القرن الأمريكي وطموح المحافظين الجدد
رئيس مركز "دلتا" للصحافة والأبحاث
تسعى هذه الدراسة إلى الإضاءة على التحوّلات التي شهدتها الإستراتيجية الأميركية العليا مع وصول المحافظين الجدد إلى السلطة مطلع القرن الجاري. ولسوف يتم التركيز على الحلقة الأكثر مدعاة للسجال في هذه الإستراتيجية، وهي تلك التي شاع الكلام عليها بما سُمِّي بــ "نظرية الفوضى الخلاَّقة".
المعروف عن هذه النظرية أنها وجدت دينامياتها الفعلية بعد 11 سبتمبر2001 ، وهي تقوم على فلسفة سياسية تفترض وجود خطر داهم من عدو مجهول يتهدّد الأمن القومي الأميركي في كل لحظة، كما تقوم على افتراض ألاَّ يكون التهديد بالضرورة، حاصلاً بالفعل من دولة أو من منظمة إرهابية لكي تخاض ضده الحرب الوقائية، وإنما يكفي أن يتم تصوُّره من جانب مراكز التخطيط الإستراتيجي في البيت الأبيض والبنتاغون للمبادرة إلى تلك الحرب.
ولكي تأخذ هذه الإستراتيجية مسارها التطبيقي، عكف كثيرون من منظِّري ومفكِّري المحافظين الجدد على وضع فلسفة متكاملة لتبرير الحروب. ولعلَّ نظرية "الفوضى الخَّلاَّقة" التي شكَّلت إحدى أهم وأبرز منجزات هؤلاء، إنما تعني في حقيقتها السعي الإستباقي نحو تفكيك كل المواقع والجغرافيات المفترض أنها تشكِّل مصادر تهديد لأمن ومصالح أميركا في العالم. ولئن كانت نظرية الفوضى الخلاَّقة تتأسس نظرياً على ثنائية التفكيك والتركيب، فذلك يعني أن الفكر الإستراتيجي الأميركي بصيغته الراهنة لم يعد لديه اليقين إلاَّ بعالم تكون الفوضى فيه سبيلاً لإعادة تشكيله وفق مهمة أميركا في بناء العالم الجديد. فكيف ظهرت هذه النظرية في سياق التحقيق التاريخي لنظريات الهيمنة في الفلسفة السياسية والأمنية للولايات المتحدة الأميركية؟
ما كان لأحد أن يتصوَّر مدى ما بلغته الإيديولوجيا السياسية الأميركية وهي تستعيد نظرية الإحتلال، بوصفها فضيلة لا غنى للعالم عنها في رحلة القرن الحادي والعشرين.فقط أولئك الذين نظَّروا "للإمبراطورية الفاضلة" أمثال لويس لافام رئيس تحرير مجلة هاربرز (Harper's Magazine) وبالطبع الفريق المتحلِّق حول الرئيس جورج دبليو بوش، كانوا على يقين ممّا ذهبوا إليه. الأمر بالنسبة إلى هؤلاء يتعدَّى الجانب الأخلاقي كما أراده التنوير الغربي سحابة ثلاثة قرون متواصلة. إنَّهم ينطلقون من قَبْليّة اعتقادية تعود في جذورها إلى ثقافة الإستيطان الأنكلوساكسوني، ومؤدّاها أنَّ التاريخ لا تعمِّره البراءة، إذ البراءة عندهم ـ حسب وصف غراهام غرين، الكاتب المسرحي الإنكليزي ـ تشبه مجذوماً أبكم أضاع جَرَسَه، ثم راح يطوف العالم، ولا يقصد ضرراً لأحد...