السياسة الأمريكية تجاه القضايا النووية في الشرق الأوسط
د. محمد عبد السلام
السنة الرابعة عشرة- العدد 146- ديسمبر 2004
مقدمة:
الفكرة السائدة في العالم العربي عن السياسة الأمريكية تجاه القضايا النووية المثارة في الشرق الأوسط هي أنها - حسب التعبير السائد- مزدوجة المعايير، فهي تتقبل وجود سلاح نووي لدى إسرائيل، بينما تعمل على منع الدول العربية من الاقتراب من المساحة النووية. ورغم أن تلك الفكرة صحيحة في كثير من جوانبها، إلا أنها لا تعبر في الواقع سوى عن مجرد انطباع عام بسيط، يمثل موقفاً سياسياً أكثر منه تحليلاً علمياً، فالسياسة الأمريكية أعقد بكثير مما تبدو عليه، ويصعب اختصارها في تلك الثنائية الإسرائيلية-العربية، إذ أن لواشنطن محددات مركبة تحكم تعاملها مع كل مشكلة نووية، وتفرز على ما يبدو سياسة خاصة لكل منها، تبعاً لمعايير ترتبط بطبيعة كل حالة على حدة، فلا توجد سياسة أمريكية عامة، وإنما سياسات خاصة تجاه القضايا النووية في الشرق الأوسط.
نقطة البداية هنا هي أن العامل الأمريكي قد أصبح، منذ بداية التسعينيات على الأقل، يمثل المحدد الأكثر تأثيراً لعمليات الانتشار أو عدم الانتشار النووي في المنطقة. فقد كان الدور الأمريكي واضحاً في الدفع باتجاه تشكيل إطار المفاوضات متعددة الأطراف حول ضبط التسلح والأمن الإقليمي Arms Control and Regional Security (ACRS) في ظل عملية التسوية السلمية للصراع العربي-الإسرائيلي، وكانت بصمات واشنطن واضحة في كل التطورات المتعلقة بإدارة تفاعلات أطراف المنطقة مع النظام الدولي لمنع انتشار الأسلحة النووية المستند على معاهدة منع الانتشار (NPT) والوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA)، بعكس ما كان الحال عليه خلال العقود السابقة حين كان النظام الدولي والتوجهات الإقليمية يتسمان بطابع مستقل نسبياً عن السياسة الأمريكية.
لكن الأكثر أهمية من كل ذلك، هو أن الولايات المتحدة قد قامت بقيادة ثلاث عمليات كبرى تمكنت عبرها من منع أو وقف امتلاك أطراف إقليمية للأسلحة النووية في وقت كانت تلك الأطراف فيه قد تقدمت إلى مديات مختلفة في اتجاه حيازة هذه الأسلحة من خلال برامج نووية سرية، وذلك كالتالي:
1- قيادة الولايات المتحدة عملية إزالة البرنامج النووي العراقي في مرحلة ما بعد هزيمة العراق في حرب الخليج الثانية عام 1991، وصولاً إلى عام 1998، فعلى الرغم من أن تلك العملية قد تمت من خلال آليات دولية تتمثل في اللجنة الخاصة التابعة للأمم المتحدة (أونسكوم) والوكالة الدولية (IAEA) كجهة فنية، إلا أنه بدون الضغوط والتهديدات الأمريكية، لم تكن قدرات العراق النووية لتنزع بتلك الصورة التي جرت.
2- قيام الولايات المتحدة وبريطانيا بعملية معقدة أدت في النهاية إلى إعلان ليبيا تخليها عن خيارها النووي العسكري من جانب واحد عام 2003، وتولى الجانبين - إضافة إلى الوكالة الدولية بعد ذلك - مهمة تفكيك ونقل مرافق تخصيب اليورانيوم إلى خارج ليبيا التي أقرت بأنها قامت ببناء برنامج نووي عسكري سرى، عبر تعاملات مكثفة في السوق النووية السوداء مع شبكة عبد القدير خان الباكستانية تحديداً، بهدف امتلاك سلاح نووي.
3- قيام واشنطن بممارسة ضغوط حادة ومستمرة على إيران، إثر اكتشاف برنامج تخصيب اليورانيوم السري لديها، بهدف وقف أنشطتها النووية، خاصة ما يتعلق منها بتخصيب اليورانيوم، عبر التهديد بفرض عقوبات دولية، أو ربما استهدافها عسكرياً. وقد مارست روسيا الاتحادية والاتحاد الأوروبي والوكالة الدولية أدواراً مختلفة في هذا الاتجاه، لكن واشنطن كانت في خلفية الصورة دائما، مما أدى إلى عرقلة تقدم إيران في اتجاه حيازة خيار نووي كانت لديها القدرة على امتلاكه.
السياسة الأمريكية تجاه تلك الحالات كانت محددة نسبياً، فهي سياسة منع انتشار تقوم على المدخل المنفرد المرتبط باعتباراتها ورؤاها الخاصة Unilateral Approach، لكنها كانت مع ذلك مدعومة بجبهة من القوى الكبرى والمؤسسات الدولية، مع توافق إقليمي في بعض الحالات، كما كانت التقديرات الفنية لها إزاء تلك الحالات منضبطة، بعيداً عن التسييس أو التوجس الذي اتسمت به في حالات أخرى.
لكن ثمة جانب آخر من الصورة يلقى بتعقيداته على أية محاولة لفهم السياسة الأمريكية تجاه المشكلات النووية في المنطقة، على أنها عامة التوجه تجاه كل أطراف المنطقة، أو أنها تستند إلى تقديرات فنية صحيحة في كل الأحوال، أو حتى - فيما يتعلق بمضمونها - كسياسة عدم انتشار من الأساس، فهناك ثلاث حالات أخرى تطرح تساؤلات مختلفة حولها، وهى:
1- حالة إسرائيل، فالسياسة الأمريكية الرسمية تقوم على عدم التأكد مما إذا كانت إسرائيل تمتلك أسلحة نووية أم لا، وعدم الخوض بمبادرة منها في تلك المسألة، مع عدم ممارسة أية ضغوط معلنة في اتجاه أية صيغة من ضبط تسلحها النووي، إلا أنه أصبح شائعا أن هناك تفاهما غير معلن بين الطرفين يسمح باستمرار امتلاك إسرائيل للأسلحة النووية، وقد شكل ذلك المصدر الرئيسي لانتقاد السياسة الأمريكية في المنطقة على أساس ازدواجية المعايير.
2- حالة العراق ما بعد عام 1998، فقد أدت التقديرات الأمريكية لنشاطات العراق النووية خلال مرحلة (1998- 2002) إلى الوقوع فيما أسمي بـ خطأ استخباراتي فادح قاد إلى شن عمل عسكري شامل ضد العراق عام 2003. وقد أكدت كل التقارير والتحليلات - كما ستتم الإشارة فيما بعد - أن ضغط الأجندة السياسية للإدارة قد أدى إلى تحريف تقديرات الاستخبارات، كما لم تكن التقديرات الصادرة عن مراكز الأبحاث الأمريكية بهذا الشأن دقيقة أو محددة، وشكل ذلك المصدر الرئيسي لانتقاد السياسة الأمريكية على أساس مقولة التسييس.
