يقتضي بحث التجربة الحزبية الإلمام بتاريخ نشوء الأحزاب السياسية "الحديثة" ودراسة الملابسات المحلية والعالمية والعوامل الاجتماعية - الاقتصادية والثقافية والسياسية التي أسهمت في تشكلها ، وحددت على نحو ضمني أو صريح أهدافها وبرامجها ، وطابع علاقاتها الداخلية والخارجية ، وأنماط ممارستها . أي إنه يقتضي نوعا من موضوعية تاريخية أو نوعاً من رؤية تاريخية موضوعية ، لا يدعيها الكاتب لنفسه ، فالتاريخ في هذه المسألة ، كما في غيرها ، هو علم العلوم كافة ؛ إذا نظر إليه على أنه تنويعة على أشكال الوجود الاجتماعي وتوقيع ممكنات على حساب ممكنات أخرى ، أي على أنه منطق الصيرورة والتقدم، وليس مجرد تعاقب الأحداث أو تزامنها أو تراكمها . ومنطق الصيرورة هو منطق الواقع ببعديه التاريخي والعالمي.
وليس من اليسير أن نحكم على هذه التجربة ، سلباً أو إيجاباً ، قبل إنجاز هذه المهمة التي ستظل على جدول أعمال الحركة السياسية،بوصفها شرطاً لازماً لتجديد بناها الفكرية والسياسية والتنظيمية . ومع ذلك ، لا بد من الإشارة إلى أن التجربة الحزبية العربية حديثة العهد نسبياً؛ظهرت أولى بوادرها في أوائل القرن العشرين . إذا استثنينا بعض الجمعيات السياسية ، أو ذات التوجه السياسي التي نشأت في أواخر القرن التاسع عشر . ولهذا الاستثناء ما يسوغه ؛ فالإشكالية التي نشأت تلك الجمعيات في إطارها تختلف عن إشكالية الأحزاب الحديثة موضوع هذا البحث .
الحركة السياسية في أي مجتمع هي أحد أشكال تحديده الذاتي،وتعبير عياني عن مستوى وعيه لذاته ، بما هو كينونة اجتماعية في التاريخ وفي العالم . وهذا المستوى هو الذي يحدد ، في نهاية المطاف ، تصور أو تصورات المجتمع المعني عن العالم وعن التاريخ وعن المجتمع والدولة وعن الإنسان ، ولا سيما عن المرأة، ومن ثم عن السياسة ذاتها . إن وعي الذات أو الوعي الذاتي هو العامل الحاسم في عملية إنشاء صورة العالم في الذهن . فتقويم التجربة الحزبية ، فكراً وممارسة ، مرتبط أوثق ارتباط بمعرفة مستوى الوعي الاجتماعي السياسي العام الذي أنتجها؛ وهو وعي كان ، ولا يزال ، محكوما بعاملين متضافرين : أولهما،التأخر التاريخي الذي كشف عبد الله العروي وياسين الحافظ عن أبرز تجلياته،ولا سيما في المستوى الأيديولوجي – السياسي ، بصفته محصلة جميع المستويات الأخرى . وثانيهما " الاختراق الإمبريالي "و"أعراض المسألة الشرقية" كما أوضحها خلدون حسن النقيب في كتابه المهم " الدولة التسلطية في المشرق العربي" ؛إذ "تتحول معها الجماعات الوطنية إلى شراذم تتبناها الدول الإمبريالية المتنافسة وتتلاعب بها ، مانعة اندماجها في كيان سياسي متناسق قابل للحياة بشكل مستقل عن هيمنتها . ويمكن التعبير عن هذا الاختراق كحقيقة تاريخية إما بفكرة التبعية ، أو بفكرة المسألة الشرقية"( النقيب 1996).فالنظام السياسي المخترق هو الذي تلحقه القوى الخارجية بنظامها السياسي ولا تتركه يفلت من قبضتها ؛ فيعيش في مجابهة مستمرة ومتصلة مع هذه القوى . وتختلط فيه القضايا السياسية المحلية والقومية والإقليمية والدولية؛ فلا يفهم المجتمع المخترق من دون الرجوع إلى القوة او القوى المهيمنة، ويكون نظامه السياسي المخترق لعبة سياسية تلعبها القوى الاجتماعية المحلية والإقليمية والدولية في تحالفات متبدلة ومتغيرة .وهذان العاملان حاكمان ، أيضاً ،في الظروف والملابسات التي نشأت الأحزاب السياسية في كنفها ، وفي ضوئهما يمكن تلمس أسباب موران الأحزاب السياسية وتحولاتها وتحولات عضويتها وكوادرها وترحالهم من حزب إلى آخر ، ومن اتجاه إلى نقيضه بسهولة ويسر،وأسباب انقساماتها المتوالية وانفصالها عن كتلة المجتمع ،وأسباب إخفاقها في تحقيق أهدافها المعلنة ، بل أسباب عجزها ، موضوعياً وذاتياً ، عن تحقيق هذه الأهداف .
