يبدل العاملون في الحقل الدبلوماسي و السياسة الخارجية الكثير من الجهد لتصريف مجهوداتهم و
توظيفها لتسيير و إدارة هذا الحقل الذي يترجم في مستوياته العليا إرادة الدولة الخارجية و نهجها
الإستراتيجي، غير أن في غالب الأحيان قد يصرفون النظر عن أطروحات الأوساط الأكاديمية و النظرية، فهل بالإمكان تجاهل العالم النظري المجرد و العالم الواقعي حيث تمارس السياسة، و هل الممارسة تحتاج إلى البناءات النظرية لتغذية و شحن أنساقها بالكم الهائل من المعلومات و التحليلات العلمية التي تنساق نحو الظواهر الدولية لتحليلها و تكييفها، و استعمال المناهج الإمبريقية القادرة على توصيف هذه الظواهر (1) وهل نحن في حاجة ماسة للمقاربات النظرية حتى ندرك و نستوعب الفعل و السلوك الدولي؟ أم أن الممارسة تنعزل بعيدا عن مجال التفكير و التأمل و تتعامل مع الأحداث دون دراسة أو توجيه مسبق ؟
من دون شك، أن العديد من صانعي القرار السياسي، يقفزون عن قصد أو بدون قصد عن النظريات و الأطر المعرفية في السياسة الخارجية، و يستعيضون بدلا عنها بأفكار خاصة بهم تنتمي إلى منظومة التوجهات العقدية و الإيديولوجية التي يعتنقونها، و المرجعيات والتجارب التاريخية التي تشكل في حد ذاتها إرثا تجريبيا و عمليا يدفع أغلب المشتغلين بالشؤون الدولية يرجعون إليها لتغليب توجه ،سلوك أو قرار معين(2).
إن أغلب العاملين في حقل العلاقات الدولية في الدول الديمقراطية، يدركون معنى صياغة تمفصلات لنظرية سياسية و محاولة تطبيقها على أرض الواقع، حيث أن التباين في وجهات النظر تجاه السياسة المتبعة، يعود بالضرورة إلى الاختلاف الجوهري حول العوامل الأساسية التي تسهم في صياغة محصلات التفاعل الدولي، و نجد في هذا الصدد العديد من نماذج مراكز الأبحاث تعمل على دراسة مكونات و دوافع القرارات الدولية بل وتوجيهها وفق نظريات و أفكار تخدم في واقع الحال هذه الدوافع.
فالنظرية في أحيان كثيرة تنعت بأنها غير بريئة، و تحتاج إلى التوقف و التأمل في ماهيتها للتيقن من الأغراض الدفينة و الكامنة وراءها، كما أشار "كوكس" عام 1982 في عبارته الشهيرة إلى أن "النظرية هي دوما من أجل أحد ما و لهدف معين" ،فنحن في حاجة دائما إلى اختبار جملة من النظريات و الأنساق الفكرية لتحليل توجه حقل العلاقات الدولية.
1/ هل النظرية مفتاح لفهم الأحداث الدولية ؟
يدل مفهوم النظرية في التمثل الشائع على الرأي الشخصي أو التمثلات و الأحكام الفردية، التي قد يتبناها شخص حول قضية ما أو مسألة معينة، لذا يشترط أن تكون النظرية مرتبطة بالممارسة و العمل, من هنا نستنتج أن مفهوم النظرية في الدلالة الشائعة تحمل بعدا برجماتيا يعبر عن أراء شخص أو مجموعة أشخاص أو اتحاد فكري نحو مسألة بعينها.(3)
ما هي إذن طبيعة العلاقة التي تجمع بين النظرية في دراسة العلاقات الدولية و تصورات ممارستها؟
في معرض الجواب عن هذا الإشكال المحوري، نعتبر أن الطرح الذي يحظى بالرواج و الجاذبية، هو الذي يشير إلى تواري و أفول دور النظرية و طغيان الفضاء الوقائعي المتشكل من نسيج الأحداث و التفاعلات الدولية، لدرجة اعتقد معها الكثير أن الأفكار لا تصنع الأحداث، و خاصة أن العديد من المفكرين لم يستطيعوا التنبؤ و توقع أحداث كسرت وتيرة التاريخ، كانهيار جدار برلين، و أدخلت بذلك مجموعة ن التفسيرات المرتكزة على منطق الحرب الباردة إلى قاعة الاحتضار.
