شهدت السنوات الأخيرة تغييرات في طريقة عمل بعض الحكومات العربية , فقد بدأت النظم السياسية فيها بالانفتاح بطرق تبشر على ما يبدو بالانتعاش للممارسة الديمقراطية في بعض الحالات ؛ أو تبنيها في حالات أخرى . و قد اتخذت هذه الخطوات المشجعة أشكالا جديدة , َتمثل بعضها في المشاركة السياسية و تعديل السلطة داخل مؤسسات الحكم , و تمثل بعضها الأخر في زيادة نشاط المجتمع المدني في توزيع الحيز المتاح للشعب و الدفاع عن الحريات الأساسية , ففي الوقت الذي يشهد العلم فيه تغيرات جذرية و سريعة على اثر بروز العديد من التغيرات على ساحة العلاقات الدولية ؛ يقترب مفهوم الحكم الراشد – أو الديمقراطي أو الصالح – لان يصبح طموحا و شاغلا إنسانيا و دوليا على الصعيد العالمي .. و لقد أعطى هذا المفهوم بعدا جديدا في عصر العولمة باعتباره يعزز و يصون رفاه الإنسان و يقوم على توسيع قدرات و خيارات الدول من خلال ترشيد عملية التنمية الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية منها و في هذا السياق و انطلاقا من النظر إلى الحكم على انه ممارسة السلطة الاقتصادية و السياسية و الإدارية و ... لإدارة شؤون بلد ما – أو حتى منظمة أو مؤسسة –على جميع المستويات من خلال الآليات و العمليات و المؤسسات و الأطر و الإمكانيات المتاحة و ذلك لأجل الوصول إلى الهدف الذي يخدم الصالح العام , وكأحد الشروط الأساسية و الآليات للقضاء على الفساد .
و بالاعتماد على متغير الفساد كمتغير تفسيري لتحليل ظاهرة الحكم الراشد مع وجود متغيرات أخرى لا تقل أهمية عن هذا المتغير إلا أن تحليل ظاهرة الفساد تعتبر كمدخل أو مقترب لفهم ارتباط الحكم الراشد بظاهرة العولمة . على أساس أن الفساد يمثل سوء استخدام السلطة و النفوذ لغايات شخصية و الانتفاع على حساب الآخرين , كما انه يرتبط بالعديد من المستويات و الأصعدة كالمستوى الوظيفي و البيروقراطي ناهيك عن المستوى السياسي و المالي والاقتصادي و...الخ. ومن منطلق افتراض انه لا يمكن التحكم في عملية التنمية دون الحكم الراشد , كما أن محاولة تكييف الحلول الخارجية المستوردة مع طبيعة المشاكل الداخلية المرتبطة بمنظومة قيمية معينة يؤدي إلى التصادم بين المصالح و الغايات داخل المجتمع .
تعريف الحكم الراشد :
• تعريف باكناسكو و لوكاليس Bagnasco et le Galles الذي يرى أن الحكم الراشد هو ذاك النمط من الحكم الذي يسعى إلى تنسيق الأعوان و الجماعات الاجتماعية للوصول إلى الأهداف الخاصة المناقشة و المعرفة بصفة جماعية في محيط و فضاءات غير مؤكدة و مجزأة..
• تعريف ماركو رانجيو و تيبولت Marcou, Rangeon et Thibault يرى أن الحكم الراشد هو تلك الأشكال الجديدة و الفعالة بين القطاعات الحكومية و التي من خلالها يكون الأعوان الخواص و كذا المنضمات العمومية و الجماعات أو التجمعات الخاصة بالمواطنين أو أشكال أخرى من الأعوان يأخذون بعين الاعتبار المساهمة في تشكيل السياسة.
• تعريف فرونسوا أكسافييه موريان Francois Xavier Merrien الذي يرى أن الحكم الراشد هو ذاك النمط الذي يتعلق بشكل جديد من التسيير الفعال .
• أما تعريف و. براند W. Brand فيرى أنه مجموع مختلف الطرق أو الأساليب التي يقوم بها الأفراد و المؤسسات العمومية بتسيير أعمالهم بطريقة مستمرة يطبعها التعاون و التوفيق بين المصالح المختلفة .. كما و يندرج هذا الحكم في المؤسسات الرسمية و الأنظمة المزودة بالصلاحيات التنفيذية و الترتيبات و التعديلات الرسمية التي على أساسها يكون الشعب و هذه المؤسسات قد وقعت بصفة وفاقية لخدمة مصالحها العمة خدمة للمجتمع .
• الحكم الراشد من منظور التنمية الإنسانية هو الحكم الذي يعزز و يدعم و تصون رفاه الإنسان , و يقوم على توسيع قدرات البشر و خياراتهم و فرصهم و حرياتهم الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية , لاسيما بالنسبة لأكثر الأفراد المجتمع فقرا و تهميشا.
من خلال التعاريف السابقة نلاحظ أن مفهوم الحكم الراشد يتضمن قاعدة محددة تقوم على آليات و مؤسسات و فاعلين في الدولة و شركاء اجتماعيين ؛ و أنواع التداخل القائمة بين تلك العناصر , كما و يكمن حصر الأسس المفهوماتية و العملية للحكم الراشد في قدرة المؤسسات و الوحدات في استعمال الإمكانيات و الموارد المتاحة من اجل الوصول إلى الهدف المرسوم.
فما سبق يمكن اكتشاف خصائص الحكم الراشد التي تتبلور فيما يلي :
1. صيانة الحرية لضمان توسيع خيارات الناس .
2. المشاركة الشعبية الواسعة , مع تمثيل شامل لعموم الناس .