توكيد أهمية الوعي الذاتي ، أو وعي الذات ، لا يعني بحال من الأحوال التقليل من أهمية الشروط الموضوعية وأثرها في التجربة المعنية ، ولا يعني بحال من الأحوال أيضاً إعادة الاعتبار للإرادوية الذاتوية التي وسمت الأحزاب السياسية العربية بلا استثناء؛بما هي أحزاب أيديولوجية أو مؤسسات أيديولوجية تحولت إلى نوع من مذاهب مغلقة ضمر في كل منها فعلياً مفهوم العام أو الكلي : ( مفهوم المجتمع والشعب والأمة،مفهوم الكلية الاجتماعية أو الجملة الاجتماعية ) الذي هو قوام السياسة وما يمنحها قيمتها ومشروعيتها ومسوغاتها . فالرؤية الخصوصية الحصرية تقبع في أساس النزعة الاستبدادية الشمولية في البلدان التي تسلمت فيها بعض هذه الأحزاب السلطة ( سورية والعراق ومصر والجزائر واليمن وليبيا والسودان وفلسطين ) ، فليس مستغرباً ، وهذه الحال ، تعاضد الأحزاب السياسية الحاكمة في هذه البلدان مع المؤسسات العسكرية ، حتى غدت المؤسسات العسكرية الأمنية والمؤسسات الأيديولوجية والمؤسسات الإعلامية قوام الحياة السياسية، وغدا مجال السلطة فيها المجال الوحيد لممارسة السياسة، بعد أن صبغت الدولة بصبغتها وألغت طابعها العام ، فغدت الدولة دولة الحزب بدلاً من كونها دولة المجتمع . وإلغاء الطابع العام للدولة هو، في الوقت ذاته، إلغاء المجال السياسي للمجتمع ، أو نزع السياسة من المجتمع . وبهذا التعاضد تمكنت السلطات في هذه البلدان من احتكار الثروة والقوة ، وتنسيق بنى المجتمع بما يكفل ديمومتها واستمرار تسلطها على مقدرات بلدانها . وهذا التعاضد هو أساس فساد الدولة وغياب القانون وانتهاك الحقوق ، وفي مقدمتها حقوق الإنسان والمواطن ، وحلول مبدأ الولاء ومبدأ الامتيازات محل مبدأ الحق ومبدأ القانون.فاللاشعور السياسي ما يزال مرتكزاً على: القبيلة ( = العصبية ، وهي هنا العصبية الحزبية ، إحدى استحالات العصبية القبلية أو العشائرية أوالمذهبية ) والغنيمة ( الخراج ،وهو هنا إقطاع المناصب للموالين ما داموا على ولائهم ، وهو ما يذكر بالسياسة المملوكية ) والعقيدة ( = الأيديولوجية التي تحتكر الحقيقة لنفسها ) .اللاشعور السياسي هذا يعيد إنتاج الطابع المملوكي / العثماني للسلطة ، ولا سيما الانفصال بين السلطة والشعب ، بين الحاكم والمحكوم، فالسلطات الحزبية الحاكمة في بعض الأقطار العربية كإله إسرائيل ، اختارت شعوبها وجعلت من محازبيها ومشايعيها ومواليها ومماليكها شعبها المختار. إن مبدأ الحزب الواحد أو الحزب القائد نتيجة منطقية للنزعة الخصوصية الحصرية الاقصائية التي لا مكان للآخر عندها سوى السجن أو القبر أو المنفى .
المراحل الأساسية في تطور التجربة الحزبية :
تتجلى آثار الشروط الموضوعية في التجربة الحزبية ، إذا نظرنا إليها في ضوء المراحل التي مر بها تطور معظم البلاد العربية ؛ وهذه المراحل هي :
أ – المرحلة الكولونيالية (مرحلة الاستعمار المباشر) التي تمحورت فيها الحركة السياسية على مطلب الاستقلال الوطني والحياة الدستورية ،وكان هذا المطلب جامعاً،وموحداً باستثناءات محدودة هنا وهناك يتعلق بعضها بمواقف الأحزاب الشيوعية من هذه المسألة في ضوء سياسة الكومنترن " الأممية " .ويتعلق بعضها الآخر بتحالفات الفئات الاجتماعية المحلية والإقليمية والدولية .
ب -المرحلة الليبرالية التي أعقبت الاستقلال السياسي غير الناجز، والتي شهدت بروز المسألة الاجتماعية مسألة محورية ملازمة للمسألة القومية ،ولا سيما مسألة الوحدة العربية وقضية فلسطين.وقد وسم اختلاف مواقف الأحزاب السياسية وتباينها من هاتين المسألتين الحياة السياسية برمتها.إلا أن الأحزاب في تلك المرحلة كانت تعبر عن مواقفها صراحة وعلناً في الصحافة الحرة وفي البرلمانات حيثما وجدت وفي تحالفات القوى تحت قبابها أحياناً،أو في ميدان المعارضة العلنية أحياناً أخرى .
ولعل من أبرز سمات تلك المرحلة ثلاث : أولها ، جدلية السلطة والمعارضة ، أي وحدتهما التناقضية التي كانت تفسح في المجال لضرب من مشاركة سياسية مفتوحة على إمكانية تداول السلطة سلمياً ، على الرغم من بروز دور المؤسسة العسكرية ، وتوالي الانقلابات العسكرية،ولا سيما في أقطار المشرق العربي. فقد وقع في البلدان العربية بين عامي 1935و 1987 ثمانية وسبعون انقلاباً عسكرياً نجح منها سبعة وأربعون (خلدون حسن النقيب 1996) . والثانية ، تواصل ما بين السلطة والشعب ، بين الحاكم والمحكوم. والثالثة ، الحوار الضمني والصريح بين الأحزاب السياسية ،أسهم فيه المثقفون بصورة أساسية،مما يشير إلى ظاهرة فرعية هي ارتباط السياسة بالثقافة ارتباطاً لم يلغ الاستقلال النسبي للثانية، وهو استقلال لم يصنه المثقفون ولم يحافظوا عليه إزاء ضغوط السلطات من جهة وضغوط الأحزاب السياسية نفسها من جهة ثانية . وقد أسهم اليسار العربي ، بكل أسف ، في تعزيز سيطرة المجال السياسي على المجال الثقافي وصولاً إلى تبديد الثاني وإلغاء فاعليته؛ فأسهمت بذلك في إعادة إنتاج التقليد السياسي الذي يحصر الثقافة في دائرة السلطة السياسية ، سواء كانت هذه السلطة سلطة الدولة أم سلطة المعارضة التي اكتست طابعاً مذهبياً . كما كان للنموذج السوفييتي أسوأ الأثر في تعزيز الميول الشمولية لدى السلطات الحاكمة ولدى الأحزاب على السواء.في هذه المسألة المهمة، بل المركزية لم يكن موقف اليسار العربي مختلفاً عن موقف التيار الديني السلفي الذي قطع هو الآخر مع فكر النهضة ومحاولة الإصلاح الديني بصورة متدرجة بلغت ذروتها وتمامها مع سيد قطب وكتاب " معالم في الطريق " الذي تحول إلى منهاج ثابت لأحزاب هذا التيار وجماعاته .
