مفهوم الدبلوماسية: مقاربة تاريخية
بقلم: البشير أبرزاق
الفهرس
تقديم
المحور الأول: الدبلوماسية، مفهومها، أصولها، تطورها
المحور الثاني: مفهوم الدبلوماسية تاريخيا ونظريا
تقديم
البحث في مفهوم الدبلوماسية، جذورها، تطورها وتحولاتها، يفرض علينا طرح مجموعة من الإشكاليات من قبيل: ما مفهوم الدبلوماسية ومتى ظهرت؟ هل اتسم معنى هذا المفهوم بالثبات أم اتخذ صورة المتغيرات؟ ما مختلف المراحل التاريخية التي مرت منها الدبلوماسية العالمية؟ ما العلاقة بين التاريخ والدبلوماسية؟
وعلى ضوء هذه التساؤلات قسمت هذه الدراسة إلى محورين أساسيين:
المحور الأول: الدبلوماسية: مفهومها، أصولها، تطورها.
المحور الثاني: مفهوم الدبلوماسية نظريا وتاريخيا.
المحور الأول: الدبلوماسية، مفهومها، أصولها، تطورها
نال مصطلح الدبلوماسية اهتمام الباحثين في العلاقات الدولية والقانون الدولي العام، وحرص هؤلاء على بيان أصل المصطلح ومدلوله عبر العصور، وكان من البواعث على هذا الاهتمام بالدبلوماسية مالها من أهمية في تاريخ الإنسانية والعلاقات الدولية
[1].
والدبلوماسية مصطلح قديم يرجع إلى أصول كلاسيكية، استعمله اليونان القدامى ثم انتقل منهم إلى الرومان ومن هؤلاء إلى اللغات الأوربية الحديثة كالفرنسية والانجليزية كما انتقل إلى العربية وغيرها من اللغات
[2].
وقد تقاربت أراء الباحثين حول أصل التسمية، فقد اعتبر عمر توفيق كمال أن الدبلوماسية في أصلها اليوناني القديم انشقت من فعل (دبلو) ومعناه يطوي أويثني ومنه جاء اسم تلك الوثيقة أو المكاتبة الرسمية التي تطوى أو تثنى والتي عرفت باسم (دبلومة) والتي كان يبعث بها الحكام وأصحاب السلطان في علاقاتهم الرسمية، وقد كانت تخول لحاملها امتيازات ومعاملة خاصة أثناء سفره لأداء المهمة الملقاة على عاتقه
[3].
وهذه الوثيقة المعروفة ب(ديبلومة) ترادف السياسة الخارجية وتدل على التفاوض ويعني صفة مجردة لقيادة العلاقات الدولية
[4].
ويعتبر عبد الهادي التازي أن كلمة الدبلوماسية مأخوذة من (دبلومه) وتعني وثيقة السفر المختومة والمطوية على بعضها. ولم تلبث أن استعملت في اللاتينية العلمية العصرية إلا خلال ق 17 هكذا (ديبلوماتيكوس)، وفي أوائل القرن 18 (1708) استعمل وصف (دبلوماتيك) في اللغة الفرنسية بمعنى الذي يهتم بالدبلومات والعقود وقد أصبحت الصفة سنة (1726) تعني مايتعلق بالدبلومات التي تمس العلاقات الدولية، وابتكرت سنة (1791) كلمة الدبلوماسية التي تعني البحث في العقود التي تصل بين الدول
[5].
وبذلك نستطيع القول بان الدبلوماسية نشأت منذ أقدم العصور كوسيلة للاتصال والتفاهم بين الجماعات البشرية المتجاورة. فمنذ أن قامت المجتمعات الأولى وتداخلت مصالحها شعرت بحاجتها إلى نمط من الأساليب الدبلوماسية كسلوك اجتماعي تفرضه الحاجة إلى التفاهم وتبادل المنافع وتحقيق السلام وظهرت عبر العصور علاقات دبلوماسية اختلفت في أشكالها إلا أنها تشابهت من حيث أغراضها ووسائلها والنتائج التي ترتبت عليها، حتى أنه يمكننا القول بأن من بين التقاليد الدبلوماسية الحديثة ما يرجع إلى تلك التقاليد التي عرفتها الإنسانية في عصورها الخالية
[6].
