ال
[rtl]
تختزن جدران هذه الجامعة أكثر من ذاكرة، ليس لأنّها تعكس التاريخ والعمارة الفرنسيتين والحركة الطلابية الأوروبية وغيرها، بل لأنّها زرعت حكاياتها وعلومها وآدابها وثقافتها في أذهان مئات ملايين الطلاب الذين ارتادوها خلال سبعة قرون ونصف القرن، وكان لهم تأثير بارز في مجتمعاتهم المختلفة والمتفرقة في أربع رياح الأرض.
فحين ترك الطالب الفقير "روبرت دو سوربون" بلدته "سوربُن"، في العقد الثالث من القرن الثالث عشر، قاصداً العاصمة باريس، لتعلّم اللاهوت، كان يحلم بصرح علمي متميّز، وحين حقّق حلمه أُطلق اسم بلدته على ما بدأ مجمّعاً صغيراً لتدريس علوم اللاهوت لعشرين طالباً فقيراً، قبل أن يتحوّل إلى أشهر جامعة أوروبية.
الحجر الذي شيّد منه مبنى جامعة السوربون، تحوّل إلى عروش كلمات تعيش منذ ثمانمئة عام.
المبنى مشيّد من الحجر، حيث كان الباريسيون يستخرجون الأحجار من باطن الأرض لكي يشيدوا بها أبنيتهم العريقة، وهي ماثلة في البناء منذ قرون، وتتحدّى الزمن بكلّ ما أوتي من قوة وجبروت.
واجهات المبنى التاريخي، المزخرفة على الطريقة الرومانية، شامخة في الحيّ اللاتيني، ومتميّزة المعالم، وتظهر من بعيد كفنارٍ وسط الحي اللاتيني.
المبنى عبارة عن متحف، سواء من الداخل أو الخارج، ديكوراته تذكّر بعصور البناء القديمة، حيث تنتشر المنحوتات فوق المدخل الرئيسي الذي يمرّ تحته الآلاف دون أن يلحظوها، ربما لأنهم منشغلون بالثرثرة الأكاديمية، فيما تزيّن لوحات كبار الرسامين، أمثال جاك لو مارسييه ورينيه غوبلييه ولورد ونينو، الجدران والأروقة. لا يزال تمثالا باستور وهوغو يحرسان بهو الجامعة ويتحاوران بصمت. وفيرلين نقش عبارته أسفل إحدى قناطر الجامعة (هنا يأتي الإنسان ليقول كلمة.. ويرحل).
[/rtl]
[rtl]
أراد الكونت دو سوربون أن يكتب نصّاً.. فتناول ريشته ورسم مخطّط الجامعة على الأوراق البيضاء، ثم سرعان ما تحوّلت الأوراق البيضاء إلى ألواح رخامية، وأخرى حجرية.. هنا اجتمع القلم والريشة والمعول. ما هي علاقة الكونت دو سوربون بالمعاول؟
لا علاقة له، سوى أن النحاتين أبدعوا زخارف الجدران الداخلية، وصاغوا تماثيل ومنحوتات فوق المدخل الرئيسي، لترمز إلى الشعر والفلسفة والعلوم والآداب التي ازدهرت بين جدران هذا المبنى وأروقته الباذخة. كل شيء هنا يدلّ على القِدَم: الأثاث، الثريات، والأساتذة، بشعرهم الأبيض. وهنا ترك كبار الفنانين الفرنسيين بصماتهم على الخشب المرصّع المنقوش. وكلّ ما تحتويه جامعة السوربون الآن لا يمثّل إلا جزءاً يسيراً ممّا كانت تحتويه قبل الثورة الفرنسية، 1789، إذ إن معظم اللوحات الثمينة والمنحوتات قد سُرقت: إضافة إلى أقدم مطبعة باريسية تعود إلى عام 1470.
السوربون والحضارة العربية
ليست الحضارة العربية بعيدة عن جوّ السوربون، فهي حاضرة، إما في الآداب والعلوم والأطروحات الجامعية، وإما في اللوحتين المعلقتين على الجدران الزاهية، إحداهما لوحة للبهو الأسود في قصر الحمراء بغرناطة، وأخرى لوحة لمسجد/متحف أيا صوفيا في إسطنبول.
عندما كان الغرب يعيش في القرون الوسطى، كان العرب أوّل مَن نقل العلوم والآداب والفكر اليوناني القديم إلى شمال أوروبا. وقد اعتمدت جامعة السوربون سنوات طويلة، على العلوم العربية: رياضيات الخوارزمي جوهر تطوّر الرياضيات الغربية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. وقد أدّى ذلك إلى اعتماد الأرقام العربية بدل الأرقام الرومانية التي سبق أن استخدمت في جميع أنحاء أوروبا.
كما اعتمدت الجامعة على كتب البيروني في الجغرافيا، وابن مجاهد في علم قيادة السفن، والجزاري في علم ضغط الهواء والماء. وقد طغت كتابات ابن خلدون، مؤسس علم الاجتماع، على برنامج تعليم السوربون ردحاً من الزمن. وظلّت كتب ابن سينا تدرّس في السوربون حتى بداية القرن العشرين، وذلك يشرح سبب تبلور حركة الاستشراق على أيدي عدد كبير من العلماء والمستشرقين، أمثال ماسينيون وهنري لاوست وجاك بيرك وروجيه غارودي وغيرهم.
