الاستثناء المدمر:
هل يخالف الشرق الأوسط ظاهرة "أفول الحرب"؟
مالك عوني
شهد العالم، منذ نهاية الحرب الباردة، انخفاضا مستمرا في عدد الصراعات المسلحة الجارية في لحظة زمنية معينة. وتُستخدم منهجيات مختلفة لتحديد النزاعات المسلحة، لكنها جميعا تعطي النتيجة نفسها: العدد الإجمالي للحروب حاليا أقل من نصف ما كان عليه في عام. 1990 إحدى قواعد البيانات الأكثر استخداما على نطاق واسع هي مشروع أوبسالا لبيانات الصراع “Uppsala Data Conflict Project” "UDCP"، وتستخدم قاعدة البيانات تلك، بشكل خاص، من قبل الحوليات التي يصدرها معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI). ووفقا لـ “UDCP”، كان عدد النزاعات المسلحة الكبرى 37 نزاعا في عام 1990، وتراجع هذا العدد إلى 51 نزاعا في عام 0102 ، وتستند تلك الإحصاءات إلى البيانات التي توفرها تلك القاعدة حتى يونيو 2102.
وبالرغم من تلك النظرة الكلية، فإن إجراء مقارنات سنوية (سنة إلى سنة) يعدا صعبا بالنظر إلى أن “UDCP” قامت بتغيير منهجيتها مرتين خلال السنوات الـ 02 الماضية. ولكن إعادة بناء سلاسل البيانات التي توفرها المنهجيات الثلاث التي استخدمتها “PCDU” تؤكد بوضوح الاتجاه نحو التراجع في عدد النزاعات المسلحة(1).
ووفقا لقاعدة بيانات أخري يديرها "مركز السلام النظمي" (Center for Systemic Peace – CSP)، فإن 30 ٪ من إجمالي عدد بلدان العالم شهد في عام 1992 أحد أشكال العنف السياسي الرئيسية على الأقل. ووفقا لقاعدة البيانات هذه، فقد مثّل عام 1992 ذروة انتشار الصراعات السياسية العنيفة. أما في عام 2010، فقد انخفضت هذه النسبة إلى ما يزيد قليلا على 13 ٪).2 (
وتكشف قواعد البيانات المختلفة عن أن هذا التطور ينبع في الأساس من تناقص سريع في عدد الحروب الأهلية أو الصراعات الداخلية. وقد يحاج البعض بأن هذا الاتجاه المتمثل في تراجع عدد الصراعات الداخلية والحروب الأهلية لا يعني بالضرورة اتجاها تراجعيا عاما في ظاهرة الحرب ذاتها، بقدر ما يعني إنهاء لما يمكن اعتباره جملة اعتراضية في إطار السيرورة التاريخية لتلك الظاهرة، أو - بعبارة أخرى - عودة بظاهرة الحرب إلى وضعها التقليدي. ويستند هذا المنطق إلى حقيقة أنه منذ مؤتمر فيينا عام 1815 إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، كان عدد الحروب الأهلية يتراوح بين صفر وتسعة في السنة، ثم ارتفع بشدة وبشكل سريع عدد حالات هذه الحروب بعد عام 1945 وحتى عام). 3 0991(
إلا أن التراجع في عدد الصراعات الداخلية المسلحة ليس هو المؤشر الوحيد الذي يمكن ملاحظته فيما يتعلق بتراجع ظاهرة الحرب عامة، فقد انخفض كذلك عدد الصراعات الدولية (سواء أكانت بين الدول، وهي التي تعرف بالحروب الدولية الكلاسيكية، أم حروب بين دول وفاعلين آخرين خارجها من غير الدول، وهو ما بات ملحوظا في العديد من حالات التدخل الدولية). وخلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، مثلت الصراعات بين الدول أقل من 7 ٪ من العدد الإجمالي للصراعات المسلحة (صراعان من أصل 29 صراعا). ومثَّل عام 2010 العام السابع من سبعة أعوام متوالية، لم تشهد نشوب حروب مباشرة بين الدول(4).
وفي الواقع، فإن النظام الدولي يشهد مؤشرات اتجاه عام لاختفاء الصراع الدولي الكلاسيكي عمليا عن العالم الحديث. وكل الحجج الرافضة لهذا الاتجاه لا تتجاوز كونها – حتي الآن - مجرد سيناريوهات متشائمة تراهن على تعثر هذا الاتجاه، لكنها لا تنفي وجوده بداية. وفي هذا السياق، يلاحظ أنه لم تندلع أي حرب بين القوي الكبرى منذ عام 1939، وهذه ظاهرة فريدة من نوعها في التاريخ الحديث الذي يتعارف على تحديد بدايته بمرحلة ما بعد وستفاليا. وقد كان هناك نحو عشرة نزاعات، أو عشرين نزاعا، من هذا النوع (يتوقف العدد على تعريف القوي الكبرى) في السنوات الـ 70 التي تلت توقيع معاهدات وستفاليا عام 1648، وخمسة نزاعات خلال فترة مماثلة، بعد سلام فيينا.
