجميع القوة العاملة في المدن الصناعية الجديدة والمصانع، وهيمنة مبدأ الفردية (Individualism)، وبداية التمييز في حياة الأفراد بين نظام الأسرة ونظام العمل، وبين أوقات العمل وأوقات الترفيه...
ولم يكن ما كان يحدث في إنجلترا أمراً خاصاً بها، وإنما كلن يُنظر إليه على أنه طريق أوروبا كلها، وفي مرحلة لاحقة، طريق العالم بأسره. وفي أعمال بعض المفكرين أمثال دوتوكفيل وأنجلز وماركس ما يؤكد هذه النظرة، فقد عولجت تلك التحولات مثلاً في كتاب النظام القديم والثورة لدوتوكفيل، وفي ظروف الطبقة العاملة في إنجلترا في العام 1744م لأنجلز، وفي رأس المال لماركس، على أساس ما كانت تمثله من مسار عام للتصنيع ومن مؤشر على نمط المستقبل الذي ينتظر العالم.
وبرزت المدن الصناعية البريطانية وعلى رأسها مانشستر نماذج مصغّرة للمجتمع الصناعي، ورمز للمدينة الحديثة، ومختبر للتحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية والعمرانية التي ارتبطت عضوياً بنشأة الصناعة أسباباً ونتائج.
عولجت الثورة الصناعية إذن بحسبانها نموذجاً قابلاً للتعميم بل طريقاً ضروريا ووحيدا إلى عالم الحداثة. وهذا النموذج بالرغم من كونه عملية مركبة؟، إلا أن عناصره لم تكن قابلة للتفكيك، فكان على بقية مجتمعات أوروبا وغيرها من المجتمعات التي اختارت طريق التصنيع أن تنقل الصناعة بكامل عناصرها أو أن تتخلى كلياً عن هذا الطريق، أي الاختيار بين التصنيع والإحجام عن عصر الحداثة. وهذا لا يعدو في فهمنا أن يكون ضرباً من الجبرية الجديدة التي صنعتها الأزمنة الحديثة المسكونة بهاجس التعميم وتوحيد النماذج ودفعها للانتظام في خط وحيد الاتجاه تحت لافتة "الحتمية التاريخية" وما شاكلها من (الأيديولوجيات).
ويمكن رصد ملامح المجتمع الصناعي من خلال عناصر كثيرة أهمها:
- أن بنية هذا المجتمع تعتمد الفرد وحدة أساسية في نظام اشتغاله بدل المجموعة أو الجماعة، وأن علاقات هذا الفرد يصنعها نظام العمل والموقع الاجتماعي، وتأخذ قيمتها من هذه الدوائر أكثر مما تأخذها من دوائر الانتماء التقليدي (الدين والمذهب والأسرة والحي والمدينة). على أن علاقات الأفراد في المجتمع الحديث أقل متانة منها في المجتمعات التقليدية التي كان يحركها الضمير الجمعي بقوة وانسجام، وتمثل المعتقدات والقيم المشتركة قاعدة لإدماج الأفراد وتوجيه سلوكهم19. أما في المجتمع الحديث فالفرد يجد نفسه وحيداً ضمن شبكة من العلاقات المؤسسية تحكمها قواعد التعاقد وقيم المنفعة. وقد جاءت"شفافية الديمقراطية" ليعبر الفرد بصفته مواطناً –من خلالها- قانونياً عن عزلته وذلك أثناء ممارسته لعملية الاقتراع.
- أن مؤسسات هذا المجتمع تقوم على معنى التخصص في إنجاز وظائفها ضمن نظام اجتماعي قائم على مستوى عال من التركيب في تقسيم الوظائف والأعمال20، متعارضاً في ذلك مع النظام القديم الذي كان يقوم على الأسرة بوصفها وحدة إنتاج واستهلاك، وبوصفها عامل إدماج وسلطة اجتماعية.
- أن التنظيم الاجتماعي يقوم على عقلانية توزيع الوظائف. وكما يرى فيبر، فإن الوجه الأكثر تقدماً للمبدأ العقلاني يتجلى في النظام "البيروقراطي" بوصفه نظاماً حيادياً غير منحاز ولا مشخص يقول فيبر في هذا الصدد: "إن الإداري المتمرن يشكل عمود الدولة الحديثة وقاعدة الحياة الاقتصادية للغرب عموماً"21.
- أن مرجعية الحقوق والصلاحيات لم تعد، كما كانت في المجتمع القديم، من شأن المؤسسات الدينية والقيم الأخلاقية والسلطات الاجتماعية المحلية، وإنما أصبحت خاضعة لقواعد عامة وتوجيهات عقلية مجردة عن أهواء الأشخاص ومصالح أصحاب السلطان، ومحكومة بمبادئ القانون ومنطق المصلحة العامة.
- أن المدينة هي الموطن الأساسي لحركة السكان، فالتصنيع لا يراكم الأرقام وحسب، بل يوزعها بحسب متطلباته الخاصة عن طريق تركيزها في المدن. وهذا لا يعني أن التصنيع هو الذي أنشأ حياة المدينة22، وإنما الجديد في مدينة الصناعة هو درجة كثافة السكان من ناحية، ونمط العلاقات فيها من ناحية أخرى.
- انعكاس مبدأ الفردية في حياة الأسرة حيث أصبح الأبناء ذكورا وإناثا ينـزعون شيئا فشيئاً إلى الاستقلال المادي، وتنامت حاجتهم للأجور الخاصة التي أصبح يفرضها نظام السوق وتشجعها الدولة عن طريق التغطيات الاجتماعية والأنظمة المتعددة لدعم الدخل الفردي. وبذلك تراجعت وظيفة الأسرة إلى عملية الإنجاب والتربية، بل إن الوظيفة نفسها (التربية) أخذت تنتزعها المدرسة ودُورُ الحضانة والنوادي.
- تزايد الطلب على بضائع السوق تناسباً مع التزايد السكاني23 من جهة، ومع تزايد ارتباط الاستهلاك الفردي بنظام السوق من جهة أخرى. وقد تعاطى النظام الاقتصادي الناشئ مع ارتفاع الطلب بقدر عالٍ من الاستجابة والتوفير، وكان وراء ذلك عنصران أساسيان: الثروات الطبيعية التي تتوفر في البلاد، وتنظيم المبادرة الاقتصادية بدعم المشروعات الناشئة.
- تطور شبكة الاتصالات والمواصلات بما يسر عملية التبادل الاقتصادي في الداخل وخلق إمكانات هائلة في نقل المواد الخام من الخارج وتصدير المصنوعات إليه. وأسهم ذلك بفاعلية في توجيه حركة اليد العاملة وتقريبها من مواطن عملها.
هذه بعض التحولات التي أحدثتها الثورة الصناعية في بنية المجتمع البريطاني، وانتقلت بعد ذلك إلى بقية الدول الغربية، ناقلة معها الصور التي ارتبطت بنشأتها، من مدن صناعية نموذجية، وعلاقات إنتاج جديدة، وحركية سكانية واقتصادية، وروح استهلاكية عالية. وقد مثّل ذلك ركيزة أولى بنى عليها المجتمع الغربي حداثته. وكانت الثورة الفرنسية هي الركيزة الأخرى التي اكتملت بمجيئها ملامح المجتمع الحديث من الزاوية السياسية.
ب. الثورة الفرنسية واكتمال صورة المجتمع الحديث
إن اقتران عصر الأنوار بوصفه حركة فكرية واسعة ومركبة بالثورة الفرنسية بوصفها حدثاً تاريخياً وواقعة اجتماعية وسياسية، أمر لا يحتاج إلى دليل. ويكفي التذكير بتلك الصرخات (إنه خطأ فولتير! إنه خطأ روسو!) التي كانت تسمع هنا وهناك إبان قيام الثورة وبداية تصفية رموز النظام القديم وأعمدته. غير أن السؤال الذي تثيره هذه العلاقة هو: هل كانت الثورة حدثا وتجربة تجسيدا للأنوار فكرة وعودا، أم أن التجربة انعطفت بالفكرة وحرفت وعودها. وبعبارة أخرى، هل أن ما تحقق على أرض الواقع هو فعلا ما كان يحلم يه فلاسفة الأنوار أم أن المولود كان غير ذلك؟
الحقيقة الأولى: هي أن التغيير والتغيير الشامل كان مطلباً فكريا واجتماعيا وسياسيا، ولم يكن معارضوه إلا فئة من أصحاب السلطة السياسية والاجتماعية والدينية الذين كانوا يشكلون هيكل النظام القديم ويحتكرون امتيازات السلطان فيه.
