الأمن في الإسلام حاجة إنسانية
إذا أرادت أمة أن تحقق لنفسها تقدماً حضارياً مزدهراً فلابد أن يتوافر الأمن لديها على المستوى الفردي والمستوى الاجتماعي، وذلك وفق ما شهد به التاريخ وأكدته تجارب الأمم والشعوب ذات الحضارات العريقة فلا إبداع من دون استقرار، ولا نهضة علمية أو اجتماعية من دون أمن أو طمأنينة تلقح العقول وتشحذ العزائم وتعلي الهمم وتطلق الحريات·
إن الأمن هو أهم الأسس وأبرز القواعد التي يقام عليها صرح الحضارات، وهو اللغة الرسمية التي يتميز بها الفرد المتحضر والمجتمع المتقدم والأمة الواعدة التي تدرك ما ينطوي عليه المناخ الآمن من عوامل حضارية فتية وعناصر ديناميكية فاعلة تقود إلى صنع مجتمع حضاري متقدم يحظى بالاستقرار وينعم بالسكينة ويتفيأ ظلال الأمن وحياة الرفاهية·
>إن الذي لا ريب فيه ولا جدال أن العالم اليوم يتأرجح فوق بركان على وشك الانفجار، ولم تكد تسلم رقعة من رقاعه من هذا البركان المزعج، والذي لا ريب فيه أيضاً أن الاضطراب قد أصبح كأنه ضرورة من ضرورات العالم لا تكاد تستغني عنه بقعة من بقاعه، وكأن وجود هذا الاضطراب مرتبط تمام الارتباط بحياة دول كبرى يهمها أن يظل قائماً فوق البسيطة، وتذود عن كيانه بما تستطيع من قوة، وتحرص على بعثه من جديد إذا تلاشى أو أوشك أن يتلاشى في ركن من الأركان<(1)·
ومن ثمَّ كان التفاتنا إلى أهمية الأمن واجباً ووقوفنا عند مراحل تحقيقه ضرورة ملحة يفرضها علينا ـ نحن العرب والمسلمين ـ ديننا الحنيف ووطننا العزيز وأمتنا المجيدة التي جعلها الله تعالى خير أمة أخرجت للناس·
معنى الأمن >لغة واصطلاحاً<
تتقارب معاني الأمن في كل من المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي، حيث تلتقي جميعها على أن الأمن هو تحقيق السكينة والطمأنينة والاستقرار على مستوى الفرد والجماعة·
فالأمن في المعنى اللغوي ضد الخوف والأمن: المستجير ليأمن على نفسه· والأمانة: ضد الخيانة· وآمن به: صدقه· والإيمان: الثقة وقبول الشريعة· والأمين: القوي، وصفة الله تعالى···(2)
أما المعنى الاصطلاحي فيكمن في >الإجراءات الأمنية التي تتخذ لحفظ أسرار الدولة وتأمين أفرادها ومنشآتها ومصالحها الحيوية في الداخل والخارج كما أنه هو الطمأنينة والهدوء والقدرة على مواجهة الأحداث والطوارئ دون اضطراب·
كما يذهب بعض الخبراء في مجال الأمن إلى أنه حال ذهنية ونفسية وعقلية(3) Security is astate of Mind وتشير هذه التعريفات ـ بنوعيها اللغوي والاصطلاحي ـ إلى أن الأمن والسكينة والاستقرار مترادفات تحقق النهضة والطمأنينة للفرد والجماعة·
وقد لاحظنا أن تطور الحياة وأسبابها أدى إلى استحداث أسماء كثيرة للأمن مثل: الأمن القومي، والأمن الجماعي، والأمن الإقليمي، والأمن الدولي، ويرى >هار ولد براون< (أحد وزراء دفاع الولايات المتحدة السابقين) أن الأمن القومي هو القدرة على صياغة وحدة الأمة، ووحدة أراضيها، والحفاظ على علاقاتها الاقتصادية مع دول العالم بشروط معقولة<(4)·
ولعل من يدقق النظر في الدستور الإسلامي التليد يدرك احتواءه لجميع الجوانب التي يتحقق بها الأمن على الصعيدين الإقليمي والعالمي، بل على مستوى أقل من ذلك أيضاً وهو مستوى الفرد، فقال جل شأنه: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون) الأنفال:60·
فالإعداد الذي أمر به الحق تعالى المسلمين يسع جميع الجوانب الفكرية والعسكرية والاجتماعية والسياسية التي توفر الأمن للجميع وما القوة التي طالبنا بها الإسلام إلا القدرة التي تحفظ الحق وتصون العهد وترد الظالم وتنصر المظلوم·
مكانة الأمن في الإسلام