في الحديث عن طبيعة العلاقة بين التأصيل النظري لدى الأوساط الأكاديمية و الممارسة العملية، تثار الملاحظات التالية: * لقد تزامن طرح هذا النوع من الأسئلة مع بداية الحرب الأمريكية على العراق، تلك الحرب التي ناءت فيها الأوساط البحثية و الأكاديمية بعيدا و كأنها لا علاقة لهذه الحرب بما يتم دراسته في حقل العلاقات الدولية، فعندما عقدت جمعية الدراسات الدولية ملتقى "بورتلاند" في شهر فبراير 2003، أي عشية اندلاع الحرب على العراق، لم تتعرض بأدنى إشارة لموضوع الحرب، و كان قبل ذلك أحداث الحادي عشرة من سبتمبر و الحرب على أفغانستان، و كل ما تخلل تلك الفترة من المواجهات بين الفلسطينيين و الإسرائيليين و تعثر مسلسل السلام بينهم.
* إن الطريقة التي تعامل بها الأكاديميون مع الأحداث المعاصرة اتسمت بالجمود و عدم الاهتمام، الشيء الذي يجعل من الوقت الحاضر مناسبا للبحث في الروابط بين النظرية و الممارسة(4).
* لقد نبهت أحدات الحادي عشر من سبتمبر و غزو العراق الباحثين في العلاقات الدولية إلى دور العوامل العقدية و الإيديولوجية الذاتية في إفراز سلوك معارض يعزف خارج محور الدول العظمى، الشيء الذي ساهم في اغناء النقاش و معارضة الافتراضات الكبرى الأساسية في علم الاجتماع الغربي، و لا سيما تلك التي تتعلق بعقلانية الفعل الإنساني و الاجتماعي، و ترى هذه العقلانية أن العالم يتجه نحو مصير مشترك يتسم بالديمقراطية الليبرالية و اقتصاد السوق، و لا تبالي في الوقت ذاته بالخصوصيات الذاتية للشعوب و الاختلاف الحضاري.
يبقى السؤال المحوري و الأكثر إلحاحا هو هل الأكاديميون المشتغلون بحقل العلاقات الدولية، ملزمون بالتمرس و إدراك طبيعة الاكراهات التي تفرضها الممارسة ؟ أم أنه يتوجب عليهم الابتعاد عن مجالات التفاعل، طالما أن التوجه الأكاديمي يعني أن يلتزم المرء بالحياد والموضوعية؟
إن الكثير من الباحثين حاولوا جهد الإمكان تحليل الواقع و بناء نظريات انطلاقا مما تتيحه من ممكنات معاينة متغيرات الأحداث في الواقع الدولي، و آخرون انطلقوا من البناءات الفكرية و التأملية في محاولة للاستقراء النظري الصرف، فيتم القفز عن فهم الواقع و إدراكه و تجاوزه على اثر تحليل السلوك الخارجي مع اقتراح نماذج و صيغ من العلاقات و المعاملات الدولية، و هذا ما يسمى بحرب البراديغمات
(5).« LA BATAILLE DES PARADIGMES »
2/ حول نجاعة المقاربات النظرية في فهم الواقع الدولي
إن أهم أسباب الخلافات بين هذه البراديغمات، يرجع إلى تعقد مجال العلاقات الدولية و الطابع المركب لهذه العلاقات من جهة، و الاختلاف في المنطلقات و الدوافع الإيديولوجية التي ينطلق منها كل مقترب من جهة ثانية. لاشك أن اختيار العمل بمصطلح "البراد يغم" هو أجدى و أنفع، حيث أن السمة المميزة لهذا الحقل هو نسبية هذه البراديغمات التي لا تكاد ترقى حسب العديد من الباحثين إلى مستوى النظرية، بل هناك أقطاب براديغماتية في خدمة مصالح و أهداف معينة، و بعبارة أخرى قد لا تتوفر أحيانا الشروط الموضوعية للعلمية، و يمكن الحديث عن وجود نزوعات إيديولوجية تؤطر بشكل عام توجه أصحابها.