الحقيقة الثانية: أن الإنتاج النظري المتراكم لفلسفات الأنوار –وعلى وجه الخصوص الإسهامات الفرنسية- كان يقدم صورة متكاملة ونموذجا جذابا لمجتمع جديد قائم على صيانة الحقوق وتساوي الفرص أمام الجميع في كل الاتجاهات (الثروة، والمركز الاجتماعي، والدرجة العلمية، والموقع السياسي).
الحقيقة الثالثة: أن رياح الثورة لم تقف عند حدود المجتمع الفرنسي، وإنما ترددت أصداؤها على نطاق عالمي. وإذا كانت الثورة الصناعية قد وقفت عند حدود البلدان التي بلغت درجة عالية من التقدم العلمي، وفي الوقت نفسه تحتوي ثروات طبيعية وبشرية كافية، فإن الثورة الفرنسية قد اتخذت بعدا عالمياً منذ أيامها الأولى، وذلك لطبيعة مشروعها، قابلية مبادئها للانتشار والتعميم دون شروط كثيرة.
ولا شك في أن خصوصيةً ما في الشعب الفرنسي من ناحية وفي التنوير من ناحية ثانية، جعلت الأفكار التي سادت خلال القرن الثامن عشر في أوساط النخب الفكرية الأوروبية كلها تتحول إلى حركة اجتماعية وسياسية، ثم إلى ثورة تجديدية شاملة في فرنسا قبل غيرها من البلدان الأوروبية.
ومما يعرف في تاريخ الشعب الفرنسي أنه كان زمناً يعد من أكثر شعوب أوروبا تعلماً وخاصة في مجال الأدب والفن. غير أن فئة الكتاب فيه لم تكن من أصحاب الحظوة والمراكز الاجتماعية والمركز الاقتصادي المرموق، فلم يكونوا من أصحاب الأعمال أو من ذوي الاهتمامات المالية، كما هو شأن الكتاب الإنجليز مثلا، كما أنهم لم يكونوا شديدي الإغراق في الفلسفات النظرية المجردة كما هو الأمر في أغلب الكتابات الألمانية خلال القرن الثامن عشر. وكانت المسائل التي تدور حولها مؤلفاتهم ومراسلاتهم تتعلق أساساً بموضوع الحكم وما يتعلق به من كقضايا الاجتماع البشري –أصوله وأشكاله البدائية- والعلاقات "الطبيعية المدنية" بين الأفراد قبل نشوء الحالة الاجتماعية وبعدها، والحقوق الأساسية للمحكومين وللسلطات الحاكمة... وقد ذهبت مقارباتهم ونتائجهم مذاهب شتى، إلا أنهم و-كما نقرأ في" الكتاب القديم والثورة" لألكسيس دوتوكفيل- "لم يختلفوا على ضرورة أن يستبدلوا بالعلاقات المعقدة والتقليدية التي كانت تحكم مجتمعهم قواعد جديدةً وبسيطة وأساسية قائمة على العقل والقانون الطبيعي"24. ويضيف دوتوكفيل متسائلا: "ما الذي يجعل مفكرين لا يتمتعون بمركز اجتماعي ولا جاه ولا غنى ولا مسؤولية ولا سلطة يحتكرون السلطة السياسية ويجدون أنفسهم، بالرغم من كونهم غرباء عن الحكم، القادة السياسيين الوحيدين لذلك العصر؟"
لا شك أن الأفكار التي كان يتداولها هؤلاء الأدباء والمفكرون والفلاسفة ليست جديدة كلها ولا هي من إبداعاتهم عقولهم الخاصة، وإنما كانت أصولها ومبادئها قد ظهرت بعد، وصارت إلى حد ما تشكل أيديولوجية العصر خصوصاً بعد التجديدات التي جاء بها الإصلاح الديني وبلورها النهضة، غير أن المتغير الأساسي في هذه الأفكار فضلاً عن تبلورها في شكل نظريات وأنساق فكرية قابلة للتحقيق، هو قدرة أصحابها على ترويجها في أوساط الفئات الشعبية الواسعة التي تبنتها وتحركت بها في شكل تيار اجتماعي سياسي قلب النظام القديم بكل هياكله ومؤسساته.
ومن الملامح الأساسية للثورة الفرنسية نذكر العناصر الآتية:
كان التنوير الفرنسي أكثر جرأة من التنوير الألماني والإنجليزي والإيطالي، وقد تجلى ذلك في نموذج الثورة حيث كانت المواجهة مع النظام القديم تجري على كل الأصعدة: من الكهنوت، الديني إلى الاستبداد الملكي، إلى التقاليد الاجتماعية، إلى علاقات الأسرة والأفراد، إلى غير ذلك من مظاهر الحياة اليومية. ويمكن أن نفهم ذلك من خلال مقارنة سريعة بين كتابي الدين في حدود العقل وحده لإيمانويل كانط الألماني، والقاموس الفلسفي لفولتير الفرنسي، حيث تبدو محافظة كانط في عدم دفعه بالنقد إلى حدوده القصوى، بينما يذهب فولتير إلى النهاية في إثبات سلطة العقل وحده، وتصفية كل أشكال التقليد والخرافة في التراث الديني.
ويمكن أن ندرك جذرية النقد والتأسيس في التنوير الفرنسي من خلال ما كتبه فلاسفة القرن الثامن عشر في دائرة المعارف التي كانت تعبر عن مستوى المعرفة في ذلك العصر، وكانت الأداة الفكرية الرئيسية للإعداد لثورة. وكان ممن أسهم فيها:
- دالمبير الذي كان رئيسها، وكان مسؤولا عن قسم الرياضيات، وكانت اهتماماته علمية، فقد شغل بمسألة التقدم العلمي على نهج فرنسيس بيكون.
- ديدرو الذي جند كتاباته للتصدي للأيديولوجية الدينية والإقطاع، وهذا ما جعله يُرمَى بالإلحاد ويسجن، وهو الذي نشر دائرة المعارف.
- مونتسكيو الذي تصدى للتاريخ السياسي والتشريع المقارن، وشرح في كتابه روح القوانين نشأة الدولة وطبيعة المجتمع، واشتهر بنظريته التأسيسية في الفصل بين السلطات الثلاث قائلا بأن السلطة لا يمكن أن تحدها إلا سلطة أخرى مثلها.
- فولتير الذي تصدى للإقطاع واستبداد الملك وامتيازات النبلاء، وحوكم مرات عديدة لأجل كتاباته. وقد تركزت أعماله حول التاريخ المقارن للأديان التي يدرجها ضمن رؤية تاريخية معينة وينـزع عنها طابع القداسة.
- روسو، صاحب كتاب العقد الاجتماعي الذي يفسر فيه نشأة السلطة وتكوُّن المجتمع المدني، ويقلب نظرية هوبز في الطبيعة البشرية وفي نمط العلاقات إبان "الحالة الطبيعية". وتقوم نظريته التعاقدية على مفهوم "الإرادة العامة" الذي يمثل الأساس التشريعي في المجتمع السياسي. وتعد إسهامات روسو النظرية من أكثر الأعمال تأثيراً في العلوم الاجتماعية اللاحقة.
ولا شك في أن ما أحدثته الثورة الفرنسية من تغييرات في بنية المجتمع قد أصابت كل جوانب حياته، غير أن الإضافة الأساسية تمثلت في تحديث الوضع السياسي، وإقامة نموذج للدولة القومية قائم على قواعد العقل وسلطة الشعب وسيادة القانون.
وكان أول إنجاز تشريعي وأهمه ضمن هذه الثلاثية إعلان حقوق الإنسان الذي أكدت أولى فقراته حرية الناس وتساويهم في الحقوق: "كل الناس يولدون، ويبقون، أحرارا ومتساوين في الحقوق". وذلك يعني أن هناك جملة من الحقوق الطبيعية والحريات الأساسية ذاته، وبفقدانها يفقد قيمته الحقيقية بوصفه إنسانا، وتأتي على رأسها حرية الرأي والاعتقاد والتعبير.
وثاني هذه الإنجازات إقامة نظام دستوري تتواضع عليه الأمة بوصفها صاحبة السيادة، لحماية هذه الحقوق، ومنه تنبع منظومة القوانين المنظمة لمختلف شؤون الحياة الاجتماعية، والتي ينبغي أن تكون معبِّرة عن الإرادة "العامة" للشعب عوضا عن أوامر الملك ورغبات المتنفّذين. وقد جاء في الفقرة الثالثة من إعلان الحقوق أن "مصدر السيادة يكمن أولا وأساسا في الأمة".
وثالثها: أن المواطنين " الذين يشكل مجموعهم مفهوم الشعب"، بوصفهم مصدر القانون وأساس النظام السياسي، ينبغي أن يكونوا متساوين في حقوقهم أمام القانون، وأن يشاركوا في تشكيل نظامهم أو في تعديله أو في تغييره متى رأوا في ذلك تحقيقاً لمصلحتهم. وتصنف الديمقراطية، لدى أغلب المنظرين السياسيين، بحسبانها أفضل الأنظمة السياسية وأقدَرها على تحقيق المقاصد المذكورة.