وعلى عقيدة المحافظين الأميركيين الجدد، إنَّ ما ينبغي على أميركا أن تفعله لكي تحقِّق رسالتها إلى العالم، هو النأي بنفسها عن البراءة، وأن تمضي بعيداً في السجّية الماكيافيللية القائلة بفضيلة "أن تخيف الآخر بدل أن تكسب حّبه لك"... عندما خسرت الولايات المتحدة مقعدها في لجنة حقوق الإنسان التابعة لهيأة الأمم المتحدة في جنيف في مطلع أيار/مايو من العام 2001، أصيب كثيرون في نيويورك وواشنطن بالدهشة الحقيقية. جلُّ هؤلاء كانوا من النُّخب الأميركية والغربية التي صدَّقت ما تختزنه العمارة الإيديولوجية من براءات ذات صلة بالقانون الدولي وشرعة حقوق الإنسان وقيم الديمقراطية. للوهلة الأولى لم يعرف أولئك المخدوعون ما إذا كان الذي سمعوه إشاعة خاطئة أو نكتة حمقاء،وتساءلوا: كيف يمكن لمثل هذه الأمور أن تحدث. وأين ذهب التعقُّل ؟ وحسبُهم أنَّ أميركا هي التي أوجدت مفهوم حقوق الإنسان، وهي التي هرعت دائماً إلى إنقاذ الأطفال المفقودين، وانتشال الديمقراطيات الفاشلة. ولم يحدث قط أن استُبعدت الولايات المتحدة من غُرف لجنة الضمير خلال أربعة وخمسين عاماً من وجودها. كذلك لم يسبق أن حدث في الذاكرة الحيّة أن تتعرَّض القوة العظمى الوحيدة في العالم إلى مثل هذه السخرية غير المستحقَّة على أيدي أتباعها الجاحدين(1). يومئذٍ كان بديهياً أن يصبّ الأميركيون جام غضبهم على الأوروبيين، وبالأخص على فرنسا. فعلى ما بيَّن منظِّرو اليمين الأميركي، فإنَّ الفرنسيين تحديداً خانوا الأمانة والتبعية وصوَّتوا لإخراج الولايات المتحدة من واحدة من أهم وأخطر أسلحة الدعاية والتدخل في شؤون العالم. ومع ذلك فإنَّ القضية لم تتوقف عند هذا النوع الطبيعي من ردّات الفعل.
كان ثمة ما هو أدنى إلى المفارقة إذ إنَّ "المطبخ الفلسفي ـ الإيديولوجي" للإدارة الأميركية سينبري إلى إسكات المحتجِّين والمدهوشين، ثم ليمضي في عزفٍ منفرد مؤثراً اللاّمبالاة وإدارة الظهر لهذه القضية، معتبراً أنَّ أميركا ليست في حاجة إلى مَنْ يمنحها شهادة سلوك حسن أو يصحِّح خطأ ترى إليه على أنَّه جزء عزيز في مسلكها العام.
إنَّ هذا ما سيعبِّر عنه الكاتب في مجلة "التايم" تشارلز كروثامر على نحو لا شوب في صراحته: "ليست أميركا مجرد موطن عالمي. إنَّها السلطة المهيمنة في العالم، وأكثر هيمنة من أي قوة أخرى منذ عهد روما. ووفقاً لذلك، فإنَّ أميركا في وضع يؤهِّلها لإعادة تشكيل المعايير وتغيير التوقعات وخلق حقائق جديدة. أمّا كيف يكون ذلك ؟ فيكون ـ برأيه ـ عن طريق إظهار إرادة غير اعتذارية لا سبيل إلى تغييرها"..(2) المسألة إذاً، هي وجوب أن تفعل أميركا أيّ شيء من دون أن تبرِّر أو أن تعتذر. وحتى لو جرى ذلك الفعل مجرى إيذاء أمم وشعوب بأكملها فلا ينبغي أن يُحجِمَ القادة عن إتمام المساحة المتبقِّية لبلوغ الهدف. فالاعتذار بحسب هذا الاعتقاد، يشكِّل منقصة لصاحبه، وإخلالاً في شبكة المعايير والمفاهيم ، التي عليها تتأسَّس استراتيجيات التحكُّم بالأوضاع.
