الدكتور مصطفى بخوش
أستاذ محاضر في العلاقات الدولية
رئيس اللجنة العلمية
قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية
جامعة محمد خيضر بسكرة –الجزائر-
البريد الالكتروني: b_moustapha2000@yahoo.fr
التحول في مفهوم الأمن وانعكاساته علي الترتيبات الأمنية في المتوسط
مقدمة:
دفع انهيار نظام الثنائية القطبية ونهاية المواجهة بين الكتلتين إلى الواجهة مسألة إعادة التفكير في النظام الذي سيحكم وينظم العلاقات الدولية في مرحلة اختفت فيها الحرب الباردة لتترك المجال واسعا لصراعات من نوع جديد. وبرزت الحاجة لتطوير شبكة قراءة وتحليل جديد تشرح الظواهر الجديدة التي ترتبت عن نهاية الثنائية القطبية.
لقد دلت نهاية الحرب الباردة على نهاية الكثير من الحقائق اليقينية في المجالات الرئيسية للفكر السياسي والاقتصادي وبروز العديد من المفارقات بعضها على الصعيد الهيكلي النظامي وبعضها على الصعيد القيمي. فمن الملاحظ مثلا أنه في الوقت الذي بدأ يتبلور اتجاه يتجاوز الدولة ويعمل على بناء تكتلات اقتصادية اقليمية كبرى عاكسا ديناميكية العولمة/الإقليمية، وعدم قدرة الدولة الوطنية على معالجة العديد من القضايا الدولية وحتى الوطنية بصفة منفردة . نلاحظ بالمقابل تعرض الدولة الوطنية إلى مخاطر مصدرها انتعاش الولاءات الأصلية من اثنية ومذهبية ودينية وقومية.
الواقع أن التحولات التي شهدها النظام الدولي بعد الوحدة الألمانية أدخلت العالم في حالة فوضى انتقلت حتى إلى مستوى التنظير " فهناك اليوم اتجاه في تحليل العلاقات الدولية يؤكد على القطيعة ويستسلم للأوهام من أجل تطوير مفاهيم جديدة أو اقتراح أفكار جديدة، وهكذا نسمع اليوم بكثرة عن نهاية التاريخ، نهاية الجغرافيا ونهاية الجغرافيا السياسية بل أكثر من ذلك نسمع اليوم عن موت الدولة الأمة"1 .
والأمر الذي زاد في تعقيد الوضع الراهن هو تزامن ثلاثة تحولات أساسية هي:
- نهاية الحرب الباردة على المستوى الاستراتيجي سجلت ظهور عالم بدون معالم ثابتة حيث أعيد طرح مسألة الحدود التي هي في غالبها نتاج ترتيبات ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية( نظام فرساي).
- العولمة على المستوى الاقتصادي سمحت ببروز عالم بدون حدود حيث برز اتجاه قوي في العلاقات الدولية يتجاوز الدولة ويعيد طرح مفهوم الدولة الأمة للنقاش( نظام وستفاليا).
- نهاية الشيوعية على المستوى الأيديولوجي خلقت عالم بدون عدو واضح فالخطر القديم زال والعمل جار لخلق عدو جديد يلعب نفس الدور الذي لعبه في السابق التناقض شرق/غرب (نظام يالطا).
هذا التزامن فرض ضرورة التفكير وفي نفس الوقت في عالم بدون معالم وبدون حدود وكذلك بدون عدو واضح.
ويعتبر اليوم موضوع تحول مفهوم الأمن واحد من المواضيع الأساسية التي تشغل الباحثين والقادة السياسيين لما له من تأثير مباشر على طبيعة العلاقات الدولية التي شهدت تحولات كبرى منذ سقوط جدار برلين. وعليه سنحاول في هذه الورقة مناقشة هذا التحول وانعكاساته على الترتيبات الأمنية في حوض المتوسط وفق العناصر التالية:
1-التغيرات الجيوسياسية بعد الحرب الباردة.
2-تحول مفهوم الأمن.
3-الرؤية الغربية للأمن في حوض المتوسط.