وفيما يخص الدبلوماسية العربية فقد أكدت الحفريات الأثرية القديمة والتي أجريت في الشرق الأوسط والجزيرة العربية على أن المنطقة عرفت تطورا حقيقيا للدبلوماسية، فقد اكتشف الأثريون نظاما متقدما للعلاقات الدبلوماسية مند الألف الثالثة قبل الميلاد
[7]. مما يدل على مدى اهتمام الحضارات التي سكنت المنطقة العربية بحل منازعاتها الدولية والإقليمية بالطرق الدبلوماسية إلى درجة اعتقدوا فيها بوجود رحلات دبلوماسية على مستوى الآلهة
[8].
ومع مجيء الإسلام ازداد اعتماد الدبلوماسية من طرف الدولة الإسلامية في نشر الدين الإسلامي ونسج علاقات تجارية وسياسية مع الدول الأخرى، ولذلك فإن الدولة الإسلامية امتازت بتفوقها الدبلوماسي وحمايتها للرسل ومنحهم الامتيازات الدبلوماسية كالحصانة مثلا
[9].
أما على الصعيد الأوربي فلم تصبح الدبلوماسية مهنة إلا خلال القرن الخامس عشر، حيث بدأت جمهورية البندقية في تعيين سفراء القارين، لكن لم يتم وضع التشريعات وقوانين المؤسسة الدبلوماسية إلا بعد مؤتمرفيينا سنة 1815 ومؤتمر ايكس لاشابيل سنة 1818
[10].
والملاحظ في التعريف بالدبلوماسية عموما أنها علاقات سلمية رسمية بين الدول تتضمن عناصر ومقومات ومهام أساسية منها التمثيل الدبلوماسي على هيئة إرسال السفراء والمبعوثين وما يتمتعون به من الامتيازات... وكذلك مايقومون به من أعمال ومهام، كما تشمل الدبلوماسية المراسلات والمفاوضات وعقد الاتفاقيات والمعاهدات. ومن وسائل الدبلوماسية الضغط والتهديد وتكوين الأحلاف والمحاورة السياسية والاستعانة بوسائل التخابر السرية. وبطبيعة الحال كان لابد على الباحث التعريف بالعوامل التي تؤدي إلى قيام العلاقات الدبلوماسية والتي تؤثر في مسارها وفي ماتحققه من نتائج، وفي ضوء هذه المقومات والمفاهيم يكون البحث في تاريخ الدبلوماسية والعلاقات الدبلوماسية
[11].
المحور الثاني: مفهوم الدبلوماسية تاريخيا ونظريا
في هذا المحور نطرق باب العلاقة بين الدبلوماسية كوسيلة وفن وظاهرة تنتمي إلى حقل العلوم السياسية، وبين التاريخ كعلم من العلوم الإنسانية .
ودراسة هذه العلاقة تأتي محاولة ورغبة لرد الاعتبار للحدث في الكتابة التاريخية بعدما همش منذ أمد بعيد تحت ضغط وسيطرة الدراسات البنيوية التي قادتها مدرسة الحوليات، ونظرا لما أصبح يحضى به العمل الدبلوماسي اليوم من أدوار طلائعية لإبراز نوع العلاقات القائمة بين الدول.
والإشكال المطروح هنا : هل يمكن إسقاط الدبلوماسية كعلم من علوم السياسة على التاريخ؟
وهل يمكن للباحث في التاريخ أن يهتم بمثل هذه المواضيع (أي الدبلوماسية)؟. إلى أي حد استطاعت الدبلوماسية والرحلة الدبلوماسية المساهمة في كتابة التاريخ؟
قبل الخوض في هذا الموضوع تجدر الإشارة إلى أن العلاقات الدبلوماسية بين دول المعمور منذ القدم إلى اليوم، اتسمت بنوع من عدم الثبات، فقد كانت في بدايتها محدودة ومؤقتة
[12]. ولذلك كانت الدبلوماسية في بدايتها دبلوماسية حرب ودبلوماسية أحلاف بين الملوك
[13]. ولهذا كانت الدبلوماسية تسخر في خدمة مصالح هذه الإمبراطوريات كأداة للترهيب من شبح الحرب ومما سيصيب البلاد المتمردة عليها من خراب ودمار
[14].