رابعها: أن السلطة في بنية النظام السياسي الجديد ينبغي أن تتوزع على ثلاث جهات: سلطة للتشريع، وأخرى للقضاء، والثالثة هي الحاكم أو السلطة التنفيذية. وكانت الحكمة من وراء التقسيم-كما يقول مبدعه مونتسكيو- تحقيق التوازن في النظام السياسي لأن السلطة بطبعها ميالة للتمدد والاحتواء، وأنه لا يحدها أو يقف في وجهها إلا سلطة أخرى لها القوة نفسها، والصلاحيات نفسها.
خامسها: أن تقسيم السلطات وضرب مركزيتها قام في أساسه، وقبل ذلك، على تقسيم من نوع آخر يضع حداً فاصلاً بين نمطين من السلطة: السلطة الدينية أو الروحية، والسلطة السياسية أو الزمنية. وبما أن الثانية تتعاطى مع أنشطة الإنسان الحية أو الفاعلة، فقد امتدت صلاحياتها إلى أغلب المجالات التي يتحرك فيها، في حين تراجعت صلاحيات الأولى إلى الحدود الجغرافية للكنيسة، وأوكلت إليها مهمة رعاية ما تبقى من علاقة باهتة بين الله والإنسان.
وسادسها: أن المجتمع الذي ثار على وضعه القديم وقلب أنظمته ومؤسساته ورموزه، بالرغم من الضمانات الأساسية التي وضعها في بنية النظام الجديد لتأكيد حرياته وتثبيت حقوقه وحفظ مصالحه، فإنه أنشأ في بنيته الذاتية جملة من الضمانات تقيم نوعاً آخر من التوازن بينه (أي المجتمع) وبين مؤسسته السياسية (أي الدولة)، وتتمثل هذه الضمانات في مجموع هياكل المجتمع الحديث من أحزاب سياسية ونقابات عمالية وطلابية وهيئات خيرية وجمعيات شبابية ومهنية وعلمية، بوصفها جماعات منظمة ومؤطرة ومتشعبة بالأفكار التحررية التي تشكل روح العصر الحديث وتقاوم كل نـزعة للاستبداد، وتقف في وجه كل محاولات الثورة المضادة أو العودة إلى أوضاع ما قبل الثورة. هذا المجتمع هو الذي أصبح يعرف بـ"المجتمع المدني" ولو أن اللفظ سابق على تشكل هذا المجتمع بعينه.
وبالرغم من المكاسب التي أتت بها الثورة الفرنسية سواء للمجتمع الفرنسي أو للمجتمع الإنساني عامة. فإنها لم تخل من بعض المثالب ومن وجوه الاعتراض، سواء تعلق ذلك بالأفكار التي تأسست عليها25، أم بالأسلوب الذي جرت به الأحداث26 ، أم بقيادات الثورة أنفسهم27.
العلمانية بين المجتمع الصناعي والدولة الحديثة
كان من أبرز نتائج الثورتين اللتين ولد من رحمهما المجتمع الحديث هيمنةُ العلمانية رؤيةً معرفية للكون والطبيعة والإنسان، ونموذجاً تفسيرياً لشبكة العلاقات التي تربط بينها. وباختصار شديد، فإن العلمانية تعني أن العالم، مع مجيء العصر الحديث، قد تخلص من كل أنواع القوى فوق الإنسانية وفوق الطبيعة (الآلهة والأرواح)، التي تَرُدُّ إليها ثقافة المجتمع القديم والثقافاتُ غير الصناعية عامة، وجودَ الكون وتكوين الطبيعة وخلق الإنسان، أيضاً تعود مسؤولية العناية بهذا الوجود من حيث بقاؤه وحركته وعلاقاته المتبادلة. وقد استبدلت الرؤية الحديثة بهذه النماذج التغييرية نموذجاً واحدا يقوم على النظر العقلي والمنهج العلمي. فلم يعد من معنى أو قيمة تفسيرية لأي تأويل لظواهر الطبيعة والإنسان لا يستندُ إلى حقائق العلم ونتائج التجربة وقوانين حركة المادة. فأن تمطر أو لا تمطر فذلك موكول إلى المناخ الطبيعي كما تقيسه أجهزة الرصد الجوي وتصوره الأقمار الصناعية، وليس راجعاً إلى تغير في مزاج الآلهة بين السخط والرضى.
وبعبارة أخرى إن الحداثة، قد بلورت مسارا للعلمنة، واستبدلت بالمؤسسات والمعتقدات والممارسات الدينية والمقدسة عموماً، مؤسساتٍ ومعتقدات وممارسات أخرى قائمة على أساس العقل والعلم. وقد بدأ هذا المسار في التشكل وفي تشكيل الثقافة الحديثة في البلدان الأوروبية منذ نهايات القرن السادس عشر وبدايات القرن السابع عشر لتصبح مع قيام الثورتين الإنجليزية والفرنسية إحدى مقومات العصر الصناعي، وعنصرا أساسيا في "مركب الحداثة" الذي تصدره مجتمعات الغرب.
وعلى الرغم من أن العلمانية مثلت تاريخاً لازمةًً من لوازم نشأة المجتمع الغربي الحديث وتطوره، وجزء لا يتجزأ من ثقافة عصره، حتى غدت في فهم الكثيرين طريقا لا بد من عبورها للولوج إلى كل حداثة ممكنة، فإنها حتى في البلدان الأوروبية التي نشأت وترعرعت فبها، قد تفاوت تأثيرها واختلفت أشكال حضورها في الحياة الفكرية والسياسية للمجتمع، الأمر الذي يسوِّغ الحديث عن علمانيات متعددة لا علمانية واحدة. ولم تفصل في السلطة الملكية بين قيادة الدولة ورئاسة الكنيسة، وكذلك كانت العلمانية الإيطالية، حيث استمر موقع الدين من المجتمع في مقام التوجيه، لا لسلوك الأفراد فحسب وإنما أيضا لسلوك المؤسسات العامة. أما في التجربة الفرنسية، فإن العلمانية كانت أكثر جذرية وتطرُّفاً في موقفها من الدين، وأكثر عدائية لوظيفته ومكانته في مؤسسات الدولة والمجتمع.
وإذا ما كانت العلمانية قد اختلفت في موقفها من علاقة الدين بالدولة من بلد إلى آخر، فإن علاقة الدين بالمجتمع –حتى أكثر العلمانيات تطرفاً-كانت على المستوى نفسه تقريبا في أغلب المجتمعات الأوروبية، حيث ظل الضمير الديني حيا لدى الأغلبية، وظلت هذه الأغلبية تشعر بانتمائها إلى البروتستانتية أو الكاثوليكية ولو لم تكن على مستوى السلوك ملتزمة تماماً بتعاليم الدين. ويمكن الوقوف على ذلك في إحياء المناسبات الدينية بأشكال احتفالية وطقوسية، أو فيما بقيت تحتفظ به الكنيسة من وظائف اجتماعية وأخلاقية، كرعاية عمليات التعميد، وتنظيم عقود الزواج واحتفالاته.
وخلاصة ذلك أن العلمانية، إذا كانت في مستوى الدولة قد أخرجت الدين من السياسة بعد قرون من الصراع الفكري أحيانا والدموي أحيانا، وبعد ضروب من المساومات والمصالحات في أحيان أخرى، فإنها في مستوى المجتمع قد بقيت منحصرة في أوساط المثقفين والنخب الفكرية والسياسية. وقد يكون هذا الوضع هو الذي أسهم إلى حد ما في تحقيق توازن المجتمعات الغربية بالمقارنة مع البلدان التي سيطرت فيها العلمانية على مظاهر الحياة الخاصة والعامة؛ ونقصد بالتحديد البلدان التي حكمتها الأنظمة الشيوعية التي لم تكتف بعلمنة الدولة، وإنما سعت أيضا إلى علمنة المجتمع الذي لم يكن مستعدا للتخلص من ماضيه ومواريثه الرمزية والنفسية طوعاً، فأجبرته الدولة على تقبّل أيديولوجيتها كرهاً وقصراً. ولذلك سقطت العلمانية في هذه البلدان في أول فرصة وجد المجتمع نفسه فيها قادرا على الاختيار بين العلمانية وثقافته الأصلية.