في هذه المرحلة أيضاً انطلقت سيرورة تسييس أدت إلى ظهور فئات اجتماعية جديدة على المسرح السياسي،ولا سيما الفئات الوسطى والفلاحون وفقراء المدن ، وسيكون لظهورها أبعد الأثر في نمو الطابع الشعبوي للأحزاب السياسية ، وغلبة الطابع الريفي عليها فيما بعد ، وسيؤدي إلى اتساع نفوذ الأيديولوجية التقليدية في صفوفها ، وإلى تآكل طابعها المدني الحديث تدريجياً ، وسيحد من الدور التمديني للمدن والمراكز الحضرية ، وصولاً إلى انتهاكها والإجهاز على مكتسبات الحداثة فيها ،ولا سيما الصحافة الحرة والبرلمانات والنقابات وصولاً إلى حل الأحزاب في سورية ومصر أواخر الخمسينات . في ظل عملية التسييس هذه نمت الأحزاب السياسية نفسها ، وبدأت تكتسب نوعاً من مشروعية شعبية جراء موقفها من المسألة الاجتماعية والمسألة القومية خاصة ، وبدا أن ثمة تواصلاً واندماجاً بين الحركة الشعبية العفوية والحركة السياسية التي أخذ طابعها النخبوي بالضمور.ويبدو لنا أن الأحزاب السياسية " الثورية " ، دينية كانت أم علمانية ،التي أجهزت على مكتسبات الحداثة وتنكرت لها إنما تنكرت لمبدأ تكونها هي ذاتها ، أعني مبدأ الحقوق المدنية والحريات السياسية .
ج - المرحلة الثورية : التي دشتنها ثورة 23 تموز / يوليو في مصر عام 1952 ، وأبرز سماتها ، مما يتعلق بموضوعنا :
1- نمو الحركة الشعبية على نحو لم يشهد له تاريخنا الحديث مثيلاً، وحظر الأحزاب السياسية وإلغاؤها في مصر،ثم في سورية عام 1958 ، وحصر السياسة في دائرة السلطة ذات الطابع العسكري . ويبدو التناقض صارخا هنا بين نمو الحركة الشعبية وحل الأحزاب وحظرها ؛ مما ألجأ بعض الأحزاب والحركات إلى العمل السري الذي سيغدو قاعدة العمل السياسي غير الحكومي ، أسوة بالدول العشائرية التي ترفض الأحزاب رفضا قاطعاً كالسعودية ودويلات الخليج العربي .هذا التناقض سوف يطبع الحياة السياسية في معظم الأقطار العربية ولا سيما في المشرق العربي، باستثناء لبنان الذي ظل رئة المشرق العربي للثقافة والسياسة حتى نشوب الحرب الطائفية عام 1975 .
2- حلول مفهوم الثورة محل مفهوم النهضة ومفهوم التقدم ، وإدانة مفهوم الإصلاح والنمو التدريجي باسم أيديولوجية ثورية عصابية متطرفة يتألف العالم عندها من لونين : أبيض وأسود فقط، ويتألف المجتمع من المحازبين والمناصرين في جانب والأعداء في الجانب الأخر، وهؤلاء الأعداء شر مطلق يجب استئصاله، وهم دوماً عملاء للرجعية والإمبريالية والصهيونية، أو عملاء لموسكو، ولا فرق. ولعل القطيعة التامة بين فكر "الثورة" وفكر النهضة، وهي ليست قطيعة معرفية أو منهجية، من أبرز سمات الأحزاب السياسية في هذه المرحلة. وليس للمرء أن يفهم هذه القطيعة اليوم إلا بدلالاتها السياسية، أي بنمو الميول الاستبدادية والشمولية لدى السلطات الحاكمة والأحزاب السياسية كافة على السواء . وقد عززت التجربة السوفيتية التي كانت نموذج "الثورة الاشتراكية" هذه الميول . فهناك أيضا كان الحزب ينفرد بالسلطة ويفرض عقيدته على الدولة والمجتمع ويسيطرعلى مقدرات البلاد ويصفي المعارضة في داخله وخارجه ويلغي الحياة السياسية ويجبر الناس على أن يشربوا ماء البحر ويقولوا: إنه عصير الليمون .
3 - الإجهاز على مكتسبات المرحلة الليبرالية السابقة التي أشرنا إليها ،ولا سيما الصحافة الحرة والبرلمانات والنقابات الحرة وشرعية المعارضة العلنية ؛ إذ من بوسعه أن يعارض الخير المطلق والحقيقة الناجزة ولا يكون شيطاناً رجيماً ؟ هذا كان منطق السلطات الحاكمة والأحزاب "اليسارية واليمينية"، على السواء .وهو منطق يحول السياسة إلى حرب ، وقد عانت الشعوب العربية من هذه الحرب أشد المعاناة ( اقتتال البعثيين والناصريين ثم اقتتال البعثيين فيما بيتهم في سورية والعراق وتصفية أعداد كبيرة من الشيوعيين في العراق والاقتتال بين فصائل جبهة التحرير الوطني الجزائرية والاقتتال بين فصائل منظمة التحرير الوطني الفلسطينية والاقتتال بين جناحي الحزب الاشتراكي اليمني والحرب الدائرة حتى اليوم في الجزائر .. وغيرها كثير)
4 – حلول مبدأ التعبئة والتجييش محل مبدأ التسييس واستيعاب الحركة الشعبية في الأطر التنظيمية السلطوية ونزع مضمونها السياسي، وتحويل المجتمع والشعب إلى مادة أو موضوع للسلطة السياسية وإخراجهما تدريجياً من عالم السياسة ومع إخراج المجتمع والشعب من عالم السياسة أخذت الأحزاب السياسية، بما فيها الأحزاب المعارضة بالخروج تدريجياً من عالم الشعب الذي بدأ يتحول إلى عالم مفقر وكئيب ، وغدت حركته أقرب ما تكون إلى حركة اعتماد أو إلى دوران عقيم حول الذات .آية ذلك أن السلطات أخذت تتحدث وتترسمل والمجتمعات تزداد تأخراً وتعيد إنتاج بناها وعلاقاتها ماقبل القومية .