وهكذا فقد كانت الدبلوماسية عند هذه الإمبراطوريات المحاربة تعمل من أجل تحقيق مصالحها الخاصة وفقا لطبيعتها العدوانية والتوسعية
[15]. وهذه الطبيعة الملكية للدبلوماسية استمرت طيلة العصور الوسطى حيث تم تقسيم العالم إلى كتلتين : كتلت الدولة الإسلامية وكتلت الدول المسيحية
[16].
بالنسبة للدول المسيحية فقد كان العالم يتكون من أمم متحضرة وأخرى غير متحضرة، الشعوب الأوربية اعتبرت متحضرة لها وحدها الحق في عقد الأحلاف وفي التعاون وفي تقرير السلام والحرب، أما الشعوب الأخرى فقد خضعت للاستغلال بوصفها مصدرا للعبيد وللمواد الأولية وتقيم في أقاليم تم اعتبارها أقاليم بدون مالك، وهكذا أصبحت الدول الأوربية النصرانية هي التي تقرر مصير العالم
[17]، إلا أن ظهور الدول الأوربية المستقلة ذات السيادة طبقا للمعايير التي وضعت في مؤثر "وستفاليا" لعام 1648 أدي بهذه الكيانات الجديدة إلى إسناد دبلوماسياتها على مبدأ توازن القوى الذي سيسمح لكل دولة أقوى يمكنها إخضاع الدولة الأخرى
[18].
نخلص إلى أن الدبلوماسية العالمية لم تبق على هذا المنوال أسيرة السياسة الأوربية إذ أنه بانتهاء الحرب العالمية الثانية انتقل مركز النفوذ الدبلوماسي العالمي إلى قوتين عظيمتين هما الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفياتي، فازدهرت بذلك دبلوماسية الأحلاف
[19]، بل إنه بقيام هيئة الأمم المتحدة اتجهت الدبلوماسية المعاصرة نحو إقرار السلام في العالم عن طريق تكريس حقوق وواجبات الدول اتجاه بعضها البعض وصارت العلاقات بين الدول تقوم على أساس التعايش السلمي
[20]. وإن كان ذلك على عكس ما يبدو في الواقع الدولي المعيش.وصفوة القول إن المتتبع للمسار التاريخي للدبلوماسية يرى عدم ثباتها، إذ انتقلت من دبلوماسية للحرب إلى أخرى للسلام .
المبتغى من هذه الإشارة النظرية المختصرة لتحولات الدبلوماسية العالمية، هو محاولة إدراك العلاقة بين الدبلوماسية والتاريخ، ومن تم إدراك دورها في صناعة التاريخ والأحداث التاريخية، إن على المستوى المحلي أو الدولي، غير أن معرفة هذه النتيجة تحيلنا إلى دراسة أخرى لهذه العلاقة وعلى مستوى آخر، إنه مستوى الرحلة الدبلوماسية باعتبارها تقارير من مهمات دبلوماسية عن البلاد التي زارها الوفد الدبلوماسي المعني، ومن تم فهي (أي الرحلة الدبلوماسية) تقوم بوجه أو بآخر بكتابة بعض تاريخ ذلك البلد الذي استهدفته، وهنا نتحدث عن التاريخ الدبلوماسي والتاريخ الدبلوماسي لأمة من الأمم هو الحديث عن أرقى مظهر من مظاهر أصالتها وحضارتها
[21].
ولعل هذا ما يؤكده الواقع التاريخي المغربي مثلا ، إذ نجد عددا كبيرا من المؤرخين والباحثين المعاصرين يعتمدون على الرحلة الدبلوماسية لانجاز مواضيعهم التاريخية مثل الدكتور عبد المجيد القدوري، سعيد بن سعيد العلوي، ... علاوة على الدراسات والتحقيقات المستفيضة التي قام بها كل من محمد الفاسي لرحلة "الإكسير في فكاك الأسير" لابن عثمان المكناسي، وكذلك لرحلة محمد الطاهر الفاسي "الرحلة الإبريزية إلى الديار الانجليزية"، وكذلك دراسة عبد الوهاب بن منصور ل "التحفة السنية" لأحمد الكردودي، وغيرهم. لكن إلى أي حد استطاعت الدبلوماسية عموما والرحلة الدبلوماسية خصوصا أن تكون أداة حقيقية لبناء التاريخ الإنساني بين دول المعمور؟ وما القيمة التاريخية لمختلف العلائق الدبلوماسية؟ وكيف يمكن للتاريخ والدبلوماسية أن تكونا في علاقة ديالكتيكية؟.