الحداثة وما بعد الحداثة: نقد الحداثة من داخل مرجعيتها
إن تتبع تاريخ الحداثة الغربية وإحالتها إلى بداياتها التأسيسية يفترض –بمنطق التاريخ ذاته- نوعا من الصيرورة في سلسلة الأحداث يُفضي إلى تجاوز ما. فكما أن للحداثة ما قبلها، ينبغي أن يكون لها ما بعدها. غير أن أغلبية التآليف التي كتبها غربيون عن تاريخهم الحديث تنتهي، بشكل أو بآخر، إلى كسر حدود النهاية أمام هذا التاريخ ووضعه في سياق تقدمي لا متناه. وحتى الأعمال النقدية التي تصدت لما تعده من جنس "الانـزلاقات" أو "الانـزياحات" عن هذا الخط التقدمي، إن هي في آخر التحليل إلا محاولات متكررة لتأكيد هذه الدعوة، وحجج إضافية على أن العقل الغربي، الذي لم ير في ماضي التاريخ غير ذاته، يرفض أن يرى في المستقبل غير العقل الغربي والثقافة الغربية والحضارة الغربية. فالحداثة التي مثلت قطيعة مع أنظمة العهد القديم الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفنية، لن تدرك -بهذا الفهم- نقطة في التاريخ تصبح معها ماضيا يتجاوزه حاضر ومستقبل أبدا إذ هي في أغلب التعريفات: ذلك المشروع الذي لم ينجز بعد28، أو ذلك المسار المتواصل واللانهائي، أو ذلك المبدأ "الديناميكي" المؤسِّس لكل منتجات المجتمع الحديث، والذي لا يسمح لها بالثبات أو الوصول إلى نقطة توازن29. وحتى الحديث عن"ما بعد الحداثة" ليس هو الآخر إلا عودا نقديا للحداثة ذاتها، وهروبا من الحديث عن مستقبل آخر للإنسان لا يكون خارجا عن سياق التاريخ الغربي وحلقة من حلقاته.
لا ننكر أن الجهود النظرية التي بذلها العقل الغربي في نقده لتاريخه الخاص سواء منه المجرد في شكل نظريات وأنساق فكرية وأيديولوجية، أو المجسّد في إنجازات مادية ومؤسسات وعلاقات اجتماعية، لا تضاهيها في الوقت الراهن أية جهود نقدية من خارج المنظومة الغربية. ويعود ذلك إلى أسباب عديدة: منها أن العقل الغربي ذاته بُني على مفهوم النقد، وأُسِّس تاريخُه على معنى المراجعة المستمرة وإعادة النظر في كل لحظة ينتج فيها فكرة أو شيئا، بما جعل وعيه بتاريخه وعيا حادا. ومنها أن القراءات الأخرى لتاريخ الغرب، ومنها محاولات العقل الإسلامي، ما زالت تلهث وراء الإنجازات المتسارعة لهذا العقل من العلوم والمعارف أفلتت منها فروع أخرى، وإن ذهبت إلى الأصول تاهت عن الفروع، وإن شغلت بالفروع غابت عنها الأصول؛ كل ذلك والعقل الغربي لا يفتأ يزيد إنتاجه من الأفكار والأشياء. وحتى إذا افترضنا أن هذه المحاولات وُفقت إلى استيعاب كل ما قاله ويقوله، وفَعله ويفْعله الغرب، فإن مهمة النقد ليست بأقل مشقة من ذلك، بل هي أعقد وأشق.
وليس قصدنا من ذلك أن نكتفي بما يقوله الغرب عن نفسه وإن كان نقدا لذاته، أو أن نهوِّن من قدرة الثقافات الأخرى-ومنها ثقافتنا الإسلامية- على العمل العقلي والتناول النقدي لتاريخ الغرب. ولا شك في أن التقدم العلمي والتطور الاقتصادي اللذين تشهدهما مجتمعات ليست غربية، وخاصة ما أصبح يسمى بالقطب الآسيوي، يقدم دليلا على إمكانية التقدم على طريق غير أوروبية. أما نحن العرب والمسلمين ففي ماضينا ما يؤكد عبقرية عقلنا وقدرته الإبداعية، سواء من حيث استيعاب الثقافات الأخرى، أم من حيث تناولها بالنقد، أو من حيث تجاوزها والبناء عليها. ولكن حاضرنا شاهد على عكس ذلك: شاهد على قصورنا حتى في استيعاب تاريخنا الخاص وتفكيك مفاصله وإعادة تركيبه تركيبا مبدعا يبرز قدرتنا على التطور.
ولقد برزت في التاريخ الغربي الحديث محاولات كثيرة على قدر كبير من الجدية في نقد نتائج الحداثة والدعوة إلى تصحيح مسارها. ومن هذه المحاولات ما كان يعبر عن وعي مبكر بمآلات هذا المسار، مثل أعمال هيجل وماركس ونيتشه وفرويد، ومنها ما تأسس لاحقا على معايشة المشروع في تجسداته وتعيناته المتحركة، مثل التيار النقدي الذي اجتاح الفكر الفلسفي الأوروبي في العشرينيات من هذا القرن، ثم تبلور بعد ذلك فيما عُرٍفَ بعد الحرب العالمية الثانية بـ"مدرسة فرانكفورت".
ولقد عرضنا لبعض سمات النقد الهجلي والماركسي والفرويدي أثناء حديثنا عن فكر عصر التنوير ومراحل العقلانية الأوروبية. بقي أن نشير إلى فلسفة نيتشه التي قد تكون أبلغ تعبير عن روح الفلسفة والتاريخ الغربيين عموماً، إذ هي، حسب فهمنا، قد أمسكت بالحلقة الرئيسة التي تمثل جُماع الجهد النظري الغربي وقصيدته الأساسية: القوة. وكان نيتشه قد خصص لمعالجة هذا الموضوع كتابا أسماه: إرادة القوة، ووضع له عنوانا فرعيا تفسيريا هو”بحث في التجاوز القيمي لجميع القيم“، وهذا لا يعني أن كتاباته الأخرى قد أهملت الحديث في هذا الموضوع، بل هي كلها مقاربات لقضية القوة من زوايا متعددة.
يرفض نيتشه في هذا المؤلَّف كل مؤسسات القيم القائمة، ويدعو إلى تأسيس قيم لم تؤسس بعد، قيم إرادة القوة على أساس أن إرادة القوة هي المبدأ الذي به عليه الكائن وليست المؤسسات القائمة في نظره متأسسة على هذا المبدأ، وليس فيها ما يجسد إرادة القوة في المشروع الذي تخدمه (المشروع الثقافي الغربي)، وإنما هي صورة مزيفة لهذا المبدأ تشوه هذا المشروع أكثر مما تخدمه. ويريد نيتشه بهذه المؤسسات أنظمة الأخلاق والفلسفة والدين التي تعد أصولا صدرت عنها فروع الثقافة التي عاصرها، وقامت على أساسها علاقات الواقع السياسية والحقوقية والاجتماعية الاقتصادية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الروح النقدية التي واجه بها نيتشه تاريخ الغرب وثقافته قد لاقت من المؤسسات الرسمية المذكورة ضروبا من التجاهل والازدراء، وصل إلى حد التشهير بصاحبها ورميه بالهرطقة والجنون (قبل أن يجن فعلاً)، ونعت مذهبه بالعدمية والعبثية. والحقيقة أن دعوة نيتشه تتوجه إلى عمق بناء الثقافة الغربية، إلى أصل الشجرة التي نبتت منها ونمت في ظلها الحضارة القائمة بكل فروعها، تريد قلب البناء الذي تأسس أصلا على ما يسميه بـ"القابلية للانحلال، وعلى قيم الضعف والخنوع والهشاشة، وعلى أخلاق العبيد". ولقد كانت الأفلاطونية هي الأصل الفلسفي، والمسيحية هي الأصل لنظام القيم السائدة التي تسري في المجتمع تحت نعوت متعددة كالعدل والرحمة والتسامح والمحبة... وبذلك يكون الصراع بين المذهب النيتشوي وهذه القيم المتهافتة، وباستعمال سلاح إرادة القوة، صراعاً ضد العدمية والانحلال، صراعا يبتغي منه نيتشه نسف كل ما يمثل مقدمات لانحطاط المشروع الثقافي الغربي وبلوغه مآزق حادة كان هو نفسه قد بدأ بمعايشتها.