كما أنّ الأساتذة العرب لعبوا دوراً بارزاً في ترسيخ تدريس العلوم العربية، أمثال محمد أركون ويواكيم مبارك وجمال الدين بن الشيخ وأنور عبد الملك وغيرهم.
آلاف الطلبة يتوافدون، سنويّاً، للدراسة في أروقة جامعة السوربون، ولعلّهم يتذكّرون أسلافهم الذين كانت الجامعة تنهل من علومهم وكتبهم في بداياتها الأولى.
العرب والسوربون
تعتبر جامعة السوربون، الكائنة في الحي اللاتيني، من أعرق الجامعات وأرقاها في العالم. تأسسّت قبل 750 سنة، في عام 1253 للميلاد، وذلك في القرون الوسطى بجهود روبير دي سوربون، المرشد الروحي للملك لويس التاسع ملك فرنسا آنذاك. وقد استمدت بعض علومها من الحضارة الإسلامية العربية في الأندلس، وهي أول جامعة تقدم شهادة الدكتوراه. كما أن الجامعة تمتاز في تخصصات التاريخ والشؤون الدولية والآداب والعلوم الاجتماعية. ومن أبرز الكتّاب والمفكّرين العرب الذين تخرّجوا من جامعة السوربون: طه حسين، الحبيب بورقيبة، كمال جنبلاط، عبد الحليم محمود، بهاء الدين علايلي، يحيى الجمل، حسن الترابي، عبد الله النيباري وسهيل إدريس وغيرهم الكثير.
كان الطلبة العرب يتحلّقون حول أساتذتهم في المقاهي المجاورة احتفالاً بمناقشة أطروحاتهم. وفي الحقيقة، إن حياة كاملة تحيط بالجامعة، حيث الطلبة يسكنون في الغرف الكائنة على الأسطح، وهي زهيدة الأجرة، وعادة ما تكون في الطابق السابع من البناية بدون سلالم كهربائية، وتسمّى "غرف الخدم"، حيث أمضى فيها الطلبة العرب سنوات من أعمارهم، من أجل إكمال دراساتهم العليا. كما تنتشر في المحيط أهم المكتبات العامة والتجارية، إضافة إلى صالات السينما ومطاعم المحافظات الفرنسية الشعبية التي لم تصمد في وجه الزمن، بل سرعان ما تحوّلت إلى مطاعم للوجبات السريعة.
في عام 1626، قرّر ريشيليو، وزير الملك لويس الثالث عشر، وخريج جامعة السوربون، توكيل المهندس المعماري، جاك لوميرسييه، بترميم مباني الجامعة وإعادة بنائها. وقد وضع رئيس الأساقفة، في روان، حجر الأساس في 18 مارس/آذار 1627. بغياب الوزير ريشيليو الذي كان محتجزاً في تلك الفترة أثناء حصار لا روشيل إلاّ أنّه لم يتغيّب عن وضع حجر أساس الجامعة في 15 مايو/أيار 1635.
شهدت فرنسا في الثلاثين عاماً الأخيرة من القرن التاسع عشر، إعادة تنظيم وإحياء المؤسسات التربوية، وبدأ العمل على إعادة إعمار السوربون في عام 1884. واستمر حتى أُنجز في عام 1901. وقد أنشئت المباني الجديدة حول ساحة الشرف القديمة، ولم تبقَ سوى القبة شاهدةً على عهد ريشيليو والتي لا تزال حتى الآن ترمز إلى السوربون إحدى أهم الجامعات الأوروبية القديمة وتقدّم خدمة ثقافية تعليمية متميّزة منذ تأسيسها في مجالي الثقافة والعلم في باريس[/rtl]
[rtl]
[/rtl]
[rtl]
ثورة الطلبة
حررّت ثورة الطلبة في عام 1968 جامعة السوربون من الدولة، وانشطرت الجامعة إلى 13 جامعة في مختلف المناطق الباريسية، وأشاعت حرية الدراسة وديمقراطية الاختيار.
توجد، اليوم، ثلاث عشرة جامعة مستقلة، أربع لها وجود في مبنى السوربون التاريخي، وهي جامعة باريس الأولى (بانتيون ـ سوربون)، وجامعة باريس الثالثة (سوربون الجديدة)، وجامعة باريس الرابعة (باريس ـ سوربون)، وجامعة باريس الخامسة (باريس ديكارت). ولجميعها مقرّات بالبنايات القديمة للسوربون. وتعد شهادتها مفتاحاً للمناصب العليا الرفيعة وللشهرة. لقد افتتحت ثورة الطلبة مرحلة جديدة في أزمة المجتمع المعاصر، حيث انتقلت الحركة بالفعل من النظرية إلى النضال في الشوارع. وتحوّلت الجامعة إلى متاريس يحتمي بها الطلبة، ويدافعون عن حصنهم الأخير.. الثقافة.
ولعلّ أهمّ ما أنجزته ثورة الطلبة، أنّها جعلت التعليم مجانيّاً لجميع طبقات المجتمع من دون تفريق. وقد خرّجت الجامعة أفواجاً من الطلبة الفقراء الآتين من أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط، الذين لم يكونوا يمتلكون رسوم الجامعة في البلدان الأوروبية الأخرى. فقد كانت جامعة السوربون تؤمن أنّ رسالتها، كما رسمها مؤسّسها، هي نشر العلم والمعرفة بين الجميع. - [/rtl]
تختزن جدران هذه الجامعة أكثر من ذاكرة، ليس لأنّها تعكس التاريخ والعمارة الفرنسيتين والحركة الطلابية الأوروبية وغيرها، بل لأنّها زرعت حكاياتها وعلومها وآدابها وثقافتها في أذهان مئات ملايين الطلاب الذين ارتادوها خلال سبعة قرون ونصف القرن، وكان لهم تأثير بارز في مجتمعاتهم المختلفة والمتفرقة في أربع رياح الأرض.