3- حالة باكستان، فإضافة إلى ما يحيط بامتلاك باكستان أسلحة نووية، شكل اكتشاف قيام شبكة عبد القدير خان بنشاطات هائلة في السوق النووية السوداء معضلة للسياسة الأمريكية التي لم تمارس ضغطاً يذكر على الحكومة الباكستانية يتجاوز وقف نشاط الشبكة، والحصول على معلومات بشأنها، في ظل حاجة المصالح الأمريكية للدعم العسكري والأمني الباكستاني في أفغانستان، وضد القاعدة، وقد أوضح ذلك واحدة من أهم ملامح سياسة الانتشار النووي الأمريكية وهى البراجماتية.
وتطرح تلك الحالات سؤالاً رئيسياً حول: كيفية تعامل الولايات المتحدة مع القضايا النووية في الشرق الأوسط ؟، وتحديداً فيما يتعلق بعملية صنع السياسات المتعلقة بالنشاطات النووية في المنطقة، سواء على مستوى التقديرات الفنية، أو التوجهات السياسية، أو التحركات الفعلية. ولا تكتسب إجابة هذا السؤال أهميتها فقط من إمكانية فهم السياسة الأمريكية تجاه المشكلات الساخنة المثارة، وإنما تقييم ما يطرح من وقت لآخر بشأن القضايا الكامنة، فيما يتعلق بأطراف أخرى كسوريا والجزائر والسعودية، وحتى مصر. وهو ما يمكن تناوله في ثلاثة محاور، تتعلق بصنع السياسة الأمريكية، وتوجهاتها تجاه المشكلات المثارة، ثم القضايا الكامنة.
أولاً: معادلات واشنطن: كيف تصنع السياسة الأمريكية تجاه المشكلات النووية في الشرق الأوسط؟
السؤال الرئيسي الذي تحاول الدراسة، في هذا المحور، أن تقوم ببناء إطار تحليلي يساعد في الإجابة عنه هو: كما سبق، كيف تدرك الولايات المتحدة مشكلات الشرق الأوسط على المستوى النووي، سواء كانت تتعلق بالانتشار أو عدم الانتشار، وهو الإدراك الذي تتحدد بناء عليه السياسة المتبعة. وتتمثل المشكلة هنا في كيفية بناء نموذج يوضح ملامح عملية صنع السياسة في واشنطن، فيما يتعلق باللاعبين الرئيسيين في مجال الانتشار النووي، والتفاعلات القائمة بينهم، والمحددات الحاكمة لتلك السياسة، والتي تفرز في النهاية ما تتم متابعته من عمليات على ساحة الإقليم في المجال النووي.
هناك أربعة لاعبين رئيسيين مشتبكين في تلك العملية، هم الإدارة الأمريكية، يتضمن ذلك البيت الأبيض بمجالسه المختلفة وكبار المسئولين والمتخصصين والخبراء في الوزارات (الإدارات) ذات العلاقة كالخارجية والدفاع والطاقة والأمن الداخلي، ثم ما يسمى جماعة الاستخبارات (IC) Intelligence Community، التي تضم وكالة الاستخبارات المركزية (CIA)، وحوالي 14 جهاز استخبارات أخرى تعمل في إطار هيئة التقديرات الاستخباراتية القومية National Intelligence Estimate (NIE)، يضاف لذلك الكونجرس الأمريكي بمجلسيه (الشيوخ والنواب) ولجانه الداخلية المتعددة كالعلاقات الخارجية والاستخبارات، ثم اللاعب الرابع وهو مراكز الدراسات (التفكير) Think Tanks المستقلة، وغير الحكومية التي تمتلك برامج قوية لمتابعة وتقييم حالة الانتشار النووي وتصدر توصيات بشأن التعامل معها.
وتتسم أدوار اللاعبين السابقين في عملية صنع القرار النووي بالوضوح النسبي، فأجهزة الاستخبارات هي المسئولة عن تقييم النوايا النووية لأية دولة من خلال رصد وجمع البيانات الفنية المتعلقة بالنشاطات النووية للدولة المعنية، مع تصنيفها وتحليلها. ويتم تقديم تلك التقديرات الاستخباراتية بعد ذلك للإدارة والكونجرس بعد مناقشتها في إطار هيئة الاستخبارات القومية (NIE). وتتولى الإدارة استناداً على ذلك (أو يفترض ذلك) تشكيل السياسة الرسمية تجاه الدولة موضع الاهتمام، في إطار التوجهات العامة الحاكمة للسياسة الأمريكية في مرحلة ما.
أما بالنسبة للاعبين الآخرين، فإن دورهما يرتبط بما يلي:
أ- تقوم مراكز الأبحاث عادة بتحليل التقديرات الاستخباراتية، مع مطابقة مدى تعبير السياسة الرسمية عنها، فهى في معظمها ليست مشاركة مباشرة في عملية صنع سياسة الإدارة، إلا أنها تقوم بالتأثير عليها بشدة عبر النشر والتعليقات والتقديرات والاتصالات المستمرة مع الإدارة وجماعة الاستخبارات، في إطار إبداء الرأي وطرح الخيارات.
ب- يمارس الكونجرس على هذا المستوى دوراً استشارياً في كل مراحل عملية صنع القرار، فلديه لجان الاستخبارات الداخلية، وعادة ما تكون لديه تقديراته الخاصة لما تقدمه الأجهزة استناداً على إفادات وشهادات وجلسات استماع لمسئولين في الحكومة أو خبراء في مراكز الدراسات، وأحياناً شخصيات من المناطق أو الدول المعنية.
لكن مشكلة دور الكونجرس في هذا المجال، هي أنه على الرغم من أن لديه أدوات قوية للنظر في سياسة معينة، بدعمها أو عرقلتها، من خلال التمويل، وأحياناً خلقها باعتباره ساحة لجماعات المصالح (اللوبيهات)، إلا أن الإدارة عادة ما لا تكون في حاجة لموافقة (أو تصديق) الكونجرس في إطار عملية صنع سياسة معينة، لذا يظل دوره غير مباشر في عملية صنع سياسة منع الانتشار في المراحل الأولى لتشكيلها وإدارتها، على الرغم من أنه قد يكون مؤثراً في المراحل التالية، خاصة عندما تتحول القضايا إلى مشكلات أو المشكلات إلى أزمات.