ويكشف الواقع عن أن النظام الدولي يشهد، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أطول فترة سلام بين القوي الكبرى خلال القرون الخمسة الماضية، بل وربما بشكل غير مسبوق منذ الإمبراطورية الرومانية. وكما يلاحظ البروفيسور ستيفن بينكر في كتابه"The Better Angels of Our Nature"، فإننا نحيا في المرحلة الأخيرة من عملية تطور بطيئة بدأت منذ أربعة قرون)5(، حيث تحقق هذا التراجع الكبير في عدد حروب القوي الكبرى تدريجيا.
نظريات متعددة وجدوى تفسيرية محدودة:
ارتبط هذا الاتجاه نحو التراجع في عدد الحروب باتجاه آخر يتمثل في التراجع في عدد ضحايا الحروب، على الرغم من التطور الملحوظ في منظومات الأسلحة، وازدياد قدرتها التدميرية، وكذلك ازدياد كثافة الحروب التي تنشب. وقد تم تقديم العديد من النظريات المفسرة لهذا الاتجاه العالمي للتراجع في ظاهرة الحرب، حيث ركزت كل مدرسة من مدارس دراسة العلاقات الدولية - الواقعية، والليبرالية، والمثالية، والبنائية - على عامل أو أكثر. إلا أنه يمكن إجمال أبرز العوامل التي يمكن إيرادها لتفسير هذا الاتجاه فيما يلي:
- تعقد بنية النظام الدولي، من حيث طبيعة الفاعلين في إطاره، وقضاياه، وأدوات ممارسة السياسة الخارجية، وبروز ظاهرة الاعتماد المتبادل، وما ترتب عليه من فتح مجالات للتعاون، وتشابك المنافع التي عززت من أهمية الحفاظ على حالة السلم.
- أثر تطوير السلاح النووي ومخاطره التدميرية الشاملة على ازدياد تأثير سياسات الردع بين القوي الكبرى في النظام الدولي.
- ازدياد درجة مؤسسية هيكل النظام الدولي، وما كان لهذه المؤسسية، وبخاصة في مجال القانون الدولي وحقوق الإنسان، من دور في تنظيم العلاقات بين الدول، وتوفير قنوات وأدوات مختلفة لإدارة نزاعاتها وتسويتها.
- بروز أنماط جديدة من التهديدات العالمية التي فرضت قدرا أكبر من التعاون والتنسيق بين مختلف الدول، وحتي الفاعلين من غير الدول لمواجهتها.
- أخيرا، انتشار نموذج الديمقراطية الليبرالية بما يتضمنه من تأكيد مفاهيم المؤسسية، والرشد في صنع القرارات، والإدارة السلمية للاختلافات، واحترام حقوق الإنسان، وجميع هذه العوامل تصب في اتجاه الحد من النزعة لخوض صراعات عنيفة.
إلا أنه بالنظر إلى تباين مدى حضور وتوافر كل من هذه العوامل، عبر الأنظمة الإقليمية الفرعية المختلفة في النظام العالمي المعاصر، فإن درجة تحقق هذا الاتجاه تتباين من نظام فرعي إلى آخر. ويبرز بوضوح، في هذا السياق، أن النظام الشرق أوسطي يعد من أكثر الأنظمة الفرعية شهودا لظاهرة الحرب لعوامل عدة ترتبط كلها بانخفاض درجة تحقق كل عوامل تراجع ظاهرة الحرب المشار إليها آنفا. وداخل هذا النظام الشرق الأوسطي، نلمح كذلك تباينا بين أنظمته الإقليمية الفرعية في مدى قابليتها لنشوب الحروب. حيث عكس كل من النظام الإقليمي الخليجي، والنظام الوظيفي المرتبط بالصراع العربي-الإسرائيلي، درجة أعلى في قابلية نشوب الحروب. لكن النظام الشرق أوسطي عكس، رغم كل ذلك، وإن بدرجة أقل، هذا الاتجاه العام نحو التراجع في عدد الحروب، منذ مطلع التسعينيات من القرن العشرين.