فحين ترك الطالب الفقير "روبرت دو سوربون" بلدته "سوربُن"، في العقد الثالث من القرن الثالث عشر، قاصداً العاصمة باريس، لتعلّم اللاهوت، كان يحلم بصرح علمي متميّز، وحين حقّق حلمه أُطلق اسم بلدته على ما بدأ مجمّعاً صغيراً لتدريس علوم اللاهوت لعشرين طالباً فقيراً، قبل أن يتحوّل إلى أشهر جامعة أوروبية.
الحجر الذي شيّد منه مبنى جامعة السوربون، تحوّل إلى عروش كلمات تعيش منذ ثمانمئة عام.
المبنى مشيّد من الحجر، حيث كان الباريسيون يستخرجون الأحجار من باطن الأرض لكي يشيدوا بها أبنيتهم العريقة، وهي ماثلة في البناء منذ قرون، وتتحدّى الزمن بكلّ ما أوتي من قوة وجبروت.
واجهات المبنى التاريخي، المزخرفة على الطريقة الرومانية، شامخة في الحيّ اللاتيني، ومتميّزة المعالم، وتظهر من بعيد كفنارٍ وسط الحي اللاتيني.
المبنى عبارة عن متحف، سواء من الداخل أو الخارج، ديكوراته تذكّر بعصور البناء القديمة، حيث تنتشر المنحوتات فوق المدخل الرئيسي الذي يمرّ تحته الآلاف دون أن يلحظوها، ربما لأنهم منشغلون بالثرثرة الأكاديمية، فيما تزيّن لوحات كبار الرسامين، أمثال جاك لو مارسييه ورينيه غوبلييه ولورد ونينو، الجدران والأروقة. لا يزال تمثالا باستور وهوغو يحرسان بهو الجامعة ويتحاوران بصمت. وفيرلين نقش عبارته أسفل إحدى قناطر الجامعة (هنا يأتي الإنسان ليقول كلمة.. ويرحل).
تمثال الكاتب الفرنسي فيكتور هوجو في فناء جامعة السوربون (Getty) | |
| |
أراد الكونت دو سوربون أن يكتب نصّاً.. فتناول ريشته ورسم مخطّط الجامعة على الأوراق البيضاء، ثم سرعان ما تحوّلت الأوراق البيضاء إلى ألواح رخامية، وأخرى حجرية.. هنا اجتمع القلم والريشة والمعول. ما هي علاقة الكونت دو سوربون بالمعاول؟
لا علاقة له، سوى أن النحاتين أبدعوا زخارف الجدران الداخلية، وصاغوا تماثيل ومنحوتات فوق المدخل الرئيسي، لترمز إلى الشعر والفلسفة والعلوم والآداب التي ازدهرت بين جدران هذا المبنى وأروقته الباذخة. كل شيء هنا يدلّ على القِدَم: الأثاث، الثريات، والأساتذة، بشعرهم الأبيض. وهنا ترك كبار الفنانين الفرنسيين بصماتهم على الخشب المرصّع المنقوش. وكلّ ما تحتويه جامعة السوربون الآن لا يمثّل إلا جزءاً يسيراً ممّا كانت تحتويه قبل الثورة الفرنسية، 1789، إذ إن معظم اللوحات الثمينة والمنحوتات قد سُرقت: إضافة إلى أقدم مطبعة باريسية تعود إلى عام 1470.
السوربون والحضارة العربية
ليست الحضارة العربية بعيدة عن جوّ السوربون، فهي حاضرة، إما في الآداب والعلوم والأطروحات الجامعية، وإما في اللوحتين المعلقتين على الجدران الزاهية، إحداهما لوحة للبهو الأسود في قصر الحمراء بغرناطة، وأخرى لوحة لمسجد/متحف أيا صوفيا في إسطنبول.
عندما كان الغرب يعيش في القرون الوسطى، كان العرب أوّل مَن نقل العلوم والآداب والفكر اليوناني القديم إلى شمال أوروبا. وقد اعتمدت جامعة السوربون سنوات طويلة، على العلوم العربية: رياضيات الخوارزمي جوهر تطوّر الرياضيات الغربية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. وقد أدّى ذلك إلى اعتماد الأرقام العربية بدل الأرقام الرومانية التي سبق أن استخدمت في جميع أنحاء أوروبا.
كما اعتمدت الجامعة على كتب البيروني في الجغرافيا، وابن مجاهد في علم قيادة السفن، والجزاري في علم ضغط الهواء والماء. وقد طغت كتابات ابن خلدون، مؤسس علم الاجتماع، على برنامج تعليم السوربون ردحاً من الزمن. وظلّت كتب ابن سينا تدرّس في السوربون حتى بداية القرن العشرين، وذلك يشرح سبب تبلور حركة الاستشراق على أيدي عدد كبير من العلماء والمستشرقين، أمثال ماسينيون وهنري لاوست وجاك بيرك وروجيه غارودي وغيرهم.