ولا تتوقف المسألة هنا على أدوار اللاعبين الأساسيين المشار إليهم، ولكن على نمط أو ديناميكية التفاعل بينهم تجاه القضايا التقليدية أو المشكلات الجارية في منطقة كالشرق الأوسط، استناداً على ما يمكن تسميته الافتراضات أو المقولات المسيطرة داخل جماعة منع الانتشار الأمريكية العاملة داخل تلك المؤسسات، والتي تؤثر على مخرجات السياسة الأمريكية بشأن التطورات القائمة أو المحتملة بالنسبة لدول المنطقة، لذا فإن هناك مجموعة من التساؤلات بشأن كل حالة شرق أوسطية بالمفهوم الواسع، فالإجابة عن هذه التساؤلات قد تختلف من حالة إلى أخرى، فما يحكم حالة العراق يختلف عما يحكم حالة إيران، وتختلف حالة ليبيا عن إسرائيل، وحالة سوريا عن مصر، وحالات الجزائر والسعودية عن باكستان، وتكتسب حالة القاعدة أهمية خاصة. وتتمثل أهم تلك الأسئلة فيما يلي:
أ- هل يوجد اعتقاد داخل جماعة الانتشار النووي الأمريكية، بأن من السهل امتلاك أسلحة نووية، وهل يمكن بالفعل بناء برنامج عسكري نووي متكامل اعتماداً على السوق السوداء، أو عبر التعاون مع دولة نووية أخرى؟
ب- ما هي العلاقة بين القدرات النووية والنوايا النووية، وكيف يتم تحليل مستوياتها المختلفة، وهل لا يزال من الممكن بناء برنامج عسكري نووي سرى قادر على إنتاج قنبلة في الوقت الراهن؟
ج- ما هي العلاقة بين امتلاك القدرات النووية المدنية وامتلاك القدرات النووية العسكرية، وهل يعتقد صانعو السياسة وخبراء منع الانتشار الأمريكيون أن من السهل أو الممكن تحويل القدرات النووية السلمية إلى نشاطات نووية عسكريا؟
إن محاولة الوصول إلى إجابات محددة لتلك الأسئلة في إطار عملية صنع السياسة النووية داخل الولايات المتحدة، يمكن أن يساهم في فهم الكيفية التي يتم بها تحليل وتقدير المعلومات المتعلقة بالنشاطات النووية لدول المنطقة في واشنطن، وكيف تختلف أحيانا تقديرات الخبراء في المجال النووي عن السياسيين داخل الإدارات، وإلى أى مدى تؤثر تقديرات المجموعتين، أو أي منهما في سياسة الولايات المتحدة، علماً بأنه في ظل الآليات المعقدة لعملية الانتشار النووي خلال السنوات الأخيرة لا توجد إجابات نظرية حاسمة يمكن أن تكون ملزمة فنياً لتلك الأطراف، على نحو يترك مساحة واسعة للتقديرات غير المحددة أو المتباينة أو للتأثيرات السياسية.
ما هي محددات سياسة منع الانتشار النووي داخل الولايات المتحدة؟
في هذا الإطار، فإن الافتراض الرئيسي لهذه الدراسة هو أنه لا يوجد مبدأ عام مركزي ناظم يحدد اتجاه سياسة منع الانتشار النووي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط(1)، وبمعنى آخر، تتحدد تلك السياسة في إطار بيئة تشهد تفاعلا بين التصورات السائدة لدى صانعي السياسة في واشنطن والتقديرات الاستخباراتية ذات الطابع الفني والتوجهات التحليلية في مراكز الدراسات بشأن النشاطات النووية المرتبطة بكل حالة على حدة. فبيئة صنع القرار في واشنطن تشبه الشبكة أو المصفوفة Matrix، المليئة بالأشكال والرموز والأرقام التي تفرز في النهاية مداخل سياسية خاصة مصممة لكل دولة، Case by Case Approach من دول المنطقة.
وتختلف الآليات الداخلية لعمل تلك الشبكة من حالة إلى أخرى، وتفرز - كما تمت الإشارة- سياسات تعكس تلك الاختلافات. وإذا تم التعامل هنا مع التقديرات الفنية للاستخبارات كمعطى ثابت محايد (رغم أنه لم يكن كذلك في حالة كالعراق) بالنسبة لكل حالة، أو يصعب التلاعب بها ببساطة لفترة طويلة (كما تشير خبرة ما حدث في العراق أيضاً)، فإن شبكة صنع السياسة داخل واشنطن تتأثر عادة بتوجهات تتحدد وفق عاملين أساسيين: الأول هو مصالح الأمن القومي الأمريكي تجاه الدولة المعنية، تبعاً للتوافقات السائدة بشأنها في واشنطن. والثاني هو التوجهات (أو الدوافع) السياسية المنفردة، لكل من الإدارة، أو جماعة الاستخبارات، أو الكونجرس، أو مراكز الدراسات، تجاه الحالة محل التفاعل.
وعلى ذلك، فإن تأثيرات الدوافع الاستراتيجية والسياسية في إطار ديناميكية صنع القرار المشار إليها، بين اللاعبين الرئيسيين، والتي تتفاعل في إطار شبكتها توجهات الإدارة (والكونجرس)، وتقديرات الاستخبارات، وتوصيات مراكز الأبحاث، هي التي يمكن أن توضح الصورة بالنسبة لكل حالة، فيما يتعلق بالطريقة التي تدرك أو تتحرك الولايات المتحدة بها تجاهها، وهنا تبدو تصورات الإدارة وكأنها العامل المهيمن طالما يتعلق الأمر بقياس على مصالح أمن وتوجهات سياسة، إلا أن تقديرات الاستخبارات تمارس دوراً حيوياً لا يمكن تجازوه عموماً، أما مراكز الأبحاث، فإن دورها يتفاوت من مركز أبحاث إلى آخر، ومن حالة إلى أخرى، وتصبح الصورة أكثر تعقيداً في فترات الأزمات.
في هذا الإطار، يمكن رصد أنماط تأثير العاملين المشار إليهما، واتجاهات تأثيرها على عملية صنع السياسة الأمريكية، في النقاط الثلاث التالية:
1- المدركات الاستراتيجية Strategic Perception
تمثل المدركات الاستراتيجية المعيار العام الذي يتم على أساسه قياس تأثير نشاطات معينة لفاعل خارجي على المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة خارج (أو داخل) أراضيها، فهي التي تشكل المنظور الأمريكي بشأن قضايا كالمصالح الإقليمية، والأمن الداخلي، والعلاقات التجارية، إلا أنها لا تتعلق عموماً بدولة محددة، فهي تمثل الخلفية الأساسية التي يتم استناداً عليها تقدير ما تمثله كل حالة من دعم أو تهديد للمصالح الأمريكية، وتستند تلك المدركات على قاعدتين، هما:
أ- العلاقات السياسية (الدبلوماسية)، والأساس هنا هو أن الولايات المتحدة تتخذ عادة موقفاً شديد التصلب تجاه الأطراف المناوئة لها، والتي توضع في خانة تتغير مسمياتها من مرحلة لأخرى، فأحياناً تسمى الدول المارقة أو دول محور الشر، التي تضاف أو تخرج منها أطراف مختلفة تبعاً لثبات أو تغير نمط العلاقات السياسية، بينما تتخذ - وفقاً لذلك- موقفاً مختلفاً تعاونياً تجاه من يعتبرون الحلفاء أو الدول الراغبة في التعاون معها، أو التي تعتبر سياساتها داعمة للمصالح الأمريكية. ويتأثر نمط العلاقات السياسية على هذا المستوى- وفق المعايير التي يتم تداولها في الوقت الراهن- بطبيعة النظم السياسية، والاستقرار الداخلي، وتاريخ الدولة مع الانتشار النووي، وما إلى ذلك، فتبعاً لذلك يتم تصنيف الدول إلى دول متعاونة أو مناوئة.
