مداخل دراسة العلاقات السياسية الدولية
د. محمد وقيع الله
مدخل:
هل يمكن وضعُ نظرية عليا لتحليل السياسات العالمية؟
هذا ما تتبارى لإنجازه أربعة مداخل كبرى في مجال تحليل تلك السياسات، يحاول كلٌّ منها أن يرسي ركيزة فلسفية كبرى، تستند إليها سلسلة من النظريات الوسطى والصغرى، ومجموعة من الافتراضات التي يمكن أن يجاب عنها من خلال مقولات النظرية العليا.
وإذا كانت السيطرة في مجال تحليل العلاقات الدولية، قد انعقدت للمنظور الواقعي الذي تضرب جذوره بعيداً في فلسفة "ميكيافيللي" و "هوبز"، بل يرجعها بعضهم إلى عهد "توسيديد"، إلاّ أنّ العقود القليلة الماضية قد شهدت بروز مداخل ثلاثة ظلت تقدم إفادات فلسفية تناهض مقولات المنظور الواقعي، وتمثل شبه انقلابات فكرية عليه. هذه المداخل الانقلابية هي على التوالي: 1- المدخل العالمي.
2- مدخل رفض التبعية.
3- المدخل الديني.
وقبل أن نتحدث عن هذه المداخل بشيء من التفصيل، لابُدّ أن نحدد ماذا نقصد بالنظرية العليا في تحليل العلاقات الدولية.
النظرية العليا:
هي بمنـزلة المنظور الأشمل الذي تُعالجُ من خلاله تفاصيلُ أحداث العلاقات الدولية، وهو منظور فلسفي في الأساس يستخدمه منظّرو السياسة العالمية لتحديد رؤيتهم للعالم، وما ينبغي أن يكون عليه، ويدلُّ ما إذا كانت نماذج التحليل التطبيقية متوافقةً مع تلك الرؤية الكونية الشاملة أم لا. و أما تلك الرؤية الكونية فهي في غالب الأحوال "حقيقة غائبة" يكوِّن عنها العلماء مجرد افتراضات واعتقادات ذات طابع تخميني حدسي.
و كل منظور يحاول أن يحدد طبيعة مناخ التعامل الدولي هل هي:
- طبيعة فوضى راسخة الجذور؟
- أم حالة تقسيم عمل دولي؟
- أم حالة "تدافع" مستمر؟
ويدخل في مهمة ذلك المنظور تحديدُ وَحَدات التعامل الدولي الأساسية، وكذا إجراء عمليات فرز شاملة لأنواع المشكلات الدولية، وتحديد ما يقع منها في نطاق المشكلات الحقيقية الأصيلة التي تلازم الطبيعة الاجتماعية للإنسان، وتشكل جزءاً من قَدَره الحتمي الدائم:
- أهي مشكلات الحرب والسلام؟
- أم هي مشكلات الظلم والاستغلال الاقتصادي؟
- أم مشكلات البيئة وحقوق الإنسان؟ أم مشكلات الكفر والإيمان؟ أم هي شيء غير ذلك؟!
و إذا رجعنا مرة :أخرى إلى أسلوب التجريد، فيمكن أن نُلَخّص ما سبق ذكره في الآتي: إن جوهر "النظرية العليا" في السياسة الدولية يتمثل في إجابتها عن أسئلة ثلاثة هي:
1- ما هي طبيعة المناخ السياسي العالمي؟
2- ما هي وَحَدات التعامل الأساسية على المستوى العالمي؟
3- ما هي أهم المشكلات التي تستعصي على الحل وتسهم في تفجير الأوضاع العالمية؟
ولكل مدخل من المداخل الأربعة إجاباته المختلفة عن هذه الأسئلة، وهو اختلاف يتأتّى من جهة انبثاقه عن مجموعة من المفاهيم الاعتقادية ا لجذرية. وإذا عدنا مرة أخرى إلى أسلوب التفصيل فيمكن أن نتعرف على ما تنطوي عليه هذه المدارس من مفاهيم وما يصدر عنها من استجابات. ولنبدأ حديثنا بتعريف هذه المداخل.
1- المدخل الواقعي (The Realist Parading)
لقد سلفت الإشارة إلى أنّ الفكر الواقعي ترجع جذوره إلى كتابات توسيديد وميكيافللي وهوبز وغيرهم من المفكرين الذين تميزوا بالصرامة والتشاؤم والتجافي عن المثالية. ولكن النهضة الحديثة للمدخل الواقعي في تحليل العلاقات الدولية، قد ارتبطت بالثورة على التيار المثالي الذي ساد فيما بين الحربين العالميتين، أي في الحقبة نفسها التي تأسست فيها دراسة العلاقات الدولية بوصلها علماً متخصِّصاً مستقلاً في الجامعات الغربية.2
وقد نحا فريقُ المثاليين بدراسة العلاقات الدولية في ضوء القانون الدولي، منحى تأكيد مكانة العقل والأعراف والمؤسسات الدولية بوصفها أدواتٍ لمنع الحروب والصراعات. ولذلك فقد دعوْا إلى عقد ولاء البشر لمصالح جماعية شاملة (common interests)، وذلك على العكس مما كان عليه الشأن من تأكيد أهمية مصالح الدولة القومية (National interests)، كما شجبوا ما يسمى بسياسة الأمر الواقع، وسياسة توازن القوى التي لم تحل دون اندلاع الحروب الأوربية، والحرب العالمية الأولى، التي كان لهيبها هو الذي أنضج فكر المثاليين.3
وقد انهارت آمال الواقعيين وانشجب تيارهم باندلاع حريق الحرب العالمية الثانية (1939-1944)، ثم انهالت نظريات مناقضة بدأت التأسيس الجديد للمذهب الواقعي. وكان ظهور كتاب السياسة بين الأمم: الصراع من أجل القوة والسلم،4 لهانس مورجانثو، بمنـزلة البداية الصلبة لتأسيس نظريات جديدة من نوع مغاير، كُتِبَ لها أن تكتسح الساحة العلمية الأمريكية والبريطانية، وأن تؤثر تأثيراً بالغاً في مؤسسات صناعة قرارات السياسة الخارجية في الدول الغربية كافة.
