2-كارل ماركس: أستاذ البروليتاريا (الطبقة العاملة)!
ليست مُبالغة حين نقول إن التاريخ الحديث لم يشهد رجلًا بتأثير كارل هانريك ماركس، نجل العائلة اليهودية المسيحية. نعم في البداية كان هانريك يُسمى هرشل حينما كان يهوديًا، قبل أن يُصبح أخيرًا هانريك عندما اعتنق البروتستانتية. البعض يقول إنّ ذلك كحيلة غرضها نفعي بحت، للتوسع في أعماله التجارية كمحامٍ.
في مايو 1818، وُلد ماركس في بروسيا، التي هي الآن جزء من ألمانيا. هُناك ترعرع وتلقى تعليمه المدرسي والجامعي (درس الحقوق في جامعة برلين)، وهُناك انجذب للأفكار الهيجيلية المثالية (نسبة للفيلسوف الألماني فريدريش هيجل)، قبل أن ينضم لجماعة الهيجليين اليساريين، الذي حاولوا الوصول بفلسفة هيجل وخاصة منطقه الجدلي، إلى أفكار ثورية تخص الإصلاح في الطبقة البرجوازية.
كان بإمكان ماركس الاستمرار في العمل الأكاديمي كأستاذ جامعي، حتى قيل إنه لكان كوّن ثروة من العمل الأكاديمي لو أراد، لكنّه عدل عن ذلك بسبب السياسات المتحكمة في الأكاديميا الأوروبية والبروسيّة تحديدًا، والتي تسببت في فصل اثنين من زملاء ماركس في الهيجلية اليسارية، وهما بورنو باور وفيورباخ.
ذلك الأخير كان مُساهمًا كبيرًا في تشكّل الأفكار الماركسية. فقد كان فيورباخ من تلامذة هيجل، لكنّه لاحقًا انتقد، وبحدّة، المثالية في منطقه الجدلي. وكان ذلك من منطلق انتقاده للاهوت الديني، واتجاهه العام نحو المادية. "كان واجبًا أن نشعر بأنفسنا بالأثر التحرري لكتابي أسس فلسفة المستقبل، وجوهر المسيحية لفيورباخ؛ فلقد أصبحنا جميعًا، نحن الهيجليين اليساريين، على إثرهما، من أتباع فيورباخ"، يقول فريدريك أنجلز، رفيق حياة وفلسفة كارل ماركس.
الفيلسوف الألماني لودفيج أندرياس فيورباخهل حقًا ماركس "نصير الغلابة"؟بالنسبة إليه، لم يكن شغفه بالفلسفة كافيًا. لقد اكتشف ماركس ذلك عندما عمل في الصحافة؛ اكتشف ضرورة الانكباب على دراسة الاقتصاد السياسي، وقد فعل. ومن هنا، وتأثرًا بالحراك الثوري الاشتراكي في باريس (كان حراكًا شديد التّأثر بأفكار برودون الأناركية/ اللاسلطوية)، تبلورت أفكار ماركس الخاصة بالعلاقة بين التاريخ ووسائل الإنتاج.
حين يُقال إنّ ماركس "نصير الغلابة" فلربما ذلك عائد إلى أفكاره الثورية ضد الطبقات المُسيطرة اقتصاديًا، في إطار نظريته عن تطور التاريخ والمجتمعات البشرية، وفقًا لعلاقتها بوسائل الإنتاج. البنية التحتية المؤسسة والمؤثرة في المجتمع البشري هي الاقتصاد، بحسب ماركس. ترتبط البنية التحتية للمجتمعات في علاقة جدلية بالبنى الفوقية التي يمثلها الفكر والأيديولوجيا.