وتمثل مدرسة فرانكفورت منذ الثلاثينيات من هذا القرن أكثر المحاولات النقدية تأثيرا في الفكر الفلسفي المعاصر30، فهي مع تجذرها في التقليد النقدي الفلسفي عموما،تقدم نموذجاً من الاحتجاج الفلسفي والاجتماعي والسياسي على مآلات الحداثة التي ينظر إليها رموز هذه المدرسة على أنها ثمرة مشوَّهة ومشوِّهة، بل مناقضة لمسيرة العقل الغربي الذي بني أصلا على مفهوم النقد. وكان اجتماع مؤسسي هذه المدرسة في البداية موجها لدراسة الفكر الماركسي بعد التراجع الشامل لقوى اليسار بقطاعاتها المختلفة، وإخفاق الحركات العمالية والأحزاب الثورية "الراديكالية" في إنجاز الثورة الاشتراكية في أوروبا "بعد نجاح ثورة أكتوبر في الاتحاد السوفييتي"، وهذا ما فتح الباب لبروز النازية خطا سياسيا منظما ومتجانسا جعل قاعدتها تتسع بسرعة مذهلة، وتدفع بالحزب النازي إلى سدة الحكم. وكذلك الشأن في إيطاليا عندما هيمنت الفاشية وتراجعت حركات التغيير الثورية بزعامة الحزب الشيوعي الإيطالي.
وقد نظر منظرو المدرسة إلى هذا الوضع على أنه تطور معاكس لمقتضيات العقل، ورأوا في ذلك دليلا على أن المؤسسات والأنظمة السياسية القائمة (الأحزاب والنقابات والبرلمان والدستور والأنظمة الانتخابية) التي أفرزتها بنية المجتمع الحديث، بفتحها الطريق أمام النازية والفاشية للصعود الشرعي إلى الحكم، إنما تكون قد فقدت محتواها العقلاني الذي تأسست عليه، وبالتالي نقلت المجتمع من خط تطوره السليم إلى خط تطور مضاد لأهدافه في التقدم والتحرر.
ويفسر ماركس هوركهايمر وأدورنو -أبرز ممثلي مدرسة فرانكفورت إلى جانب ماركيوز وهابرماس- اندلاع الحرب العالمية الثانية باحتكاك وجهي البنية التسلطية للنظام العالمي الحديث الذي بني على مفهوم الغزو والهيمنة. ولم يكن سببها التناقض بين الديمقراطية والفاشية كما تزعم التفسيرات المنتصرة للديمقراطيات السائدة31. وكان من أبرز وجوه النقد التي وجهها هوركهايمر للمجتمع الحديث أن الضحية الكبرى لهذا المجتمع هو العقل، إذ يرى في مؤلفه كسوف العقل32 أن الحضارة السائدة أسهمت في تركيز شبكة من الأجهزة التسلطية القائمة على النـزعة "الكلِّيّة" أو الشمولية للدولة، وعملت على حفر "أقنية للعقل تسير في اتجاهات موازية لأيديولوجية" بعد ما انتهت عقلانيتها في المجال السياسي إلى بناء فضاء مغلق كبَّل العقل بأنماط من التشيئ المتزايد للمعاني والعلاقات، وأكرهه على التخلي عن وظيفته النقدية، ودفع به إلى حالة من العفوية والضمور. ومع ذلك يضل هوركهايمر يدافع على هذا العقل على أساس أن المسؤولسة لا تقع عليه ولا على استسلامه "للنوم" بما جعل إنتاجاته تتحول إلى مقدار هائل من "المسوخ والتشوهات الشاخصة داخل صيرورة المجتمع".
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
salim 1979
التميز الذهبي
التميز الذهبي



تاريخ الميلاد : 27/05/1979
العمر : 45
الدولة : الجزائر
عدد المساهمات : 5285
نقاط : 100012179
تاريخ التسجيل : 06/11/2012

في الرؤية الغربية لتاريخ الحداثة Empty
مُساهمةموضوع: رد: في الرؤية الغربية لتاريخ الحداثة   في الرؤية الغربية لتاريخ الحداثة Emptyالجمعة أبريل 26, 2013 9:19 pm

وكانت مقاربة تيودور أدورنو النقدية للحداثة من خلال ثقافته الفنية وتخصصه في الموسيقى والجماليات. وقد ساعدت إقامته الطويلة في الولايات المتحدة ( بلاد الوفرة الفنية) على توسيع اهتمامه ليشمل مجالات فنية أخرى، وعلى الإيغال بعقله النقدي في إشكالية موقع الفن والثقافة عموما، في مجتمع استهلاكي يُنظَر إليه عل أنه أكثر المجتمعات الصناعية تقدماً. وكانت دراسة أدورنو متجهة إلى الكشف عن العلاقة بين الإنتاج الفني وأجهزة الدعاية من جهة وبينها وبين الإدارة السياسية والاقتصادية لأجهزة الاستهلاك الجماهيرية من جهة أخرى، ليخلص إلى ما يسميه بـ"الثقافة المصنعة"، هذه الثقافة الآلية التي تُظْهِر وجهاً من وجوه مجتمع التقنية القائم على تخدير الأفكار وإفقادها محتواها "الراديكالي" لاندراجها ضمن "ثقافة جماهيرية" استهلاكية جرى"تصنيعها" لإسناد النسق القائم وتسويغ استمراريته.
فرسالة الفن بدل أن تحافظ على استقلاليتها عن الواقع المادي المغلق، وذلك بخلقها لعالم جمالي مفتوح يمثل بذاته واقعا احتجاجيا تصحيحيا، أمست في المجتمع الحديث خاضعةً لتقنية السلطة المتخفية وراء آلياتها ومؤسساتها، وخادمة لاتجاه الواقع الذي يصنعه الجهاز الرسمي الذي يُجَمِّع المنفعة والمتعة ويُهَيِّئُها للفئة السائدة دون غيرها. ويرى أدورنو أن الإنتاج الموسيقي مثلا يتخذ هوية غير فنية بمجرد أن يصبح خاضعا لقانون"الخدمة الاجتماعية" ولقواعد السوق مثله مثل بقية البضائع. غير أن هذه الخدمة وهذه البضاعة تبقيان مقصورتين على الفئة القادرة علىدفع المال للتمتع بهذا النوع من "الفن الممسوخ" المرتبط بنمط علاقات الإنتاج القهرية السائدة في المجتمع33.
وعلى خط آخر من الاهتمام الفلسفي، كان هاربرت ماركيوز يشحذ العقل النقدي ويُهيِّئ قطاعات الشباب والمهمشين والقوى التقنية للاحتجاج على سياسة الإدماج والإكراه الاجتماعي التي تمارسه الدولة الحديثة. ويرى ماركيوز أن الرأسمالية الأمريكية المتقدمة قد أنتجت"مجتمعا مغلقا" لأنها، كما يقول في مقدمته للطبعة الفرنسية من كتابه الشهير الإنسان ذو البعد الواحد34: "تدمج كل أبعاد الوجود، الخاصة والعامة، وتنتهي إلى نتيجتين على غاية من الأهمية: أولاهما تتمثل في عملية تكييف القوى والمصالح المعارضة للنظام القائم خلال مراحل تكونه الأولى التي كانت تسمح بالمعارضة، من أجل خدمة هذا النظام، وثانيتهما تتمثل في إدارة الغرائز البشرية وتوجيهها بشكل منهجي بما يجعل عناصر الوعي المتفجرة "واللااجتماعية" قابلة للتسيير والتوظيف اجتماعيا".
وهذا الوضع جعل من قوة الرفض التي كانت خارج دائرة الرقابة خلال بداية تكوّن مجتمع التقنية، قوة تثبيت للموجود، وعامل إدماج للمختلف وصهر للمتباين، بشكل لم يسبق له مثيل في تحول الأفراد والمجموعات إلى أدوات لإعادة إنتاج القمع الذي يمارس عليها، لأن عملية الإدماج تسير –في الجانب الأساسي منها- دون رعب مفضوح.
يقول ماركيوز: "إن النظام الديمقراطي يدعم الهيمنة بحدة أكثر مما تفعل الأنظمة المطلقة". ويرى إن من طبيعة المجتمع المغلق داخلياً (ويقصد المجتمع الصناعي التقني الذي كان يحلل آلياته) أن ينفتح على الخارج اقتصاديا وسياسيا وعسكريا. ويريد بذلك تفسيره نشأة الإمبريالية التي تظهر هي الأخرى الطبيعة الشمولية للمجتمع الحديث الذي لا يمكن الفصل فيه بين التجارة والسياسة، بين المنفعة والهيبة، بين الحاجة والطلب... وضمن حركية هذه الشمولية ويتم تصدير نمط "الحياة الحديثة" إلى المجتمعات "المختلفة".