كما أنّ الأساتذة العرب لعبوا دوراً بارزاً في ترسيخ تدريس العلوم العربية، أمثال محمد أركون ويواكيم مبارك وجمال الدين بن الشيخ وأنور عبد الملك وغيرهم.
آلاف الطلبة يتوافدون، سنويّاً، للدراسة في أروقة جامعة السوربون، ولعلّهم يتذكّرون أسلافهم الذين كانت الجامعة تنهل من علومهم وكتبهم في بداياتها الأولى.
العرب والسوربون
تعتبر جامعة السوربون، الكائنة في الحي اللاتيني، من أعرق الجامعات وأرقاها في العالم. تأسسّت قبل 750 سنة، في عام 1253 للميلاد، وذلك في القرون الوسطى بجهود روبير دي سوربون، المرشد الروحي للملك لويس التاسع ملك فرنسا آنذاك. وقد استمدت بعض علومها من الحضارة الإسلامية العربية في الأندلس، وهي أول جامعة تقدم شهادة الدكتوراه. كما أن الجامعة تمتاز في تخصصات التاريخ والشؤون الدولية والآداب والعلوم الاجتماعية. ومن أبرز الكتّاب والمفكّرين العرب الذين تخرّجوا من جامعة السوربون: طه حسين، الحبيب بورقيبة، كمال جنبلاط، عبد الحليم محمود، بهاء الدين علايلي، يحيى الجمل، حسن الترابي، عبد الله النيباري وسهيل إدريس وغيرهم الكثير.
كان الطلبة العرب يتحلّقون حول أساتذتهم في المقاهي المجاورة احتفالاً بمناقشة أطروحاتهم. وفي الحقيقة، إن حياة كاملة تحيط بالجامعة، حيث الطلبة يسكنون في الغرف الكائنة على الأسطح، وهي زهيدة الأجرة، وعادة ما تكون في الطابق السابع من البناية بدون سلالم كهربائية، وتسمّى "غرف الخدم"، حيث أمضى فيها الطلبة العرب سنوات من أعمارهم، من أجل إكمال دراساتهم العليا. كما تنتشر في المحيط أهم المكتبات العامة والتجارية، إضافة إلى صالات السينما ومطاعم المحافظات الفرنسية الشعبية التي لم تصمد في وجه الزمن، بل سرعان ما تحوّلت إلى مطاعم للوجبات السريعة.
في عام 1626، قرّر ريشيليو، وزير الملك لويس الثالث عشر، وخريج جامعة السوربون، توكيل المهندس المعماري، جاك لوميرسييه، بترميم مباني الجامعة وإعادة بنائها. وقد وضع رئيس الأساقفة، في روان، حجر الأساس في 18 مارس/آذار 1627. بغياب الوزير ريشيليو الذي كان محتجزاً في تلك الفترة أثناء حصار لا روشيل إلاّ أنّه لم يتغيّب عن وضع حجر أساس الجامعة في 15 مايو/أيار 1635.
شهدت فرنسا في الثلاثين عاماً الأخيرة من القرن التاسع عشر، إعادة تنظيم وإحياء المؤسسات التربوية، وبدأ العمل على إعادة إعمار السوربون في عام 1884. واستمر حتى أُنجز في عام 1901. وقد أنشئت المباني الجديدة حول ساحة الشرف القديمة، ولم تبقَ سوى القبة شاهدةً على عهد ريشيليو والتي لا تزال حتى الآن ترمز إلى السوربون إحدى أهم الجامعات الأوروبية القديمة وتقدّم خدمة ثقافية تعليمية متميّزة منذ تأسيسها في مجالي الثقافة والعلم في باريس.
تظاهرات طلبة السوربون الألمان عام 1968، يدعمون زملاءهم الفرنسيين في مطالب استقلالية الجامعة (Getty) | |
| |
ثورة الطلبة
حررّت ثورة الطلبة في عام 1968 جامعة السوربون من الدولة، وانشطرت الجامعة إلى 13 جامعة في مختلف المناطق الباريسية، وأشاعت حرية الدراسة وديمقراطية الاختيار.
توجد، اليوم، ثلاث عشرة جامعة مستقلة، أربع لها وجود في مبنى السوربون التاريخي، وهي جامعة باريس الأولى (بانتيون ـ سوربون)، وجامعة باريس الثالثة (سوربون الجديدة)، وجامعة باريس الرابعة (باريس ـ سوربون)، وجامعة باريس الخامسة (باريس ديكارت). ولجميعها مقرّات بالبنايات القديمة للسوربون. وتعد شهادتها مفتاحاً للمناصب العليا الرفيعة وللشهرة. لقد افتتحت ثورة الطلبة مرحلة جديدة في أزمة المجتمع المعاصر، حيث انتقلت الحركة بالفعل من النظرية إلى النضال في الشوارع. وتحوّلت الجامعة إلى متاريس يحتمي بها الطلبة، ويدافعون عن حصنهم الأخير.. الثقافة.