ومنذ ذلك الوقت وحتّى بداية الستينيات لم تزعزع أيةُ بوادر مغايرة5 هيمنةَ المدخل الواقعي خاصة على صعيد تقاليده ومعاييره الجوهرية. وبدا أن أية دراسة خصبة ذات مغزى لا بُدّ أن تنطلق من أرضية الواقعيين وتستلهم مسلماتهم الأولى. وبعد ذلك فلا مانع من التجديد، حتى وإن بدا في شكل انتقال نظري باهر، كذلك الذي قام به كينيث والتز الذي أسس مبدأ "الواقعية الجديدة" أو "الواقعية البنيوية"، وذلك في كتابه نظرية السياسة الدولية حيث جعل من علم الاقتصاد مرجعاُ لعلم العلاقات الدولية، بدلاً عن المرجعية القديمة للعلوم السلوكية، وفيه كرَّس نظرية "الاختيار العقلاني" المستوحاة من علم الاقتصاد الجزئي (Microeconomics) أداةً للبحث عن الأسلوب الأمثل لاستخدام القوة لتحقيق الأهداف القومية، هذا فضلاً عن تحديثه لنظريات النظام الدولي.
المدخل العالمي (The Global Paradigm)
استمرت أفكار المدرسة الواقعية تمارس سطوتها ونفوذها في حقل العلاقات الدولية حتى مطلع السبعينيات حين تم تدشين المدخل العالمي بالكتاب الجامع الذي حرره كل من روبرت كوهين وجوزيف ناي بعنوان:Transnational Relation and World Politics.6 وقد ضم الكتاب مجموعة من المقالات التنظيرية لنخبة جديدة تصدت لمواجهة المدخل الواقعي بتقاليده البحثية العتيدة، ومقولاته الصلبة، فضلاً عن مسلماته الفلسفية الأولى عن حالة الطبيعة الإنسانية. ولم تكد الدوائر الجامعية تستوعب مقولات ذلك المصنف الذي ظهر عام 1971م، حتى دفعت المطابع بأعمال تنظيرية وتأصيلية وتطبيقية عديدة لأقطاب ذلك المدخل منهم ستانلي هوفمان، ورتشارد مانسباش، وبيل فيرجسون، ودونالد لامبتر، وغيرهم ممن تأسست لهم مقاعد جديدة في أقسام العلوم السياسية بالجامعات الأمريكية، وأصبحو رموزاً بارزة في مجال التحليل السياسي الدولي.
وعلى الرغم من مناخ الحريات العقلية في الجامعات الأمريكية، إلاّ أن الواقعيين ما كانوا يتصورون أن تقوم دراسة العلوم السياسية على غير افتراضاتهم الأساسية عن طبيعة الإنسان، ومناخ الصراع الدولي، ومركزية أقضية الحرب والسلام. ولذلك فقد لاحقوا وحاصروا أية وجهة أخرى من التفكير السياسي على أساس أنها خارجة عن نطاق الواقع والعقل، وتعرض عدد كبير من الجامعيين الجدد من تلاميذ كوهين وناي وأتباعهما للكثير من العقبات وهم في طريقهم إلى اقتحام الجامعات ومراكز البحث (Think thanks). ولكن كما يصل كل تيار أصيل عارمٍ إلى غايته، فقد استطاع تلاميذ كوهين وناي دفع كثير من العقبات، وورثوا الكثير من تلك المقاعد الدراسية التي نُضِّدت للواقعيين، كما أصبح العديد من كتبهم مقرراتٍ دراسية في معظم أقسام العلوم السياسية.
وجاء تعيين جوزيف ناي في منصب مستشار وزير الدفاع الأمريكي لشؤون الأمن الدولي، ليشكل نقلة بعيدة في مجال الأفكار الموجهة للسياسة العالمية. وقد كان طبيعياً أن يأتي التعيين في ظل الواقع الدولي الذي أعقب اختتام فصول الحرب الباردة. وبذلك التعيين بدأ "العالميون" يتمكنون في نطاق مؤسسات صنع القرار، بعد أن حققوا نفوذاً لا بأس به في مجال التدريس الجامعي.
2- مدخل رفض التبعية (The Dependency Paradigm)
وعلى عكس ما يظن الكثيرون من أن مدخل التبعية –والأجدر أن يسمى بمدخل رفض التبعة- قد قام تماماً على أساس التراث الفكري الماركسي، فإن بعض منطلقاته لم تكن ماركسية، وبعضها ارتطم رأساً بمقولات ذلك التراث.
أبدى كل من ماركس وإنجلز تفاؤلهما بظاهرة تمدد الاستعمار الغربي، واعتبرا استعمار إنجلترا للهند، وفرنسا للجزائر، حدثين سعيدين يعجِّلان من نضج إمكانات الحضارة الغربية الرأسمالية، وبالتالي اختصار دورة حياتها. ومن ناحية أخرى فقد اعتقد الفيلسوفان الكبيران أن البلدان الشرقية ستجني فوائد بنيوية ضخمة من جراء نـزوح الرأسمالية إليها. وباختصار فإن المسألة عندهما لم كن من قبيل مباريات حاصل الصفر حيث إن غُرْم (أ) هو غُرْم (ب).
إن بعض منظري رفض التبعية الكبار ما كانوا ماركسيين وإنما بنيويون من مدرسة الوكالة الاقتصادية لأمريكا اللاتينية (ECLA) التي رأسها راؤول بريبيش Prebich، وكانت فحوى أفكارها أن تطور أمريكا اللاتنينية يقتضي تحريرها من آثار الاقتصاديات الأجنبية، وذلك برفع مستوى الضرائب الجمركية، وإنشاء صناعات محلية تفضي إلى إمكان تحكم الدولة في توجيه اقتصادها، وشلّ سيطرة الطبقة البرجوازية المحلية، المرتبطة بالخارج، التي دأبت على رهن مصالح بلدانها لصالح البلدان الرأسمالية الكبرى، وجعلها في حالة تبعية دائمة لتلك البلدان.
وقد التحق بهذا النوع من التحليل بعض أقطاب مدرسة اليسار الجديد، أو من يسمون بالماركسيين الجدد، الذين انخلعوا عن جمود النظرية الماركسية، واستوعبوا بعض الحقائق المخالفة لمقتضياتها. ومن هؤلاء الكتاب: البرازيليون: دوس سانتوس، وأوكتافيو لاني، وهانبيال كوينجانوا، والفنزويلي: رومولو بيتانكورت، والأمريكي: عمانويل وولرشتاين، ولعربي: سمير أمين، والأرجنتينيان: آرتورو فرونديزي، وهايا دي لاتور. وقد اشتقوا تنظيراتهم من دراسات مسحية كثيرة، واستعاروا لفظة "التبعية" من كتاب لينين: الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية. ولينين نفسه كان قد استعار لفظة التبعية من شولوزه غفيرتينتز في كتابه عن الإمبريالية البريطانية الذي استنتج فيها "أن أمريكا الجنوبية ولا سيما الأرجنتين في حالة تبعية مالية للندن لدرجة ينبغي نعتها بأنها تقريباً مستعمرة".7 وقد طور لينين ذلك المفهوم، وقسم العالم على أساس ذلك إلى بلدان مستقلة، وبلدان في حالة تبعية على الرغم من أنها مستقلة.8
3- المدخل الديني (the Religious Paradigm)
يستخدم قادة هذا التيار تصورات دينية في تحليل السياسة الدولية. وبالتأكيد فإن تأثير الدين في السياسة العالمية ليس أمراً جديداً، فمن قديم الزمان كانت التصورات والدوافع الدينية وراء أعمق الأحداث والتحولات السياسية العالمية (الفتح الإسلامي والحروب الصليبية، والحروب الأوربية في القرون الوسطى كأمثلة). ولم يكن إقصاء الدين عن الحياة السياسية خلال القرون الأخيرة حائلاً دون تسرب الدوافع الدينية إلى العمل السياسي، فقد شهد النصف الثاني من القرن العشرين بروز الدوافع الدينية بروزاً واضحاً في العمل السياسي العالمي (نشوء باكستان وإسرائيل على أسس دينية كمثالين لذلك). وجاءت ظواهر الصحو الديني على صعيد الأصولية البروتستانتينية، والأصولية اليهودية، وعلى صعيد البعث الإسلامي، وعلى صعيد الدينين الهندوسي والكونفشيوسي مؤشراتٍ على تصاعد تأثير العالم الديني في السياسات العالمية.