5 – تبلور ملامح الدولة الشمولية ومقابلها المجتمع الجماهيري ، وبزوغ الثقافة الجماهيرية التي يتحول معها الفكر إلى أيديولوجيا والثقافة الرفيعة إلى إعلام وإعلان ، ويبرز أكثر فأكثر الطابع المحلوي للثقافة التي تكاد تختزل إلى فولكلور . ومع نمو التعليم وتوسعه أفقياً تنمو الأمية الثقافية والفقر النظري ويضمر الروح الإنساني ويضوي وتضطرب منظومة القيم والأخلاق الذاتية والموضوعية .
6 –إذا كانت الأحزاب السياسية القائمة اليوم تنتمي حقاً إلى الفئات الوسطى ، وأن الفئات الوسطى قد سيطرت حقاً على المجال السياسي المجتمعي ؛ فإن تعارضاتها الداخلية هي بالأحرى تعارضات عقيمة لا تؤدي إلى نشوء تركيب جديد يحتوي القطبين المتعارضين ويتجاوزهما في الوقت ذاته ،أي إنه لا يؤدي إلى تقدم. ذلك لأن هذه التعارضات ملازمة للفئات الوسطى ولا تحل إلا في سياق حل التعارض الأساسي في المجتمع ، لاسيما أن الفئات الوسطى هي التي ترفد كلاً من الفئات العليا والفئات الدنيا بعناصر جديدة باستمرار وتنضم إليها منهما عناصر جديدة باستمرار . لذلك كان صراعها أقرب ما يكون إلى صراع البقاء الذي نشاهده على الشاشة الصغيرة : القوي يفترس الضعيف من دون أن ينشأ عن هذا الافتراس نوع جديد أو حالة جديدة .ومن ثم فإن الصراع فيما بينها كان ولا يزال صراعاً عقيماً لا ينتج عنه سوى إضعاف المجتمع ولجم تقدمه . فتعدد الأحزاب واختلاف برامجها ورؤاها الأيديولوجية ، ثم انقسام كل منها إلى أحزاب متعادية أشد ما تكون العداوة، لا يعني في نهاية التحليل سوى تشظي المجال السياسي المجتمعي وتفكك الروابط والعلاقات الاجتماعية الحديثة التي أخذت في النشوء، وانتعاش الروابط الأولية والبنى والعلاقات ما قبل القومية.فما الذي نجم عن الصراع الدموي الذي شهده ما كان يسمى اليمن الجنوبي؟ وما معنى الحرب في سبيل توحيد شطري اليمن ، وهل توحد الحرب البلاد وتقضي على العلاقات العشائرية والجهوية وما إليها ؟وهل كان الطاغية صدام حسين وحدوياً في اجتياح الكويت ؟ يجب أن تنفك قضية الوحدة العربية عن الطغيان ويكون مضمونها معادياً للاستبداد والطغيان من المبدأ والمنطلق. وما الذي نجم عن اقتتالات فصائل منظمة التحرير الفلسطينية ؟ وما الذي يمكن أن يسفر عنه الصراع الهمجي الدائر إلى اليوم في الجزائر؟ألم تسم أحزاب يسارية الحرب الطائفية القذرة في لبنان حرباً طبقية ثورية وتقدمية ووطنية على الرجعيين والرأسماليين والانعزاليين ؟ إذا كانت الثورية والتقدمية والوطنية تعني القتل والتدمير الذاتي فبئست من ثورية وتقدمية ووطنية وبئس الوعي الذي يظنها كذلك . وإذا كانت الجماعات الدينية المتطرفة التي تنتهج العنف وتكفر المجتمع والدولة (وهي أحزاب سياسية تعيش حالة نكوص إلى البدائية والهمجية )، إذا كانت هذه الجماعات تبيح القتل والتكفير باسم الدين الذي انتشل البشرية من حالة الحيوانية والافتراس ووضعها على طريق صيرورتها إنسانية عاقلة وروحية واجتماعية ، فبئس الوعي الذي يخفّض الدين إلى أداة لأسوأ سياسة ولأسوأ دنيا ولأدنأ الغايات والمصالح .
7 – حلول المشروعية الأيديولوجية الثورية ، الكفاحية والانقلابية ، محل المشروعية السياسية الشعببية أو المجتمعية ، ( كتاب الأيديولوجية الانقلابية للدكتور نديم البيطار مثال ساطع على الذهنية السياسية في تلك المرحلة ). فالسياسة لم تعد فاعلية مجتمعية حرة ، بل فاعلية سلطوية – دولتية وحزبية فحسب .
لاشك أن هذه المرحلة التي نحن بصددها محاولة نهضوية إذا نظرنا إليها من زاوية النزوع العميق والجذري للاستقلال والتطلع إلى العدالة الاجتماعية والوحدة القومية، ومن زاوية المعاداة الجذرية أيضاً للاستعمار والإمبريالية والصهيونية، ومن حيث الرغبة، مجرد الرغبة، في بناء مجتمع حديث ودولة قومية اشتراكية ، ربما وفق النموذج السوفييتي أوالصيني ، ومن زاوية مفهوم التحرير ، ولكنها محاولة لم تنفذ إلى قاع المجتمع العربي والأسس التي يقوم عليها ، ولعل هذا ما وسم الحركة السياسية برمتها بالثورية السياسية والمحافظة الاجتماعية .