ولعلّ أهمّ ما أنجزته ثورة الطلبة، أنّها جعلت التعليم مجانيّاً لجميع طبقات المجتمع من دون تفريق. وقد خرّجت الجامعة أفواجاً من الطلبة الفقراء الآتين من أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط، الذين لم يكونوا يمتلكون رسوم الجامعة في البلدان الأوروبية الأخرى. فقد كانت جامعة السوربون تؤمن أنّ رسالتها، كما رسمها مؤسّسها، هي نشر العلم والمعرفة بين الجميع. - See more at: http://www.alaraby.co.uk/miscellaneous/2015/2/3/%D8%AC%D8%A7%D9%85%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D8%A8%D9%88%D9%86-%D8%B3%D8%A8%D8%B9%D8%A9-%D9%82%D8%B1%D9%88%D9%86-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%86%D9%88%D8%A7%D8%B1#sthash.dJwPrjQM.dpuf
تختزن جدران هذه الجامعة أكثر من ذاكرة، ليس لأنّها تعكس التاريخ والعمارة الفرنسيتين والحركة الطلابية الأوروبية وغيرها، بل لأنّها زرعت حكاياتها وعلومها وآدابها وثقافتها في أذهان مئات ملايين الطلاب الذين ارتادوها خلال سبعة قرون ونصف القرن، وكان لهم تأثير بارز في مجتمعاتهم المختلفة والمتفرقة في أربع رياح الأرض.
فحين ترك الطالب الفقير "روبرت دو سوربون" بلدته "سوربُن"، في العقد الثالث من القرن الثالث عشر، قاصداً العاصمة باريس، لتعلّم اللاهوت، كان يحلم بصرح علمي متميّز، وحين حقّق حلمه أُطلق اسم بلدته على ما بدأ مجمّعاً صغيراً لتدريس علوم اللاهوت لعشرين طالباً فقيراً، قبل أن يتحوّل إلى أشهر جامعة أوروبية.
الحجر الذي شيّد منه مبنى جامعة السوربون، تحوّل إلى عروش كلمات تعيش منذ ثمانمئة عام.
المبنى مشيّد من الحجر، حيث كان الباريسيون يستخرجون الأحجار من باطن الأرض لكي يشيدوا بها أبنيتهم العريقة، وهي ماثلة في البناء منذ قرون، وتتحدّى الزمن بكلّ ما أوتي من قوة وجبروت.
واجهات المبنى التاريخي، المزخرفة على الطريقة الرومانية، شامخة في الحيّ اللاتيني، ومتميّزة المعالم، وتظهر من بعيد كفنارٍ وسط الحي اللاتيني.
المبنى عبارة عن متحف، سواء من الداخل أو الخارج، ديكوراته تذكّر بعصور البناء القديمة، حيث تنتشر المنحوتات فوق المدخل الرئيسي الذي يمرّ تحته الآلاف دون أن يلحظوها، ربما لأنهم منشغلون بالثرثرة الأكاديمية، فيما تزيّن لوحات كبار الرسامين، أمثال جاك لو مارسييه ورينيه غوبلييه ولورد ونينو، الجدران والأروقة. لا يزال تمثالا باستور وهوغو يحرسان بهو الجامعة ويتحاوران بصمت. وفيرلين نقش عبارته أسفل إحدى قناطر الجامعة (هنا يأتي الإنسان ليقول كلمة.. ويرحل).
تمثال الكاتب الفرنسي فيكتور هوجو في فناء جامعة السوربون (Getty) | |
| |
أراد الكونت دو سوربون أن يكتب نصّاً.. فتناول ريشته ورسم مخطّط الجامعة على الأوراق البيضاء، ثم سرعان ما تحوّلت الأوراق البيضاء إلى ألواح رخامية، وأخرى حجرية.. هنا اجتمع القلم والريشة والمعول. ما هي علاقة الكونت دو سوربون بالمعاول؟
لا علاقة له، سوى أن النحاتين أبدعوا زخارف الجدران الداخلية، وصاغوا تماثيل ومنحوتات فوق المدخل الرئيسي، لترمز إلى الشعر والفلسفة والعلوم والآداب التي ازدهرت بين جدران هذا المبنى وأروقته الباذخة. كل شيء هنا يدلّ على القِدَم: الأثاث، الثريات، والأساتذة، بشعرهم الأبيض. وهنا ترك كبار الفنانين الفرنسيين بصماتهم على الخشب المرصّع المنقوش. وكلّ ما تحتويه جامعة السوربون الآن لا يمثّل إلا جزءاً يسيراً ممّا كانت تحتويه قبل الثورة الفرنسية، 1789، إذ إن معظم اللوحات الثمينة والمنحوتات قد سُرقت: إضافة إلى أقدم مطبعة باريسية تعود إلى عام 1470.
السوربون والحضارة العربية
ليست الحضارة العربية بعيدة عن جوّ السوربون، فهي حاضرة، إما في الآداب والعلوم والأطروحات الجامعية، وإما في اللوحتين المعلقتين على الجدران الزاهية، إحداهما لوحة للبهو الأسود في قصر الحمراء بغرناطة، وأخرى لوحة لمسجد/متحف أيا صوفيا في إسطنبول.
عندما كان الغرب يعيش في القرون الوسطى، كان العرب أوّل مَن نقل العلوم والآداب والفكر اليوناني القديم إلى شمال أوروبا. وقد اعتمدت جامعة السوربون سنوات طويلة، على العلوم العربية: رياضيات الخوارزمي جوهر تطوّر الرياضيات الغربية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. وقد أدّى ذلك إلى اعتماد الأرقام العربية بدل الأرقام الرومانية التي سبق أن استخدمت في جميع أنحاء أوروبا.