وفيما يأتي نتعرف على مدخلين اثنين من المداخل الدينية:
أ- المدخل الأصولي الإنجيلي الأمريكي (The Fundamentalist Paradigm)
إن اليمين الديني الأمريكي وليد النـزعة المحافظة التي تصاعدت في أمريكا عقب الحرب العالمية الثانية، وتغذَّت بالعداء للشيوعية وبمواجهة مظاهر "العلمنة" السياسية التي تجلت في النصف الأول من القرن العشرين.9 ويضم اليمين الديني تنظيمات متنوعة مثل "الأغلبية الأخلاقية"، و"التحالف النصراني"، و"اليمين الديني الجديد"، وشبكات تلفزيونية عديدة، هذا فضلاً عن المدارس، والجامعات، والكنائس، ويتمتع بشعبية ضاربة إذ تتجاوز قاعدته البشرية الأربعين مليون مواطن أمريكي،10 ويحاول أن يسيطر على مقاليد السياسة الأمريكية، ليوجهها وجهةً جديدة تحكمها المسلمات الدينية الإنجيلية.
ويكاد هذا التيار أن يسيطر سيطرة كاملة على فكر الحزب الجمهوري، ولأفكاره صدى أيضاً في أوساط الحزب الديمقراطي. وقد كان له فضل دعم كارتر لانتخابات الرئاسة في 1976 بناءً على برنامجه الانتخابي الذي تبنّى بعض أطروحات ذلك التيار، مثل تأكيده أن تأسيس إسرائيل المعاصرة تحقيق لنبوءات التوراة، وإعلانه انضمامه لطائفة "المولودين من جديد"، وهي من أشد الطوائف الأصولية تشدداً وتطرفاً. وقد حفظ كارتر الجميل لذلك التيار فبوأ قادته مراكز عليا في مجال تحليل السياسة الدولية، واقتراح البدائل التي تتخذ على أساسها القرارات.
وفي عهد الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان توالت سوابق مثيرة تمثلت في توجيهه مجلس الأمن القومي الأمريكي في 1982 لأن يستمع إلى تحليل في السياسة الخارجية من الزعيم الأصولي جيري فولويل الذي حدّث أعضاء المجلس عن حتمية الحرب النووية وبقية النبوءات والبشارات، وعن ضرورة استناد الاستراتيجية الأمريكية إلى هذه المرتكزات العقدية. كما استمع مسئولو التخطيط في البنتاغون إلى محاضرة أخرى شبيهة ألقاها عليهم الأصولي هالي لندسي مؤلف كتاب كوكب الأرض العظيم الراحل الذي سجل أعلى أرقام مبيعات الكتب في التاريخ الأمريكي، إذ طُبع أكثرَ من مائة طبعة ووزعت منه أكثر من 19 مليون نسخة. وهو الكتاب الذي عكف ريغان على قراءته وتبنى أطروحاته التي تؤكد مفاهيم نهاية الزمن وقرب الانفجار "الهولوكوست النووي" الذي سيشهده الجيل الحالي، وهو الجيل الذي سيكون آخر الأجيال التي يشهدها ذلك الكوكب.11 وتواصل تقريب أولئك الأصوليين في عهد الرئيس بوش حيث استُدعُوا غير مرة، خصوصاً أيام حرب الخليج الثانية، لتحليل بعض قضايا السياسة العالمية ومناقشتها.12
ب- المدخل الإسلامي (The IslAamic Paradigm)
لقد اتضحت الطبيعة العالمية لدين الإسلام منذ آيات التنـزيل الأولى، التي أشارت إلى أن رسالته مخاطبٌُ بها العالم أجمع. وفي إطار تعميم تلك الدعوة، كانت مخاطبات رسول الله لقادة الدول والإمارات والممالك المختلفة، ثم جاء انتشار الدعوة الإسلامية خارج جزيرة العرب، وامتداد الفتح الإسلامي من الصين شرقاً إلى الأندلس غرباً، تجسيداً آخر لتلك الدلالة.
وقد نما فقه العلاقات الدولية مترافقاً مع تلك التفاعلات، وبلور الفقهاء المسلمون الذين اعتنوا بالتنظير لهذا الجانب مجموعاتٍِ كبيرة من الاجتهادات، التي تحدد أهداف تل التفاعلات وضوابطها، في حالتي السلم أو الحرب على حد سواء. ويمكن اعتبار كتاب السِّيَر لمحمد بن الحسن الشيباني أول كتابٍ في مادة القانون الدولي، إذ إنه سبق في الظهور كتاب قوانين الحرب والسلام للهولندي هيوجو جرسيوس بأكثر من ثمانية قرون.
ولم تنفرد كتب السير والخراج، ولا كتب الفقه وحدها، بتسجيل الرؤى الإسلامية في قضايا العلاقات الدولية، وإنما توزعت تلك الرؤى في كتب التاريخ والتفسير ومقارنة الأديان وغيرها من الأعمال الموسوعية التراثية. ومع دخول العالم الإسلامي في أطوار التراجع والذبول طرأت علامات الضعف والضمور على فقه العلاقات الدولية المنطلق من النظرة الإسلامية، ثم خمد ذلك الفقه وجمد عندما فقد العالم الإسلامي إرادة المبادرة والتحرك، وسقط في قبضة الاستعمال.