فلسفة الإستهتار بالآخر
على هذه الفلسفة السياسية المتجددة سيغيب منطق الإقناع والتحاور في العلاقات الدولية. وبدا أنَّ منعطفاً كهذا، راح يؤتي أُكُلَه مع "الانتصارات المدوِّية" التي خاضتها الولايات المتحدة بعد 11 سبتمبر 2001 والمثل العراقي سيعزِّز هذا المنطق حيث أفلحت الولايات المتحدة في جعله شبيهاً بالمثلين اليوغوسلافي والأفغاني. لكن ثمة جانب آخر من المشهد لا يبدو أنَّه سيكون مريحاً، أو مربحاً، للسلوك الأميركي المُشار إليه. فالولايات المتحدة ربحت الحروب التي خاضتها حين استعملت الحدّ الأقصى من جبروتها العسكري. لكنَّها راحت بعد ذلك، تجد صعوبات جمّة في ربح السلام. وهذا ما ذهب إليه الخبير الاستراتيجي الفرنسي باسكال بونيفاس الذي أكَّد أنَّ أميركا بدأت تفقد حبّ الناس لها، بل إنَّها صارت مكروهة على امتداد العالم أجمع. "البارانويا" الأميركية التي بلغت ذروتها مع السنة الأولى للألفية الثالثة، رأت إلى النقد الأوروبي، والفرنسي على الخصوص بعين السخرية والإستهتار. ولقد سبق للكاتب الأميركي لويس لافام أن ساجل النزعة الإنتقادية لأميركا لدى الفرنسيين. سوف يلاحظ أنَّ الفرنسيين لم يستوعبوا ما يسمّيه بــ "مذهب البراءة الأميركية" بشكلٍ كامل. هذا المذهب الذي فهمه البيوريتانيون (حركة إصلاح بروتستانتية سعت إلى تطهير الكنيسة الإنكليزية من بقايا الباباوية الرومانية الكاثوليكية في القرنين 16 و17).. الأوائل في براري ماساتشوسيتس الموحشة، على أنَّه اختيارهم من قبل الرَّب (...) وفي معرض إعطاء المذهب الأميركي بعده الميتافيزيقي يزعم "لافام" أنَّ الله اختار أميركا لتكون موقع إنشاء الجنّة الأرضية. فقد كان الهدف الأميركي عادلاً دوماً، ولم يكن هنالك أي شيء أبداً يمكن أن يُقال فيه أنَّه غلطة أميركا. ويضيف: "إنَّ الأجيال المتلاحقة والسياسيين الأميركيين عبَّروا عن إيمانها هذا بكلماتٍ مختلفة من مثل: "أميركا الأمل الأخير للبشرية"، "أميركا سفينة الأمان" وناشرة الحضارة الخ.. إلاَّ أنَّه سيذهب إلى مسافة أبعد في خلع الأوصاف فيعلن أنَّ "الشر لم يكن أبداً جزءاً عضوياً من المشهد الأميركي أو الشخصية الأميركية. فالشر ـ على ادعائه ـ سلعة قاتلة ومستوردة من دون ترخيص من خارج، إنَّما هو مرضٌ أجنبي يتم تهريبه عن طريق الجمارك في شحنة "فلسفة ألمانية" أو رز آسيوي(...) ولأنَّ أميركا بريئة بالتعريف، فقد يخونها الآخرون دوماً، كما في "بيرل هاربر" وليتل بيغ هورن، وخليج الخنازير، وبما أنَّه تمَّت خيانتنا، نستطيع دوماً أن نبرِّر استخدامنا للوسائل الوحشية، أو المخالفة للروح المسيحية في سبيل الدفاع عن سفينة الأمان في وجه خيانة العالم(3). لم يكن عرض هذا الكلام فقط للرد على ما يسمّيه لويس لافام عدم فهم الفرنسيين وجهلهم بحقيقة "الروح السياسية الأميركية"، بل هو يعني أكثر من رسالة دأبت المسيحية الصهيونية الحاكمة في الولايات المتحدة على توجيهها إلى العالم كله منذ وقت بعيد. وأما المقصود من هذه الرسالة اليوم فإنَّه يتعدَّى الكلّيات الاعتقادية. فهي تتوجَّه إلى الذين يطالبون بوجوب