مقاربة ايتمو-معرفية

الأمن الإنساني: مقاربة ايتمو-معرفية

نقلا عن موقع الأستاذ برقوق:



د.أمحند برقوق،
قسم العلوم السياسية و العلاقات الدولية (جامعة الجزائر)

من بين الإفرازات النظرية للعولمة القيمية هو توسيع المجال النقدي ليشمل الدراسات الأمنية أيضا و ذلك من خلال إدراج عددا من المتغيرات التي عدلت من مركزية الدولة و منطقها. كما حولت أيضا مركزية التهديدات و المخاطر من الطبيعة الصلبة ( العسكرية و الاقتصادية ) إلى اللينة (بيئية، ثقافية، عرقية، لغوية ...الخ ) مع الإقرار أيضا بتنامي دور الفواعل غير الدولية في حركيات اللاأمن و هذا ما أدى إلى توسيع مجال و منطق الأمن ليشمل النظام الدولي، الدول ... المجتمعات و الإنسان الذي أصبح وحدة أساسية في منظور الأمن الإنساني .

سوف تحاول هذه الورقة التطرق لماهية الأمن الإنساني و أبعاده و حركياته.

*الأمن الإنساني: مقاربة اتيمولوجية:

يشكل الأمن الإنساني مقاربة جديدة لكيفية تحقيق الإحساس بالطمأنينة ليس باستخدام منطق الإدارة العقلانية للتسلح أو حركيات الاستقرار أو تفعيل منطق اللاحرب، بل عن طريق تحقيق معادلة صعبة بين الاعتراف بالحقوق و تمكين الإنسان منها ( في النصوص الدولية أو الجهوية أو الوطنية) و الانتفاع الفعلي بها. فالأمن الإنساني قائم بالأساس على فلسفة ديناميكية لحقوق الإنسان، بربطها بمفاهيم كينونة الإنسان و كرامة الإنسان و حق الأجيال في البقاء في عالم أمن و ايكولوجي و صحي (حقوق الجيلنة و الأمن المستدام ).

ارتبط مفهوم الأمن الإنساني بالتقرير الثاني حول التنمية الإنسانية الصادر عن برنامج الأمم المتحدة للتنمية (PNUD/UNDP) (سنة 1994 و الذي حرره كل من الباكستاني محبوب الحق و الهندي و الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد 1998 Amartiya Sen باستخدام ترابط عضوي بين مصفوفة قيمية normative matr ix تحمل علدة متغيرات معقدة ومنها :

1- بناء منطق عالمي متكامل و نفعي لحقوق الإنسان بشكل يؤسس لحركيات وظيفية ترفع من احتمالات انتفاع على المستويات الفردية و الجماعية من الحقوق و الحاجات الإنسانية
2- بناء منطق سياسي يقوم على ديمقراطية مشاركاتية تحقق للإنسان حرية المبادرة السياسية الحزبية /المدنية و الانتخابية القادرة على خلق نظام جودة سياسية تلغي شروط التعسف و التجاوز و الفساد و القهر. كما انه بامكان هذه الحركيات البنائية السياسية من توفير الضمانات الدستورية و القانونية و السياسية لحكم ديمقراطي يتميز بالرشادة ، الحكمانية، الحنكة، العقلانية و خاصة الفعالية في الاستجابة الايجابية لأكبر قدر من المطالب و الحاجات بأسرع وقت واقل تكلفة .
3- بناء منطق اقتصادي يؤمن حقوق المبادرة الإنتاجية و الاستثمارية للجميع من اجل تفعيل حق الملكية الشخصية المنتجة في النهاية لفرص العمل و الاسترزاق الضرورية لتمكين الإنسان من حقوق الكينونة (الحياة ) و الكرامة ( العيش باستقلالية ذاتية دون الحاجة للتضامن ولا للإستدانة ...). فبإمكان هذه الحقوق أن تؤسس لفلسفة جديدة للتنمية الاقتصادية قوامها الإنسان و هدفها ازدهار الدولة ورفاه المجتمع.
4- بناء منطق لدولة الحق و القانون
5- بناء فلسفة لتنمية سياسية توازن بين حاجات الهوية الذاتية (الأقليات ) و الولاء المطلق للوطن
6- تفعيل حرية التفكير و التعبير و المعتقد
7- بناء منطق حكم قائم على الشفافية و الأمانه
8- بناء منطق تنموي قائم على مفاهيم الجيلنة و الاستدامة
9- الحفاظ المستديم على البيئة من مخاطر التلوث و الكوارث البيئية
10- عقلنة وترشيد الحكم العالمي باسم الذكاء المشترك human co-intelligence و التضامن المشترك co-solidarity بشكل ينتج قواعد إلتزام دولي لمنع اللجوء للحرب و الاحتواء ألاستباقي للازمات.