3. سيادة القانون و السهر على تطبيقه من طرف جهاز قانوني فعال و مستقل .
4. التسيير العقلاني للدول أو الإدارات و المؤسسات على أساس تحقيق هدف الصالح العام بغية تحقيق تنمية شاملة .
و إن عدنا إلى الخلفية التاريخية للحكم الراشد فان أول ما ظهر هذا المصطلح كان في المؤسسات المالية في عقد الثمانينات ؛ ثم تدريجيا دخل الاهتمام السياسي إذ أصبح من الاهتمامات الكبرى في الخطابات السياسية خاصة في ميدان التنمية الشاملة و ذلك بعد تغيير نوعي في العلاقات الدولية على اثر أفول الاتحاد السوفييتي و ضمور سياسة القطبين و غياب النظام القائم على تعدد الأطراف كذا ظهور متغيرات و مستجدات على الساحة الدولية كالعولمة وبروز الفواعل غير الدول مثل المنظمات الدولية و الشركات المتعددة الجنسيات .. فظهور هذا المصطلح كان نتيجة للفساد المتفشي في العديد من الدول على مستوى القطاعات العليا كآلية و مفهوم جديد يضاف إلى مختلف الآليات و الأطر على كافة المستويات .
مظاهره :
يرى جاك بور فولت Bourgault jaques أن المظاهر الأساسية للحكم الراشد تتمثل في المظاهر المعيارية التي تظهر من خلال:
1. إدراك مشروعية السلطة من طرف الشعب
2. المشاركة في صنع القرار من كافة المستويات ( مواطنين و نخب ).
3. خدمة الصالح العام من خلال الثقافة الإنسانية في تسيير الشؤون العامة .
و مظاهر عملية تتبلور في :
1. الدمقرطة و مشاركة المجتمع المدني .
2. تحسين الفعالية و الكفاءة eggectiveness and efficiency التنظيمية و التسيير العقلاني
3. الاستجابة و الشفافية transparency and responsivness
الحكم الراشد و مسار العولمة :
فعلى اعتبار أن مجمل الدول النامية لاتزال تعاني من ظاهرة تفشي الفساد بين قطاعها ؛ كما أن الحد من انتشاره لا تزال رهينة الإدارة السياسية , فان سير العملية التنموية تبقى مبتورة طالما أن المناخ غير مناسب لذلك . فعل سبيل المثال تعددت أوجه الفساد في الجزائر و تنوعت مظاهره فمنها ما بتعلق بالسلطة و نظام الحكم , ومنها ما يرتبط بالهيكل البيروقراطي للدولة .. الشيء الذي أدى إلى بروز العديد من الممارسات التسلطية و التعسفية بين مختلف تشكيلات المجتمع .
في هذا الإطار عرفت الجزائر في الفترة الانتقالية في الفترة الممتدة من 1999 إلى 2006 تغييرات على كافة المستويات حاول من خلالها النظام السياسي إرساء مفهوم الحكم الراشد بحيث انتهجت الجزائر سلسلة من الإصلاحات في إطار التعددية من الإصلاح الذي شمل جل الجوانب المؤسساتية و الهيكلية على غرار الإصلاح السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي والثقافي , و إن كان قد واجه تطبيق الحكم الراشد في الجزائر العديد من التحديات و المعوقات أهمها غياب الإرادة الحقيقية في تجسيد هذا الطرح إلا أن ذلك يبقى يتطلب تكثيف الجهود و تضافرها من اجل خلق اطر لتوطيد هذا المفهوم كضرورة و مستلزم من مستلزمات العولمة , إذ اتخذ الحكم الراشد في ظل العولمة أبعاد جديدة لتجسيده في جميع المجالات ففي البعد السياسي لا يتجسد إلا عن طريق التعددية بتفعيل المجتمع المدني و التداول السلمي على السلطة و الوصول إلى الحكم بالأغلبية
أما و البعد التنظيمي و التسييري فيتجلى في قدرة الوحدات و الأفراد على تنظيم شؤونها على أسس قانونية هيكلية بالإضافة إلى قدرة الوحدات و الأفراد على استعمال آليات و مقاربات من اجل توفير كل الشروط للوصول إلى نجاعة و فعالية .. ناهيك عن المجال الثقافي و الحضاري الذي يظهر في تماسك المتغيرات الداخلية للدولة كالهوية والتراكمات التاريخية مثلا دون عزلها عن العالم الخارجي – أي التمسك بالأصالة و مواكبة العصرنة – وكذا إدخال قيم أخلاقية و ذاتية تجعل من الأفراد و الموارد البشرية ذات كفاءات و قدرات من أجل التحكم في التسيير و احترام الإطار التنظيمي المتفق عليه و هذا ما يصطلح عنه بثقافة السلوك.
بناءا على ما سبق نجد أن الحكم الراشد أصبح من الأهمية بمكان في عصر العولمة من خلال رؤيتين : الأولى مثبتة تتمثل في فشل سياسات التنمية المتبعة في العديد من البلدان السائرة في طريق النمو , الثانية وهي رؤية مؤكدة ترتبط بالتحولات التي تجري على الصعيد الخارجي و سرعة وتيرة التغيير في النظام الدولي ؛ فآلية الحكم الراشد أصبحت منوطة التطبيق بالتوجيهات و المساعدات أو حتى القروض التي يمنحها صندوق النقد الدولي أو البنك العالمي للدول النامية من اجل تحقيق تنمية فعلية شاملة و مستديمة في كافة القطاعات الحيوية و التي لا تنفصل عن الحكم الراشد .
بقلم طرشي ياسين