فالنظرية الواقعية، قامت على أنقاض النظرية المثالية التي دعت إلى تجاوز الخلافات بين الدول عبر سيادة القانون الدولي و رفض طغيان مصالح الكيانات الدولتية على نسق التحالفات الدولية، ويعتبر أبرز ممثلي هذا التيار أمثال "كينان" و "مورغنتاو"أن النظام الدولي ذو طبيعة فوضوية يسيره قانون وحيد وأوحد هو فانون النزاع و الاستئثار بالمصالح الوطنية اعتمادا على منطق القوة و إشباع أنانية الإنسان،
فالواقعية حسب ما يبدو فهي حصيلة تجربة و فهم امبريقي للسياسة.
و على خلاف المدرسة الواقعية، فقد أضافت تجربة الواقعية الجديدة و طورت نظرية العلاقات الدولية، فقد قدم "كينيت وولز" في كتابه "نظرية السياسات الدولية " سنة 1979، مفهوما جديدا للسياسة الخارجية يقوم على فهم النظام و ليس الأشخاص أو الدول- كما نهج رواد التصور الواقعي-و كذا التركيز على دراسة المظاهر الاقتصادية الدولية، مع تطوير نظرية الاستقرار الهيمني، بمعنى الحفاظ على الوضع القائم، حينما تحاول قوة عظمى فرض مفهومها و تصورها على الجميع، كما هو الشأن بالنسبة لمبادرة تأسيس مؤسسات مالية دولية ذات طبيعة ليبرالية ( أوفاق بروتن وودز) لدعم تصورها و نظرتها الإيديولوجية.
أما بالنسبة لحالة الفوضى حسب هذا الاتجاه، فإنها تدفع الدول إلى تبني مواقف واقعية، و تبقى دراسة النسق العام أو النظام المتحكم في التفاعلات الدولية، هو من أولويات هذا المقترب، في حين يحتل الدين،علم النفس، السياسة الداخلية و الاقتصاد مرتبة ثانوية.
دون التطرق لمميزات العديد من المقتربات النظرية، أعتقد أن كل براد يغم حاول تفنيد و تصويب بناءات و معطيات البراد يغم السابق، و هذا ما يفسر أيضا ظهور المدرسة السلوكية، البنائية، الليبرالية و غيرها من التيارات في العلاقات الدولية (7).
في كتابه المعنون ب "ماذا تفعل الدول بالفوضى" في سنة 1992، دفع "الكسندر ووندت" بالمقترب البنائي إلى صف الرهان المفاهيمي للعلاقات الدولية، فهذا المقترب لم يحاول البحث فقط عن فهم التعارض القائم بين العقلانية و التأملية،و لكنه فتح المجال لإعادة التفكير في الموضوعات المركزية لهذا التخصص من قبيل الفوضى في النظام الدولي،توازن القوى، المصلحة و النظام و دور المؤسسات.
و بالانخراط في هذا المنطق، فان البنائية تعتمد على سوسيولوجيا التفاعلات مع تقوية مفهوم الهوية (
.
فهذا الاتجاه يركز على تأثير الأفكار، فبدلا من النظر إلى الدولة كمعطى مسبق و الافتراض أنها تعمل من أجل بقاءها، يرى البنائيون أن الهوية تتفاعل عبر عمليات اجتماعية( تاريخية)، كما يولون أهمية للخطاب السائد في المجتمع، لأن هذا الخطاب يعكس و يشكل في الوقت ذاته المعتقدات و المصالح، و يؤسس أيضا لسلوكيات تحضي بالقبول ، فالبنائية تهتم أساسا بمصدر التحول و التغير، و هذه المقاربة حلت بشكل كبير محل الماركسية كمنظور راديكالي للشؤون الدولية.