لعل البصير بشريعة الإسلام والواقف على أبعادها وغاياتها يتحسس مكانة الأمن السامية في الإسلام، فإذا كانت >الرؤية الإسلامية قد اقتضت أن يكون الأمن اجتماعياً لا تقف طمأنينته عند دنيا الفرد، بل جعلت >جماعيته واجتماعيته< السبيل لتحقيقه في الإطار الفردي، فإن هذه الرؤية الإسلامية قد تجاوزت بأهمية الأمن الاجتماعي >الحق الإنساني< لتجعله فريضة إلهية، وواجباً شرعياً، وضرورة من ضرورات استقامة العمران الإنساني، كما جعلت هذه الرؤية ـ الإسلامية إقامة مقومات الأمن الاجتماعي الأساس لإقامة الدين، فرتبت على صلاح الدنيا بالأمن صلاح الدين، وليس العكس ـ كما قد يحسب الكثيرون<(5)·
وتأتي شرعية الأمن في الإسلام من قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين) البقرة:208·
وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: >والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن<، قيل من يا رسول الله؟ قال: >الذي لا يأمن جاره بوائقه<(6)·
فدعوة الحق تعالى الناس جميعاً للدخول في السلام والأمن، ورفع الإيمان عن المسلم الذي لا يأمن جاره أذاه وسوءاته، يؤكدان الأمن في الإسلام، ويقرران مشروعيته ومنزلته في الشريعة الإسلامية، وما ذلك إلا لخير البشرية وحرص الإسلام على العيش في نعمة الأمن ومتعة الطمأنينة·
إن الإسلام يعتبر الأمن نعمة وفضلاً، لأنه عامل من أهم عوامل الراحة والسعادة لبني الإنسان في الحياة، يتحصنون به من غوائل الفوضى وجوائر الشرور، وينعمون في ظله بلذائذ الهدوء والاستقرار والاطمئنان، وقد أشار القرآن إلى دعوة إبراهيم عليه السلام ربه أن يرزق مكة الأمن قبل أن تكون مكة حين أودع فضاءها الشاسع زوجه وفلذة كبده، وذلك بوفود جماعات من الناس إليها، يستقر بها القرار فوق أرضها وينتشر الأمن والطمأنينة بين أرجائها، فقال تعالى: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير) البقرة:126·
وقد وعد الله المؤمنين الأمن في حياتهم إذا آثروا الهدى على الضلال، والتقوى على المعصية، والحق على الباطل، والتعفف على الجور والظلم والترفع عن الظلم والاستخفاف<(7)، قال سبحانه: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) الأنعام:82·
وقال جلت قدرته: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) النور:55·
إن فرضية الأمن في الإسلام منبثقة من النتائج والأهداف التي تتحقق على يد الفرد الآمن والمجتمع الآمن وهي ـ بلا ريب ـ أهداف حضارية تأخذ بيد الفرد والمجتمع إلى التقدم العلمي والسمو الأخلاقي في وقت واحد كما يُعدُّ الأمن >أحد الأسباب التي تذهب على الأمة كثيراً من عناصر الضعف والسقوط، لأنه من ناحية يغرس فيها حمية الوعي بأهمية توافر كل مصادر القوة المتاحة على ردع أي محاولة لانتهاك أمنها واستقرارها ولأنه من ناحية ثانية حركة دائبة وممارسة فاعلة ونشاط متجدد، لأن تردده بين الابتلاء بالقوة والابتلاء بالضعف يتيح الفرصة لمراجعة الذات وتدارك الخلل وإعادة ترتيب الأوضاع، وما أحوج أمتنا إلى كل ذلك<(
·
عوامل تحقيق الأمن في الإسلام
تتعدد عوامل تحقيق الأمن كما تتنوع أسبابه، وذلك لتعدد مستويات الأمن ودرجاته، فهناك: أمن الفرد، وأمن المجتمع، والأمن القومي، والأمن الاقتصادي والسياسي، وكذلك الأمن الاجتماعي·
ومن ثم يتطلب تحقيق الأمن لهذه الفئات إجراءات سلوكية وسياسية وعسكرية وأيديولوجية واقتصادية أيضاً·
وقد وسع الإسلام كل هذه الإجراءات وتلك العوامل، ولكن لا يتسع المقام لبسط القول في جميع هذه العوامل، ولذا انتقينا منها ثلاثة عوامل فقط، وهي:
أولاً التربية الإسلامية