وحتى بعد استقلال دول العالم الإسلامي، فإنها قد ظلت أسيرةَ حالة القابلية للاستعمار، وعلاقات التبعية التي رسختها سنوات الاستعمار الطويلة. ولم تعمد تلك الدول إلى استلهام الإسلام إطاراً توجيهياً لعلاقاتها الدولية، ولذلك لم يسجل فقهُ العلاقات الدولية الإسلامي أي تطور يذكر، ذلك أن الفقه إنما ينمو مع مواكبته للواقع، وتتجمد حركته عند استبعاده عن محك التطبيق.
وجُلُّ الجهد المبذول حالياً في الكتابات الإسلامية عن العلاقات الدولية، يدور حول بعض الجوانب النظرية العامة، لا سيما الجوانب القانونية والأخلاقية المثالية. وحتى في هذه الجوانب ليست هذه الكتابات إلاّ مجرد إعادة صياغة لفقه السِّيَر القديم، أو محاولات لنقد القانون الدولي الحديث وتقويمه من وجهة نظر إسلامية. ويندر في تلك الكتابات –وهذا طبيعي0 وجودُ أبحاث ناضجة حول قضايا القوة النسبية والتحالفات والنظام العالمي، والعلاقات الاقتصادية العالمية، وحل النـزاعات، وغير ذلك من القضايا الحية في مسائل السياسة العالمية.
ولننظر الآن –بعد هذا التعريف العام بمداخل تحليل العلاقات الدولية- في إجاباتك ل مدخل عن الأسئلة الثلاثة الكبرى عن مناخ العلاقات الدولية، ووحدات التعامل العالمين وأمهات المشكلات العالمية.
وحدات التحليل في السياسة الدولية:
أ- مناخ التبادل السياسي العالمي:
ورث الواقعيون نـزعة الشك العميقة لدى مكيافيللي، وهوبز، وروسو، الذين تصوروا أن حالة عدم الثقة هي الحالة التي تسود بين الدول، فلا أحد يثق بالآخر، ومن ثَمّ فلا بُدّ أن يأخذ كلّ طرف احتياطاته تحرُّزاً لأي خطر أو هجوم من الآخرين، سواء أكانوا أصدقاء13 أم أعداء. ولا يمكن، والحال كذلك، أن يثق حتى بإمكانية وفاء الآخرين ممن تدخل الدولة معهم في أحلاف أو مواثيق مكتوبة.
والمثال التقليدي الذي يورده هؤلاء هو مثال الصيادين الذين اتفقوا فيما بينهم على صيد غزال سمين كان كفيلاً بأن يقدم وجبة عشاء سخيَّة تكفيهم جميعاً، فحاصروا الغزال وكمن كل منهم في مرصد أو منفذ ينتظر أن يفلت منه، بينما تفرغ بعضهم لمناوشته من الداخل. غير أن أحدهم رأى أرنباً صغيراً، حسب أنه سيكفي لعشائه منفرداً، وانشغل بصيد الأرنب، تاركاً مرصده لينفذ منه الغزال ويهرب، وضاعت بذلك الوجبة الجماعية لقاء الطمع الفردي لصائد الأرنب.
هذه هي صورة النظام الدولي الذي يمكنه –نظرياً- أن يحقق الأمن والرخاء للجميع طالما التزموا بمقتضياته. ولكن الواقع شيء آخر، إذ تنعدم فيه إمكانية تأسيس مثل ذلك النظام، وتكثر فيها احتمالات بروز أمثال صائد الأرنب، ممن يفكرون انطلاقاً من مصالحها الخاصة الآنية، ضاربة عرض الحائط بمصالح الآخرين، وبمصالح النظام الدولي بعيدة المدى.
ويؤكد الواقعيون أن هذا المثال هو المنطبق على تاريخ العلاقات الدولية، منذ أن تأسست الدولة القومية الحديثة بعد صلح ويستفاليا (1648م) الذي وضع حداً للحروب الدينية الأوربية. وعلى الرغم من أن تجربة العلاقات الدولية التي ينطبق عليها ذلك المثال إنما هي تجربة أوربية في الصميم، حيث لم تنضمَّ إليها الدول الشرقية، وكذا الولايات المتحدة، إلا حديثاً جداً، ولم تكن تلك الدول سوى مجرد هوامش وملحقات للمركز الأوربي. إلا أنه قد طاب لمنظري المنظور الواقعي أن يجعلوا من تلك التجربة الأوربية نموذجاً للواقع الإنساني قاطبة، وأن يؤكدوا في غير ما تردد أن حالة الفوضى في بيئة العلاقات الدولية ستظل حالة أبدية، لأنها مشتقة من طبيعة الإنسان في الظلم والطمع وعدم الثقة بالآخرين.14
ويحدثنا أحد رواد المدخل الواقعي، وهو هانس مورجانثو، عن طبيعة النظام الدولي فيقول إنها تتألف من ست حقائق هي:
1- إن كل العلاقات السياسية تحكمها حالة الطبيعة الإنسانية الأولى التي لا تتغير.15 وتجاهل هذه الحقيقة يؤدي إلى الإخفاق الفادح، سواء على مستوى التحليل العلمي للعلاقات السياسية، أو على مستوى العمل السياسي.
2- إن رجال السياسة يفكرون دائماً في اتجاه كسب المزيد من القوة السياسية.16
3- إن السياسة الدولية هي صراع في سبيل القوة، لأن القوة سبيل كل أمة من أجل البقاء والنمو، وتوازن القوى هو السبيل لإدامة السلم.
4- لا سبيل إلى تطبيق القوانين والمثل الخلقية في ساحة العلاقات الدولية، وذلك فيما عدا ما يتطابق من تلك القوانين والمثل مع مصالح الطرف الأقوى. ولذلك فإن على قادة الدول أن يركزوا على الاعتبارات الأمنية التي تصون مستقبل بلدانهم لا على مجرد المطالب والقيم القانونية والأخلاقية.
5- يجب التفريق بين "الحقيقة" التي هي "القوة"، و"القيم" التي هي مجرد مثل "يوتوبية"، والاعتراف لكل أمة بمحصول قوتها فقط لا بمحصولها القيمي والديني والفكري، إلخ.
6- في تقويم الأحداث العالمية ينبغي أن نهتم بتحليل أمر واحد فقط هو: ماذا نتج عن ذلك التحرك السياسي من إضافة أو نقص بالنسبة لقوة الدولة التي قامت به؟17
هذه النقاط التي أوردها مورجانتو في مقدمة كتابه والتي تدور جميعاً حول فكرة القوة بوصفها هدف العلاقات الدولية ومحورها، وبوصفها هدف التحليل العلمي لهذه العلاقات، وبوصفها العملة السائدة في إطار التبادل الدولي، أصبحت بمنـزلة المتن الذي تولت شرحه بقية فصول الكتاب، وسائر كتب الواقعيين.