قيام مرجعية أممية تعيد الاعتبار للقانون الدولي. ولأنَّ القوانين تدخل في صلب "البراءة" التي أسقطها الأميركيون من حسابهم، فلا حاجة إليها كما يقول "لافام". فالقوانين ـ عنده ـ "وضعت لغير المحظوظين الذين ولدوا دون جينات الفضيلة". إنَّ هذا الحّد المُشْرَع على اللاّمتناهي في التفكير الأميركي الجديد، هو الذي يؤسِّس لأميركا القرن الحادي والعشرين. وسنجد من تظاهرات هذه الرؤية اللاّهوتية ما لا حصر من الأحداث اللاّحقة، حيث تصبح القوانين الدولية وشرعة الأخلاق التي تحكم التوازنات في النظام العالمي، مجرد نصوص لا فائدة منها. لاهـوت القـوة
ظلَّ ريتشارد نيكسون الرئيس الأميركي الأسبق يردِّد في خُطَبِهِ العصماء الموجَّهة إلى الجيش والشعب هذه الكلمات: "الله مع أميركا، الله يريد أن تقود أميركا العالم". في ذلك الوقت كانت حرب فيتنام تتجه إلى جحيمها المحتوم. وكان عليه لكي يشحذ الهمم، ويدفع حجج منتقديه، أن يستعيد ثقافة المؤسِّسين الأوائل ليبيِّن أنّ لاهوت القوة ليس إلاَّ منحة إلهية لدفع الشر في عالم ممتلئ بالفوضى. خلال السنوات الإنتقالية بين نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحالي، أسقطت الولايات المتحدة في يدها صفوة أوراق اللعبة الكونية الرئيسية. لقد صار اتخاذ أ ضرباً من المستحيل. فما الذي نستطيع انتزاعه من المشهد العام؟؟.. مع نهاية الحرب الباردة أخذ منظِّرو الإستفراد الأميركي يصوغون المقدِّمات العملية لفلسفة السيادة المطلقة. كان كل شيء في المقدمات النظرية جاهزاً. العامل الإيديولوجي شكَّل أساساً ثقافياً ودعائياً لهذه الفلسفة. ولنا أن نعرف أنَّ الولايات المتحدة مرَّت ضمن سيرورة تاريخية ساهمت الإيديولوجيا شيئاً فشيئاً في تكوينها. فقد قامت ـ هذه الفلسفة ـ انطلاقاً من نواة إيديولوجية ذات محورين: الأول، الإعتقاد بأنَّ أميركا مكلَّفة برسالة. والثاني، اليقين بأنَّ أداء هذه الرسالة يستلزم استخدام كل الوسائل بلا تحريم. وممّا يميِّز السياسة الأميركية منذ مولدها: الثبات في العمل على قَدْرِ الديمومة في متابعة الهدف، وكذلك مواصلة الجوهر الإيديولوجي المولِّد للعمل. ولا شك في أنَّ هذه السياسة بلغت ذروة تحقّقها في فجر القرن الثامن عشر، وزادت أيضاً في مطلع القرن التاسع عشر. لكن ميشال بوغنون موردان في كتابه "أميركا التوتاليتارية" (L'Amérique Totalitaire) الصادر في باريس في العام 1997(4) يذهب إلى "أنَّ الإيديولوجيا الأميركية لم تتورَّع عن خلع صفة الأزلية على أميركا، حيث إنَّ ادعاء الرسالة الإلهية لم يغب يوماً عن ناظرها. ثم يورد كلاماً لمعاون الرئيس السابق بيل كلينتون لشؤون الأمن القومي أنطوني لاك، فيه "إنَّ مصالحنا ومُثُلنا لا تلزمنا بالتدخُّل وحسب، بل تلزمنا أيضاً بالقيادة(...) يضيف: "من واجبنا تطوير الديمقراطية واقتصاد السوق في العالم لأنَّ هذا يحمي مصالحنا وأمننا، ولأنَّ الأمر كذلك يتعلَّق بانعكاس القيم، حيث هي في آن قيم أميركية وعالمية"(...). وهكذا فإنَّ انتصار الأميركيين الأبرز (5) ـ يعلَّق "بوغنون": هو، بكل تأكيد، الحضور