كما اعتمدت الجامعة على كتب البيروني في الجغرافيا، وابن مجاهد في علم قيادة السفن، والجزاري في علم ضغط الهواء والماء. وقد طغت كتابات ابن خلدون، مؤسس علم الاجتماع، على برنامج تعليم السوربون ردحاً من الزمن. وظلّت كتب ابن سينا تدرّس في السوربون حتى بداية القرن العشرين، وذلك يشرح سبب تبلور حركة الاستشراق على أيدي عدد كبير من العلماء والمستشرقين، أمثال ماسينيون وهنري لاوست وجاك بيرك وروجيه غارودي وغيرهم.
كما أنّ الأساتذة العرب لعبوا دوراً بارزاً في ترسيخ تدريس العلوم العربية، أمثال محمد أركون ويواكيم مبارك وجمال الدين بن الشيخ وأنور عبد الملك وغيرهم.
آلاف الطلبة يتوافدون، سنويّاً، للدراسة في أروقة جامعة السوربون، ولعلّهم يتذكّرون أسلافهم الذين كانت الجامعة تنهل من علومهم وكتبهم في بداياتها الأولى.
العرب والسوربون
تعتبر جامعة السوربون، الكائنة في الحي اللاتيني، من أعرق الجامعات وأرقاها في العالم. تأسسّت قبل 750 سنة، في عام 1253 للميلاد، وذلك في القرون الوسطى بجهود روبير دي سوربون، المرشد الروحي للملك لويس التاسع ملك فرنسا آنذاك. وقد استمدت بعض علومها من الحضارة الإسلامية العربية في الأندلس، وهي أول جامعة تقدم شهادة الدكتوراه. كما أن الجامعة تمتاز في تخصصات التاريخ والشؤون الدولية والآداب والعلوم الاجتماعية. ومن أبرز الكتّاب والمفكّرين العرب الذين تخرّجوا من جامعة السوربون: طه حسين، الحبيب بورقيبة، كمال جنبلاط، عبد الحليم محمود، بهاء الدين علايلي، يحيى الجمل، حسن الترابي، عبد الله النيباري وسهيل إدريس وغيرهم الكثير.
كان الطلبة العرب يتحلّقون حول أساتذتهم في المقاهي المجاورة احتفالاً بمناقشة أطروحاتهم. وفي الحقيقة، إن حياة كاملة تحيط بالجامعة، حيث الطلبة يسكنون في الغرف الكائنة على الأسطح، وهي زهيدة الأجرة، وعادة ما تكون في الطابق السابع من البناية بدون سلالم كهربائية، وتسمّى "غرف الخدم"، حيث أمضى فيها الطلبة العرب سنوات من أعمارهم، من أجل إكمال دراساتهم العليا. كما تنتشر في المحيط أهم المكتبات العامة والتجارية، إضافة إلى صالات السينما ومطاعم المحافظات الفرنسية الشعبية التي لم تصمد في وجه الزمن، بل سرعان ما تحوّلت إلى مطاعم للوجبات السريعة.
في عام 1626، قرّر ريشيليو، وزير الملك لويس الثالث عشر، وخريج جامعة السوربون، توكيل المهندس المعماري، جاك لوميرسييه، بترميم مباني الجامعة وإعادة بنائها. وقد وضع رئيس الأساقفة، في روان، حجر الأساس في 18 مارس/آذار 1627. بغياب الوزير ريشيليو الذي كان محتجزاً في تلك الفترة أثناء حصار لا روشيل إلاّ أنّه لم يتغيّب عن وضع حجر أساس الجامعة في 15 مايو/أيار 1635.
شهدت فرنسا في الثلاثين عاماً الأخيرة من القرن التاسع عشر، إعادة تنظيم وإحياء المؤسسات التربوية، وبدأ العمل على إعادة إعمار السوربون في عام 1884. واستمر حتى أُنجز في عام 1901. وقد أنشئت المباني الجديدة حول ساحة الشرف القديمة، ولم تبقَ سوى القبة شاهدةً على عهد ريشيليو والتي لا تزال حتى الآن ترمز إلى السوربون إحدى أهم الجامعات الأوروبية القديمة وتقدّم خدمة ثقافية تعليمية متميّزة منذ تأسيسها في مجالي الثقافة والعلم في باريس.
تظاهرات طلبة السوربون الألمان عام 1968، يدعمون زملاءهم الفرنسيين في مطالب استقلالية الجامعة (Getty) | |
| |
ثورة الطلبة
حررّت ثورة الطلبة في عام 1968 جامعة السوربون من الدولة، وانشطرت الجامعة إلى 13 جامعة في مختلف المناطق الباريسية، وأشاعت حرية الدراسة وديمقراطية الاختيار.
توجد، اليوم، ثلاث عشرة جامعة مستقلة، أربع لها وجود في مبنى السوربون التاريخي، وهي جامعة باريس الأولى (بانتيون ـ سوربون)، وجامعة باريس الثالثة (سوربون الجديدة)، وجامعة باريس الرابعة (باريس ـ سوربون)، وجامعة باريس الخامسة (باريس ديكارت). ولجميعها مقرّات بالبنايات القديمة للسوربون. وتعد شهادتها مفتاحاً للمناصب العليا الرفيعة وللشهرة. لقد افتتحت ثورة الطلبة مرحلة جديدة في أزمة المجتمع المعاصر، حيث انتقلت الحركة بالفعل من النظرية إلى النضال في الشوارع. وتحوّلت الجامعة إلى متاريس يحتمي بها الطلبة، ويدافعون عن حصنهم الأخير.. الثقافة.