يذهب عبد الهادي التازي إلى القول بأن التاريخ كان ومازال نقطة يلتقي عندها الباحثون في شتى الميادين وهكذا فلامناص للذين يهتمون بالتطور السياسي والاجتماعي والديني والثقافي لأمة من الأمم
[22] من دراسته بل إنه يرى بضرورة فتح آفاق أمام دراسة التاريخ الدبلوماسي، فقد شعرت المعاهد والكليات المتخصصة وحتى التقنية منها بأهمية التاريخ فجعلت له كرسيا بين كراسيها ...وهكذا سمعنا عن كرسي تاريخ الطب بكليات الطب وسمعنا عن تاريخ العلوم بكلية العلوم
[23].
ويؤكد الدكتور عمر كمال توفيق على أن من بواعث اهتمام الباحثين في العلاقات الدولية والقانون الدولي العام بالدبلوماسية، ما لهذه الأخيرة من أهمية في تاريخ الإنسانية والعلاقات الدولية
[24].
ومن خلال هذا يبدو أن للتاريخ علاقات وطيدة بمختلف الحقوق العلمية الأخرى، بما في ذلك علم الدبلوماسية كعلم يهتم بدراسة العلاقات والمصالح المتبادلة بين الدول والأفراد.
تاريخ النشر: الثلاثاء 30 يونيو/حزيران 2009
[1] | د. عمر توفيق كمال، الدبلوماسية الإسلامية والعلاقات السلمية مع الصليبيين، ص 17. |
[2] | المرجع نفسه، ص 17. |
[3] | المرجع نفسه، ص 17. |
[4] | HAROLD Nicholson.Diplomatie Traduit de l’anglais par Petronella Armstrong.Lausan 1948.p12-14. |
[5] | عبد الهادي التازي، التاريخ الدبلوماسي للمغرب منذ أقدم العصور إلى اليوم، المجلد 1، ص 37. |
[6] | توفيق عمر كمال، المرجع السابق، ص 20. |
[7] | غالب علي الرودي، محاضرات في العلوم الإنسانية، البصرة، 1965 ص 24. |
[8] | مصطفى الغاشي، الرحلة المغربية والشرق العثماني، محاولة في بناء الصورة، أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في التاريخ الحديث، لموسم 2002/2003 ص 20. |
[9] | عبد الهادي التازي، الحصانة الدبلوماسية في مفهوم السيرة النبوية، مجلة المنهل المغربية، عدد 17، السنة السابعة، تونس، ماي 1970، ص 40. |
[10] | Michel Moore. Dictionnaire encyclopédique d’histoire. Tome II. Bordeaux. 1978. P.1386. |
[11] | عمر توفيق كمال، المرجع السابق، ص 19. |
[12] | عبد الواحد الناصر، المتغيرات الدولية الكبرى، متغيرات السياسة الدولية في بداية القرن الحادي والعشرين، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء 2004 ، ص 12. |
[13] | المرجع السابق، ص 12. |
[14] | المرجع السابق، ص 12 . |
[15] | المرجع السابق، ص 12 . |
[16] | المرجع السابق، ص 12. |
[17] | المرجع السابق، ص 12. |
[18] | المرجع السابق، ص 13. |
[19] | إسماعيل صبري مقلد، العلاقات السياسية الدولية، دراسة في الأصول والنظريات، منشورات دار السلاسل، الكويت. ص 410-415. |
[20] | عبد الواحد الناصر، المرجع السابق، ص 15. |
[21] | عبد الهادي التازي، التاريخ الدبلوماسي للمغرب منذ أقدم العصور إلى اليوم، المجلد 1، ص 38. |
[22] | المرجع السابق، ص 37. |
[23] | المرجع السابق، ص 38. |
[24] | عمر توفيق كمال، الدبلوماسية الإسلامية والعلاقات السلمية مع الصليبيين، ص 17. |