ب- مدركات التهديد، وتعتبر العامل الأكثر تأثيراً في توجهات سياسة منع الانتشار الأمريكية تجاه الدول الأخرى، فتقديرات الاستخبارات ورؤى الإدارة (والكونجرس) وتوصيات مراكز الدراسات تبنى في جزء أساسي منها على ما إذا كانت نشاطات دولة ما يتم إدراكها على أنها تمثل تهديداً محتملاً بشكل أو بآخر، بصورة مباشرة أو غير مباشرة (كالتعاون مع العناصر الإرهابية) للأراضي الأمريكية أم لا.
وتبنى تلك المدركات كذلك على تقديرات خاصة بما إذا كانت النشاطات المعنية تمثل، إلى مدى معين، تهديداً لمصالح استراتيجية أمريكية في إقليم ما، أو لأحد حلفاء الولايات المتحدة. ويتم تصنيف التهديدات إلى تهديدات تتسم بالإلحاح أو كامنة، لكن المهم هنا هو ملاحظة أنه من المنظور الأمريكي لا تمثل كل حالات الانتشار النووي تهديدا لمصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية، فخطورة الانتشار النووي لا تنفصل عما تمثله حالاته من مساس أو عدم مساس بتلك المصالح، فالمعيار هو تهديد المصلحة الاستراتيجية.
2- الدوافع السياسية
تمثل الدوافع السياسية مجمل المواقف والتوجهات والأفعال الخاصة باللاعبين السياسيين، والتي تتم من خلالها محاولة التأثير على سياسة منع الانتشار، بتوجيهها نحو اتجاهات ترتبط بهيكل القوة داخل واشنطن، فصراعات القوة بين الحزبين الرئيسيين من أجل إعادة الانتخاب، والرغبة في تحقيق مكاسب شخصية، أو نفوذ داخل الإدارة، أو تأثير اللوبيهات في اتجاهات معاكسة تعد أمثلة شائعة للدوافع السياسية. وتشير عملية صنع سياسة منع الانتشار إلى وجود ثلاثة مكونات تشكل الدوافع السياسية، خاصة تجاه منطقة الشرق الأوسط، وهي:
أ- التقديرات المحرفة لأجهزة الاستخبارات، فبعيداً عما يفترض في تلك التقديرات من فنية وحياد، ربما يجرى داخل جماعة الاستخبارات عن طريق الخطأ، أو في ظل ميول خاصة، أن يتم بناء التقديرات على معلومات خاطئة فنياً، أو تجاهل بعض ما تم الحصول عليه من معلومات، أو المبالغة في تصوير دلالات الوقائع، أو تقديم التقديرات ذاتها بطريقة خاطئة. وعادة ما يتم تسمية تلك التقديرات التي يتم تحريفها بشكل متعمد بهدف الوصول إلى استنتاج مرغوب فيه لأهداف سياسية، بـ عملية طبخ cooking استخباراتية.
ب- التوجهات السياسية لإدارات البيت الأبيض، فالأجندة السياسية لكل إدارة تمارس دوراً رئيسياً كأحد أهم محددات سياسة منع الانتشار النووي تجاه دولة أو أخرى، فعندما تصل إلى البيت الأبيض إدارة لديها أجندة سياسية متشددة، ربما تحاول أن تغير المدركات الاستراتيجية تجاه دولة ما من خلال خلق بيئة سياسية معادية لها، أو طبخ التقديرات الاستخباراتية أيضا. وتمثل الأيديولوجيا على هذا المستوى عاملا مؤثرا يمكنه أن يدفع في اتجاه تغير التوجهات السياسية للإدارة، أو تعديل سياسة منع الانتشار القائمة.
ج- تحليلات مراكز الأبحاث والرأي، فمراكز الدراسات لا تقدم خدمة علمية محايدة في كل الأحوال، ومن الممكن أن يقوم مركز تفكير داعم للإدارة أو معارض لتوجهاتها بتقديم تحليلات تدعم أو تنتقد سياساتها، وربما تستند تلك التحليلات أو لا تستند على بيانات فنية أو استخبارات رسمية. ويساهم تعدد مراكز الدراسات وتنوع مواقفها السياسية في تعميق تلك المعضلة، إذ أنه يسمح لتلك المؤسسات ببلورة معايير مختلفة عما هو معتاد لتقدير النشاطات النووية لدول الشرق الأوسط، وهى نقطة أساسية، إذ أن دور مثل هذه المراكز في صنع مثل هذه السياسات ربما لا يكون مألوفاً في مناطق عديدة خارج الولايات المتحدة.
3- ميكانيزمات صنع سياسة منع الانتشار
لقد مارس المحددان السابقان تأثيرات قوية على عملية صنع سياسة منع الانتشار النووي الأمريكية، من خلال ثلاثة ميكانيزمات Mechanisms رئيسية، أدت في بعض الحالات إلى توجيهها بشكل غير واقعي في اتجاهات محددة. ويمثل فهم تلك الآليات التحليلية أحد أهم المفاتيح التي تساعد في توضيح الكيفية التي يتم عبرها تقييم المعلومات الخاصة بالنشاطات النووية في الشرق الأوسط بواشنطن، وهي:
أ- تحليل النوايا Intentions Analysis فعندما يحاول صانعو السياسة أن يقوموا بفرز وتصنيف التقديرات الاستخباراتية الخاصة بأنشطة نووية معينة، فإنهم يقومون عادة بالنظر إلى قدرات ونوايا الدولة المستهدفة على قدم المساواة(2)، فالنوايا مثل القدرات تحتل نفس الوزن. ويستند تحليل القدرات على المعلومات الفنية التي تم جمعها من خلال أقمار التجسس الفضائية والخدمة السرية والعمل الميداني، وعادة ما تتسم تلك العملية بالطابع الموضوعي، فمن الصعب بناء تقدير للقدرات استناداً على نشاطات غير موجودة.
أما تحليل النوايا، فإنه يبنى في الغالب على بعض الأدلة الظرفية والشكوك، ويمثل معياراً غير موضوعي في بناء التقديرات، لكنه يظل مهما في فهم السياسات، إذ أنه هو الشق الذي يمكن أن يكون مسئولاً عن الأخطاء الفادحة أو التحريفات المقصودة لخدمة أهداف سياسية، فكثير من التصريحات التي تصدر بشأن مشكلة معينة تعتمد تحديداً على تحليل لنوايا يخفى أو يظهر معلومات غير دقيقة، أو لا يستند إلى معلومات محددة من الأساس. والمقصود هنا أن نوايا الدول سواء كانت سيئة أو جيدة (من المنظور الأمريكي) تمثل عاملاً جوهرياً في قرارات التعامل مع مشكلات الانتشار وعدم الانتشار النووي في الشرق الأوسط.