أولا : التغيرات الجيوسياسية بعد الحرب الباردة:
نتج عن نهاية الحرب الباردة تحول لا مثيل له فلأول مرة منذ القرن الخامس عشر يحدث تغيير في النظام الدولي بدون حرب، ولكن بإعادة توزيع عناصر القوة بين القوى الكبرى، الشئ الذي انعكس على الوضع الاستراتيجي لما بعد الحرب الباردة، في شكل مراجعة الخريطة الجيوسياسية التي نتجت عن نهاية الحربين العالميتين الأولى والثانية، وهذا ما يطرح العديد من الإشكالات على مستوى التنظير لما يعرف الآن بمرحلة مابعد الحرب الباردة ،حيث يرى "بيار هسنر Pierre Hassner " أن كل من نظام يالطا "Yalta" (الثنائي) ونظام فرساي"Versailles" (الحدود) وكذلك نظام وستفاليا"Westphalie" (الدولة الأمة)، كل هذه النظم هي محل تساؤل اليوم"(2).
يمكن أن نحصر تجليات التحول الجيواستراتيجي في الآتي :
1-التحولات التي حدثت في الاتحاد السوفياتي ودول أوربا الشرقية، والتي أدت إلى انتهاء عملية المواجهة بين الكتلتين الشرقية والغربية، ثم جاء انهيار الاتحاد السوفياتي وزوال حلف وارسو ليقلل من أهمية الفكر الاستراتيجي الغربي، ويعيد طرح مسألة التهديد بشكل جدي. فبعدما كان الخطر الشيوعي هو البوصلة التي توجه العالم الغربي، وتضبط مساراته، وتضمن تماسكه اتجاه الآخر، يجري وبشكل حثيث البحث عن عدو جديد، يضمن تماسك واستمرارية الغرب.
إن هيمنة التنافس والصراع بين القطبين على النظام الدولي في الفترة(1945-1989) خلقت نوعا من التجانس والانسجام. فبالنسبة للغرب العدو واضح، محدد وواحد هو الاتحاد السوفييتي وحلفاؤه (الشيوعية)، والعكس صحيح كذلك بالنسبة للشرق، العدو واضح، محدد وواحد هو الولايات المتحدة وحلفاؤها (الإمبريالية)، وهكذا وبالنظر إلى التهديدات والأخطار التي يمثلها كل طرف على الآخر، تم بناء استراتيجيات الحرب الباردة، والتي تميزت باحترام قواعد لعبة الردع النووي المتبادل.
و قد أدركت الإدارة الأمريكية كما يشير إلى ذلك"سمير أمين"(3) أن تخلي موسكو عن الاشتراكية، واندماجها في المحيط الدولي الجديد الذي ترتب عن نهاية الحرب الباردة، لابد أن يؤدي إلى تآكل التحالف الأمريكي الأوربي الياباني (الذي شكل القاعدة الأساسية للهيمنة الأمريكية) طبيعيا مع الزمن، وبالتالي فلا بد من استبدالها بمشروعية أخرى للتحالف، وجدتها أمريكا في التهديد الذي يمثله العالم الثالث. وأثناء عملية البحث هذه عن عدو جديد، تم توظيف مجموعة من النظريات والأفكار، بعضها قديم وآخر جديد، نذكر منها على وجه الخصوص نظرية (التحدي-الاستجابة) لتوينبي، والتي تؤكد أن وحدها المدنيات(الحضارات) التي تواجه تحديات وأخطار تزدهر وتنمو، والعكس صحيح، ففي غياب تحدي خارجي تدخل الحضارة في حالة مراوحة المكان ثم الانحلال. أما النظرية الثانية فهي نظرية الكتلة المزدوجة لكانيتي، التي ترى أن "الإمكانية الأضمن والوحيدة في الغالب التي تملكها كتلة (أو دولة) للحفاظ على نفسها وتماسكها، إنما تكمن في وجود كتلة ثانية (أو دولة) ترتبط بها، وسواء تواجهتا أو تبادلتا التهديد جديا في اللعبة، فإن الحكم بكتلة ثانية أو حتى التخيل الكثيف لها يتيح لها ألا تتفكك"(4). و يمكن أن نشير كذلك إلى نظرية "صدام الحضارات" لصاحبها صامويل هانتغتون، ورغم هذا الجهد النظري يبدو أن الوضعية ما زالت معقدة.