أما بالنسبة للمقترب الليبرالي، و ضدا عن مجرى النظرية الواقعية و غيرها، فهو يعتبر الليبرالية هي الفكر المهيمن القادر على إنتاج الأبعاد التفسيرية الضرورية للعلاقات الدولية، فالتطور العلمي و التكنولوجيا المتقدمة و التحولات الاقتصادية، ساهمت بدورها في إرساء قواعد متينة لليبرالية كنموذج فكري ازدهر بداية مع رواد مدرسة القانون الدولي أمثال جون بودان(1552-1608) و غروسيوس ( في كتابه قانون الحرب و السلم سنة 1625)، هؤلاء عملوا على تمجيد الحرية الشخصية و تضخيم مكانة الفرد داخل الدولة و المجتمع و سيادة القانون على أطماع و أنانية الدول.
أما الليبرالية الجديدة، فقد تجاوزت الإطار الضيق للسيادة الوطنية، لتصل إلى وضع لبنات للتعاون الدولي على غرار دعم المنظمات و المؤسسات الإقليمية و الدولية التي ما فتئ دورها يتنامى بشكل كبير، ومن أبرز تياراتها الوظيفية و الوظيفية الجديدة، و يعتقد "ديفيد ميتيراني" أن ظهور هذه المنظمات هو تلبية حقيقية لرغبات وظيفية للرأي العام و التكنوقراط على وجه الخصوص الذين يحبذون السير في اتجاه المسار العبر الوطني، و يرجع الفضل في ذلك إلى ازدهار وسائط الاتصال و سهولة تبادل المعلومات، مما أدى إلى خلق بنية مشتركة تتمثل في المنظمات الدولية التي تتعهد بانجاز مهام الاتصال و التقارب بين الدول و الشعوب.
و ضمن تيار الليبرالية الجديدة، أشار" كارل دوتش" و هو يفكر من داخل حلقة الاندماج إلى دور التواصل و الإعلام بين الأفراد و الجماعات ، و سجل كل من" كيوهان" و" واي" أن العلاقات الدولية يجب أن تتجاوز إطار العلاقات بين الكيانات الدولية، لتدخل غمار العلاقات العبر وطنية.
من ناحية أخرى، لا يمكن إغفال نظريات أخرى دعت إلى تبني رؤى مغايرة حول الواقع الدولي، كنظرية التبعية التي طورها بعض مفكري دول العالم الثالث، و بموازاة مع ذلك برزت نظريات سياسية و أكاديمية حاولت تفسير المتغيرات الدولية بعد نهاية الحرب الباردة، وتتنبأ بنوع و طبيعة الصراعات العالمية المرتقبة من قبيل مقولة نهاية التاريخ ا "فرانسيس فوكوياما" و مقولة صراع الحضارات ل "صامويل هانتغتون" التي تختزل الصراعات المقبلة في الجوانب الدينية و الثقافية (9).
في الحقيقة، لا يمكن لمقاربة منفردة أن تدعي الإطلاق و الصرامة في استيعاب و إدراك أبعاد التعقيد المميز للسياسة العالمية، فنحن إزاء مجموعة كبيرة من الأفكار المتنافسة، وليس إزاء تقليد نظري واحد، وهذا التنافس بين النظريات يساعد على معرفة مواطن القوة و الضعف فيها، و يثير بالتالي التحويرات اللازم إجرائها عليها.