ويمكن القول : إن تحولات الأحزاب السياسية كانت نتيجة موضوعية لهذا التطور الذي أشرنا إلى بعض ملامحه . وتبدو لنا اليوم آثار ما اصطلحنا على تسميته بالمرحلة الثورية أكثر عمقا وأبعد غورا في بنى الأحزاب السياسية كافة حتى لتكاد تكون وليدة هذه المرحلة. بيد أن ما تجدر الإشارة إليه أن مفهوم السياسة لدى هذه الأحزاب لم يتعد إدارة شؤون الحكم وتنسيق بنى المجتمع بما يتناسب وأهداف الحزب ومصالحه . لذلك كان مضمون السياسة ، ولا يزال ، هو النزاع على السلطة، لكي تستأثر العشيرة بالغنيمة وتفرض عقيدتها على المجتمع . فكل حزب يرى في نفسه أنه المؤهل الوحيد للحكم ، وأن السلطة ، وليس السياسة ،هي الأداة الضرورية لتحقيق أهدافه. وعلاوة على ذلك فإن الأحزاب السياسية العربية كانت ولا تزال محكومة بأحد تناقضين:إما التناقض بين أيديولوجيتها الثورية وأهدافها المحافظة ، وإما التناقض بين أهدافها الثورية وأيديولوجيتها ومناهجها التقليدية المحافظة . هذا إذا أخذنا المزاعم الأيديولوجية الثورية للأولى والأهداف الثورية للثانية على محمل الجد .(وليس شعار الدولة الإسلامية وحاكمية الله أقل ثورية من شعار الثورة الاشتراكية أو شعار المجتمع الاشتراكي العربي الموحد). فنقد مفهوم الثورة والثورية ، اليوم ، مدخل ضروري لكشف النقاب عن الأسس المعرفية والذهنية / النفسية وعن الأسس الاجتماعية والسياسية الفعلية الغائرة في بنى الأحزاب السياسية العربية كافة .
في ضوء هذه التحديدات الأولية ، وفي ضوء الافتراض أن المرحلة الثورية كانت أكثر تأثيراً في بنى الأحزاب السياسية ؛ يمكن الحديث عن بعض خصائص الأحزاب العربية،ومن ثم،عن مستقبل الخريطة السياسية الراهنة،واحتمالات إعادة إنتاج السياسة في المجتمعات العربية.
بعض خصائص الأحزاب السياسية العربية :
تنتمي جميع الأحزاب السياسية العربية ،القائمة اليوم ، إلى الفئات الوسطى في المجتمع / المجتمعات العربية ، هذه الفئات التي " ملأت المجال السياسي المجتمعي" ، وحالت ، بعد أن وصل بعضها إلى السلطة بقوة الجيش ، حالت دون قيام أحزاب سياسية تمثل فئات المجتمع الأخرى كالبورجوازية الوطنية والعمال والفلاحين ، ومارست أقبح ألوان العسف على الأحزاب المعارضة . والمفارقة اللافتة أن هذه الأحزاب تتنكر لانتمائها الاجتماعي الفعلي ، وتدعي تمثيل فئات اجتماعية أخرى أو تمثيل جميع فئات الشعب وجميع أبناء الأمة المخلصين أو جميع المسلمين المؤمنين أو المسلمين الحقيقيين من وجهة نظرها . وقد جاء وقت كانت فيه صفة البورجوازية الصغيرة ذات معنى تحقيري لدى جميع الأحزاب اليسارية، مع أن عضوية هذه الأحزاب وكوادرها ومعظم قادتها ينتمون إليها ، ومع أن الفئات الوسطى تؤلف أكثرية الشعب ، ولشد ما يعجب المرء من إنكار الأحزاب اليسارية خاصة انتماءها إلى هذه الفئات وإلى هذه الأكثرية. هذه المفارقة تكشف عن حقيقة أن الأحزاب السياسية العربية كانت ، ولا تزال ، تعيش في عالم من صنع أفكارها وأوهامها وتنكر واقعها الفعلي وحقيقتها الواقعية .
-الأحزاب التي تسلمت السلطة في أي من أقطار الوطن العربي ألغت نفسها إيجابيا في السلطة وغدت هي هي ، وتحولت أيديولوجيتها إلى نوع من دين الدولة تحاول أن تفرضه على الشعب بشتى الوسائل والسبل ، وتحولت إرادة قيادتها خاصة إلى قانون ، أين من سموه وقدسيته سمو القانون وقدسيته . ولأنها تنظر إلى نفسهاعلى أنها القوة الخيرة التي أنقذت البلاد والعباد لم تشعر بالحاجة إلى قانون غير قانونها الخاص، بل فرضت على الشعب أن يؤدي لها فروض الطاعة والولاء وتراها لا تقبل بالاختلاف ولا تطيق المعارضة ، سواء في داخلها ومن داخلها أو من خارجها . أما الأحزاب المعارضة التي لاتنتهج سبيل العنف ولم تشارك في السلطة تلك المشاركة الصورية، التي جعلت من الأحزاب المشاركة فيها استطالة للسلطة في نظر الشعب واستطالة للمعارضة في نظر السلطة ؛فقد وضعتها عزلتها عن المجتمع من جهة ، وضغوط السلطة من جهة أخرى ، في الهوة الفاصلة بين المجتمع والدولة / السلطة أو في الهوة الفاصلة بين السلطة والشعب ، ففقدت فاعليتها ، وإن لم تفقد نزاهتها واستقامتها . وهذه أيضاً ليست بريئة من عدم الاعتراف بالاختلاف وحرية الرأي وأهمية الحوار الداخلي والحوار مع الآخر،ولا من عدم الاعتراف بأهمية الفكر أداة ضرورية لتأسيس رؤيتها السياسية لمشكلات مجتمعها وتعارضاته الملازمة وميول تطوره وإمكانات تقدمه ، ولبناء تصورها الاستراتيجي في ضوء منطق الواقع ببعديه العالمي والتاريخي . وإذا كان هم الأحزاب الحاكمة هو الحفاظ على سلطتها وامتيازاتها ، فلا تستطيع سوى تطوير وسائل عنفها وأساليب هيمنتها، فإن هم الأحزاب المعارضة هو المحافظة على ذاتها ، مما وسمها جميعاً بالمحافظة والجمود.ومن البديهي أن من لا يتقدم لا بد أن يتراجع فالحياة لا تقبل الثبات والسكون مطلقين .وفي ضوء ذلك يمكن القول: إن الأحزاب السياسية التي تزامنت ذروة نشاطها وفاعليتها مع ذروة المرحلة الثورية، أخذت تتراجع وتتآكل مع تراجع الحركة الشعبية وهمود المجتمع وضمور مؤسساته وانهيار مقومات الدولة الوطنية، وانهيار المشروع القومي أو محاولة النهضة العربية الثانية التي قادها عبد الناصر ، وهي اليوم أقرب ما تكون إلى بنى متخشبة تعيش على "أمجاد الماضي". وتجدر الإشارة إلى أن عضوية الأحزاب الحاكمة ، وهي الكتلة الأكبر في الجسم السياسي العربي ، أبعد ما تكون عن السياسة بأي معنى من معانيها، وأبعد ما تكون أيضا عن جمهور انتخابي لأحزابها لو جرت انتخابات حرة ونزيهة بعيدة عن تدخل الأجهزة الأمنية ، وبعيدة عن بسطار العسكري وخنجر الشيخ .اللهم باستثناء الهرم البيروقراطي من ذوي الامتيازات .