ومع تصدير المحركات وتقنيات الكمبيوتر ووسائل الاتصال وغير ذلك، يتم تصدير القيم التي تسود داخل المجتمع الذي صنعها: قيم الفرد والجماعة، قيم المدينة وتراجع وظيفة الأسرة، قيم العلمانية وتهميش المقدس، قيم السوق وتحجيم الاقتصاديات المحلية، قيم المنافسة بلا حدود وأشكال الانتظام الاجتماعي إلخ... ولضمان استمرارية حاجة المجتمعات اللاصناعية إلى هذه الصادرات بضاعةً وقيما، وحتى لا تنشأ في هذه المجتمعات قوى معارضة تحول وجهة تطورها عن الخط الذي ترسمه المجتمعات الصناعية المتقدمة، فإن المجتمعات الصناعية المتقدمة تعمل على تصدير أشكال من الضبط الاجتماعي والرقابة السياسية والاقتصادية والإعلامية تكون هي أيضاً خاضعة لمؤسسات رقابة على مستوى عالمي. ثم يخلص ماركيوز من خلال تشخيصه لأمراض المجتمع الحديث إلى أن أصل الأزمة يكمن في أن الحداثة قد جردت المجتمع من مقومات ثرائه وأبعاده الإنسانية، وحوّلته إلى مجتمع "ذي بعد واحد" قائم على المواصفات الآتية.
- مجتمع بلا معارضة، فالتقدم التقني قد طور نظاماً للهيمنة متزايد القدرة ومتعدد الوسائل، هادفاً إلى التوسع والاستمرار ومنع كل محاولات التغيير الكيفي التي تسعى لإقامة مؤسسات مختلفة في طبيعتها ورسالتها ووظيفتها، تحول مسار الإنتاج وأنظمته وعلاقاته، وإبداع أنماط حياة جديدة بأهداف أكثر إنسانية. وباختصار، يقول ماركيوز: "أن يعيق عملية التغيير الاجتماعي، تلك هي الظاهرة الأكثر غرابة في المجتمع الصناعي المتقدم35، ونتيجة ذلك وبسببه في الوقت نفسه تمّ القضاء على الروح النقدية بإدماج فعاليات الرفض والمعارضة في نسق مرتفع من تجميع البضائع والخدمات، إنتاجاً وتوزيعاً واستهلاكاً، حتى يتنامى فيها القبول بمستوى الإشباع المادي، ويتراجع معها مطلب التغيير الكيفي، وتخفت فيها حدة النقد، لا سيما إذا ما رفعت لافتات "المصلحة العليا"والأمن القومي" و"الإرادة العامة".
- إلى جانب انتفاء المعارضة، فإن المجتمع الحديث قد طوّر أنظمة للمراقبة لم تعد تتحدد -كما في السابق- بالسلطات "المعنية" و"المعانة"، وإنما صار الأساس التكنولوجي الذي انبنت عليه الحياة الحديثة هو ذاته عصب العملية الرقابية، وصارت الحكومات في المجتمعات الصناعية تسيّر المجتمع في شكل كتلة آلية متوزعة قطعها على شبكة إنتاجية واسعة لم تُتَحَدَّدْ بجغرافية المصنع ومكان السوق، وإنما صار المجال الخاص للأفراد ميداناً تتجلى فيه الرقابة الاجتماعية التي استنبطها الفرد فأعدمت فيه شروط الاحتجاج وكرست لديه سلوكا انضباطيا ووعيا مطابقا لمقتضيات "الاجتماع الآلي".
- يظاف إلى ذلك انغلاق المجال السياسي بالاتجاه المتعاظم للدولة نحو الشمولية والهيمنة -من خلال المؤسسات الحكومية و"المستقلة"- على المسار العام لتطور المجتمع. ولم تعد الأحزاب والنقابات أطراً للمعارضة الفعلية وقنوات تتبلور وتنضج فيها عمليةُ التغيير، بقدر ما صارت هي نفسها جزءاً من النظام القائم تستفيد مما يقدمه الوضع من خدمة لمصالحها. وحتى عمليات التغيير التي تتم داخل المجتمعات التقنية والتي يعبر عنها سياسيا بـ”تداول السلطة“ لا تستهدف قواعد بناء المجتمع وآليات اشتغاله، بقدر ما تسعى إلى تعزيزها عن طريق بتجديد شرعيتها، وتجديد الجهاز الإداري الذي تقادم والإتيان بنظير له جديد، والتنافس في زيادة الإنتاج وتنويعه، والبحث عن أنجع السبل لاستغلال أجدى لمصادر الثروة، والعمل على إعادة توزيع مراكز القوى لضمان توازن الوضع "الجديد" واستقراره إلى حين حلول "التداول القادم".
إلا أن هذا التشخيص لا يضع ماركيوز في موضع اليأس من إمكانية التغيير وتحويل وجهة التقدم عما استقرت عليه. فهو يرى أن القدرة التكنولوجية التي ينطوي عليها المجتمع التقني، تلك التي سخرتها الحداثة لبناء مجتمع قمعي وشمولي مغلق، يمكنها، إن هي استخدمت بعقلانية نقدية، تؤسس مجتمعا حرا، إنسانيا مفتوحا. فمن داخل النسق القائم يمكن أن تنشأ مقاومة لا تحركها نظرية وضعية، ولا تؤطرها حركات التغيير الشعبية، ولا تشعر بنبضها النقابات التي أمست ركيزة من ركائز المجتمع القائم. هذه المقاومة ستجد عمادها في حركة العمال الذين لم تدمجهم المؤسسات القائمة في كيانها، وفي تجمعات السود المهمّشين في أمريكا، وفي البلدان النامية، وفي شريحة شباب الجامعة.
ولأنه من الصعب التفكير في بروز هذا المجتمع الحر والإنساني المفتوح من خارج المجتمع القائم، فقد أن تحتم أن تبدأ عملية تنشئة الجيل الجديد، أو ”الحساسية الجديدة“ كما يسميها ماركيوز36، في المرحلة الأولى بتحرير الوعي من هيمنة منطق الآلة، وتقويض نظام الحاجات الذي أنشأه المجتمع الاستهلاكي، ناسجا منه طبيعة ثانية للإنسان على أنقاض طبيعته البشرية الأصلية أو الأصيلة. وفي هذه المرحلة يصبح العلم فنا ويصبح الفن أداة لتشكيل الواقع لينشأ من ذلك "مبدأ واقع" جديد، ينتفي منه التمييز بين العلم والفن، وبين العقل والمخيال37، وبين الملكات العليا والملكات السفلى.
وهنا تصل ”الحساسية الجديدة“ إلى مرحلة متقدمة من رفض الواقع القائم بأخلاقياته وثقافاته، والمطالبة بأنماط وأشكال جديدة للحياة، تتميز بهيمنة الحس والمرح والصمت والجمال التي تتحول هي ذاتها إلى بنية للوجود وإلى صورة للمجتمع الجديد. وفي مرحلة تالية تبرز حاجة هذه ”الحساسية“ وهذا الوعي الناشئ إلى لغة جديدة (بالمعنى الواسع لكلمة لغة الذي يتضمن الكلمات والصور والإشارات والدلالات...) حتى يتمكن من نشر "قيمه"، وذلك لأن القطيعة مع نظام الهيمنة بصورة كلية يستوجب في مرحلة حاسمة من مراحلها التحول والقطيعة مع نظام الخطاب الذي يقوم عليه هذا النظام.
ومعلوم أن ماركيوز كان رمزا لثورة الطلاب الفرنسيين في (مايو/أيار) 1968م، وكانت كتاباته الوقودَ الذي يغذيها. ونشير هنا إلى أنه قد أهدى كتابه نحو التحرر إلى هذه الحركة الشبابية التي كانت بداية تطبيقية لمحاولة في تحرير الإنسان المعاصر في الغرب من براثن الآلة التي صنعها لِبَسْطِ هيمنته على الطبيعة، فانقلبت عليه وسلبت حريته.
واكتملت النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت مع وريثها من الجيل الثاني الذي شملت أبحاثه مجالات أكثر اتساعاً وتفصيلاً. فقد تولى يورغن هابرماس تحليل آليات الاستلاب في كيان الدولة الحديثة، لينتهي إلى نقد المؤسسات الاجتماعية الفرعية في تنوعها، التي يعود إليها تكوين الوعي الفردي والجماعي في المجتمعات الغربية المعاصرة. وواضح أن الإشكال الرئيسي الذي تصد له هابرماس في أغلب كتاباته هو الكشف عن سبل تحرير الوعي، واستعادة الحيوية لملكة النقد الفلسفي التي غمرتها التقنية بأنظمتها القمعية المنظمة تنظيماً محكماً وخفياً. فقد سخر كتابه عن الفضاء العام38 مثلا، لتحليل آلة الدعاية وسلطة الإعلام بوصفهما وسيلتين أساسيتين من وسائل تشكيل الوعي الاجتماعي، وأداتين رئيسيتين من أدوات هيمنة الدولة ومؤسساتها البيروقراطية، التي تسعى لتكوين رأي عام مطابق لوجهة النظر الرسمية وفاقدٍ لعناصر التمايز والاختلاف، وبالتالي لشروط النفي والمقاومة. وقد رصد الكتاب المذكور مسيرة تطور الوعي الجماعي بحسبانه رأياً عامّا في المجتمعات الأوروبية، وما يقابلها من تطور تاريخي متدرج وموازٍ لهيمنة المؤسسات الرسمية على المجال العام، وما انضاف إليها مع مجيء العلم وثورة التقنية من قدرات متزايدة لتوسيع هذه الهيمنة والتحكم في اتجاهات الرأي العام. وقد اقترن هذا التطور في التركيب المؤسسي للمجتمع الحديث بتطور في التشريع القانوني يرمي إلى منح هذه المؤسسات سلطة شرعية ومسوِّغات عقلية كافية لممارسة سيطرتها على المجال العام.