حرص الإسلام على تربية أبنائه على أسس تربوية صحيحة تحقق لهم عيش حياة هادئة مطمئنة تحضهم على الإسهام في صنع حضارة ذات طابع أخلاقي وعلمي في آن واحد·
ومن أبرز الأسس التي تحقق الأمن والسكينة في التربية الإسلامية >العقيدة الدينية< التي توجه الفرد والمجتمع إلى الخير وتمنعهم عن الشر، و>قاعدة الإسلام في التربية لها جلالها، فهو يصب في نفس الفرد العقيدة الدينية، ويدع هذه العقيدة لتشرف على تربيته حتى تجعل منه نموذجاً للإنسان بالمعنى الصحيح، الإنسان الذي يستثمر مواهبه في الخير الذي يعود على الإنسان والبشرية بالرفعة والنهوض، لا في إشعال الحروب التي تترك خلفها الخراب والدمار<(9)، وهذا ما تتميز به التربية الإسلامية عن غيرها من أنواع التربية التي تتبع الحضارات الشرقية القديمة والحضارة الغربية الحديثة·
فقد غذت هذه الحضارات أبناءها بالكراهية وحب السيطرة والاستعمار واستغلال القوة في نشر الفساد والإفساد في الأرض·
ويشهد على ذلك الحروب والمعارك التي دارت بين فارس والروم وما شهدته الجزيرة العربية من معارك ضارية قامت على أسباب ضعيفة وعقول مريضة وطباع سقيمة قضت على الأخضر واليابس ومن ثمَّ فإن العقيدة الدينية في الإسلام >غرس طيب في نفس المسلم لتهذيبه وتهيئته للخير أينما وجد، ومكافحة الشر متى استطاع إلى ذلك سبيلاً، وهي فوق أنها تهدي الإنسان إلى عبادة إله واحد فوق ذلك كله تهدي الإنسان إلى أهمية وجوده وأنه خليفة الله في الأرض، وأنه لابد مسؤول عن مدى خلافته فيها، ومجازى عما أسدى من خير ومحاسب عما اقترف من شر<(10)·
ثانياً: الاستقرار
أقام الإسلام قواعد الاستقرار على العدل والإحسان وصلة الأرحام والأمر بالمعروف والنهي عن الفحشاء والمنكر والظلم والبغي بغير الحق، وإقامة الحدود التي تصون كيان المجتمع وتحميه من التفكك والتشرد والضياع فقال سبحانه: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) النحل:90·
كذلك حقق الإسلام الاستقرار عندما دعا إلى الحوار ونشر الحريات والأخذ بالشورى، فقال تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضلَّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) النحل:125·
ومما يسهم في تحقيق الاستقرار للفرد والمجتمع إقامة عدالة اجتماعية تذيب الطبقية وتقضي على عبودية الإنسان لأخيه الإنسان، وتعمل على توزيع الثروات، ومكافحة، الجوع والفقر، ونصرة المظلوم والتعاون ونبذ الفرقة، ومراعاة حقوق الأقليات، والتحرر من الخوف، واتباع القدوة الحسنة· فقال سبحانه: (يأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكون خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكنَّ خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون) الحجرات:11·
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: >إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً)(11)·
ثالثاً: السلام
يحظى السلام في الإسلام بنصيب وافر من الخير وقسط زاخر من البر لكل من جعله دعوته في الحياة ومنهجه في التعامل مع الناس·
ولعل مكانة السلام في الإسلام ظاهرة جلية في كثير من آيات القرآن المجيد، قال تعالى: (والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) يونس:25·
وجعل الله سبحانه السلام تحية أهل الجنة، قال تعالى: (دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) يونس:10·
بل سمَّى الآخرة بدار السلام ليحض المسلم على السعي نحو السلام والتنعم بظلاله ونعيمه، قال سبحانه: (لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون) الأنعام:127·