2-ساهمت حرب الخليج II بصورة كبيرة في إعادة تعريف النظام الدولي، حيث مثلت نهاية حرب الخليج II فرصة مناسبة للإدارة الأمريكية للإعلان على ما أسماه الرئيس"بوش الأب" نظام دولي جديد(خطاب بوش الأب في سبتمبر 1990)، وباختصار أظهرت حرب الخليج بأن التقارب بين الشرق والغرب لم يضع حدا لكل التناقضات، وإنما أعاد هيكلتها، بمعنى أن التناقض شمال-جنوب حل محل التناقض شرق-غرب، بل أكثر من ذلك كشفت حرب الخليج عن تناقضات داخل المعسكر الغربي نفسه، فمن الواضح الآن أن الولايات المتحدة تستخدم سيطرتها العسكرية على النفط، لكي تفرض هيمنتها على الجميع، ولممارسة الابتزاز السياسي على الجميع، بما في ذلك أوربا.
و يطرح جيمس كولمان" فكرة أن بروز العنصر الاقتصادي كمحرك للسياسات الدولية في النظام الدولي الجديد بعد تراجع عنصري الإيديولوجيا وسباق التسلح جعل التوجهات ذات النزعة للتفوق الاقتصادي بمثابة إيديولوجيا جديدة لها أيضا أدواتها السياسية وسماتها العقائدية، حتى أنها اكتسبت صفة الأصولية الاقتصادية وهو مصدر ستكون له فاعليته في إثارة النزاعات بين الغرب والآخرين"(5).
و الملاحظ أن المعطى الاقتصادي يدفع بشكل قوي هو الآخر نحو تشكل ثنائية شمال/جنوب، تتميز عن تلك التي عرفتها مرحلة السبعينات بأنها تتجاوز المستوى الاقتصادي لتنتقل إلى المستوى السياسي والاجتماعي، وهو ما يسهل تصوير الجنوب على أنه "مجرد مجموعة من البرابرة التي تريد غزو الشمال وتحطيمه"(6) .كما سنرى ذلك لاحقا في حوض المتوسط.
ثانيا: تحول مفهوم الأمن
الملاحظ اليوم أن التصور التقليدي الذي يتألف فيه النظام الدولي من مجموعة من الدول ذات السيادة لم يعد ليصمد أمام اقتحام المجتمعات للعبة العالمية، فتغير الانتماءات وتجزئة السياسات الخارجية إنما يعمل على تفكيك الأطر القومية وتقسيمها بفعل عمليات تفتت وانحلال لا نهاية لها. امتدت لتشمل كل المجالات والقطاعات كالهجرة و الدين و شبكات المافيا والإرهاب و الجريمة المنظمة و راس المال و الاستثمارات الخاصة.
لذالك نحاول في هذا الجزء الإجابة على التساؤل الذي يبدو للوهلة الأولى بسيطا وسهلا، غير انه في الحقيقة يحمل أبعادا جديدة ويطرح إشكالات معقدة تتجاوز المفهوم التقليدي للأمن. والتساؤل هو: كيف تعالج قضايا الأمن اليوم ؟
إن الملاحظ اليوم بالتأكيد يسجل أن تحول الأمن نحو المجالين الاقتصادي و الاجتماعي ابرز فواعل جدد كالبنوك المركزية ووزارات المالية و التجارة ومؤسسات المجتمع المدني ومجموعة من الشبكات الخاصةالتي كانت في السابق تعمل في ظل الدولة، يضاف إليهم الفاعلين الخواص و الشركات المتعددة الجنسية وكذا المتدخلون في الأسواق المالية وعلب التفكير التي اخذ دورها يتصاعد شيئا فشيئا على حساب الهيئات الحكومية التي كانت تسهر على الترتيبات الأمنية. وأصبحنا نتكلم عن ظاهرة خصخصة الأمن. سنعالج مسألة تحول مفهوم الأمن ضمن ثلاثة عناصر أساسية هي:
1- التحول في الفواعل في حقل العلاقات الدولية( مصدر التهديدات والأخطار)
2- كثافة وتسارع التدفقات الفوق قومية والتحت قومية(طبيعة التهديدات الأخطار)
3- التحول في الوسائل والأدوات.
1: التحول في الفواعل في حقل العلاقات الدولية:
بداية نشير إلى أن المقصود بالفاعل (Acteur) في العلاقات الدولية كل سلطة أو جهاز أو جماعة أو حتى شخص قادر أن يلعب دور ا على المسرح الدولي. وقد يتطلب لعب هذا الدور اتخاذ قرار ما أو الإتيان بفعل. وهو ما يؤكد على أن الفواعل الذين تدور بينهم العلاقات الدولية هم متنوعون بقدر ما هم متعددون.