ب- منطق سيناريو أسوأ حالة، worst case scenario thinking، ففي عالم ما بعد 11 سبتمبر 2001، أصبح صانعوا السياسة في واشنطن يميلون بشدة إلى التزام جانب الحذر أو الحيطة في التعامل مع مشكلات الانتشار النووي، في ظل منطق سائد يقرر أن من الأفضل اتهام دولة ما عن طريق الخطأ بالسعي لامتلاك قدرات نووية عسكرية عن المخاطرة بتحمل عواقب عدم العمل في هذا الاتجاه.
لقد تدعم هذا الاتجاه بفعل هجمات القاعدة ضد نيويورك وواشنطن، وسعى بعض التنظيمات الإرهابية لحيازة أسلحة تدمير شامل، وبعض المؤشرات المقلقة التي كانت تتوالى باستمرار حول نشاطات نووية عسكرية في الشرق الأوسط منذ بداية القرن الجديد. وقد أثبت هذا المنطق مصداقية عالية في كثير من الأحيان، لكنه أدى كذلك إلى ظهور تقديرات سيئة لم يكن من الممكن تصديقها في عدة حالات أخرى.
ج- سياسة عدم التمييز Non-distinction بين جانبي القوة النووية. فهناك ميل مسيطر لدى صانعي السياسة في واشنطن لعدم التمييز بين القدرات النووية المدنية والبرامج النووية العسكرية، وافتراض أن من السهل القفز من ساحة النشاطات السلمية إلى البرامج التسليحية، لذا يوجد شك دائم تجاه أية تحركات تقوم بها أية دولة في اتجاه نووي، وسعى لمنع معظم البرامج النووية المدنية من القيام أو الاتساع في منطقة الشرق الأوسط.
وبشكل محدد، فإن السياسيين الأمريكيين يميلون إلى الاعتقاد بأن أية دولة شرق أوسطية لا تربطها بالولايات المتحدة علاقات سياسية تعاونية وتسعى لإقامة برنامج نووي مدني، فإن لديها في الواقع طموحات للقيام بنشاطات نووية سرية تحت الستار المدني. والمحصلة النهائية لهذا الافتراض هي تبلور سياسة منع انتشار نووي تجاه أقاليم العالم المختلفة، وليس الشرق الأوسط فقط، تعارض - كما تمت الإشارة - إقامة أية برامج نووية، لم تكن قائمة من قبل، بالنسبة لأية حالة، فيما بدا وكأنه مبدأ لوقف النشاطات النووية في العالم.
وهكذا، حاولت الدراسة في هذا المحور أن تقدم قدر الإمكان صورة قريبة بشأن المعادلات المتداخلة التي تحكم عملية صنع السياسة الأمريكية لمنع الانتشار، ولاسيما فيما يتعلق بالعناصر المؤثرة منها على دول الشرق الأوسط، والتي يمكن من خلالها تحليل التحركات الفعلية للولايات المتحدة على ساحة الانتشار النووي الحالية، على النحو الذي سيتضح بشكل محدد في المحورين التاليين.
ثانياً: المشكلات النووية الساخنة - كيف تتعامل الولايات المتحدة مع مشكلات العراق وإيران وليبيا وإسرائيل ؟
شهدت منطقة الشرق الأوسط الكبير حالة انفجار غير مسبوقة لعدة مشكلات نووية خلال السنوات الثلاث الأخيرة (2001-2004)، بحيث بدا للولايات المتحدة وكأن قطار الانتشار النووي سوف يخرج عن القضبان، لذا أصبحت مشكلة الانتشار النووي - إضافة إلى الإرهاب الدولي - تحتل أولوية قصوى في السياسة الأمريكية، لاسيما تجاه أقاليم شرق آسيا والشرق الأوسط. ووضحت في هذا الإطار ملامح شديدة التحديد لسياسة منع انتشار نووي أمريكية أخطبوطية الشكل، تمتد أذرعها في أكثر من دولة، وتعمل في كل حالة بمنطق مختلف، مما أثار عدة إشكاليات تختلف أيضاً من حالة إلى أخرى.
1- الفشل النووي في حالة العراق
كان الفشل الأمريكي في التعامل مع ما تم تصويره على أنه حالة نووية عراقية هو السبب الرئيسي في فجوة المصداقية التي ضربت السياسة الأمريكية لمنع الانتشار في الشرق الأوسط. فقد كانت المدركات المسيطرة داخل الولايات المتحدة تجاه العراق طوال فترة التسعينيات وصولاً إلى عام 2003 تتسم بدرجة من السلبية أدت إلى وضع العراق في كل القوائم المتتالية لمناوئى الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. كما شكلت النشاطات النووية السابقة (1991 - 1998) للعراق وقودا دائماً لاتهامات إدارة الرئيس بوش الموجهة لنظام صدام حسين باستئناف برامجه النووية مرة أخرى بعد عام 1998.
كانت المشكلة هي أن الإدارة الأمريكية - وكذلك حكومة تونى بلير في بريطانيا - بدت وكأنها متأكدة تماماً من معلوماتها وتقديراتها بشأن إعادة تنشيط البرامج النووية العراقية، بدرجة رفضت معها كل التقديرات الأخرى، بما في ذلك تقارير لجنة الأمم المتحدة أنموفيك والوكالة الدولية (IAEA) التي استندت على عمليات التفتيش الميدانى، لكن الأهم أنها قد وظفت تلك المؤشرات كأسباب لغزو العراق، قبل أن يتضح أن كل ما أثير بهذا الشأن تقريباً قد ارتبط بمعلومات وتقديرات زائفة.
وقد ركز التفسير السائد لهذا الفشل عادة على أثر عامل التوجهات السياسية للمحافظين الجدد داخل إدارة الرئيس بوش. وتبعاً لهذا التفسير، فإن جماعة الاستخبارات قامت بتقديم تقديراتها الاستخباراتية بصورة محايدة للإدارة، وقامت الإدارة بطبخ المعلومات الاستخباراتية، لكن المسألة أعقد من ذلك. فقد كانت الإدارة قد قامت بخلق بيئة سياسية ضاغطة تحتل فيها اعتبارات الأمن القومي أولوية قصوى في ظل ما حدث في 11 سبتمبر 2001، وكان ثمة دعم عام واسع النطاق لتوجهات الإدارة بهذا الشأن.
في هذا الإطار كانت أجهزة الاستخبارات تتعرض لضغط هائل في اتجاه تقديم أدلة قوية بشأن امتلاك أسلحة التدمير الشامل في العراق، مما أدى إلى قيامها بإعداد تقرير عاجل في أكتوبر 2002، تم فيه رصد معلومات استندت على مصادر مشكوك فيها، متجاهلة آراء معارضة لوكالات مختلفة داخل جماعة الاستخبارات القومية، وتضمن التقدير المقدم كل المشاكل المتعلقة بإصدار الأحكام أو طريقة العرض،(3) مما أتاح فرصة لعمل التوجهات السياسية.
أما بالنسبة للكونجرس ومراكز الدراسات، فإن ما يبدو هو أن المناخ السياسي المسيطر قد مارس تأثيره أيضاً، واندفع الجانبان دون أية نظرة متأنية لطبيعة المعلومات الاستخباراتية، نحو تأييد التوجه الذي تبنته الإدارة الأمريكية.