-لا يعترف أي من الأحزاب السياسية العربية بأنه جزء من المجتمع , وأن صفته التمثيلية لا تتعدى عضويته وأنصاره وناخبيه، في حال وجود انتخابات ، ولا يعترف من ثم بأنه محدد بالكل الاجتماعي ومرتبط به ارتباط الجزء بالكل ، بل إن كلاً منها يزعم ، وربما يتوهم ، أنه يمثل الشعب أو الأمة أو الطبقة الفلانية أو الإسلام والمسلمين ، ويدعي أنه المؤتمن الوحيد على مصالح الشعب وتطلعات المجتمع وأهداف الأمة ، فيحل جزئيته وخصوصيته محل كلية المجتمع وعموميته وهذا هو جذر الاستبداد ." فمن ليس في فكره وفي روحه المطلق يحول نسبيَّه إلى مطلق وذلكم هو الاستبداد" (بحسب الياس مرقص)،من ليس في فكره وفي روحه العام والكلي قيمة عليا ووازعاً داخليا ، ومن لا يعترف اعترافاً مبدئياً ونهائيا بجزئيته وتبعيته للكل وتساويه مع سائر الأجزاء وسائر الأفراد،لا يستطيع أن يكون إلا مستبداً وطاغية. وإذا كان النقاد والباحثون وعلماء الاجتماع يجمعون على وصف السلطات الحزبية بالاستبداد ، وإذا كانت هذه السلطات استبدادية بالفعل ، فإن الأحزاب المعارضة سلطات مستبدة بالقوة . فهل قدر مجتمعاتنا أن تستبدل بالاستبداد استبداداً آخر وبالمستبد مستبداً آخر ؟
- لا تعترف الأحزاب السياسية ،إلا استثناءات نادرة ،بقيمة الفكر بوصفه شكل العالم وبوصفه قبساً إلهيا ، روحياً، ينير سبل العمل ، ولا بالثقافة بوصفها تشكيلا للعالم في أذهان البشر، ولا بضرورتهما لتجديد أفكارها ورؤاها وتسديد ممارستها ؛ لذلك تراها تهمش المثقفين في صفوفها ،ثم تنبذهم مكللين بالشوك، في حين تمجد البلاغة والخطابة وذرابة اللسان وتتقن فن اغتيال المعنى وفن التلبيس والتضليل ، ولا تعبأ بالتربية ولا تعي ضرورتها وأهميتها في بناء الوعي الاجتماعي، فلا تجد بين قادتها ومناضليها وكوادرها ، إلا نادرا ،من ينتج فكراً أصيلاً أو يسهم في إغناء ثقافة مجتمعه.والمصابون بعقدة الهوية من هؤلاء يزدرون"الفكر المستورد"ويستوردون بل يهربون ،آخر الصرعات والموضات من "بلاد الكفار"وتأنف نفوسهم الشريفة الإنتاج المحلي ؛ لأنهم كانوا دوما عالة على الإنتاج المحلي وعلى هامش عملية الإنتاج الاجتماعي التي أمعنوا في تدميرها وأقاموا أمجادهم على أشلائها ، وأغرقوا بلدانهم بالديون حتى باتت رهائن للدول الدائنة وللبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وغيرهما. وهي إلى ذلك لا تعرف الحوار ولا تعترف بأهميته وضرورته بوصفه شقيق الديالكتيك ينتج دوماً حقيقة جديدة ليست لأي من المتحاورين أو المتحاورين لأنها فيهما أو فيهم جميعاً . فلأنها لا تعرف الحوار الداخلي ( المونولوغ) غلب عليها الجمود العقائدي وتخشبت بناها الداخلية وأصابها نوع من تثبيت في مرحلة الطفولة ( حسب مصطلح علم النفس) ،
ولأنها لا تعرف الحوار الخارجي ( ديالوغ) انغلق كل منها على ذاته فأعادت إنتاج التحاجز الاجتماعي في الحقل السياسي ، وغدت بنى سياسية "حديثة" موازية للبنى الاجتماعية التقليدية تقوم بالوظيفة ذاتها التي تقوم بها هذه البنى، أعني إعاقة الاندماج القومي والاجتماعي .