إن تحليل دور الفواعل و ليس تحديد و ضعهم القانوني هو الذي يمكننا في الواقع من تحديد موقعهم و مدى فاعليتهم في المسرح الدولي، فإضفاء صفة الفاعل في العلاقات الدولية مرتبطة بمدى تأثير و مساهمة هذا الفاعل في التدفقات الدولية وليس مرتبط إطلاقا بوضعه القانوني، والملاحظ هنا أن قواعد القانون الدولي تضفي على الحكومات ميزة احتكار تمثيل الدولة والتصرف باسمها في مجال العلاقات الدولية. وهو الأمر ذاته الذي يتبناه أنصار المنظور الواقعي عندما يؤكدون على أن الدولة هي فاعل وحدوي مركزي في العلاقات الدولية يسعى لتحقيق المصلحة القومية، انطلاقا من ما سبق و إذا كانت السياسة الخارجية هي "فن قيادة علاقة دولية ما بغيرها من الدولة فان الدبلوماسية هي القيام بالتنفيذ والتطبيق الواعي للبرنامج المحدد من خلال عمل منهجي يومي عن طريق المفاوضات أو على الأقل المحادثات التي تجري بين الدبلوماسيين بعضهم البعض أو بين الدبلوماسيين و وزراء الخارجية(7)، وكذلك وكما يؤكد الواقعيون يعتبر السلوك الاستراتيجي خيار يمكن الاعتماد عليه من قبل الدول لمتابعة وملاحقة مصالحها الأمر الذي يكشف عن أولية وأولوية الدولة كفاعل يحتكر السلوك الدبلوماسي الاستراتيجي لمتابعة تنفيذ أهداف السياسة الخارجية.
هذا هو التقليد السائد ومع ذلك فان هذا لا يخفي التحولات الظاهرة في الممارسة الدبلوماسية الاستراتيجية التي تكشف بوضوح أن هناك قوى عديدة على الأقل في النظم الديمقراطية تتقاسم الصلاحيات في إطار الجهاز التنفيذي و أن هذه القوى السياسية ترتبط بجماعات سياسية واقتصادية و اجتماعية تدفعها للانغماس بشكل متزايد في عملية صياغة السياسية الخارجية وفقا لتوجهاتها و أهدافها و مصالحها. فمثلا يحدث أحيانا أن يتجه أرباب العمل إلى تنظيم هياكل مؤسسية و دواليب للعمل تسمح لهم بإقامة شبكة علاقات دولية خاصة بهم مع الشركات و الحكومات الأجنبية، و التعاون الوثيق مع السلطة السياسية مما يسمح بتحقيق المرونة الدبلوماسية المطلوبة (
.
إن النقاش الدائر اليوم حول تعدد و تنوع الفواعل في العلاقات الدولية دفع "هولستي Holsti إلى القول بوجوب التفرقة بين نوعين من العلاقات الدولية: الأول يشمل السياسة العليا و هي تقتصر على الدول فقط وتتناول قضايا السلم و الحرب، أما النوع الثاني فيضم السياسة الكلية وهي تشمل كل المجالات ما عدا قضايا السلم و الحرب يشارك فيها كل الفواعل من دون الدولة.غير أن هالد Held (9) في مقاربته الكوسموبوليتانية يرى أن تقسيم Holsti مقبول لكنه غير واقعي لأن السياسة العليا ليست حكرا على الدولة فقط (الدور المتصاعد لبعض المنظمات و الهيئات كالأمم المتحدة، الحلف الأطلسي، الإتحاد الأوربي، الإتحاد الإفريقي في التعاطي مع نزاعات ذات الطبيعة الأمنية ).
و هو ينطلق من فكرة محورية أساسها أن نهاية الحرب الباردة أعادت إحياء دور المنظمات الحكومية فوق الوطنية التي أصبحت تتدخل في أمور السلم والحرب كما أن السياسة الكلية ليست فقط على مستوى عالمي لكن أيضا داخل الدولة العضوة فيما يخص التنمية، حقوق الإنسان، الإصلاحات السياسية، الديمقراطية، الأقليات و غيرها من القضايا، لذلك يعتقد Held أن التحول على مستوى الفواعل يؤثر على مستوى القوة و القواعد والسيادة.