وإنما أُعطي موضوعُ "القوة" هذا التقدير الكبير بسبب ملاحظة الواقعيين غياب الحاكمية العالمية العليا التي يمكن أن تقوم بكبح الفوضى. ولذلك سمي المدخل الواقعي بمدخل القوة؛18 حتى إذا جاء كينيث والتز بنظرية النظام الدولي (system theory of international politics)، فإن الأمر أصبح ينظر إليه على النحو الآتي:
إن شكل النظام الدولي يختلف اختلافاً بيِّناً عن شكل النظام الداخلي للدولة القومية. فهذا الأخير يقوم على سلسلة واضحة من القوانين والمؤسسات المتنوعة وعلاقات الرئيس بالمرؤوس، وبذلك تنضبط جميع الممارسات لتحقيق أهداف الدولة بناءً ونمواً. أما النظام الدولي فإنه يقوم على وحدات ومؤسسات مستقلة (soveregin states) لا تربط بينها علاقات رئيس ومرؤوس، فضلاً عن أنها لا تحتكم إلى منظومة واضحة من القوانين ذات القوة النافذة. ولذلك فإن كل دولة تعتمد على نفسها في تحقيق أمنها في حالة شيوع الفوضى في العالم. ولا يعني شيوع الفوضى في النظام العالمي أنه يظل على حالة واحدة على الدوام، وإنما تصاب تلك الحال بتغيرات درامية هائلة كلما حدث اختلال في أقدار توزيع القوة. وعندها تتغير نوعية سلوك الدول الكبرى، ويتأثر تبعاً لذلك سلوك الدول الصغرى الخاضعة لولاءات الدول الكبرى وضغوطها ومصالحها. وفي النهاية فإن سلوك مختلف دول العالم يتأثر لا محالة بكل تغيير ثوري في معدلات توزيع القوة النسبية بين الدول الكبرى. فهذا هو المتغير الوحيد الذي يؤثر في حالة فوضى النظام الدولي، وفي سلوك جميع الدول بلا استثناء.19 ولذلك فإن تركيز نظرية العلاقات الدولية ينبغي أن يكون على قياس مقدرات الدول الكبرى وقوتها، لا على التغيرات التي تحصل بين مختلف الدول، فهي تغيرات مهما اتسعت فإنها لن تؤثر في بيئة النظم الدولي.
وعلى عكس ما يرى الواقعيون فإن العالميين يؤكدون أن مناخ العلاقات الدولية هو أقرب إلى حالة الاعتماد المشترك20 منه إلى حالة الفوضى والحرب. فهناك نوع من النظام الدولي آخذ في الاتساع والتكامل، وهو في طريقه إلى أن يفرض نفسه بوصفه نوعاً من العرف والقانون الدولي المقبول طواعية من جميع الدول.
ومَردُّ إيمانهم بهذا هو ملاحظتهم أن معظم اهتمامات الدول في سياستها الخارجية أصبحت تنصب على قضايا التطور التقني والاقتصادي، وذلك على حساب القضايا الأمنية، مما أدى إلى بروز مناخ من التفاهم والتعاون بين الدول، وإلى التخفيف من حدّة الاستقطاب والاستعداء فيما بينها.
وتبدو حالة الاعتماد المشترك أكثر ما تبدو على الصعيد العسكري، متمثلة في حالة الردع النووي المشترك، حيث تعتمد كل دولة من الدول النووية على الأخريات، لترسيخ حالة منع استخدام الأسلحة النووية. وتلك غاية استراتيجية مشتركة بين كل الدول التي تمتلك السلاح النووي، تدعو إلى انتهاج سياسة مشتركة باتجاه تقليص ميزانيات الصرف العسكري وخفض سباق التسلح.21
ويعتقد العالميون أن مثيلاً لتلك الحالة على الصعيد الاقتصادي يمكن أن يتحقق مع تواصل التطور التقني في وسائل الإنتاج والاتصال، الأمر الذي سيقود إلى تشابك حقيقي في المصالح الدولية، وانفتاح كامل للأسواق القومية لتجارات الدول الأخرى وبضائعها، ويقلل بالتالي من دواعي التوتر واحتمالات اندلاع الحروب.22
ولكن العالميين يعودون بعد ذلك ليؤكدوا أن تلك الخطوات لا تكفي للقضاء على كل ملامح الفوضى، فالنظم العالمية لا تزال هشة وستواصل الدول الكبرى الخروج عليها. كما يقر العالميون بأن العنف سيتمادى بسبب اشتعال النـزعات الإثنية والقومية، وتأجج الدعوات الأيديولوجية المطالبة بالتوزيع العادل للقوة والثروة بين دول العالم.
ويعتقد العالميون أيضاً أن التقدم الاقتصادي حتى لو ساد العالم بأكمله، لا يمكن أن يقوم تلقائياً ببسط السلام، ولا يمنع الانفجارات العسكرية الخطرة، ولكن يمكن توطيد أسس السلام ببذل مزيد من الجهد تجاه ضبط التسلح، وتشييد مزيد من مؤسسات التعاون على المستوى الدولي، ووضع مجموعات من الإجراءات والقوانين الكفيلة بحسم النـزاعات، ورصد طويل الأمد لمصادر مالية ضخمة بغرض مساعدة الدول الصغيرة اقتصادياً، وتأمين أوضاعها عسكريّاً.23 وعلى العموم فالمطلوب هو "إخضاع" السياسة العالمية لإطار مؤسسي، وإعطاء المؤسسات المنبثقة عنه نفوذاً أكبر لقيادة العالم نحو آفاق الاعتدال والتعاون والسلم والرفاهية.
ويرى هؤلاء أنه يمكن منذ الآن البدء بتشييد النظام الدولي، وأن الوقت الحالي هو الوقت الأنسب، بسبب ما انتهى إليه وضع العالم فعلاً من مستوى معقول من الاعتماد المشترك.24 وينصح خبراء السياسة العالمية "العالميون"، بأن تستثمر الولايات المتحدة هذا الوضع لترسيخه عالمياً، وأن تستبعد وَهْم دوام الهيمنة الأمريكية على شؤون العالم وهو الوهم الذي طفقت تبشر به طائفة مرموقة من الدعاة الواقعيين.