- غاب عن الأحزاب السياسية العربية بلا استثناء مفهوم الإنسان وقضية الإنسان ومن ثم قضية حقوق الإنسان، ونجم عن ذلك غياب مفهوم التعدد والاختلاف والتعارض،قوام وحدة المجتمع ووحدة الأمة ,ووحدة الحزب وقوام الوحدة بوجه عام. وكان مفهوم وحدة المجتمع أووحدة الأمة أو وحدة المسلمين أو وحدة الحزب عندها يعني نفي التعدد والاختلاف والتعارض، نفي تعدد الآراء واختلاف وجهات النظر وإنتاج نمطية تماثلية تلغي أفرادية الواقع ، ولا تعترف بكيان الفرد الطبيعي والاجتماعي والسياسي ولا بصفته الإنسانية الكلية، فإما أن يتكيف عضو الحزب مع النمط الذي حدده النظام الداخلي،وهو نظام يقوم على مبدأ الواجبات الذاتي وليس على مبدأ الحقوق الموضوعي،وإما أن يكون ناشزا وخارجاً على الجماعة،ومن شق عصا الطاعة وخرج على الجماعة مباح قتله بأي معنى من معاني القتل .من هذه الزاوية يمكن دراسة التجربة الحزبية في ضوء مفهوم الاستلاب أو الاغتراب، استلاب الروح الإنساني في أحد أشكال التحديد الذاتي للجماعة وصيرورة هذا الشكل قوة غريبة تسمو على الأفراد وتتكثف فيها معاني القوة والعصمة والقداسة ، وتقوم الأيديولوجية بدور الغطاء الذي يخفي حقيقة هذا الاستلاب بقدر ما تخفي الواقع الحقيقي بعمليات التحوير والتأويل والبتر والحذف التي تمارسها علية . إن حلول مفهوم الطبقة أو الأمة أو الجماعة محل مفهوم الإنسان في مركز المنظومة الفكرية السياسية هو أس الاستبداد.وهل للاستبداد من معنى آخر سوى إنكار وجود الأفراد الواقعي ومن ثم إنكار حقوقهم وحرياتهم ، وإنكار أفرادية الواقع واختلاف مكوناته وتعارضها ؟ وهل الاستبداد سوى فرض إرادة متعسفة على الآخر ؟ إن أحداً لا يستطيع أن يفرض حتى السعادة على الآخر من دون أن يدمر مقومات سعادته ذاتها. فرؤية الأحزاب السياسية كافة رؤية حولاء أحادية الجانب،ترى التماثل ولا ترى الاختلاف وترى الوحدة ولا ترى التعدد وترى المثال ولا ترى الواقع .. في حين لا تماثل بلا اختلاف ولا وحدة بلا تعدد ولا مثال بلا واقع . أن غياب مفهوم الإنسان والمفاهيم المرتبطة به ارتباطا ضروريا والمفاهيم الحافة بها أيضا هو الذي حال دون تجديد بناها وإطلاق حيويتها وإقامة الحوار فيما بينها ومع المجتمع .
في ضوء هذه السمات وغيرها مما يذهب إلى الأسس والمبادئ التي قامت عليها الأحزاب السياسية العربية يمكن فهم خطابها الأيديولوجي السياسي أو السياسي المؤدلج وفحص مدى حقيقية شعاراتها وأهدافها المعلنة وتفسير خطابها المزدوج وتفارق برامجها وممارساتها وتفارق تصوراتها ونتائج أعمالها ، ومن ثم أسباب إخفاقها وانكسارها مع انكسار المد الشعبي النهضوي. إن بعض أسباب إخفاق المحاولة النهضوية هي ذاتها أسباب إخفاق الحركة السياسية ، يضاف إليها أن بنى الحركة السياسية كانت من أسباب إخفاق المحاولة النهضوية . وتبدو الأحزاب السياسية اليوم تعبيراً عن أزمة المجتمع والدولة وليس رافعة لتجاوزها ولاسيما في ظل العولمة الأمريكية المنفلتة من كل عقل وعقال ، وفي ظل تآكل السيادة الوطنية للدول المندرجة في نظام الأمن القومي الأمريكي . مما يشير إلى أن مسألة الاستقلال الوطني/ القومي الناجز ما تزال على جدول الأعمال ، وأن ضمانة الاستقلال الوطني الناجز تكمن حصرا في بعده القومي ،وتشير من ثم إلى أن الأحزاب السياسية جميعها مدعوة إلى العودة إلى المبدأ الوطني / القومي الديموقراطي الجامع والموحد ، على أن يكون الإنسان في مركز وعيها وبؤرة مشروعها الاجتماعي السياسي ، فماذا تعني حرية الأوطان واستقلالها إذا لم يكن المواطنون أحراراً مستقلين وموفوري الكرامة ؟
ولابد للبحث الموضوعي المتأني من تحليل أو تفكيك خطابات الأحزاب السياسية المختلفة للوقوف على تقاطعاتها التي تحيل ، كما أدعي ، على الأسس العرفية المشتركة أو المتماثلة التي تقوم عليها هذه الأبنية التي تبدو لنا مختلفة ومتفارقة ، ولتحديد الفروق الواقعية الضرورية وتمييزها من الفروق الوهمية أو الأيديولوجية ، والكشف من ثم عن الحقائق الواقعية القابعة تحت سطح النزاعات الأيديولوجية التي وسمت الحياة السياسية العربية في النصف الثاني من القرن العشرين .
مبادئ قابلة للبناء عليها :
المسائل التي أشرنا إليها بأسلوب نقدي قد يرى فيه بعضهم تحاملا على هذه الأحزاب ، لا ينفي إيجابياتها ولا يقلل من أهمية نضالاتها ، لا سيما أننا أشرنا إلى مضمون الحركة السياسية التي عبرت عنها هذه الأحزاب في كل مرحلة من مراحل تطور الحياة الاجتماعية السياسية ، وإلى ارتباطها الوثيق بالمرحلة الثورية التي أعادت صوغها وفق معطياتها المحلية والعالمية . ولكن الباحث المنصف لا يستطيع التغاضي عن النتائج الواقعية المتحققة التي استدعت هذا النقد , ومفارقتها للأهداف والتطلعات الذاتية ، فحساب البيدر كان مفارقا جداً لحساب الحقل . والمنهج الواقعي يبدأ بتحليل النتائج ليكشف عن أسبابها الفعلية المباشرة وغير المباشرة وتحديد ما هو أساسي وحاسم منها ، وليس من المصادرات والمزاعم الذاتية أو من الفروض النظرية . ففكرة أي حزب عن نفسه لا تكفي للحكم له أو عليه .