و بالنظر لهذه المصفوفة المركبة، يمكن القول بأن مقاربة الأمن الإنساني تتقاطع في منطلقاتها مع أمن الدولة و الأمن الدولي ... فهي تركز على الإنسان و حاجاته و لكن بالأخذ بعين الاعتبار بيئاته المركبة الدولتية/ الجهوية / الدولية و كذلك طبيعةالإيديولوجية السياسية و طبيعة الظروف الاقتصادية و الثقافية و و الدينية و الحقوقيةو القانونية و الدستورية ....و الإنساني .

فمفهوم الأمن الإنساني بالتالي، هو تصور شمولي و نقدي للمقاربة الواقعية و التي فتحت المجال لنقاشات كبيرة حول مدى "نجاعة الأمن الإنساني " كمقاربة في الدراسات الإستراتيجية خاصة بالنظر لتسييسها أكثر من التنطير لها .... فهي مقاربة دول و خيارات وطنية و دولية أكثر من أن تكون فكرة موضوعية مجردة (نظرية ) .

• الأمن الإنساني: دراسة في الإبعاد المضامنية

حدد برنامج الأمم المتحدة للتنمية خارطة مضامنية حول المحتوى البعدي dimensional substance للأمن الإنساني في سبعة أبعاد حركية متكاملة و غير مرتبة و هي:

1- الأمن البيئي و يقصد به خلق السياسات و الآليات و القوانين التي تدرج في منطقها التسيري العقلاني ضرورة حماية البيئة من التلوث كشرط أساسي لاستمرار الحياة
2- الأمن الصحي و يقصد به تمكين الإنسان من العيش في بيئة تؤمنه من الأمراض كما توفر له أيضا الحق في التداوي و في الاستشفاء و في الوقاية منها
3- الأمن الغذائي و الذي يستدعي توفير الغذاء الصحي الكافي و باستمرار بشكل يحقق توازن في نمو الإنسان و في بقائه في صحة جيدة ... مع توافر الجهود الدولية من اجل منع وقوع كوارث المجاعة و سوء التغذية. كما يجب على الدولة أيضا توفير أمنها الغذائي.
4- الأمن الفردي و الخاص بتمكين الإنسان من تحقيق خصوصياته العقدية و اللغوية و الثقافية. و كذلك تمكين الفرد من تكوين عائلة وتحقيق الطموح في ظل نظام مجتمعي قائم على التساوي في الفرص و العدالة في التوزيع.
5- الأمن الثقافي و التي يقتضي التمكين الفعلي للأقليات من حقوقها الثقافية دونما استثناء باسم أمن الدولة أو ضرورات التجانس المجتمعي
6- الأمن المجتمعي الذي يعني خلق توازن فعلي بين الخصوصية (الثقافية/ الدينية اللغوية/ العرقية ) و ضرورة بناء منطق الاندماج القومي للمواطنين في بناء مجتمع تعددي و عادل
7- الأمن االسياسي و الذي يعني تمكين المواطنين من حقوقهم المدنية و السياسة في ظل نظام ديمقراطي مشاركاتي.

بالنظر لهذه الأبعاد الكلية يمكن القول أن الأمن الإنساني معرفيا و مضامنيا و جينيالوجيا هو تعبير فعلي عن رغبة عالمية لتدارك الأخطار و التهديدات التي رسمت لمستقبل نظام عالمي عماده الكوارث الإنسانية من: كوارث بيئية، كوارث صحية مع تنامي الحروب الداخلية ذات الطبيعة العرقية أو الدينية (و الهوياتية عموما ) و في تنامي الفقر و الجهل و العنف (المادي و غير المادي ) .... و هذا ما من شأنه تهديد أمن و سلامة الدول و المجتمعات و العالم