أما" كوهين وناي "Keohane et Nye (10) فيعتقدان أنه لا يجب التركيز في دراسة العلاقات الدولية فقط على العلاقات الدولاتية Interétatique و لكن يجب كذلك دراسة العلاقات عبر القومية التي يمكن أن تنشأ بين مختلف المنظمات ( مثل المنظمات غير الحكومية(ONG ). الحركات السياسية، الجماعات العلمية و غيرها، و يؤكدان أن هذه العلاقات سينتج عنها خمسة آثار مهمة هي:
-تغير سلوك الأفراد.
-تكون مدخلا للتعددية الدولية " Pluralisme international
-تصبح الدول يوما بعد يوم و شيئا فشيئا خاضعة لتأثير مختلف هذه المجموعات.
-معظم الحكومات ترى أن إمكانيات تأثيرها تتناقص و تتراجع لصالح هذه المجموعات.
-الدول لم تصبح هي الفاعل الوحيد في حقل السياسة الخارجية مع التأهيل المتزايد للمنظمات الدولية.
إذن توجد ظواهر لا تخضع لسيطرة الدولة و تؤثر فيها، فالدولة لم تعد المرجع المطلق لنظرية السياسة الدولية وبالمقابل برز مرجعان أساسيان جديدان هما الفرد و الإنسانية(مفهوم الأمن الانساني).
انطلاقا من هذه اللحظة بدأ الحديث عن تنظيم جديد للعالم (عالم ما بعد وستفالي ) يتميز بغياب الاستقرار ليس لأن الدول تتراجع فقط و لكن أيضا لأن الفواعل من غير الدولة يلعبون أدوارا جعلت الوضعية غير متحكم فيها.
وعموما نشير هنا أن دراسة تطور الظواهر فوق قومية و تحت قومية في العلاقات الدولية، برز مع إسهامات جون بورتون "J.Burton " في كتابه "World Society " الذي أشار فيه إلى بدايات ظهور مجتمع عالمي أمام تراجع أدوار الدول. هذا المجتمع حسبه شبيه بشبكة العنكبوت "Toile d’areigneé"، كل فرد فيه يملك علاقات متعددة مع مؤسسات متنوعة. هذه العلاقات جوهرها إشباع الحاجات خصوصا الأمن و الرخاء، و يعتقد بورتون أن الشكل السياسي الذي تمتلكه الدولة لم يعد قادرا على إشباعها لذلك يتوجه الأفراد نحو فواعل آخرين(11).
وفي الأخير اعتقد أن الكلام في موضوع تعددية الفواعل دون التوقف عند إسهامات روزنو و’J.Rosenau’ يبقى ناقصا،فهو يؤكد انه يجب التركيز اليوم أكثر على دراسة السياسة ما بعد الدولية " post internationale" وهي نفسها السياسة العالمية كما يشير في كتابه" Turbulence in world politics" (12) حيث أشار فيه إلى بداية زوال عالم الدول الذي نشا مع اتفاقية وستفاليا "wastphalia" و المحكوم بثلاثة مبادئ أساسية هي :
-مبدأ السيادة.
- مبدأ المساواة بين الدول.
-مبدأ عدم التدخل.
معتمدا في تحليله هذا على ظاهرتين أساسيتين هما:
-تضاعف وتزايد الفواعل من خارج إطار السيادة "Sovereignety free" .
- انتشار وتشتت الهويات التي لم تعد قادرة على الاستمرار في الولاء اتجاه الدول.
وهو ما نتج عنه حركة تفكك" Fragmentation" يقابلها بداية تبلور هوية عالمية للنوع الإنساني. ما يميز العالم ما بعد الوستفالي حسب روزنو هو انه ضحية للاضطراب الذي يعكس حالة الفوضى غير المتحكم فيها و التي تعبر عن وجود ثلاثة أزمات هي:
-أزمة السيادة: فقاعدة قدرة الدول على إدارة المشاكل تتراجع باستمرار.
-أزمة متعلقة بالإقليم "territorialité" فالتوجه نحو العولمة يتجاوز نموذج الدولة.
-أزمة سلطة: تعدد الفواعل و تنوعهم ونسبية قدرتهم على الفعل تمنع قيام نظام مستقر.
ويذهب روزنو في كتابه إلى محاولة البحث عن منطق لهذا الاضطراب وحاول الكشف عن معايير داخل الفوضى نفسها كالأتي:
-معيار السياسة الجزئية "Micro – politique ": وهو كما يرى الأكثر أهمية ويظم أربعة أبعاد للعلاقة فرد / سياسة دولية هي:
- الشعور بالولاء لدى الأفراد اتجاه الجماعة التي ينتمون لها (الدولة ).