ولعلّ أهمّ ما أنجزته ثورة الطلبة، أنّها جعلت التعليم مجانيّاً لجميع طبقات المجتمع من دون تفريق. وقد خرّجت الجامعة أفواجاً من الطلبة الفقراء الآتين من أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط، الذين لم يكونوا يمتلكون رسوم الجامعة في البلدان الأوروبية الأخرى. فقد كانت جامعة السوربون تؤمن أنّ رسالتها، كما رسمها مؤسّسها، هي نشر العلم والمعرفة بين الجميع. - See more at: http://www.alaraby.co.uk/miscellaneous/2015/2/3/%D8%AC%D8%A7%D9%85%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D8%A8%D9%88%D9%86-%D8%B3%D8%A8%D8%B9%D8%A9-%D9%82%D8%B1%D9%88%D9%86-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%86%D9%88%D8%A7%D8%B1#sthash.dJwPrjQM.dpuf
تختزن جدران هذه الجامعة أكثر من ذاكرة، ليس لأنّها تعكس التاريخ والعمارة الفرنسيتين والحركة الطلابية الأوروبية وغيرها، بل لأنّها زرعت حكاياتها وعلومها وآدابها وثقافتها في أذهان مئات ملايين الطلاب الذين ارتادوها خلال سبعة قرون ونصف القرن، وكان لهم تأثير بارز في مجتمعاتهم المختلفة والمتفرقة في أربع رياح الأرض.
فحين ترك الطالب الفقير "روبرت دو سوربون" بلدته "سوربُن"، في العقد الثالث من القرن الثالث عشر، قاصداً العاصمة باريس، لتعلّم اللاهوت، كان يحلم بصرح علمي متميّز، وحين حقّق حلمه أُطلق اسم بلدته على ما بدأ مجمّعاً صغيراً لتدريس علوم اللاهوت لعشرين طالباً فقيراً، قبل أن يتحوّل إلى أشهر جامعة أوروبية.
الحجر الذي شيّد منه مبنى جامعة السوربون، تحوّل إلى عروش كلمات تعيش منذ ثمانمئة عام.
المبنى مشيّد من الحجر، حيث كان الباريسيون يستخرجون الأحجار من باطن الأرض لكي يشيدوا بها أبنيتهم العريقة، وهي ماثلة في البناء منذ قرون، وتتحدّى الزمن بكلّ ما أوتي من قوة وجبروت.
واجهات المبنى التاريخي، المزخرفة على الطريقة الرومانية، شامخة في الحيّ اللاتيني، ومتميّزة المعالم، وتظهر من بعيد كفنارٍ وسط الحي اللاتيني.
المبنى عبارة عن متحف، سواء من الداخل أو الخارج، ديكوراته تذكّر بعصور البناء القديمة، حيث تنتشر المنحوتات فوق المدخل الرئيسي الذي يمرّ تحته الآلاف دون أن يلحظوها، ربما لأنهم منشغلون بالثرثرة الأكاديمية، فيما تزيّن لوحات كبار الرسامين، أمثال جاك لو مارسييه ورينيه غوبلييه ولورد ونينو، الجدران والأروقة. لا يزال تمثالا باستور وهوغو يحرسان بهو الجامعة ويتحاوران بصمت. وفيرلين نقش عبارته أسفل إحدى قناطر الجامعة (هنا يأتي الإنسان ليقول كلمة.. ويرحل).
تمثال الكاتب الفرنسي فيكتور هوجو في فناء جامعة السوربون (Getty) | |
| |
أراد الكونت دو سوربون أن يكتب نصّاً.. فتناول ريشته ورسم مخطّط الجامعة على الأوراق البيضاء، ثم سرعان ما تحوّلت الأوراق البيضاء إلى ألواح رخامية، وأخرى حجرية.. هنا اجتمع القلم والريشة والمعول. ما هي علاقة الكونت دو سوربون بالمعاول؟
لا علاقة له، سوى أن النحاتين أبدعوا زخارف الجدران الداخلية، وصاغوا تماثيل ومنحوتات فوق المدخل الرئيسي، لترمز إلى الشعر والفلسفة والعلوم والآداب التي ازدهرت بين جدران هذا المبنى وأروقته الباذخة. كل شيء هنا يدلّ على القِدَم: الأثاث، الثريات، والأساتذة، بشعرهم الأبيض. وهنا ترك كبار الفنانين الفرنسيين بصماتهم على الخشب المرصّع المنقوش. وكلّ ما تحتويه جامعة السوربون الآن لا يمثّل إلا جزءاً يسيراً ممّا كانت تحتويه قبل الثورة الفرنسية، 1789، إذ إن معظم اللوحات الثمينة والمنحوتات قد سُرقت: إضافة إلى أقدم مطبعة باريسية تعود إلى عام 1470.
السوربون والحضارة العربية
ليست الحضارة العربية بعيدة عن جوّ السوربون، فهي حاضرة، إما في الآداب والعلوم والأطروحات الجامعية، وإما في اللوحتين المعلقتين على الجدران الزاهية، إحداهما لوحة للبهو الأسود في قصر الحمراء بغرناطة، وأخرى لوحة لمسجد/متحف أيا صوفيا في إسطنبول.