وهكذا فعلى الرغم من وجود خلافات جوهرية بين الواقعيين والعالميين إلاّ أن ثمة بعض نقاط اتفاق تجمع بينهم فيما يتصل بالنظر إلى طبيعة النظام الدولي. أما منظرو رفض التبعية، فإنهم يقفون بعيداً عن كل من الواقعيين والعالميين؛ وذلك لأن نظرتهم مستمدة من مقدمات فلسفية مختلفة تمام الاختلاف، ولذلك لم تعد قضايا الحرب والسلام محل تركيز منظري رفض التبعية، فهي عندهم قضايا هامشية أو مجرد أعراض للمرض الأصلي الذي ينصبُّ تركيزهم على معالجته. هذا المرض هو مناخ التبادل السياسي العالمي الذي تسوده ظاهرة تقسيم العـمل الدولي بين بلدان "المركز" و"الهامش" و"شبه الهامش"، وهو التقسيم النابع من طبيعة النظام الرأسمالي العالمي، القائم على تركيز رأس المال في المركز، وهي الوضعية التي أدت تاريخياً إلى حدوث الاستقطاب الحاد في النظام العالمي.25 ففي مراحل تاريخية منفصلة خلال القرون الأربعة الماضية، مكّن ذلك النمو الإنتاجي دولاً منفردة من الوصول إلى مركز الهيمنة العالمي منها: هولندا في منتصف القرن الثامن عشر، وبريطانيا في منتصف القرن التاسع عشر، والولايات المتحدة الأمريكية في منتصف القرن العشرين. وفي اعتقاد وولرشتاين فإن التفوق الاقتصادي –لا العسكري- لتلك الدول هو وحده الذي أهلها لمراكز الهيمنة على النظام العالمي.26
وفي مراحل تاريخية معينة انحدرت بعض الدول كإسبانيا والبرتغال من مقام "المركز" إلى مقام "شبه الهامش"، كما استطاعت دول أخرى كهولندا أن ترقي إلى مقام "المركز". ولكن نسبة لتأصيل نظام تقسيم العمل الدولي، لا يُنتظر أن يتكرر ذلك المثال في هذا العصر. وإلى أمد غير منظور سيظل مناخ التبادل العالمي محكوماً بظاهرة تقسيم العمل الرأسمالي، وسيظل مجموع الدول النامية، ومن بينها بقايا الدول الاشتراكية، محكوماً بشروط تقسيم العمل الدولي، وهي الشروط التي تضعها الدول الغنية للتعامل مع الدول الفقيرة، وهي معاملات لا يمكن أن تخرج عن قاعدة مباريات حاصل الصفر، حيث يكون التخلف "أو تقدم التخلف" (حسب اصطلاح فرانك قونديز) الوجه الآخر لعملية التطور، أي أن تطور المركز لا يعني إلاّ مزيداً من إفقار بلاد الأطراف واستنـزاف مقدراتها.27
وأما منظرو المدخل البروتستانتي فيرون أن مناخ العلاقات الدولية إنما هو مناخ الصراع الدائم، ولكنه صراع العقائد، لا صراع المصالح القومية كما يرى الواقعيون. وفي مجال الصراع العقائدي على هذا المستوى، يستصحب الأصوليون مجموعة مفاهيم قدرية لا تحمل النقاش، أهمها مفهوم "نهاية الزمن" الذي كان قد نحتَه من قدي أوغسطين، ثم سطا عليه هيجل، وشحنه بمضامين علمانية ذات طابع قومي، وواصل المهمة نفسها لبراليون آخرون آخرهم فرنسيس فوكوياما في حديثه عن نهاية التاريخ عقب سقوط الاتحاد السوفييتي. ولكن جاء الأصوليون أخيراً ليستخلصوا مفهومهم السليب، ويستخدموه في معناه القديم.
وفي تقدير الأصوليين فإن التاريخ البشري يسرع الخطى نحو نهاياته بطريقة قدرية لا تحكمه فيها عوامل سياسية ولا اقتصادية، وإنما تجره عوامل قدرية نحو الفصل الخاتم، فصل الصراع الدامي والمعارك المهلكة التي ستتمخض عن جيل الخلاص الذي سيمسح أوضار الشرك والعلمانية ويجلب عهد السلام الأبدي.
وهكذا فإن بيئة النظام العالمي ستظل بيئة الصراع الدائم والشر المستفحل، وليس ثمة أملٍ للسلام قبل انتهاء المعركة العظمى التي يسمونها أحياناً بـ"الهولوكوست النووي"، وأحياناً باسمها التاريخي "هرمجدون"، وهي المعركة التي ورد عنها خبر واحد فقط في الكتب المقدسة، يقول إنها تقع في آخر الزمان في أرض إسرائيل، ويسيل فيها الدم لمسافة 200 ميل من القدس، وتتحطم على إثرها كل مدن الأرض بالسلاح "النووي"؛ حتى إذا بدا الجنس البشري وكأنه قد تحطم عن آخره، ظهر المخلّص "المسيح" الذي سيجهز على بقايا الشر، ويصون حياة المؤمنين، ويصنع من بني إسرائيل أقوى دعاة الخلاص والإيمان.28
تلكم هي خلاصة آراء الأصوليين حول مناخ الصراعات الدولية، وهي آراء مستخلصة من الكتب الدينية، وخاصة "سفر الرؤيا"، وقد خضعت لتأويلات وتنـزيلات على أحداث كثيرة في هذا العصر، وربطت جميعاً بمسألة نهاية الزمن وتدمير الأرض. وقد غلب الجانب الدينية القدري فيها على الجانب التحليلي السياسي، حتى أطلق عليها أحد علماء السياسة المعاصرين اسم "سياسات يوم القيامة".29
وأما في الإسلام فإن القرآن الكريم يقرر في وضوح أن مناخ العلاقات الدولية، إنما هو مناخ الصراع والتدافع الدائم بين الأمم والأقوام. فهذه هي الصفة التي ميزت تاريخ الإنسان منذ القدم، إذ ظلت تجمعاته وتكتلاته في حالة صراع وتدافع دائمين، هما صراع وتدافع بين الحق والباطل والخير والشر. ولا تمثل صراعات المصالح القومية، أو الطبقات الاقتصادية، سوى صور مصغرة أو أنواع محدودة من جملة ذلك الصراع؛ وتاريخ الإنسان بنحو عام هو تاريخ الأديان السماوية. و"إذا نظرنا إلى التاريخ من زاوية حضارية نجد أن تاريخ العالم كان سجالاً بين الحق والباطل، بين الهدى والضلال، بين الإسلام [مجمل الرسالات السماوية] والشرك، في دورات لا تتوقف".30 ولم يخل أي عهد من عهود تاريخ البشر من صورة من صور ذلك الصراع، "فمع آدم كان إبليس، ومع قابيل كان هابيل، ومع إبراهيم النمرود، ومع موسى فرعون، ومع عيسى اليهود".31 وفي كل حين كان الخير يدافع الشر، ويناهضه، ويقوِّض شيئاً من سطوته وسلطانه على البشر، وذلك هو مصداق قول الله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ (البقرة:251)، وقوله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً (الحج: 40).
ومن أدق ما جاءت به نصوص القرآن الكريم، تقريرها حتمية التمايز والتفرق بين بني الإنسان، وذلك مثلما في قوله تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (المائدة:48)، فهذا نص صريح في دلالته على أن الله تعالى لم يشأ أن يجعل الناس أمة واحدة، ولذلك كثرت بين البشر الشرائع والمناهج، ابتلاءً للناس، ودعوة لهم لاستباق الهدى والخير.