3/ قراءات متعددة لنظام دولي واحد
لقد تعددت القراءات و التحليلات للأحداث الدولية و النظام الدولي الجديد، كما أن أحداث الحادي عشرة من سبتمبر، دفعت بالعديد من المحللين إلى إعادة قراءة النظام الدولي، الذي بدأت ملامحه الأولى توحي ببوادر السيطرة و الهيمنة الأمريكية، بداية بالتدخل الأمريكي بأفغانستان ووصولا إلى التدخل العسكري في العراق، بناء على ذلك، فان الأوضاع الجيوستراتيجية لما بعد نهاية الحرب الباردة، تتطلب أكثر من أي وقت مضى لإعادة صياغة البراديغمات التي تحتكم في السابق إلى منطق التنافسية الثنائية بين القطبين و الصراع على مناطق النفوذ بين المعسكر الاشتراكي بزعامة الإتحاد السوفيتي البائد و المعسكر الغربي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية.
إن هذه التحولات المركزية في بنية النظام الدولي، لم تسلم من أثارها و نتائجها الاستراتيجيات الوطنية و الجهوية، و أفرزت العديد من القراءات لمحتوى و طبيعة هذه التحولات، فمن الدارسين من ألبس النظام صبغة الأحادية القطبية، و منهم من اعتبره أقرب إلى التعددية منه إلى الأحادية ، على أن العلاقات الدولية تعرف بعد نهاية الحرب الباردة العديد من التموجات الوقائعية و المعطيات الحاسمة، مما يعطي الانطباع أن النظام الدولي لم تكتمل صورته النظامية بعد (10).
لقد عنيت مجمل هذه الدراسات بمعاينة نوعية التحول في النظام الدولي انطلاقا من مؤشرات أساسية و هي: تعدد الفاعلين، طبيعة النظام الدولي و نمط التفاعلات السائدة. فبعد انهيار طرف المعدلة في التوازن الإستراتيجي –الإتحاد السوفييتي-، أصبح الحديث عن التغيير في بنية توزيع القوة الدولية لصالح الولايات المتحدة الأمريكية، مع تسجيل صعود قوى اقتصادية جديدة كاليابان و ألمانيا و الصين(11).
كما أن البعد الاقتصادي، أضحى من العوامل الأساسية المساهمة في رسم ملامح الإستراتيجية الدولية، بما يتضح من عمق الهوة الاقتصادية و المالية بين دول الشمال و الجنوب، مما يدفع إلى البحث عن تصورات جديدة في مجال السياسة الدولية و الاقتصاد الدولي (12).
و تماشيا مع البعد الاقتصادي، فان النقاش القائم حول كيفية التعامل مع الصين، يأخذ أبعادا متعددة ، ففي رأي إحدى المنظورات الواقعية، فان الصين تعد من إحدى النماذج الحديثة لتوجه القوى الصاعدة من أجل تغيير توازن القوى العالمي بأشكال يمكن أن تتخذ منحى خطيرا، وخاصة أن نفوذها المتعاظم يجعلها أكثر طموحا . ومن منظور اندماجي أخر، فان مفتاح التوجه المستقبلي للصين يتوقف على ما إذا كان سلوكها سيتغير بفعل اندماجها في الأسواق العالمية و الانتصار للمبادئ الديمقراطية، أما من وجهة نظر صراعية و في إطار سؤال الهوية، فان العلاقات بين الصين و بقية العالم سوف تتشكل بفعل تأثير عوامل الثقافة و الانتماء للحضارة الكونفوشيوسية، فهل سينضر إلى الصين كعضو طبيعي في المجموعة الدولية أو كمجتمع متميز يستحق معاملة خاصة.
و بالطريقة ذاتها، نسوق مثالا توضيحيا حول المقاربات النظرية بشأن دور حلف الشمال الأطلسي قي إدارة الأزمات الإقليمية و الدفاع عن العالم الغربي، فالمنظور الواقعي يعتبر أن توسيع الناتو يندرج ضمن مسعى توسيع النفوذ الغربي فيما وراء المجال الكلاسيكي للمصالح الأمريكية الحيوية، و هذا مقابل تراجع النفوذ الروسي و تضيق الخناق عليه من طرف الغرب في ظل استمرار نظرة التوجس لهذا البلد، ففي حين لا يحاول الغرب إزعاج الصين، أو تعريض علاقته معها للتوتر،فانه لا يمانع في إثارة حفيظة الروس و غضبهم ، مع فرض نماذج عديدة من القيود عليه استكمالا لحرب باردة قديمة (13).