الكلِّي لإيديولوجيتهم . فالليبرالية، وهي أكثر عقيدة اقتصادية خالصة، تمثِّل أيضاً رؤية قويمة للعالم، استقبلها الكثير من المالكين ومجموعات المصالح بوصفها نعمة وخلاصاً. لقد صارت الليبرالية ـ حسب بوغنون ـ رؤية وعقيدة تخدمان مصالح الأميركيين وتنقذان المظاهر، الأخلاقية، على الأقل، ما دامت الليبرالية، كمفهوم، تنطوي على ركيزة دينية. وهو ما كان لاحظه توكفيل لجهة وجوب اعتبار الدين بالنسبة للأميركيين بمثابة المؤسسة السياسية الأولى. ثم إنَّ جمهور الناس، أولئك الذين لا يفهمون شيئاً كثيراً من الألعاب السياسية والاقتصادية، اقتنعوا بفعل الحملات الإعلامية، بعدم وجود أيَّة عقيدة أفضل من هذه العقيدة (...) ولقد رأينا منذ الأصل، وقبل أن تصبح أميركا هي الولايات المتحدة، أنَّها كانت تزعم شمولية نمطها التنظيمي الخاص. ولم يَسْعَ مفكِّروها ـ من أساتذة وكتَّاب وكهنة ورجال دولة ـ لحظة واحدة إلى إخفاء هدفهم الأخير وهو: فرض نمط حياتهم على بقية العالم، وذلك عبر آليات أخلاقية تكتظ بالتعالي على الآخر، أيّ آخر، منها في المقام الأول، بما يسميه بوغنون بــ "القدوة". أي من خلال تأدية عروض مثيرة تُظهر "الصورة الساطعة لأمَّة جديدة اختارها الله لغاية وحيدة هي تزويد كل الشعوب بالرسالة الوحيدة ذات المستقبل المُصاغ بصورة زاهية. ثم في المقام الثاني بوضع الآخر جبراً في منطقة القبول بالقدر الأميركي. فثمة يقين لدى "فقهاء الأمركة" بأنَّ إذعان الآخرين عنوة ـ كائناً ما كان شكل الإكراه ـ أمرٌ محتوم في مواجهة هذه الممانعة أو تلك. فأميركا تعتقد نفسها وتريدها كلّية لا تُضاهى. وبهذه الصفة، لا تتصور ذاتها إلاَّ متفوِّقة على مجمل المناطق التي يتحرَّك في داخلها أفراد وأمم، وترى إنَّ من واجبها احتواءها. إنَّها ـ على ما يزعم فقهاؤها ـ هي العالم، ما دامت العناية الإلهية أمرت بذلك، وما دامت تجسِّد نصاب العالم المقبل وفقاً للخطط الإلهية. ومن المقدَّر ـ تبعاً لهذا الزعم ـ أن تقع على كاهلها مسؤولية إملاء قانونها، القانون الذي شرَّعته السماء، وفرضته على الأمم والشعوب".(6)
تاريخية الإستعلاء
حين سئل الرئيس تيودور روزفلت عمّا إذا كانت الإستراتيجية الأميركية العليا، عازمة على تشييد فضائها الإمبراطوري ـ وكان ذلك في مستهلّ القرن العشرين ـ أنكر ما يرمي إليه سائله وقال: "إنَّ البلد الذي قام على فضيلة الحرية، يصعب عليه أن يقع في خطيئة الإمبراطورية!"... هل يبيِّن مثل هذا "الإنكار" أنَّ ثمة منطقة نائمة في العقل السياسي الأميركي تستيقظ في المحطات الكبرى للتاريخ.. ربما كان روزفلت على شيء من يقين، من أن قوله هذا لا يتعدى حدود الأخلاق النظرية. وحين حرص على نفي الطموح الإمبراطوري، مساوياً، بينه وبين الخطيئة، كان يعي كم للخطاب الأخلاقي من أثر حاسم في لعبة القوى وتكوين حقائق التاريخ. فالضرورة الإيديولوجية للخطاب السياسي، إذاً، هي التي ستحمل الرئيس الأميركي إلى ما يمكن وصفه بالجمع بين متناقضين يشغلان الفكر السياسي الأميركي في ذلك الوقت: قيم الحرية، والطموح الإمبراطوري / الاستعماري.