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ الحقوق ونهى عن الظلم ودعا المسلمين إلى أن يكونوا عباد الله إخواناً، فقال صلى الله عليه وسلم: >المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته<(12)·
>إن الإسلام رفع راية السلام منذ اللحظة الأولى لميلاده، ولم يعلن حرباً إلا إذا كان قد دُفع إليها دفعاً، ولقد ظل ثلاث عشرة سنة بين ربوع مكة محاولاً نشر دعوته في ظل السلام فما استطاع، واضطهد أتباعه اضطهاداً لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية<(13)· ولكنه كان يأمر أتباعه بالجنوح إلى السلم والأخذ بالعفو والإعراض عن الجاهلين فليس هناك دين دعا إلى السلام كما دعا إليه الإسلام، ولا مذهب من المذاهب القديمة أو الحديثة أسهم في تدعيم أسس السلام كما أسهم الإسلام·
فالسلام في الأرض هو هدفه ودعوته، وأنشودة رسالته، ولم تكن حروبه في الواقع إلا وسيلة لإقرار هذا السلام في الأرض<(14)·
موقف الإسلام من التعصب والإرهاب
إذا كان التعصب والإرهاب ابنا العنف والتطرف، فإن الإسلام قضى على مجموع العوامل التي تفرز العقول السقيمة والنفوس المريضة التي تسيطر على سلوك الشخصية التي تصدر العنف وتقر بالإرهاب·
فقد حرَّم الإسلام على المسلمين دماءهم وأعراضهم وأموالهم، وحض على العفو والتسامح والإحسان إلى المسيء ومراعاة حقوق الآخرين في الحياة والأمن والرأي والكسب والتمتع بنعيم الدنيا وما إلى ذلك من الحقوق فقال تعالى: (يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون· واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرَّقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألَّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً· وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبيِّن الله لكم آياته لعلكم تهتدون· ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) آل عمران: 102 ـ 104·
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه بمعنى: >أتدرون أي يوم هذا؟ قالوا الله ورسوله أعلم· قال: فإن هذا يوم حرام· أفتدرون أي بلد هذا؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال: بلد حرام، أتدرون أي شهر هذا؟ قالوا الله ورسوله أعلم· قال: شهر حرام، قال: >إن الله حرَّم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا<(15)·
ويتبيَّن مما ورد في بعض آيات القرآن الكريم وبعض الأحاديث النبوية أن التعصب الذي يؤدي إلى الظلم والإرهاب حرام شرعاً، وأن الذي يأتي هذه الأعمال الإرهابية ليروع أمن الناس ويعكر صفو حياتهم بعيد كل البعد عن شرع الإسلام وآدابه، وجاهل بمنهجه وأخلاقه، ولم يدرك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: >من ظلم من الأرض شيئاً طوقه الله من سبع أرضين)(16)، والإرهاب من أكبر أنواع الظلم وكذلك التعصب، لأن ما ينتج عنهما من أضرار مادية ومعنوية للفرد وللأمة يؤدي إلى زعزعة الأمن وفقدان الاستقرار ووقوع الخسائر الفادحة في الأموال والأنفس، ومن ثم يقع الإرهاب في دائرة الأفعال الإجرامية التي يحارب بها الإرهابي الله ورسوله، قال تعالى: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتَّلوا أو يصلَّبوا أو تقطَّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو يُنفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم· إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم) المائدة:33 ـ 34·