وهذا التركيب المؤسَّسي الذي أصبح يمثل نموذج الدولة الحديثة جعل التداخل بين الخاص والعام يتزايد في اتجاه احتواء العام للخاص حتى أصبح فيها العام يشرِّع للخاص، ليس فقط حدوده ومساحته، وإنما أيضا نمط سلوكه وطرائق استجابته واتجاه حركته بصفة عامة. فالمادة الثقافية التي يتعاطاها المواطن في الدولة الحديثة أضحت مقترنة بالآلة الاقتصادية وآلية إنتاجها، فغدت مع هذا الاقتران سلعة تخضع لقانون السوق، وظهرت عملية "الإنتاج الجماهيري" متمثلة في كتاب الجيب الذي تقدمه دور النشر لقارئ الطبقة الوسطى والفقيرة القادر على اقتنائه، معتمدة في توسيع دائرة تسويقه وتحقيق أكثر ما يمكن من الربح على وسائل الدعاية والإعلام أكثر من اعتمادها على مضمونه وقيمته المعرفية، وبقيت الطبعات الأنيقة الباهظة مقتصرة في جمهورها على الطبقة الغنية، التي صارت تحرص أكثر فأكثر على (ديكور) المكتبة ونوعية الطبعة وشكل الكتاب أكثر من حرصها على قراءة المضمون.
ولعل الحقيقة الأكثر تقدماً في مسيرة تطور الآلة الدعائية والإعلامية بوصفها أنجع أدوات التحكم في الوعي وتوجيه الرأي العام في المجتمع الحديث ما أضحت عليه المؤسسة الدعائية من استقلال بذاتها على بقية المؤسسات إذ لم تكن غير قسم من أقسام إدارتها. وقد حولها هذا الاستقلال إلى هدف يتم الاعتناء به لذاته، فنشأت في المجتمع مؤسسات أخرى لصيانة مؤسسة الدعاية وتطوير أساليبها وتوسيع مجال فاعليتها وتأثيرها. وصارت الدعاية للمواد الاستهلاكية من بضائع وكتب تحتل المكانة الأولى في كل مشاريع الإنتاج والخدمات، فالنصيب الأوفر من الميزانية ينصرف للإعلان والدعاية حتى ليصح معها القول: إن الدعاية في نظام الإنتاج والتسويق هي التي أصبحت تروِّج السلعة أو الخدمة عوضاً عن نوعية هذه السلعة وهذه الخدمة.
وبالنتيجة، فإن الدعاية مبدأ للسيطرة، تنشئه وتعمل على صيانته وتطويره "مؤسسة المؤسسات" لصناعة أساس شرعيتها على النحو الذي تريد. فالرأي العام الذي هو في الأصل صاحب القوة التوجيهية وقاعدة الانطلاق في صناعة القرار السياسي والثقافي والاجتماعي أصبح مع التطور الكبير في أساليب الدعاية والإعلام مجالاً لتنفيذ كل استراتيجية سلطوية، وإطار لقمع رأي المواطن وإكراهه "سلمياً" على الانتظام في سلسلة من الموافقات العامة المستجيبة لإرادة الدولة وتوجهاتها. فالبرلمان الذي يمثل الإرادة العامة في النظام الديمقراطي على سبيل المثال، ويقوم بدور التطوير والتنضيج للحوار السياسي الذي يدور في قاعدة المجتمع وفي أطره السياسية، غدا بدوره شكلاً من أشكال الدعاية المركزة، إذ بادعائه تمثيل الإرادة الحرة للمواطنين، يكون قد دفع بالوعي الجمعي وبحركية الرأي العام إلى الاسترخاء والاختفاء في ثنايا ما ستفرزه مؤسسته التشريعية من نصوص وأطر قانونية خاضعة في كل الحالات إلى السياق الدعائي الشامل والاحتكاري الذي كان قد حدد مسبقاً شكل الوعي الفردي ومضمونه أيضا.
ويبقى الخروج من أزمة الحداثة التي تمثلت في خلق مجتمع مفكك المفاصل، قد اخترقته المؤسسات العامة التي لا تنفك عن التناسل والاضطراد، وكبلته السلطة بآليات الدعاية وتكييف الوعي وتوجيهه لتثبيت الوضع القائم، ففقد بالتدرج روح التوثب، وخبت فيه ملكة النقد التي ميزت تاريخيا نشاط العقل الغربي، يبقى المخرج من كل ذلك بحسب هابرماس هو تنشيط الاتصالية الاجتماعية بين الأفراد داخل المجتمع، وبين المجتمع والدولة خارج الأطر الرسمية التي صارت هي الأدوات الأيديولوجية للنظام السائد. وهذه الاتصالية التي أطرت في السابق الحركية الاتصالية للعقل، وكانت طريقاً لتطور الوعي الغربي وميلاد المجتمع الحديث، أصبحت اليوم إطاراً مغلقاً يشهد المجتمع المعاصر في ظله ضربا من الحصار وخنقاً لإرادته الأصلية، فلزم إذاً أن تنشط في المجتمع اتصالية جديدة يستعيد فيها العقل روحه النقدية، ويسترد فيها الوعيُ استقلاليتَه عن مجموع الإطار المؤسسي الذي صنعته تقنيات الرقابة، وشكلت وحددت مضامينه سلطة الدعاية ووسائل الإعلام. وفي كل الأحوال لن تخرج قوى التغيير عن كونها ثمرة فكرية أو سياسية لهذا المجتمع الذي تسعى للتحرر من قيوده. فهل يمكن أن يكون التحرير عنصرا خارجيا إذا ما أخفقت نظريات التحرر من الداخل في بلوغ أهدافها؟
الحداثة وما بعد الحداثة: تثبيت الثوابت
لقد حاولنا قراءة تاريخ الحداثة من خلال تتبع بذورها في المجتمع الغربي منذ أعلن فلاسفته ومؤرخوه عن طي هذا المجتمع لصفحة "العصور المظلمة" عن طريق حركة فكرية واسعة استهدفت إصلاح الدين، وتجديد العقل، والنهوض بالمجتمع ليخطو خطواته الأولى على طريق الأنوار، الذي انفتح أيضا على مسار تاريخي ما زال العالم عاجزا عن توقع ما سيأتي بعده، هذا المسار هو مسار الحداثة. وقد اخترنا في هذه القراءة أن تكون من داخل العقل الغربي نفسه، تقفو خطواته، وتعمل بمنطقه، وتتكلم لغته، لنخرج منها في النهاية بصورة توقفنا على ملامح هذا المجتمع الذي هيمن عالمياً لا في مستوى إنتاجاته المادية والفكرية فحسب، وإنما أيضا في قدرته على نقد هذه الإنتاجان والعمل على تجاوز أخطائها وانحرافاتها.
غير أنه مهما اتسعت دائرة النقد وتعمقت، فإنها تبقى سجينة الرؤية المعرفية الغربية التي ترتكز إلى ثوابت بنيوية أساسية مهما اختلفت بها السبل وتشعبت وسائل التعبير عنها. وتُرَدُّ هذه الثوابت في مستوى التصور الوجودي الغربي إلى:
- أن مركز الكون محايث له غير منفصل عنه، وأن علله التفسيرية كافية للوصول إلى الحقيقة دون الحاجة إلى مصادر أخرى.
- أن الإنسان هو سيّد الكون، والمخول المطلق بالتصرف في إمكاناته الطبيعية وفي بقية الموجودات، وليس ذلك لكونه كائنا متفردا في خلقته، أو لكونه يَفْضُلُ هذه الموجودات من زاوية أخلاقية أو غائية، وإنما لكونه أرقاها في سلسلة التطور، وأعقدها في مستوى التركيب المادي، ومن ثُمَّ فهو أقدرها على التحكم والسيطرة.