من هنا تأتى تعقيدات صنع السياسة في واشنطن، فلا توجد في الواقع أدلة مباشرة تربط مسئولي الإدارة بالخطأ الذي وقعت فيه الاستخبارات، لكن هناك مؤشرات قوية تدعم مثل هذا الافتراض ظهرت مع الوقت. فقد أشار تقرير لجنة التحقيق التي شكلت من أعضاء بلجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأمريكي إلى أن اللجنة قد فوجئت بوجود فشل متعدد الأبعاد من جانب أجهزة الاستخبارات بهذا الشأن، لكن تقارير وتحليلات تالية قد تناولت بشكل أوسع نطاقاً من البعد الاستخباراتى الفني جوانب مختلفة تشير إلى فشل في عملية صنع القرار عموماً على مستويين(4):
أ- إن الإدارة قد أشاعت - كما تمت الإشارة - أجواء ضاغطة، على نحو مكنها من ممارسة ضغوط على جميع اللاعبين الآخرين (الاستخبارات، الكونجرس، مراكز الدراسات)، ومكنها من طبخ الاستخبارات.
ب- إن التقديرات الخاصة بنوايا العراق في مرحلة ما بعد 1998 قد استندت على تقديرات أسوأ حالة، وأسلوب التفكير الجماعى، وهو ما قاد جماعة الاستخبارات إلى التعامل مع معلومات غير دقيقة، والتوصل إلى تقديرات خاطئة.
لكن ظلت المسألة الأكثر تعقيداً، وهى طبيعة العلاقة الهيكلية بين الإدارة والاستخبارات في حاجة إلى مزيد من التحليل، فلم يكن يكفى للتعامل معها أن يتم الاعتماد على وقائع ما جرى، إذ أنه لا يشير إلى الكثير. فالقضية هي أن مسئولي الإدارة، الذين كانوا مؤيدين تقليدياً للحرب ضد العراق، هم الذين كانوا يحوزون التأثير السياسي الأقوى على وكالات الاستخبارات الأساسية المسئولة عن التقديرات المشار إليها.
إضافة لذلك، فإن ما يبدو هو أن أساليب جمع المعلومات لدى الاستخبارات لم تكن فعالة، وبالتالي خرجت النتائج النهائية في صورة تقديرات معقدة لقدرات العراق تتضمن العديد من التحفظات والأحكام غير المحددة والمترددة، التي تم تجاهلها في التقدير النهائي،(5) قبل أن يتضح أن المعلومات غير المحددة التي تم تقديمها هي في الحقيقة خاطئة، وأن أجهزة الاستخبارات ذاتها لم تكن متأكدة مما رصدته بشأنها، وبالتالي كان ما تم التوصل إليه سياسياً على أساسها مروعاً، وهو الأمر الذي يتكرر أحيانا بالنسبة لحالات أخرى بالشرق الأوسط.
2- تقدير المخاطر في حالة إيران
إن إيران قد اعتبرت بالنسبة للولايات المتحدة واحدة من حالتين تمثلان مصدر التهديد الأكثر خطورة لأجندة منع الانتشار النووي الأمريكية منذ منتصف عام 2003 على الأقل، بعد أن تم اكتشاف ما قامت به من نشاطات نووية سرية بشكل مؤكد، والحالة الثانية هنا هي كوريا الشمالية. ويتمثل العامل الرئيسي المؤثر على السياسة الأمريكية تجاه إيران في مدركات التهديد. فالتيار الرئيسي في واشنطن لديه قناعة بأن هناك احتمالات قوية لامتلاك إيران أسلحة نووية،(6) وأن تلك المسألة تمثل في ظل وجود ما يعتبر نظاما مارقا مصدر تهديد ملحا للأمن القومي الأمريكي.
وبعكس حالة العراق، فإن المنظور الأمريكي لإيران يقوم على معلومات ذات مصداقية عالية وحجج قوية من وجهة النظر الأمريكية، فامتلاك إيران للقنبلة سوف يؤدى إلى حالة من عدم الاستقرار الإقليمي، وقد يطلق موجة من الانتشار النووي في الشرق الأوسط، فمثل هذا السلاح سوف يمكن طهران من تهديد مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، لاسيما في ظل استمرار تطور برنامجها الصاروخي، كما سيؤدى إلى توجيه ضربة جديدة لمعاهدة منع انتشار الأسلحة النووية. وهناك احتمالات لقيام إيران - تبعاً لسيناريو أسوأ حالة - بإمداد عناصر إرهابية بأسلحة نووية، وهو ما يجعل الصورة أكثر حدة مما هي عليه في الواقع.
على أي حال، فإن تحليل النوايا يمثل الميكانيزم السياسي الأكثر أهمية الذي يسيطر في تلك الحالة، فالتقديرات الرسمية للحكومة الأمريكية تتركز في أن إيران تهدف إلى امتلاك دورة وقود نووي متكاملة، وأن ذلك سوف يمكنها من حيازة قدرات نووية متطورة. وتبعاً لعبارة جون بولتون وكيل وزارة الخارجية لشئون ضبط التسلح والأمن الدولى، فإن نمط الأكاذيب والتقارير غير المكتملة التي يتسم بها تعامل إيران مع الوكالة الدولية، يمثلان مؤشرات لا يرقى إليها الشك أو الخطأ بشأن نواياها النووية(7) وإن كانت بعض التقديرات تشير إلى أن إيران تمكنت من الحصول على مواد ومعدات نووية من الخارج بتكلفة محدودة، وأنها قد تعتمد عليها في تطوير خيارها النووي أكثر من دورة وقودها الذاتية، وهو ما ضاعف الشكوك الأمريكية في نوايا إيران النووية.
ويمثل عدم التمييز بين القدرات النووية المدنية والبرامج النووية العسكرية عاملاً مهما كذلك في تقديرات الاستخبارات بشأن إيران، فالولايات المتحدة لا تميز في حالة إيران بين امتلاك أسلحة نووية وإقامة برنامج مدني يتمتع ببعض الملامح المزدوجة التي تتيح إمكانية للتحول في اتجاهات عسكرية، ويجد ذلك تفسيره ببساطة في أن مدركات التهديد الأمريكية بشأن إيران، إضافة إلى شكل العلاقات الصراعية القائمة بين الطرفين، يتسمان بمستوى من الحدة لا يتيح اتجاهات أخرى للتفكير في واشنطن، لكن الأهم هو أنهما يفرزان توجهاً محدداً، هو أن الولايات المتحدة لا يجب بأي حال أن تسمح لإيران بتطوير القدرات النووية.