ومن هنا يمكن القول: إن الإسلام حارب التعصب ودعا إلى الجدال بالتي هي أحسن، والإرهاب من أشد أنواع الظلم ومن ثمَّ يحرم الإرهاب وزعزعة الأمة، ويتوعد كل من يقدم على هذه الأعمال الإجرامية بالعذاب العظيم في الآخرة والخزي في الدنيا، إلا من تاب وآمن وبدَّل حسناً فإن الله غفور رحيم·
>من ذلك يتضح أن إلصاق تهمة التعصب بالإسلام لا تقوم على أساس، وليس لها أي سند من تعاليم الإسلام·
وإذا كان بين المسلمين بعض المتعصبين أو المتطرفين أو الإرهابيين فلا يرجع ذلك بأي حال من الأحوال إلى تعاليم الإسلام، والإسلام لا يتحمل وزر ذلك، وينبغي التفريق بين التعاليم السمحة للإسلام وبين السلوكات الخاطئة لبعض المسلمين·
ومن ناحية أخرى نجد أن التعصب موجود لدى بعض الجماعات في كل الأديان، والإرهاب أصبح ظاهرة عالمية لا يختص بها أتباع دين معين دون بقية الأديان· وهذه حقيقة ماثلة أمام أعين الجميع في عالمنا المعاصر، فهل الإسلام هو الذي أفرز هذه الظاهرة العالمية بين أتباع جميع الأديان؟!<(17)·
حاجة الإنسانية لأمن الإسلام
>إذا كانت المجتمعات الإنسانية تعاني اليوم من ظاهرة الإرهاب والعنف، وإذا كان أهل الحل والعقد في دول العالم الغربي قد عجزوا عن التصدي لهذه الظاهرة والقضاء عليها، فمن الحكمة ومن دواعي الإنصاف أن يلتفت هؤلاء قليلاً إلى ما يتمتع به الدستور الإسلامي من حلول جذرية لظواهر الانحراف، فالإنسان الذي تألف من عنصرين >العنصر الترابي والعنصر الروحي، الأول مصدره المادة الأرضية ـ الطين والصلصال والحمأ المسنون ـ والثاني مصدره نفخة من روح الله تعالى، تعمل الشريعة الإسلامية على تحقيق النمو المتوازن للجانبين معاً والإشباع المتوازن لحاجات هذين العنصرين الأساسيين اللذين يتكون منهما الإنسان، وينشأ الانحراف عندما يفتقد هذا التوازن الدقيق المحكم، وهذا التوازن لا يتحقق إلا من خلال المنهج الإسلامي عقيدة وشريعة وهو الأساس الذي تستهدف التربية الإسلامية تحقيقه، فالإسراف في إشباع الجانب المادي بممارسة الهوى والشهوات دون ضابط يؤدي إلى كل أشكال الانحراف، كما أن الإسراف في الروحية والرهبانية انحراف كذلك<(18)، وهكذا عالج الإسلام الانحراف من جذوره وتحسس منابته وتوصل إلى أصوله الأولى، لعل هذا النهج العلمي السديد هو آخر ما وصلت إليه العلوم التجريبية الحديثة والفلسفات المعاصرة، وهو منهج تحليلي يبحث عن العلل البعيدة والأسباب غير المباشرة للظواهر·
وهذا يؤكد أن >الإسلام ليس عقيدة دينية فقط ولا نظاماً أخلاقياً فحسب، بل هو >دين ودولة< بكل ما تتسع له كلمة >دولة< من معنى·
>إن الإسلام نظام شامل وكامل بلا ريب، فهو يحكم الإنسان وتصرفاته في كل حالاته، في خاصة نفسه، وفي علاقته بالله تعالى، وفي صلته بأسرته وفي علاقاته الكثيرة المختلفة بالمجتمع الذي يعيش فيه، وفي علاقات الدولة الإسلامية بالدول الأخرى، فهو ينظِّم كل هذه الأحوال والعلاقات، وذلك ببيان الأصول والمبادئ العامة التي تقوم عليهم، والقواعد والقوانين والنظم التي تحكمها على اختلاف أنواعها<(19)·
ويلحظ من يدقق النظر في المنهج الإسلامي قدرته البالغة في توجيه النفس الإنسانية وترويضها، وإحداث تغيير في الأداء والحركات، وذلك لأنه يغذي الفرد بمقومات الإصلاح النفسي والتهذيب الخلقي، والقدرة على تحمل الصعاب والثقة بالنفس·
فيشعر الذي يتحلى قلبه بالإيمان أن له >تأثيراً عظيماً في نفس الإنسان، فهو يزيد من ثقته بنفسه، ويزيد من قدرته على الصبر وتحمل مشاق الحياة، ويبث الأمن والطمأنينة في النفس، ويبعث على راحة البال ويغمر الإنسان بالشعور بالسعادة<(20)·