هل أميركا إمبراطورية؟ هل هي إمبريالية جديدة ؟ أم أنها دولة / أمّة من ذلك النوع السياسي الذي يمكث في "منطقة استثنائية" بعد حادثين تاريخيين متقاربين وعظيمي الشأن: نهاية الحرب الباردة (1990) وزلزال الحادي عشر من أيلول /سبتمبر (2001). كانت الولايات المتحدة الأميركية في أثناء الحرب الباردة إمبريالية من طراز خاص. لم تقم بعمليات الإخضاع والهيمنة على طريقة الإمبرياليتين البريطانية والإنكليزية عبر الإستعمار المباشر للدول المستعمرة. كان عليها أن تتبع حكاية "القرصان الأكبر" الذي يقطع الطريق على القراصنة الصغار ويلتهم حصادهم. لقد عمدت الولايات المتحدة إلى إخضاع القوى الإمبريالية القديمة لنظامها الخاص. لذا لم تؤدِ الحرب الباردة التي شنتها الولايات المتحدة إلى هزيمة العدو الاشتراكي، وربما لم يكن ذلك، قطّ، هدفها الأول في حقيقة الأمر. لقد انهار الإتحاد السوفياتي تحت وطأة تناقضاته الداخلية الخاصة. ولم تفعل الحرب الباردة، في الحدود القصوى، أكثر من إفراز بعض شروط العزلة التي ما برحت، عبر تردد أصدائها في الكتلة السوفياتية نفسها، أن ضاعفت تلك التناقضات القابلة للانفجار. لعل أهم آثار الحرب الباردة هو التعرُّف على خطوط الهيمنة داخل العالم الإمبريالي. تلك الخطوط التي دأبت على تسريع عملية تدهور القوى القديمة، ورفع مستوى مبادرة الولايات المتحدة على صعيد تأسيس نظام إمبراطوري. وبحسب عدد من المفكرين الإستراتيجيين فإنه لو لم يكن قد تمَّ الإعداد مسبقاً لنمط جديد من المبادرة الهيمنية، لما خرجت الولايات المتحدة منتصرة في نهاية الحرب الباردة. المسألة إذاً، تتعلق ببعد تاريخي للتكوين الأميركي السيادي، فالمشروع الإمبراطوري هو مشروع سلطة متشابكة يشكّل المرحلة أو الصيغة الرابعة من التاريخ الدستوري الأميركي. وعلى ما يبيِّن مايكل هاردت وأنطونيو نيغري في كتابهما إمبراطورية العولمة الجديدة(7) فإنَّ تحقيق فكرة السيادة والهيمنة الأميركية اتخذ مسيرة طويلة تطوّرت عبر مراحل مختلفة من تاريخ الولايات المتحدة الدستوري. فالمعروف أن الدستور الأميركي، كوثيقة مكتوبة بقي دونما تغيير ذي شأن، (باستثناء بعض التعديلات) غير أن الدستور يجب فهمه، أيضاً، بوصفه منظومة مادية من التفاسير والممارسات الحقوقية التي يعتمدها، لا المحلفون والقضاة فحسب، بل والأفراد في المجتمع. وبالفعل فإنَّ هذا التأسيس المادي الاجتماعي قد تغيَّر جذرياً منذ تأسيس الجمهورية. ويذهب بعض علماء القانون والتاريخ السياسي إلى تقسيم أميركا دستورياً إلى أربع مراحل أو أربعة نظـم متمايزة
ـ مرحلة أولى تمتد من إعلان الاستقلال إلى الحرب الأهلية وعملية إعادة البناء.
ـ مرحلة ثانية وهي مثقلة بالتناقضات، وتتزايد مع الحقبة التقدمية، مغطيَّة انعطافة القرن، من مبدأ تيودور روزفلت الإمبريالي، إلى إصلاحية وودرو ولسون الأممية.
ـ مرحلة ثالثة، وتمتد ممّا يسمى الصفقة الجديدة (New Deal) والحرب العالمية الثانية إلى فترات اشتداد الحرب الباردة.