- أن العقل هو أداة الإنسان الوحيدة لإدراك محيطه والكشف عن مجاهيل الطبيعة بما فيها كيانه الإنساني، وأن هذه المجاهيل هي أمر مؤقت، فتراكم المعلومات التي تحصل مع تقدم الزمن كفيلة وحدها بتوسيع رقعة المعلوم وتقليص رقعة المجهول إلى أن ينتفي تماماً. وإذا ما تعذرت معرفة بعض جوانب الطبيعة والإنسان، على الرغم من توافر الشروط المادية لمعرفتها ، فإنه يتم إخراجها من دائرة الوجود أو على الأقل من دائرة الحضور في الوعي الإنساني.
- أن تاريخ الإنسان تقدمي ووحيد الاتجاه، ولا غاية له غير اطراد التقدم وتحقيق التكاثر على صعيد الإنتاج المادي والعملي، حتى تنبسط سيطرة الإنسان على مختلف المساحات. وقد ورث الإنسان الغربي هذه المسيرة التاريخية بحكم قدراته الخارقة على مغالبة الطبيعة والغيب معاً، وإفساح المجال للعقل وحده ليقود مسيرة الإنسان ويقيم قواعد الاجتماع.
- أن المجتمع الغربي هو الحلقة الأكثر تطورا في أنماط الاجتماع البشري، وأن هذا التطور يستوعب جوانب الحياة كافة. فالنظم الاقتصادية والسياسية والإدارية والفنية والعمرانية لم تعرف درجة من التطور تماثل أو حتى تقارب ما بلغته في المجتمع الغربي الحديث. والعقلانية والعلمانية هما السمتان الغالبتان على منظومة القيم التي تسيّر هده النظم ومؤسستها الفرعية.
- أن الطريق إلى الحداثة هو الطريق إلى الغرب، أو على الأقل الطريق الغربي إليها، وذلك يعني أن تتجرد المجتمعات الطامحة إلى التحديث من ميراثها القيمي وتصوراتها الثقافية والدينية والأخلاقية، وأن تستبدل بعلاقاتها الداخلية التقليدية التي تشكل أساس لحمتها وشرط وحدتها علاقات أخرى توصف بكونها "حديثة".
- كل هذا يعني أن اتجاهات النقد التي تضع نفسها خارج السياق الغربي للحداثة، والتي تريد أن تكون أكثر جذرية، ولا تنحبس داخل حدود الإطار النظري والفلسفي للمشروع الثقافي الغربي، ينبغي أن تتصدى لهذه الثوابت بداية من أسس التصور، وانتهاء إلى آخر الأشكال التطبيقية التي تجري عليها أحوال الناس في المجتمع الحديث. ولا شك في أن النقد الذي توجهه تيارات الفكر الغربي من داخل إطارها المرجعي لمسار تطور مجتمعاتها يصلح مادة معرفية –مهما تلبستها الروح الأيديولوجية- تسهم إلى حد بعيد في كشف تاريخ الحداثة الذي نحن معنيون بفهمه، ليس لذاته فحسب، إنما أيضاً لأنه يسهم من زوايا متعددة من تصحيح وعينا بذاتنا، وبالتالي في دفعنا إلى تصحيح الثوابت من خارج بنيتها يفتح –منذ الوهلة الأولى- مجالا واسعا وخصبا من التساؤلات والإثارات النقدية التي تقف بوضوح شديد على مواضع الإعاقة والقصور فيها، وسيكون ذلك موضوعاً لمقالة قادمة بإذن الله.
- ولكن لا بأس من الإشارة هنا إلى أن جل هذه الثوابت تحتاج إلى إثبات،وإذا كان الأساس التصوري الذي يرفض أن يكون وراء الوجود الطبيعي المادي وجودٌ آخر، أو على الأقل لا يعير ذلك أي اهتمام، وإذا كان الأمر مجالا للنقاش الفلسفي النظري المحض، أي أن إثباته أو نفيه يتجاوز -عند النقاش- حدود البرهنة القولية لهذا الطرف أو ذاك، فإن المسائل الأخرى يمكن المحاججة في شأنها بمنطق البرهان الغربي نفسه، أي بما لا يخرج عن إطار العقل ودائرة التجربة.
- فإعادة قراءة التاريخ من خارج الإحداثيات الغربية ستضعه في سياق آخر يختلف تماما في حركة صعوده ونـزوله عن شكله الراهن. فأسطورة "العصور المظلمة" مثلاً التي تعدها القراءة الغربية للتاريخ حالة إنسانية عامة سبقت بإطلاق مجيء "عصر الأنوار" ليست في الحقيقة إلا لياً لعنق التاريخ وتضييقا في أفقه لإجباره على الدخول من بوابة "المركزية الأوروبية". فإذا كان التقدم الذي عرفته الإنسانية مع الحضارة الغربية قد تجاوز، على صعيد تكديس السلع والخدمات والمعلومات، كل حدود التوقع، فإن الحضارات السابقة قد عرفت هي الأخرى عصوراً من الصعود، سواء على مستوى المعرفة النظرية أو على مستوى الإنجاز المادي، وإن ما يسميه الغرب "عصر الظلمات" كان في الحقيقة قد شهد مجالات من التقدم أذهلت عقول المؤرخين "المحايدين".
يقول ب. ويلسون صاحب مقالة "الإسلام والمد العربي" في كتاب "العصور المظلمة": "إن الثورة المفاجئة التي شهدها العرب خلال القرن السابع تعد أمراً فريدا في التاريخ. ففي ظرف ثلاثة أجيال تجمعت القبائل المتناثرة التي كان بعضها قارّا وبعضها متنقلا، تعيش على التجارة وعلى ما تنتجه الأرض، وخرجت منها إمبراطورية غنية وقوية تهيمن على كامل جنوب المتوسط والشرق الأدنى، من أفغانستان إلى إسبانيا، فكيف حدث ذلك؟" ولا شك في أن المعني بالإجابة عن هذا السؤال وهذه الحيرة هو نحن، الذين كانت الحقبة التاريخية الفريدة بعضا من تاريخنا.
والأمر نفسه يجري على موضوع نمط الاجتماع الغربي، الذي يمكن للعين الفاحصة أن تقف فيه على مواطن خلل تساوي، وربما تزيد، عما فيه من جوانب تفوُّق، سواء تعلق الأمر بأشكال الانتظام أم بمضمونه أو بوجهة التقدم ذاتها وما أفضت إليه حتى الآن من مآلات كارثية على صعيد الفرد والمجموعة والبيئة الطبيعية والاجتماعية معاً، مما يدعو إلى التساؤل عن حقيقة أن الحداثة فعلاً تجسيد لأفكار الأنوار، أم هي ضرب من الالتفاف عليها، وانقلاب تدريجي باتجاه إحياء الجوانب الأكثر ظلامية في "العصور المظلمة".
وما يقال عن ذلك يقال أيضا عن الوثوقية الصارمة في كون الطريق الغربي إلى الحداثة هو طريق الإنسانية كلها، وأن الغرب هو النموذج الوحيد الواقعي والممكن الذي ينبغي أن يتبع لإدراك هذا القدر الكوني المحتوم39. إن إسهامات الإنسانية الواسعة في إنجاز الحداثة والحداثة الغربية بالذات أمر لا ينبغي للغرب أن ينكره، كما لا يمكنه أن ينكر أن الثراء الذي عليه تجربة الإنسان غير الغربي كفيلة بالإضافة إلى هذا المشروع العالمي، سواء من باب الإغناء، أو من باب النقد والتصويب، أو من باب التجاوز وتقديم نماذج إنسانية أخرى مغايرة للحداثة القائمة في أسسها وفي غائيتها.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
salim 1979
التميز الذهبي
التميز الذهبي



تاريخ الميلاد : 27/05/1979
العمر : 45
الدولة : الجزائر
عدد المساهمات : 5285
نقاط : 100012179
تاريخ التسجيل : 06/11/2012

في الرؤية الغربية لتاريخ الحداثة Empty
مُساهمةموضوع: رد: في الرؤية الغربية لتاريخ الحداثة   في الرؤية الغربية لتاريخ الحداثة Emptyالجمعة أبريل 26, 2013 9:22 pm

http://eiiit.org/resources/eiiit/eiiit/eiiit_article_read.asp?articleID=784&catID=17&adad=4
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
في الرؤية الغربية لتاريخ الحداثة
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» الرؤية الصهيونية للشرق الأوسط الجديد
» الأصول السياسية المعاصرة من خلال الرؤية الصهيونية
» الخريطة الجيوسياسية للشرق الأوسط الجديد وفق الرؤية الأمريكية
» الرؤية العقائدية للجيل الثاني من المحافظين الجدد في السياسة الأمريكية
» الحداثة وما بعد الحداثة

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى قالمة للعلوم السياسية :: ******** لسا نـــــــــــــــــــــــس ******** :: السنة الأولى علوم سياسية ( محاضرات ، بحوث ، مساهمات )-
انتقل الى:  
1