أما المنظور الليبرالي، فيرى أن توسيع الناتو سيعزز الديمقراطيات الناشئة في أوربا الوسطى، و يساهم في توسيع نطاق الآليات الأطلسية في إدارة النزاع في منطقة تبقى فيها الاضطرابات أمرا واردا.
أما من منظور الواقعية الجديدة، فان إدماج دول أوربا الشرقية (جمهورية التشيك، المجر و بولندا) ضمن المجموعة الأمنية الغربية التي تتقاسم أعضاءها هوية مشتركة يجعل من الحرب أمرا مستبعدا (14).
4/ التقاطعات المنهجية للمقاربات النظرية
إن هذه المقاربات النظرية، تعكس تنوع الدراسات الأكاديمية حول الشؤون الدولية، و تظهر علامات واضحة حول التقاطع المنهجي بين هذه النظريات، فأغلب الواقعيين يعترفون بأهمية القومية ، النزعة العسكرية و الإثنية و غيرها من العوامل الوطنية، كما يقر الليبراليون بدورهم بأن القوة تعتبر عاملا محوريا في السلوك الدولي، تماما كما يؤمن البنائيون بالرأي القائل أن الأفكار و المجهودات التأملية تكتسي أهمية بالغة عندما يتم تعزيزها بموارد القوة المادية.
لقد أصبحت الحدود الفاصلة بين هذه المنظورات غير ذات معنى، إضافة إلى أنها تتسم بالمرونة إلى حد بعيد، فإنها تعطي فرصة أكبر للتحكم العقلي و الاستفادة العقلانية من كافة الأطروحات و المقاربات. فما هي إذن المنظورات التي تلقي الضوء أكثر على الشؤون الدولية المعاصرة ؟ و أي منها الأقرب إلى الفهم و التطبيق من طرف محترفي و صانعي السياسة ؟
يعتقد أن المدرسة الواقعية تبقى هي الإطار العام الأكثر شمولية و الماما بالواقع الدولي بالرغم من إبداء اهتمام كبير بعناصر أخرى كالصراع الحضاري ،الهوية والانتماء الثقافي، فان الدول ما زالت مستمرة في إعطاء أهمية كبيرة لتوازن القوى، و ما زال القلق قائما بشأن احتمال حدوث نزاع شامل.
فبالرغم من تصاعد موجة العولمة و ارتفاع وتيرة الاعتماد الاقتصادي المتبادل، فان الولايات المتحدة الأمريكية ما زالت تلعب دور الدر كي في وقت الأزمات (15)، إضافة إلى ذلك، فان الاهتمام بالقوة والأمن يفسر لنا السبب الذي جعل الأسيويين و الأوربيين يصرون على توسيع التواجد العسكري الأمريكي في مناطقهم مع صياغة مفهوم جديد للأمن ينسجم مع رغبة القوة العظمى و تصميمها على البقاء في وضع المهيمن (16)،حيث فرضت سلسلة من الاتفاقيات الأحادية الجانب لمراقبة التسلح ضد روسيا، وهيمنت على مساعي السلام في البوسنة، و أصبحت منشغلة بشكل متزايد بالقوة المتعاظمة للصين.
بالرغم من دعوات الولايات المتحدة الأمريكية المتواصلة للارتكان للوساطة والمساعي الحميدة المتعددة الأطراف، و إعطاء دور أوسع للمؤسسات الدولية، فإنها تتعامل مع الأمم المتحدة و منظمة التجارة العالمية مثلا بعدم اهتمام، كلما تعارضت توجهاتها مع مصالحها، فقد رفض الأمريكيون الانضمام إلى المجموعة الدولية لحضر الألغام الأرضية المضادة للأفراد، تماما كما رفضوا التعاون في قمة الأرض ب "كيوطو"، كما لا يخفى على أحد الموقف الأمريكي بشأن الصراع العربي الإسرائيلي المنحاز كليا لإسرائيل، التي أقدمت في الآونة الأخيرة في سابقة من نوعها إلى اعتقال وزراء و نواب فلسطينيين من قطاع غزة، تأكيدا لسياسة القوة و الكيل بمكيالين.