ـ مرحلة رابعة، وهي التي سبق أن أشرنا إلى بعض وجوهها، وهي بدأت خلال عقد الستينات عبر نشاط الحركات الاجتماعية واستمرت إلى حين تفكيك الإتحاد السوفياتي وكتلة أوروبا الشرقية. فالمراد من حصيلة هذه المراحل الدستورية القول إن كلاً منها شكّل خطوة إلى الأمام في التشكُّل التاريخي للسيادة الإمبراطورية للولايات المتحدة.(9)
عندما وصلت الأزمة المالية الكبرى سنة 1929 جاء الإنقاذ بانتخاب "فرانكلين روزفلت" (ابن عم الرئيس الذي سبقه، تيودور روزفلت). ومع الرئاسة الأولى لروزفلت الثاني 1932، وبعد سياسة العدل الاجتماعي الجديد التي أعلنها وطبَّقها وعادت بها الولايات المتحدة إلى حياتها الطبيعية ـ أخذ الحلم الإمبراطوري يشغل نخبها السياسية والبيت الأبيض في المقدمة. ومن واشنطن كان فرانكلين روزفلت يتابع ما يجري في أوروبا وشغله "صراع الإمبراطوريات"، الذي عاد (كما لو كان متوقّعاً) يتجدد مرة أخرى دافعاً إلى القارة نذر عواصف تتجمع من جديد . لقد بدأت إيطاليا تشهد صعوداً للحركة الفاشية بقيادة "بنيتو موسوليني" الذي وصل إلى السلطة ، وشعاره مرة أخرى هو الشعار الروماني القديم في وصف البحرالمتوسط بــ "إنه بحرنا". وفي ألمانيا التي نهضت من وسط ركام الهزيمة في الحرب العالمية الأولى، ونفضت عن نفسها رداء الهوان الذي فرضته عليها معاهدة فرساي، سيجري انتخاب أدولف هتلر، وستصعد النازية إلى السلطة في قلب أوروبا الغربية، ثم ليعلن هتلر أنه جاء ليحيي "الرايخ الثالث" الذي ينبغي أن يعيش ألف عام كما كان يقول.(10) في اليابان كانت الصورة مشابهة حيث كان الحزب العسكري المطالب بالتوسع الياباني باتجاه العالم انطلاقاً من آسيا الشرقية / الجنوبية يمسك بسلطة القرار في طوكيو فارضاً نفسه على الإمبراطور هيروهيتو. أما في روسيا فقد ازدادت سطوة الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين الذي خلف لينين في قيادة الحزب والدولة. لقد أمسك ستالين البلاد الشاسعة القوية بقبضة فولاذية، مستغلاً موارد بلد هو الآخر بحجم قارة ومحاولاً أن يبني من التخلّف القيصري دولة صناعية قادرة على المنافسة والتفوّق. كان تقدير روزفلت أنَّ هناك حرباً عالمية في الأفق، وتوقّعه أنها سوف تدور بالدرجة الأولى بين ألمانيا وإيطاليا من ناحية وبريطانيا وفرنسا من الناحية الأخرى. وبدت تلك الصورة المحتملة أمام عينيه شديدة الوضوح. وفي ذلك الوقت المبكر لم يكن لدى "روزفلت" تصوّر واضح لمسلك الإتحاد السوفياتي ولا لمسلك اليابان، ولعله ظنَّ أن كلا البلدين سوف ينتظر حتى يرى اتجاه العواصف ثم يقرر كيف يستفيد من هبوبها ويستغل التطوّرات والنتائج.(11) لكنّ المراقبة الأميركية لصورة العالم آنئذٍ راحت تتخذ مسلكاً مخصوصاً، بحيث ترصد بدقة اتجاهات القوة بين الإمبرياليات المتحاربة من دون أن تستغرق في حروب مباشرة غير محسوبة النتائج بالكامل لصالحها، بينما كان الطموح الإمبراطوري وتحقيق السيادة العالمية هو الناظم المركزي للإستراتيجية الأميركية العليا.