في كتابه الذي أصدره مع رفيقه فريدريك أنجلز، البيان الشيوعي، تحدّث ماركس عن الصراع الطبقي ودوره في حركة التاريخ. في تلك الحقبة، وعلى إثر الثورة الصناعية، صعدت البرجوازية باعتبارها الطبقة الحاكمة، التي ستخوض صراعًا مع البروليتاريا، طبقة العُمّال التي ستحكم وفقًا لديكتاتورية البروليتاريا قبل أن يختفي الوجود الطبقي في المجتمع الشيوعي. وعلى مُستوى آخر، فالبرجوازية تحمل بين طيّاتها أسباب انهيارها، والمتمثلة في التناقضات والتوترات الداخلية. هذه رؤية حتمية وفقًا للمادية الجدلية التي تقود عليها فلسفة ماركس.
لأسباب موضوعية، لاقت أفكار ماركس رواجًا كبيرًا، ليس في وقت حياته، لكن لاحقًا، تحديدًا البدايات الأولى للقرن العشرين. وقتها وعلى خلفية الحرب العالمية الأولى، قامت الثورة البلشيفية التي انطلقت من منطلقات ماركسية بقيادة لينين. الاتحاد السوفيتي، الممثل لقوى الشرق في مُقابل قوى الغرب بقيادة أمريكا؛ هكذا ظلّ على مدار عقود قبل سقوطه. هذا الاتحاد الدولي قائم على أفكار ماركس، بالتطويرات التي أدخلها قياديون بارزون فيه، مثل لينين وستالين. في الصين كذلك قامت دولة على أفكار ماركس، بزعامة ماو، الذي عُرفت جملة أفكاره التطبيقية والتي وضعها في كتابه الأحمر، بالماركسية الماوية.
أمّا ماركس فظلّ مُطاردًا أغلب سنوات حياته. بلا جنسية يتنقل من بلد إلى آخر، ومن خلفه رفيق دربه فريدريك أنجلز، صاحب الإسهام الأوّل والأكبر في ظهور أعمال ماركس إلى الملأ، والتي من أهمها على الإطلاق كتاب رأس المال. بالإضافة إلى كتابه بؤس الفلسفة الذي انتقد فيه أفكار برودون حول اللاسلطوية.
فريدريك أنجلز (يمين) وكارل ماركس (يسار) لماركس كذلك كتاب العائلة المُقدّسة الذي انتقد فيه التوجهات البرجوازية لجماعة الهيجليين اليساريين. ومن كُتبه التي تحدّث فيها مُفسّرًا طبيعة الفاشية وبيئاتها وصعودها؛ كتاب الثامن عشر من برومير لويس بونابرت.
3- جون كينز: الرجل الذي أنقذ الاقتصاد العالمي مرّتين!
لعائلة من البرجوازية البيروقراطية، وُلد جون مينراد كينز في يونيو 1883، بمدينة كامبريدج بالمملكة المُتّحدة. والده كان أستاذ اقتصاد جامعيّ، ترك فيه أثره، الذي جعله يترك دراسة الرياضيات للاقتصاد.
بدأ بدراسة الرياضيات، إذ أولى اهتمامًا خاصًا لنظرية الاحتمالات الرياضية. كان ذلك في جامعة كامبريدج، قبل أن يترك دراسته الأولى، مُتجهّا نحو الاقتصاد. أثناء ذلك انضم إلى جماعة بلومزبري، وهي جماعة ضمّت مثقفين وكتاب وفنانين، اتخذوا من بلدة تشارسلتون بمقاطعة ساسكس الإنجليزية، مقرًا لهم. تلك الجماعة، وبما امتازت به من أفكارٍ تحررية، كان لها أثر كبير في توسع آفاق كينز ونظرته للاقتصاد.
وفقًا للكاتب الصحافي نيكولاس وابشوت، مؤلّف كتاب Keynes Hayek (كتاب سيرة ذاتية لكينز)، فقد "سمحت جماعة بلومزبري لكينز، أن يُفكّر خارج الصندوق. وأن يُفكّر فيما لا يُمكن تصوره. وأدّى ذلك لاتساع الفكر لديه، ما سمح له بالقفز من المنحدرات مع ثقة بعدم وجود قاع"، فمن هُناك انبرى كينز إلى نقد الاقتصاد الكلاسيكي، وتطويره بنظرياته الخاصة بالنّقد/ المال والسياسات الاقتصادية الكلية.