بالتأكيد أنه بعد نهاية الحرب الباردة، لم تنته بعد سياسة القوة و التوازن العسكري، فالواقعية تبدو أنها المقترب الأكثر فعالية ضمن نسيج البراديغمات التي انبرت في تحليل العلاقات الدولية، كما تعد من المفاتيح الفكرية الضرورية لفهم الظواهر الدولية، و مع ذلك يمكن اعتبار أن الواقعية وحدها لا تستطيع أن تفسر كل شيء، و أي قائد أو صاحب قرار سياسي متمرس، يجب أن يأخذ بعين الاعتبار التفسيرات و الإيضاحات التي تمده بها المنظورات الأخرى، فالنظريات الليبرالية مثلا تحدد الإمكانيات و الوسائل التي يمكن للدولة استعمالها لتحقيق مصالح مشتركة، كما تحدد أهم القوى الاقتصادية التي تساعدها على فهم سبب اختلاف الدول في خياراتها الأساسية، إضافة إلى ذلك، فان التوجهات الليبرالية تعتقد أن الحماية و الهيمنة الأمريكية، ستقلص من مخاطر الصراعات الإقليمية و ستعزز لا محالة فرص السلام الليبرالي الديمقراطي، لذا فان الوصفة الليبرالية تصبح أكثر أهمية طالما أن الولايات المتحدة الأمريكية ستستمر في توفير الأمن و الاستقرار للعديد من المناطق.
من جانب أخر،فان النظريات البنائية تعد الأكثر نجاعة و فعالية في تحليل كيفية تغير الهويات و المصالح بمرور الزمن، بحيث ينتح عن ذلك تغير في سلوك الدول، و في حالات معينة تفجر تحولات غير متوقعة في الشؤون الدولية، وفي هذا السياق يصبح من المهم جدا معرفة ما إذا كانت الهوية في أوربا ستستمر في التحول من نطاق الدولة-الأمة إلى نطاق محلي أضيق أم إلى نطاق أوسع أي الهوية الأوربية، ومعرفة ما إذا كانت مسألة الهوية في دول الجنوب و خاصة الإسلامية منها بإمكانها أن تشكل ردا فعليا ارتداديا على الهيمنة الفكرية الغربية، و بالتالي التأثير التدريجي على خريطة العالم الثقافية و القيمية، و قد أثيرت بعد الحادي عشر من سبتمبر العديد من النقاشات حوا أزمة الهوية و الخلل الحاصل في الأنماط الفكرية و التمثلات القائمة على العنف و الإرهاب، وبهذا الخصوص ليست للواقعية الشيء الكثير لتقدمه في تفسير هذه المواضيع، وصناع القرار قد تشوب نظرتهم الغموض إذا أهملوا هذه الاحتمالات بشكل كلي.
و أخيرا فان هذه المقاربات المتقاطعة من الناحية المنهجية، ترصد جوانب هامة في السياسة الدولية، و فهمنا قد يعتريه بعض القصور ادا ما انصب اهتمامنا على إحدى المنظورات دون الأخرى، و لهذا فان الدبلوماسي أو صانع القرار يلزم عليه أن يتوفر علي ميزات خاصة أبرزها الدراية الأكاديمية و الفهم العميق لهذه الاتجاهات التي تكمل بعضها البعض، فادا كان لا ينبغي له أن يتجاهل أهمية عنصر القوة، فانه إلى جانب ذلك يجب أن يؤمن بدور القوى الوطنية و دور المؤسسات الدولية، و أن يقتنع أيضا بإمكانيات التغيير و التحول حسب المنظور البنائي(17).