وهذا النص تظاهره نصوص أخرى تؤكد وجود تلك الظاهرة في طبيعة التمدن الإنساني، منها قول الله تعالى: ... وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ . إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ (هود: 118-119)، وقوله تعالى: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا (الأنعام:53).
فهذه الآيات تقرر عدم إمكان توحد الجنس البشري في عقيدة واحدة، وبذلك يكون الإسلام هو الدين الوحيد الذي يقرُّ بحتمية التمايز، ويكلُّ عن دعوى قسر البشر جميعهم على منهجه، كما فعلت جميع الحضارات السالفة من لدن الحضارة اليونانية، التي عمل داعيتها الأكبر الإسكندر المقدوني على تعميم قيمها وأفكارها على البشرية قاطبة، وما فعله أباطرة الرومان في فتوحاتهم التي حاولوا فيها إعطاء القانون الروماني حاكمية على جميع البشر، وما فعلته الكنيسة في محاولاتها فرض النصرانية بالسيف، وما جرى في العصر الحديث من محاولات الشيوعية فرض نفسها أيديولوجية للمستقبل وإلى آخر الدهر، وما دعا ويدعو إليه المفكرون الليبراليون اليوم من دعاوى نهاية التاريخ بما انتهت إليه القيم الفلسفية الليبرالية، وما يبذله قادة الدول الرأسمالية الغريبة من محاولات لتعميم القيم الرأسمالية على بقية دول العالم.
لكن الإسلام مع إيمانه بواقع التدافع، لا يعمل على فرض إرادته على الجنس البشري أجمع، بل يقدم نفسه دينَ هداية، ولا يتجه إلى استئصال الأديان أو الأفكار الأخرى، ويكتفي بعرض نفسه في أجواء الحوار، ولا يستعين بالقوة أو "الجهاد" إلا لحماية حقه في البقاء وللمحافظة على وضع الحريات الدينية والفكرية في العالم. وفي هذا يقول المفكر الإسلامي المرحوم محمد جلال كشك: إن "إرادة الله ماضية في استمرار التمايز والتعدد وحماية حرية الإنسان في الاختيار، بدفع الناس بعضهم ببعض. ورسالة المسلم في هذا العالم هي تنفيذ هذه الإرادة الإلهية، [و] إعلاء كلمة الله، ومقاتلة كل حركة أو نظام أو عقيدة تحاول أن تعترض إرادة الله، بأن تفرض على الناس عقيدتها".32 وهو يرى أن الدين ألزمنا بأمرين: 1- الجهاد لحماية حق الاختيار وحسم كل من يفتئت هذا الحق؛ و 2- الإيمان بحتمية التمايز والتصدِّي لأي محاولة لإلغائه، وتنتهي مهمة المسلم دائماً بتبيين الرشد من الغي، وكلٌّ يختار لنفسه ما يشاء. ويعقب أستاذنا محمد جلال كشك على ذلك قائلاً: و"وجهة نظرنا إذاً في فلسفة الجهاد أنه ليس حرباً صليبية أو تبشيرية تستهدف هداية الجنس البشري ولا تحريره، بلهو رسالة المسلمين لحماية حق الاختيار، [و] حماية التعدد والتميز، [و] التصدي لمحاولات فرض العقيدة أو النظم بالقوة على الناس".33
فالجهاد الإسلامي إذاً هو مدافعة لاستبداد الباطل وافتئاته على حرية العقل الإنساني. والمسلم لا يبدأ الباطل بقتال حتى يستبدَّ ويطغى على حيِّز الحريات، الذي هو حيز طبيعي، تستوجب مصادرته المدافعة بالحق. وذلك هو مدلول التعبير القرآني، فالباطل يبدأ بالقتال دائماً والمسلم يدافع بالحق: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا (البقرة: 217).
وعلى الرغم من تقرير هذه الحقيقة التي هي بمنـزلة قانون أبدي من قوانين الصراع، فإن الإسلام يُبدي حرصه الدائم على السلم. بل إنه يفترض أن السلم هو حالة الأصل في علاقات المسلمين مع غيرهم، وذلك حتى يبادرهم ذلك الغير بالحرب. يبدو ذلك واضحاً في نصوص القرآن التي تدعو إلى السلم، وتمنع المسلمين من ابتدار العدوان، وتنهى عن رد العدوان بأكثر مما يتطلب الأمر. فالأصل في الإسلام هو حالة السلم، وهو الأصل المنبثق من حالة الإنسان الفطرية، ومن كونها "ليس شريراً ولا سيئاً في أصل فطرته، بل هو مُعَدٌّ إعداداً خاصاً، جسداً وعقلاً، ووجداناً وشعوراً، وإرادة حرة، جعله جديراً بحمل رسالة التكليف، وقادراً على تحقيقها، بتزكية نفسه... لتتم له الاستقامة".34
وهذا ما تقرره نصوص القرآن في مثل قول الله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم (التين:4)، وقوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (الروم:30)، وقوله : "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه" (رواه البخاري في كتاب الجنائز، ومسلم في كتاب القدر، ومالك في الموطأ).
فالفطرة الإنسانية في أصلها فطرة خير، والشر طارئ عليها، وإذاً فحالة السلم هي الأصل، والشر إنما يطرأ على حالة السلم، ولا يطغى عليها طغياناً كاملاً بحيث يصبح هو الأصل.
ويدعو القرآن –في آيات كثيرة- أتباعه للمحافظة على حالة السلم متى وجدت،35 والسعي إليها متى فقدت، والعمل على إقرارها ولو بشن الحرب على المعتدي، الذي يهدم حالة السلم. يقول الله تعالى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (البقرة:190)، ويقول: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (البقرة:193)، ويقول: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ (البقرة: 194)، ويقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (البقرة:208)، ويقول: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (الأنفال:61)، ويقول: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ (النساء: 94)، وهذه النصوص –كما هو واضح- تمنع الحرب لغير ما سبب. فابتغاء عرض الحياة الدنيا، "أو مصالح الدولة القومية"، ليس سبباً مشروعاً لإشعال الحرب. فالقتال الحق إنما هو في سبيل الله، وطلباً لمغانم الآخرة، وليس في أي سبيل آخر، ولا طلباً لأي عَرَضَ أو غَرَضٍ آخر.