لكن التقديرات الأمريكية للخطر الإيراني ترتبط ببعض التفصيلات داخل دوائر الإدارة وأجهزة الاستخبارات ولجان الكونجرس ومراكز الدراسات، فهناك سؤالان يسيطران على الاهتمام الأمريكي، هما:
أ- ما هو مستوى تطور القدرات النووية الإيرانية، وإلى أي مدى تمكنها بنيتها التحتية الحالية من مرافق ومعدات ومواد من الحصول على مكونات السلاح النووي؟ وتتمثل أهمية إجابة هذا السؤال في أن بحث اتجاهات التحليل الرئيسية وأساليب التقديرات المتبعة بهذا الخصوص، قد يساهم في تحديد طبيعة الخيار الذي ستتبعه واشنطن في التعامل مع الحالة الإيرانية، فإما أن يتكرر نموذج الحوار النووي الذي تم اعتماده مع كوريا الشمالية، أو قد تتجه الإدارة الأمريكية أكثر نحو اتباع أساليب إكراهية.
ب- كيف يمكن حل تلك المعضلة؟ بالنسبة لهذا السؤال، فإن إدارة بوش تعتبر إيران دولة شريرة، لكن بعكس حالة العراق لا يبدو أن المشكلة الإيرانية يمكن حلها عسكرياً، ويبدو كذلك أن واشنطن راغبة في العمل مع الجماعة الدولية للتعامل مع تلك المشكلة. لكن هناك أيضاً جدال داخلي حول مدى واسع من الخيارات التي تتراوح بين فرض عقوبات ضد إيران أو بدء حوار مع الإيرانيين.
وتشير متابعة الجدل الدائر حول إيران في الولايات المتحدة، خاصة داخل مراكز الدراسات ولجان الكونجرس، إلى أن جماعة عدم الانتشار قد قامت بتطبيق كافة الميكانيزمات التقليدية في تصوراتها للتعامل مع حالة إيران، ووصل الأمر أحياناً إلى تحليلات معقدة تتبنى استراتيجيات ثنائية مركبة توازن بين الردع من الناحية والدبلوماسية من ناحية أخرى مع استمرار الضغوط متعددة الأطراف(
، كما أن بعضها يوصى بالتوصل إلى صفقة كبرى يتم في إطارها ربط إنهاء النشاطات النووية الإيرانية بتطبيع العلاقات الأمريكية الإيرانية(9).
وتتمثل أسس هذا النقاش في وجود اتجاه داخل الولايات المتحدة يذهب إلى أنه ليس من المتصور أن تقوم إيران بالتخلي عن كل طموحاتها النووية، إذ أنها قد استثمرت فيها حجماً أكبر مما هو معتاد - قياساً على البرامج النووية المعروفة - من الأموال، وأصبحت المسألة تمثل بالنسبة لها قضية كبرياء قومي(10). ويتمثل الحل الوسط الذي يجرى النقاش حوله كملاذ أخير في أن يتم السماح لإيران بالاحتفاظ ببرنامج نووي سلمى لأغراض الطاقة تحت ضمانات قوية، مع تخليها بشكل كامل عن برنامج تخصيب اليورانيوم أو أية تسهيلات لفصل البلوتونيوم، فلا يزال المنظور النهائي للولايات المتحدة بشأن النشاطات النووية الإيرانية تحت التشكيل.
3- النموذج المثالي في الحالة الليبية
في ديسمبر 2003، أعلنت ليبيا إنهاء كل برامج أسلحة التدمير الشامل التي كانت تمتلكها، وتخليها عن السعي لامتلاك تلك الخيارات، مع التزامها بشكل كامل بكل موجبات البروتوكول الإضافي لنظام ضمانات الوكالة الدولية، ومعاهدة حظر الأسلحة الكيماوية، وميثاق الأسلحة البيولوجية. وقد اعتبر هذا الإعلان في الولايات المتحدة انتصاراً كبيراً لسياسة منع الانتشار الأمريكية التي كانت تعانى من تداعيات التسييس في العراق، وضغوط المشكلة الإيرانية. لكن الأهم أن كثيرين في إدارة بوش بدأوا يراهنون على الحالة الليبية كنموذج يمكن الدفع في اتجاه اتباعه للتعامل مع الحالات الأخرى في الشرق الأوسط، مع إشارة إلى أنه يمثل نجاحاً لأسلوب العمل العسكري الذي اتبع في العراق(11).
لكن الحالة الليبية هي في الواقع أعقد كثيراً مما تبدو عليه، وهو ما أثير بشكل ما في بعض دوائر واشنطن، على الأقل في مراكز الأبحاث. فعلى الرغم من أن ليبيا كانت أكثر حالات الشرق الأوسط سهولة على الإطلاق في حل مشكلات الانتشار النووي، أو هذا ما بدا، ظلت هناك أسئلة كثيرة بدون إجابات نهائية، فإلى أي مدى كان البرنامج النووي الليبي متقدماً؟ ولماذا تخلت ليبيا عن خيارها النووي؟ وهل يمكن أن يعزى ذلك إلى ما حدث في العراق؟ لكن أهم تلك الأسئلة هو ما إذا كان من الممكن إعادة تطبيق ما أصبح يعرف باسم النموذج الليبي على حالات أخرى في الشرق الأوسط.
لقد كان القرار الليبي المنفرد بالتخلي من جانب واحد عن الخيار النووي يمثل بالتأكيد نجاحاً مهما للإدارة الأمريكية مقارنة بالحالات الأخرى في المنطقة، وربما في أقاليم أخرى. فقد أدى هذا القرار إلى حل مشكلة نووية مزمنة طويلة المدى، وكانت لدى ليبيا بالفعل بنية نووية حقيقية، وتم حل المشكلة بدون استخدام القوة، كما أن الحل كان كاملاً بدون ذيول. والأكثر من ذلك أنه قاد إلى اكتشاف شبكة منظمة شديدة الخطورة تدير تعاملات واسعة النطاق في السوق النووية السوداء، إضافة إلى فتح الطريق نحو التوصل إلى معلومات شديدة الدقة، ربما لأول مرة، حول نشاطات إيران النووية السرية، وهو ما أدى إلى تدعيم السياسة الأمريكية تجاه كل من باكستان وإيران، فيما يتعلق بالمشكلات النووية.
لكن رغم ذلك، كان ما حدث في حالة ليبيا مثالياً بدرجة لا تعبر عن عالم الواقع في الشئون النووية، فتحليل الظروف التي أحاطت بما تعتبره الإدارة الأمريكية نجاحاً في تلك الحالة يشير إلى أنها كانت نموذجاً فريداً، يصعب أن يوجد مثيل له بتلك الصورة في أي مكان آخر، على نحو توضحه عدة نقاط(12):
أ- إن مدركات التهديد الأمريكية بشأن ليبيا كانت أقل ضراوة مما كانت عليه بالنسبة لحالات الانتشار النووي الأخرى في المنطقة، فلم تكن ليبيا تصنف - قبل ما حدث- كمصدر تهديد خطر ملح كما هو الحال بالنسبة لإيران (وكوريا الشمالية) أو كما بدا قبل الحرب في حالة العراق، فلم تكن لليبيا علاقات بالقاعدة أو أحداث 11 سبتمبر (2001)، وقد أوقفت دعمها لجماعات الإرهاب، ولم تكن لها علاقة بالأصوليين الإسلاميين، وهو ما جعل من السهل بالنسبة لإدارة بوش أن تقبل حلاً سياسياً مع نظام العقيد القذافى الذي يصنف في واشنطن على أنه سلطوي، إذ لم يعترض أحد على التسوية التي تمت بتقديم ضمانات أمنية لليبيا بعدم السعي لتغيير النظام، وتبادل العلاقات الدبلوماسية، وحل معظم المشكلات المعلقة بين ليبيا والغرب.