وكانت العديد من النظريات، التي عُنيت بتفسير السياسات في منطقة الشرق الأوسط، تفترض أن التحول نحو الديمقراطية من شأنه أن يؤدي إلى تعزيز فرص السلام في هذا الإقليم المضطرب تقليديا، وإعلاء مقولات المدرستين الليبرالية/التعددية والمثالية فيما يتعلق بإمكانية إرساء السلام على مقولات المدرسة الواقعية التي تُعلي من احتمالات نشوب الحرب. وفي بدايات ظاهرة "الربيع العربي"، تصاعد تفاؤل أنصار تلك النظريات بإمكانية تعزز فرص السلام وتراجع حدة الصراعات العنيفة. إلا أن الواقع الذي تكشفت عنه تطورات العامين الماضيين عكس اتجاها مخالفا لتلك النظريات وفرضياتها. إذ ازدادت، خلال العامين الماضيين، حدة الصراعات العنيفة والحروب الداخلية في أكثر من دولة من دول "الربيع العربي"، فيما تصاعدت مخاطر تفجر الصراعات العنيفة في البقية الباقية من دول الإقليم بأسره، مع اختلاف درجة ترجيح احتمال تفجر تلك الصراعات وتصاعدها إلى حالة الحرب من حالة إلى أخري، وفقا لعوامل ترتبط بتوازن القوي المحلي، في إطار بيئة الصراع، أو بالتدخلات الدولية والإقليمية، أو أخيرا بالنظر إلى الفرص البديلة المتاحة لإدارة الصراع بطرق مختلفة عن الحرب.
"الربيع العربي" والحرب .. العلاقة الجدلية:
بدا، على مدى العامين الماضيين، أن تجذر عوامل الخلاف والصراع في منطقة الشرق الأوسط أكثر غلبة من القدرة على إتمام تحول ديمقراطي سلمي وسليم في بلدان الربيع العربي، وعبر الإقليم عامة. ويطرح هذا سؤالين محوريين، يحاول هذا الملحق، عبر أوراقه المختلفة، الإجابة عليهما، وصولا إلى الإجابة على تساؤله الرئيسي: هل يخالف الشرق الأوسط الاتجاه العالمي في أول ظاهرة الحرب أم لا؟ والسؤالان المحوريان المقصودان هما: أولا: هل عوامل تفجر الصراعات بشكل عنيف يصل إلى حالة الحرب رهن بالتطورات المباشرة لثورات الربيع العربي، أم أنها تتجاوزها لتلقي بآثارها ومخاطرها على المدى المتوسط على الأقل؟ ثانيا: ما مدى التباين بين الأنظمة الإقليمية الفرعية التي تكون النظام الشرق أوسطي في درجة حضور وتأثير عوامل تفجر الصراعات؟ ولعل أبرز الإشكاليات التي تقتضي مزيدا من البحث، حسبما تكشف عنه أوراق هذا الملحق، إنما تتمثل في مدى وجود قواعد عامة حاكمة للتفاعلات النظمية في الإقليم الشرق أوسطي، إذا ما قورنت بالقواعد المؤثرة والحاكمة في كل نظام إقليمي فرعي. بعبارة أخرى، هل نحن بالفعل أمام نظام شرق أوسطي عام، أم أن الغلبة باتت لأنظمة إقليمية كانت تعد تقليديا فرعية منه، لكنها باتت تتسم بقواعد حاكمة مستقلة عن بعضها بعضا بدرجة كبيرة وأساسية؟.
إن الشرق الأوسط بات مراوغا في تعريفه بالنظر إلى ما تطرحه الأدبيات العلمية والخطابات السياسية، خلال العقدين الأخيرين، وازدادت درجة المراوغة تلك على ضوء تطورات العامين الماضيين وتداعياتهما، والتي يحاول هذا الملحق الاقتراب من أحد هذه التداعيات، ألا وهي ظاهرة الحرب واحتماليتها في المنطقة.
الهوامش:
1- Stockholm International Peace Research Institute (SIPRI) yearbooks 1990 to 2011, http://www.sipri.org/yearbook
2- Center for Systemic Peace, ‘‘Global Conflict Trends,’’ http://www.systemicpeace.org/conflict.htm"
3- Human Security Report Project, Human Security Report 2005: War and Peace in the 21st Century, http://www.hsrgroup.org/human-security-reports/2005/overview.aspx
4- J. Joseph Hewitt et al., Peace and Conflict 2008 (CIDCM, University of Maryland, 2008).
5- Steven Pinker, The Better Angels of Our Nature: Why Violence Has Declined (New York: Penguin Group, 2011), pp. 250—252.
(*) مقدمة ملحق تحولات استراتيجية " الحرب القادمة .. أي حروب مستقبلية محتملة في الشرق الأوسط؟" ، مجلة السياسة الدولية ، العدد 191، يناير 2013