- سلوكات الخضوع و الإذعان لدى الأفراد في مواجهة من بيدهم السلطة.
- صلاحية وقدرة تحليل السياسة الدولية بالنسبة للأفراد: فالأفراد أصبحوا يوما بعد يوم أكثر إطلاعا، فهم إذن قادرون على مناقشة السياسة الدولية.
- قدرة تفاعل الأفراد وتأثرهم بالظواهر الدولية.
هذه الأبعاد الأربعة أدت إلى صعوبة الحكم "difficile de gouverner"
-معيار السياسة الكلية Macro- politique/structurel: يرى روزنو أن المجتمع العالمي مخترق من حركات متعددة المراكز ومن هنا تكمن أهمية الفواعل الجدد دون سيادة وهي:
- من تحت: مجموعات المصالح
- من فوق: النظام الدولي
إذن الدول أصبحت مسئولة ولا تملك وسيلة عمل، وعليه فان تحليل السياسة الدولية كسياسة دولاتية Interétatique أصبح غير صالح.
-المعيار العلائقي أو الترابطي: اضطربت علاقات السلطة/الأفراد هي الأخرى لذلك وكما يرى روزنو نحن نعيش في عالم ثنائي مقسم إلى: -عالم دولاتيétatique كلاسيكي.
- عالم ما بعد وستفالي .
هذا التقسيم لن يستمر بل ويذهب إلى أبعد من ذلك عندما يقول: " السائح و الإرهابي le touriste et le terroriste شخصيتان ترمزان للمرحلة التي يدرسها ، وممكن أن تكونا حفار قبر للدولة .
طروحات روزنو هذه في الحقيقة هي استمرار للتصورات التي طرحها في مطلع التسعينيات من القرن الماضي حول الحاكمية أو الحكم العالمي والتي تركز على مفهوم السلطة معرفة بشكل خاص بالسوق أو القطاع المعنى وهي ليست محددة مسبقا ولا تقترح تراتبية معينة، بل تظهر من خلال العلاقات بين مختلف المعنيين. إن التزاوج الحاصل بين العولمة والمحلية تشجع بروز قوى جديدة داخل المجتمع الدولي أنتجت بدورها مسار مزدوج: التكامل / التفكك، ساهم في تفكك السلطة بين المستوى العالمي، الوطني وتحت الوطني.
مقاربة روزنو تسلط الضوء على الحكم العالمي ذو خصوصية معقدة تكمن في تعددية الفاعلين في مجال يتطور ويتحول بشكل مستمر ودائم، الفواعل الأساسيون فيه هم دوائر السلطة وليس الدول بحيث كل دائرة تمارس سلطتها بطريقتها الخاصة.
والعلاقات بين الدوائرintersphérique ليست بالضرورة تراتبية فداخل كل دائرة الفواعل الأكثر قوة يفرضون إرادتهم ، وهكذا فهي حاكمية بين حاجات مختلف الفواعل والتي تسمح لواحد منهم الحصول على رضا الآخرين وليس ضرورة دستورية تعطي السلطة العليا حصريا للدول و الحكومات الوطنية .
أمام هذا العدد الكبير و المتنوع من الفاعلين تحت القوميين وفوق القوميين والذين يسعون جميعا إلى التسلل إلى رقعة السياسة الخارجية فقد نقع كما يقول مارسل مارل تحت إغراء القول بان وظيفة الدولة تنحصر بالتحديد في لعب دور الحكم بين هذه المصالح و الاتجاهات المتعارضة لتحديد الخط المشترك وصياغة الإجابة على التحديات ويمثل هذا الوضع ما يجب أن يكون عليه الحال من الناحية النظرية ولكنه لا يتم عمليا على هذا النحو (13)، فالتحليل الكلاسيكي للعلاقات الدولية يفترض أن كل التوترات يمكن حلها عن طريق تدخل السياسي الذي يفرض إطار للتفكير المتجانس الموحد، هيمنة السياسي و أوليته أصبحت اليوم مشكوك فيها من طرف قدرات وإمكانات باقي الفواعل الذين بإمكانهم فرض منطقهم الخاص للعمل. خصوصا عند الحديث عن شبكات الجريمة المنظمة والشبكات الارهابية.
2: كثافة وتسارع التدفقات الفوق و تحت قومية .