ب- إن ليبيا كانت قد وصلت إلى قناعة، شكلت سياساتها قبل عدة سنوات، بضرورة تطوير علاقاتها مع الغرب، في وقت كانت الميول الخاصة بالعداء للولايات المتحدة تتضخم في دول أخرى بالشرق الأوسط على مستوى الأفكار والتوجهات، وكانت الدوافع الليبية الخاصة بتعديل وضعها الدولي وتطوير اقتصادها تتعمق مع الوقت. وعلى الرغم من أن مثل هذه الدوافع كانت قائمة أيضاً بالنسبة لدول أخرى في المنطقة، إلا أن مواطني تلك الدول - حسب اتجاه تحليلي داخل الولايات المتحدة - كانوا أقل رغبة في التعاون مع الغرب، مما كان قائماً بالنسبة لليبيين.
ج- إن السعي الليبي لامتلاك الأسلحة النووية - الذي اتسم بالإصرار- لم يكن نابعاً عن دوافع أمنية، لكن دوافع خاصة بالرغبة في التمتع بمكانة إقليمية، لذا فإن قرارها الخاص بالتخلي عن الخيار النووي لم يكن ليؤدى إلى إضرار كبير بحالتها الدفاعية. وفى الواقع، فإن الولايات المتحدة لم يكن لديها سوى معلومات استخباراتية محددة للغاية بشأن برنامج ليبيا النووي قبل واقعة احتجاز السفينة واعتراف ليبيا. فعلى الرغم من أن نوايا ليبيا النووية كانت واضحة تماماً، فإن قدراتها لم تكن معروفة خارج دائرة الشكوك والتوقعات.
د- إن الافتراض بأن ليبيا، أو أي حالة أخرى تالية لحرب العراق في المنطقة، قد تعاملت مع المسألة النووية تحت ضغط العمل العسكري ضد نظام صدام حسين، هو افتراض لا يمكن إثباته ببساطة، فمن المؤكد أن تبنى الولايات المتحدة لسياسة العمليات الوقائية أو المسبقة، وغزوها للعراق، وإسقاطها لنظامه السياسي قد ضاعفت مخاطر استمرار الاحتفاظ ببرامج أسلحة التدمير الشامل لدى ليبيا، لكن لا يوجد دليل على أن العمل العسكري قد مارس تأثيرات أساسية على القرار الليبي، فقد بدأت المحادثات السرية بينها وبين الولايات المتحدة وبريطانيا بشأن قدراتها النووية في يناير 2003، قبل حرب العراق أصلا.
إن حل المشكلة الليبية لم يكن نتيجة مباشرة لسنوات العزلة الدبلوماسية أو العقوبات الاقتصادية أو الضغط العسكري من جانب الولايات المتحدة أو الجماعة الدولية، على الرغم من أن هذه السياسات قد مارست تأثيرات قوية في اتجاه تقليص العوائد الناتجة عن برامج التسلح السرية مع رفع تكلفة الاحتفاظ بها. فما يبدو هو أن الأوضاع التي قادت ليبيا للتوجه في اتجاه التعاون مع الغرب هي التي شكلت الدوافع الأقوى لقرارها بالتخلي عن خيارها النووي، باعتباره استمرارا طبيعياً لهذا المسار، وحلا لمشكلة معلقة على جدول الأعمال الغربي بشأن ليبيا. لذا، فإن اتجاها تحليلياً رئيسياً في النقاشات الأمريكية أصبح يتداول فكرة أن حالة ليبيا لا تصلح للاستخدام كنموذج للتعامل مع حالات الانتشار النووي المستقبلية، حيث توجد محددات أخرى، لكن لا تزال الحالة الليبية محل نقاش داخل الولايات المتحدة.
4- الاستثناء النووي في حالة إسرائيل
إن إسرائيل لا تعد ضمن الحالات النووية الساخنة بالمعايير الأمريكية، فهي لا تمثل مشكلة تفرز ضغوطاً في اتجاه الاهتمام بها بشكل ملح، سواء بالنسبة لاتجاهات التهديد المرتبطة بها، أو التفاعلات الدائرة حولها. وفى الواقع، لم تتطور التوجهات الأمريكية الأساسية بشأنها عبر عدة عقود ماضية في اتجاهات جوهرية.
وعادة ما يبدو من تحليل السياسة الأمريكية أنه لا يوجد جديد على تلك الجبهة(13)، باستثناء ذلك الصداع الذي تسببه تلك المشكلة لبعض لاعبي عدم الانتشار الرئيسيين بواشنطن سواء في المنظمات الدولية، أو الندوات المشتركة أو لقاءات المسار الثاني ووسائل الإعلام، وأحياناً عند زيارة بعض المسئولين للمنطقة أو صياغة تقارير حالة الانتشار النووي الصادرة عن المؤسسات الرسمية، بفعل كونها مشكلة ساخنة طويلة المدى في الشرق الأوسط، وهو ما أدى إلى تحولها إلى قضية حرجة من قضايا جدول أعمال سياسة منع الانتشار الأمريكية.
تعتبر إسرائيل من المنظور الأمريكي هي الاستثناء النووي في منطقة الشرق الأوسط، فعلى الرغم مما أصبح معروفاً من أنها ربما تمتلك في الوقت الراهن ما لا يقل عن 200 رأس نووي(14)، لا توجد أي إشارة أو أي تحرك في اتجاه يشير إلى أن واشنطن ربما تكون بصدد إعادة تقييم تلك المشكلة. وهذا القبول الأمريكي لبرنامج التسلح النووي الإسرائيلي هو الذي خلق في الأساس ما يسمى سياسة المعايير المزدوجة التي تمارسها الولايات المتحدة على المستوى النووي من وجهة نظر دول الشرق الأوسط.
ولا توجد صعوبة في تحليل أسس المنظور الأمريكي تجاه تلك المشكلة، فالعامل الرئيسي الذي يؤثر على التوجهات الأمريكية بهذا الشأن، والذي التزمت به كل الإدارات الأمريكية هو العلاقة الاستراتيجية الخاصة بين الدولتين. فإسرائيل تعتبر من وجهة النظر الأمريكية حليفاً ثابتاً يعتمد عليه في إقليم صاخب غير مستقر، يشهد عداء متنامياً للولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة. يضاف لذلك أن التقاليد المؤسساتية المشتركة (الديمقراطية) والقيم الثقافية المشتركة تعمقان تلك العلاقة وتدعمان باستمرار تلك الفكرة السائدة في الولايات المتحدة بأن إسرائيل تمثل دولة نووية مسئولة.
لكن الأهم أن الولايات المتحدة تتفهم - من وجهة نظر معظم اللاعبين الرئيسيين - حاجة إسرائيل