إن السلام هو الإطار الصالح لتبليغ دعوة الإسلام، وهو الإطار الصالح لحياة البشر وتطور العمران. وفي ظل السلام يدعو الإسلام إلى التعاون والبر والقسط: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ (الممتحنة:
، وهكذا فإذا لم يقع الاعتداء والفتنة والنفي، فإن مناخ العلاقات الدولية يتهيأ للتبادل الإيجابي في مجالات الفكر، والعلم، والتجارة، والحركة، والسياسة، سواء في إطار اتفاقيات ثنائية، أو جماعية، أو في إطار منظمات عالمية مقصود بها تحقيق النفع الإنساني العام. "فإن البشر مهما انتشروا في أقاليم الأرض، أو تحيزوا جماعاتٍ وطنية، أو كتلاً قومية، فإن الأرض إطار واحد يقتضي علاقة وثيقة بين الناس، وإن الإنسانية فطرة واحدة تدعوهم إلى الائتلاف".36
وإذا كان المدخل الواقعي يقرر أن الأخلاق ليس لها حساب في مجال التبادل السياسي الدولي،37 فإن الإسلام يقرر غير ذلك. فللمسلمين مجموعة قيمٍ ملزمة، يستصحبونها في تفاعلهم عبر محيط التبادل السياسي العالمي؛ ولا يجرمنهم عداء قوم أو شنآنهم ألا يلتزموا بها. بل يجب عليهم الالتزام بها، حتى ولو لم يلتزمها الأعداء، وقد التزمها المسلمون فعلاً حينما اخترمها الخصوم. ولذلك فقد اندهش المؤرخون الغربيون كثيرا ًمن التزام صلاح الدين الأيوبي تلك المُثُل في مواجهة من لم يَرْعَوْا في جيشه إلا ولا ذمة. ولم يَسَعْ مجيد خدوري -من المعاصرين- إلا أن يعترف –على الرغم من تحامله- بأن القانون الدولي الإسلامي يقف أحياناً في صف خصوم المسلمين، ويرعى مصالحهم على حساب مصلحة المسلمين. وأخيراً فقد كتب تروي توماس مقارناً بين اتفاقية جنيف لمعاملة أسرى الحرب (POWS) ومقررات الفقه الدولي الإسلامي، قائلاً إن اتفاقية جنيف تقرر وجوب معاملة أسرى الحرب حسب سجون الدولة التي تأسرهم، وهي اتفاقية مثالية، وقلما عُمِل بها في تاريخ الحروب الحديثة. ولكن في التاريخ الإسلامي رأينا أن ما يعنيه التشريع الإسلامي قد طبق فعلاً؛ وكان الجند المسلمون يعاملون أسرى الحرب ويطعمونهم –حسب وصية رسول الإسلام- أفضل أنواع الطعام، بينما يكتفي الجند بما دون ذلك، ولا يكلفونهم بالأعمال الشاقة، ولا يطالبونهم بدفع تكاليف الإطعام والإيواء عند إطلاق سراحهم.
إن اتفاقية جنيف تطالب بأن تتم معاملة أسرى الحرب بالمثل. وفي حالة إخلال إحدى الدول بتلك المعاملة، فقد أعطت الاتفاقية الدولة الأخرى حق المعاملة بالمثل. ولكن كتب السِّيَر تقرر أن على المسلمين أن يلتزموا، ولو من جانب واحد، بالاتفاق الحسن، بغض النظر عن التزام العدو أو تجاوزه للاتفاق، وذلك فيما عدا حالة الاسترقاق، إذ هي الحالة الوحيدة التي يجوز فيها التعامل بالمثل.38
هذا هو الفرق بين النظرة الإسلامية للحالة الإنسانية، وبين التيار الأصولي الإنجيلي الذي لا يرى قيمة للإنسان إلاّ إذا اعتنق الأفكار الأصولية. إن الإسلام يؤمن بحالة التدافع ولكنه لا يسعى لفرض عقائده قسراً على الناس، وذلك على عكس التيار الأصولي الإنجيلي الذي يؤمن بحالة الاقتحام والحرب سبيلاً لفرض عقائده الدينية على المجتمع العالمي.
ب- وحدة التعامل على المستوى العالمي
يعتقد الواقعيون أن وحدة التعامل على المستوى الدولي هي الدولة القومية لا غير، وهي قد ظلت كذلك منذ اختتام الحروب الصليبية الأوروبية بحرب الثلاثين عاماً التي تمخضت عنها اتفاقية صلح ويستفاليا عام 1648م، التي أنهت وجود الإمبرطورية الرومانية، وقوضت السلطة العالمية التي كانت متجسدة في سلطان البابا الذي كان أشبه بحكومة عالمية على مستوى أوربا، وأنهت شتات "دول المدينة" (City states)، والمقاطعات الصغيرة التي تناثرت بالمئات على الجغرافية الأوربية. وكان نتاجٍ تلك التحولات الحاسمة ظهور الدولة القومية ذات السيادة39 (Sovereign states) بوصفها وحدة سياسية ذات فاعلية على المستوى القومي الداخلي وعى المستوى الدولي كذلك.
وجاءت تطورات القانون الدولي لتُضفي مزيداً من الشرعية على الدولة القومية الوليدة، حيث تم تبادل الاعتراف بترسيم الحدود على خريطة أوروبا المستحدثة، كما تم تقنين التبادل الدبلوماسي. وشهد التاريخ الأوربي لأول مرة ظاهرة البعثات الدبلوماسية الدائمة المقيمة في السفارات، وساعد تأجج المشاعر القومية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر على إضفاء مزيد من الشرعية والاعتراف بكيان الدولة القومية، حتى إن الفكر الهيجلي في مسايرته لتلك المشاعر القومية الملتهبة أفضى إلى الاعتراف بالدولة القومية إلهاً يحدد مسيرة الجنس البشري وصيرورته.
إن المؤثر الأكبر في اتجاهات العلاقات الدولية إنما هي الدولة القومية، ولا يعتبر قادة تلك الدول إلاّ مجرد ممثلين لدولهم، ولا ينظر للمنظمات الدولية إلاّ على أنها تكوينات صورية تستمد قوتها من اشتراك الدول في تسيير شؤونها. فالدولة هي الكيان الوحيد المستقل الذي يملك المشروعية القانونية كما يملك مصادر القوة40 التي تمكنه من تنفيذ إرادته.
ويدعى منظرو المذهب الواقعي أن نموذج الدولة القومية سيستمر بشكله الحاضر إلى أمد غير منظور، ليس بسبب عجز الإنسان –أو التاريخ- عن ابتكار كيان سياسي آخر، وإنما بسبب وجود الدولة القومية ذاته، الذي يشكل عقبة تشلُّ أية محاولة لابتكار بديل عنها أو تحقيقه. وهكذا يصل الواقعيون الذين يصرون على تبني مناهج البحث العملي التجريبي (Empirical) إلى تبني مثل تلك الآراء ذات النـزعة الحتمية المثالية، التي تضفي على كيان الدولة القومية