بيد أن ما تجدر الإشارة إليه أن الأحزاب السياسية الحديثة كانت ولا تزال تعبيراً عن ضرورة واقعية ومنطقية ، تاريخية ، هي ضرورة التنظيم مقابل العشوائية والفوضى التي تسم المجتمع المدني بصفته منظومة الحاجات ، المجتمع الذي يعيش فيه الأفراد مسوقين بسائق مصالحهم الفردية الأنانية ورغباتهم وأهوائهم . وتعبيرا عن الطابع الضروري أيضا للمجال السياسي الذي ينتجه المجتمع في سياق عملية الإنتاج الاجتماعي بمعناها الواسع ، أي إنتاج الثروة المادية والثروة الروحية بالتلازم . ومن هنا كانت حداثة المجال السياسي وانفتاحه على إمكانات ديموقراطية وإنسانية مرهونة بتحديث المجتمع نفسه وبتحديث وعيه خاصة ،وهنا تبرز مسألة الهوية بكل منطوياتها وتعقيداتها وطابعها الإشكالي .فدراسة التجربة الحزبية في أي مجتمع لا بد أن تنطلق من العلاقة الجدلية بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي ، أي من فكرة إنتاج المجتمع تمثيلاته الثقافية والسياسية ، وإلا سيكون موضوع الدراسة جواهر مفردة ولا تاريخية،وفي هذا المستوى تكون الأحزاب السياسية القائمة اليوم أحسن ما أبدع الله . كما أن البحث الموضوعي لا يستطيع أن يتجاهل أثر الأحزاب السياسية في نمو الوعي الاجتماعي واغتنائه بمضامين جديدة وطنية وقومية وعدالية اشتراكية وببعض المفاهيم الليبرالية والديمقراطية ، على الرغم من انتكاسه في العقدين الأخيرين . ولا يستطيع أن يتجاهل كذلك أثرها في عملية تسييس دوائر واسعة من المجتمع ، على ما شاب هذه العملية من أخطاء وهنات ، فإمكانات إعادة إنتاج الحياة السياسية مدينة لهذه التجربة المهمة ، فلا يمكن إعادة الإنتاج انطلاقاً من الصفر . وفي جميع الأحوال إن التجربة الحزبية العربية هي تجربة المجتمعات العربية ، وليس بوسعها أن تتنصل من هذا الحزب أو ذاك أو من هذه الجماعة أو تلك، لأن هذه الأحزاب مجتمعة تعبير عياني عن مستوى وعيها وفاعليتها السياسية .
ثمة اتجاهان اليوم في نقد الأحزاب السياسية:ينطلق أولهما من مقولات العولمة وأيديولوجيتها الليبرالية الجديدة القائلة بانتهاء عصر الأيديولوجيا وانتهاء عصر الدولة القومية ووهمية النزوع الاشتراكي الإنساني كما عبر عنه كارل ماركس وانتهاء عصر الثورات ( وليس الثورانات ) الاجتماعية ، ويذهب هذا النقد إلى تسفيه الأحزاب السياسية القائمة، كأنه يمكن حذفها من التاريخ،وتسفيه فكرة الحزب السياسي من أساسها ، وهو اتجاه يتكامل مع منطق الدولة الشمولية ومع منطق العولمة الرأسمالية في الوقت ذاته . وينطلق الثاني من ضرورة الأحزاب بوصفها الأطر السياسية التي تتحول فيها التعارضات الاجتماعية وتتخذ طابعا مدنياً سلمياً وتفضي إلى تقدم المجتمع وتنفي منه حالة الحرب . وبوصفها تعبيراً عن فاعلية المجتمع السياسية ، وشكلاً ضرورياً من أشكال تحديده الذاتي،وشرطاً لازماً للمشاركة السياسية ، وشكل التوسط بين المجتمع والدولة ،من دونها لا تستطيع الدولة أن ترقى إلى مستوى التعبير عن الكلية الاجتماعية . ولعلها شرط ضروري لتداول السلطة سلمياً . ويهدف هذا الاتجاه الثاني إلى تجديد بنى الأحزاب القائمة الفكرية أولاً ثم السياسية والتنظيمية وإعادة إنتاج السياسة في المجتمع بوصفها الشيء العام المشترك بين جميع الأفراد والجماعات والفئات والطبقات والأحزاب والتيارات الفكرية والأيديولوجية ، وإلى جسر الهوة بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي . ويعتقد الكاتب ، وهو من أنصار هذا الاتجاه ، أن هذه المهمة تقع على عاتق جميع القوى الحية في المجتمع ، ولا سيما المثقفين منها إذ على هؤلاء الذين هم رأس الأمة ومبدعو ثقافتها أن يستعيدوا دورهم السياسي الذي انتزعته منهم السلطات والأحزاب ، والسياسة لا تستنفد في التحزب . ولكن المسألة لا تنحل في النيات الحسنة والإرادة الطيبة، فالتحدي مطروح على الأحزاب نفسها وقد باتت بين خيارين : إما أن تكون وإما ألا تكون ، إما أن تعيد تأسيس أفكارها وتصوراتها وأهدافها على أسس واقعية انطلاقا من نقد ذاتي حازم لتجربتها،فتعيد الإنسان إلى مركز وعيها وإلى بؤرة مشروعها السياسي النهضوي ، وتدافع عن الحقيقة وعن الشعب وليس عن الحزب وتتبنى قضية حرية الفرد وحقوق الإنسان والمواطن بصورة مبدئية ونهائية، وإما أن تظل شاهدة على مرحلة نرجوأن تكون قد شارفت على نهاياتها .
على أن هذه الإمكانية ، مع كونها كذلك ؛ لأن الواقع إمكاني وحمال احتمالات ، مرهونة بجملة من التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية على الصعيدين العالمي والعربي ، نظن أننا قادمون عليها ، إذا لم نكن في "نهاية التاريخ" . ولعل الأحزاب السياسية لا تفوت فرصة الاستعداد لمواجهة هذه التحولات المحتملة ببنى غير بناها القائمة وتصورات غير تصوراتها التي ساقتها إلى ما هي عليه .وفي هذا المجال لا بد من إعادة إنتاج وحدة السلطة والمعارضة الجدلية ، في نطاق المجال السياسي المجتمعي، أي إن الحزب الحاكم يمكن أن يتحول إلى حزب معارض وبالعكس . والعامل المحدد في ذلك والحكم الفصل فيه هو المجتمع المدني . وهذا الخيار الذي يمكن أن يحول دون انفجار المجتمعات العربية مرهون بإعادة الاعتبار للدولة بصفتها تعبيراً عن كلية المجتمع أولاً وبصفتها دولة حق وقانون أساساً. فتجربة الحزب الواحد والحزب القائد أوصلت مجتمعات كثيرة إلى الكارثة .
وإذا جاز أن يطلق المرء لنفسه عنان التمني، فإننا نتمنى ألا يظل صحيحاً قول القائل : إن جميع الفنون أنتجت روائع ،إلا السياسة فقد أنتجت مسوخاً .
بقلم جاد الكريم الجباعي