بعد أنّ تخرّج كينز في الجامعة، انتقل للعمل في الهند مدققًا ماليًا، قبل أن يعود مرة أخرى إلى إنجلترا بعد الحرب العالمية الأولى، ليعمل في وزارة الخزانة البريطانية مسؤولًا عن إعادة هيكلة الصرف داخل الوزارة، ثُمّ مسؤولًا عن التفاوض مع الولايات المتحدة الأمريكية لجلب القروض، فيما عُرف ببعثة الاستجداء في عام 1917، والتي حقق فيها نجاحًا غير مُتوقع، بسبب فظاظته مع المفاوضين الأمريكان. في 6 مايو 1917، كتب كينز لوالدته رسالة من واشنطن، وصف فيها عمله التفاوضي هُناك بأنه ليس شاقًا، ومُبشرًا إياها بأنّ المفاوضات تسير بشكل جيد جدًا.
جون كينز (يمين)الحرب العالمية الأولى: عواقب ما بعد السلامجميع أعباء الحرب العالمية الثانية ونواتجها الكارثية حُمّلت على عاتق الإمبراطورية الألمانية التي فُرضت عليها مديونية ضخمة كتعويضات، وفقًا لمعاهدة فرساي ضمن مؤتمر باريس للسلام في 1919.
كان كينز حاضرًا للمؤتمر، وقد خرج منه بغضب شديد دفعه للاستقالة من وزارة الخزانة البريطانية. كانت العقوبات المفروضة على ألمانيا سبب غضب كينز، والتي جعلته يعكف لإنتاج كتابه الأوّل "العواقب الاقتصادية للسلام". في ذلك الكتاب استشرف كينز المُستقبل "المُظلم" الذي ستؤدي إليه هذه العقوبات: "ألمانيا اليائسة لن تُحافظ على السلام في أوروبا، وبالتأكيد لن تُساهم في الازدهار. نحن جميعًا في ذلك!". وقد كانت نبوؤة كينز مُحقة، عندما ظهرت الفاشية في ألمانيا متمثلة في هتلر وحزبه النازي، وحين باتت الحرب العالمية الثانية على الأبواب.
جون كينز في مُواجهة آدم سميثكما ذكرنا، سادت أفكار آدم سميث، لتهيمن على نظام الاقتصاد العالمي. ذلك النظام الذي تعرّض لوعكته الأولى الكبيرة فيما عُرف بالكساد العظيم، الذي بدأ في 1929، بسبب زيادة العرض على الطلب، وتحكم نظرية اليد الخفية التي ترفض تدخل الدولة في السوق على مستويي الرقابة والتوجيه، لأن – وفقًا للنظرية – السوق الحرة قادرة على ضبط نفسها بنفسها.
هذا الحديث عن الضبط والإصلاح الذاتي للسوق، أثبت فشله، وظهرت أفكار جون كينز كبادرة أمل نحو الإنقاذ المالي. في كتابيه نظرية النقود، والنظرية العامة للتشغيل والفائدة والنقود، طرح كينز أفكاره التي تدعم تدخل الدولة لضبط اقتصاد السوق بالتوجيه والمراقبة.
وفقًا لكينز، ففي حالات الركود الكبير، كالتي حدثت آنذاك، ثُمّ تكررت في أزمة 2008، تعمد الدولة إلى التدخل بالاستثمار وضخ الأموال في السوق، مع خفض الضرائب والتعريفات الجمركية. "هُناك أوقات نحتاج فيها إلى التدخل لجعل الرأسمالية تعمل لصالحنا"، يقول كينز، الذي يرى ضرورة أن تُنفق الدولة المال في السوق، وإن عنى ذلك الاستدانة، وذلك بغرض تحقيق معدلات إنفاق تُحقق التوازن في دورة رأس المال.
في أزمة الكساد العظيم، لاقت أفكار كينز رواجًا كبيرًا، إذ تبناها رئيس الولايات المتحدة، روزفيلت، الذي وضع خُطّة إنقاذ أخرجت أمريكا من أزمتها بمدعلات نمو مُرتفعة.