ومما يتمتع به الدستور الإسلامي الخالد أنه اشتمل >على قاعدة من أهم القواعد التي يستقر فوقها الأمن، وهي إقامة الحدود، التي تحول دون بغي الباغين وعدوان المعتدين، واستخفاف المستخفين بالأنفس والأعراض والمجتمعات وهذه الحدود بمثابة حاجز يحجز الشر والفتنة، ويطفئ لهيب القلق والاضطراب، ويهيئ للحياة جواً من الأمن والسلام والهدوء<(21)·
إن الدراسات الجادة، والنظرات المنصفة، والواقع الطبيعي يجمعون على قدرة الدستور الإسلامي بمنهجه المتكامل، على قيادة العالم في كل وقت وحين، وتميزه في التعامل مع المشكلات وتشخيص الدواء الناجع لها، ورعايته الدقيقة لكل الفئات والطبقات التي يتكون منها المجتمع، وإمكاناته الفريدة في تحقيق الأمن للإنسانية جمعاء·
الهوامش
1 ـ محمد عبدالله السمان: الإسلام والأمن الدولي ـ دار الكتب الحديثة ـ القاهرة ـ الطبعة الثانية 1380هـ ـ 1960م ص81·
2 ـ الطاهر أحمد الزاوي: مختار القاموس ـ الدار العربية للكتاب ـ القاهرة ـ مادة (أمن) ـ ص03·
3 ـ انظر: علي نميري: الأمن والمخابرات (نظرة إسلامية) ـ الدار السودانية للكتب ـ الخرطوم ـ الطبعة الأولى ـ سنة 1996م ـ ص9، 10·
4 ـ انظر: المرجع السابق، ص 12·
5 ـ د·محمد عمارة: الإسلام والأمن الاجتماعي ـ دار الشروق ـ القاهرة ـ الطبعة الأولى سنة 1418هـ ـ 1998م، ص 17 بتصرف·
6 ـ أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب إثم من لا يأمن جاره بوائقه ـ عن أبي سعيد بن شريح، انظر: صحيح البخاري ـ طبعة دار الشعب ـ القاهرة ـ ج8، ص12·
7 ـ محمد عبدالله السمان: الإسلام والأمن الدولي، ص 26 بتصرف·
8 ـ مصطفى محمود منجود: الأبعاد الإسلامية لمفهوم الأمن في الإسلام ـ المعهد العالمي للفكر الإسلامي ـ القاهرة ـ الطبعة الأولى ـ سنة 1417هـ ـ 1996م، ص14·
9 ـ محمد عبدالله السمان: الإسلام والأمن الدولي، ص27·
10 ـ المرجع السابق: ص 29 ـ 30·
11 ـ رواه الإمام البخاري في صحيحه ـ باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه ـ انظر صحيح البخاري، ج 8 ص 23·
12 ـ أخرجه الإمام البخاري في صحيحه ـ باب يمين الرجل لصاحبه إنه أخوه إذا خاف عليه القتل ـ عن ابن عمر رضي الله عنهما، انظر صحيح البخاري، ج9 ص28·
13 ـ محمد عبدالله السمان: الإسلام والأمن الدولي، ص89·
14 ـ المرجع السابق، ص88·
15 ـ رواه البخاري في صحيحه ـ كتاب الآداب ـ باب قول الله تعالى: (يأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم) عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، انظر صحيح البخاري ج8 ص18، طبعة دار الشعب ـ القاهرة·
16 ـ رواه البخاري ـ باب إثم من ظلم شيئاً من الأرض ـ عن سعيد بن زيد رضي الله عنه، انظر: صحيح البخاري، ج3 ص170·
17 ـ د·محمود حمدي زقزوق، الإسلام في مواجهة حملات التشكيك، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، الطبعة الثانية، عام 1419هـ ـ 1999م، ص86·
18 ـ د·نبيل السمالوطي: التربية الإسلامية ودورها في مقاومة الانحراف ـ المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، سلسلة قضايا إسلامية، العدد 88 لسنة 1422هـ ـ 2002م، ص23، 24·
19 ـ د·محمد يوسف موسى: الإسلام وحاجة الإنسانية إليه ـ المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية ـ القاهرة ـ طبعة 1420هـ ـ 1999م، ص 40، 41·
20 ـ د·ناهد عبدالعال الخراشي: أثر القرآن الكريم في الأمن النفسي ـ وكالة الأهرام للتوزيع ـ القاهرة ـ الطبعة الأولى سنة 1407هـ ـ 1987م، ص 128·
21 ـ محمد عبدالله السمان: الإسلام والأمن الدولي، ص24، 25·
http://alwaei.com/topics/view/article_new.php?sdd=822&issue=474
بقلم الكاتب: د·محمد السيد المليجي