عندما كان الغرب يعيش في القرون الوسطى، كان العرب أوّل مَن نقل العلوم والآداب والفكر اليوناني القديم إلى شمال أوروبا. وقد اعتمدت جامعة السوربون سنوات طويلة، على العلوم العربية: رياضيات الخوارزمي جوهر تطوّر الرياضيات الغربية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. وقد أدّى ذلك إلى اعتماد الأرقام العربية بدل الأرقام الرومانية التي سبق أن استخدمت في جميع أنحاء أوروبا.
كما اعتمدت الجامعة على كتب البيروني في الجغرافيا، وابن مجاهد في علم قيادة السفن، والجزاري في علم ضغط الهواء والماء. وقد طغت كتابات ابن خلدون، مؤسس علم الاجتماع، على برنامج تعليم السوربون ردحاً من الزمن. وظلّت كتب ابن سينا تدرّس في السوربون حتى بداية القرن العشرين، وذلك يشرح سبب تبلور حركة الاستشراق على أيدي عدد كبير من العلماء والمستشرقين، أمثال ماسينيون وهنري لاوست وجاك بيرك وروجيه غارودي وغيرهم.
كما أنّ الأساتذة العرب لعبوا دوراً بارزاً في ترسيخ تدريس العلوم العربية، أمثال محمد أركون ويواكيم مبارك وجمال الدين بن الشيخ وأنور عبد الملك وغيرهم.
آلاف الطلبة يتوافدون، سنويّاً، للدراسة في أروقة جامعة السوربون، ولعلّهم يتذكّرون أسلافهم الذين كانت الجامعة تنهل من علومهم وكتبهم في بداياتها الأولى.
العرب والسوربون
تعتبر جامعة السوربون، الكائنة في الحي اللاتيني، من أعرق الجامعات وأرقاها في العالم. تأسسّت قبل 750 سنة، في عام 1253 للميلاد، وذلك في القرون الوسطى بجهود روبير دي سوربون، المرشد الروحي للملك لويس التاسع ملك فرنسا آنذاك. وقد استمدت بعض علومها من الحضارة الإسلامية العربية في الأندلس، وهي أول جامعة تقدم شهادة الدكتوراه. كما أن الجامعة تمتاز في تخصصات التاريخ والشؤون الدولية والآداب والعلوم الاجتماعية. ومن أبرز الكتّاب والمفكّرين العرب الذين تخرّجوا من جامعة السوربون: طه حسين، الحبيب بورقيبة، كمال جنبلاط، عبد الحليم محمود، بهاء الدين علايلي، يحيى الجمل، حسن الترابي، عبد الله النيباري وسهيل إدريس وغيرهم الكثير.
كان الطلبة العرب يتحلّقون حول أساتذتهم في المقاهي المجاورة احتفالاً بمناقشة أطروحاتهم. وفي الحقيقة، إن حياة كاملة تحيط بالجامعة، حيث الطلبة يسكنون في الغرف الكائنة على الأسطح، وهي زهيدة الأجرة، وعادة ما تكون في الطابق السابع من البناية بدون سلالم كهربائية، وتسمّى "غرف الخدم"، حيث أمضى فيها الطلبة العرب سنوات من أعمارهم، من أجل إكمال دراساتهم العليا. كما تنتشر في المحيط أهم المكتبات العامة والتجارية، إضافة إلى صالات السينما ومطاعم المحافظات الفرنسية الشعبية التي لم تصمد في وجه الزمن، بل سرعان ما تحوّلت إلى مطاعم للوجبات السريعة.
في عام 1626، قرّر ريشيليو، وزير الملك لويس الثالث عشر، وخريج جامعة السوربون، توكيل المهندس المعماري، جاك لوميرسييه، بترميم مباني الجامعة وإعادة بنائها. وقد وضع رئيس الأساقفة، في روان، حجر الأساس في 18 مارس/آذار 1627. بغياب الوزير ريشيليو الذي كان محتجزاً في تلك الفترة أثناء حصار لا روشيل إلاّ أنّه لم يتغيّب عن وضع حجر أساس الجامعة في 15 مايو/أيار 1635.
شهدت فرنسا في الثلاثين عاماً الأخيرة من القرن التاسع عشر، إعادة تنظيم وإحياء المؤسسات التربوية، وبدأ العمل على إعادة إعمار السوربون في عام 1884. واستمر حتى أُنجز في عام 1901. وقد أنشئت المباني الجديدة حول ساحة الشرف القديمة، ولم تبقَ سوى القبة شاهدةً على عهد ريشيليو والتي لا تزال حتى الآن ترمز إلى السوربون إحدى أهم الجامعات الأوروبية القديمة وتقدّم خدمة ثقافية تعليمية متميّزة منذ تأسيسها في مجالي الثقافة والعلم في باريس.
تظاهرات طلبة السوربون الألمان عام 1968، يدعمون زملاءهم الفرنسيين في مطالب استقلالية الجامعة (Getty) | |
| |
ثورة الطلبة
حررّت ثورة الطلبة في عام 1968 جامعة السوربون من الدولة، وانشطرت الجامعة إلى 13 جامعة في مختلف المناطق الباريسية، وأشاعت حرية الدراسة وديمقراطية الاختيار.
توجد، اليوم، ثلاث عشرة جامعة مستقلة، أربع لها وجود في مبنى السوربون التاريخي، وهي جامعة باريس الأولى (بانتيون ـ سوربون)، وجامعة باريس الثالثة (سوربون الجديدة)، وجامعة باريس الرابعة (باريس ـ سوربون)، وجامعة باريس الخامسة (باريس ديكارت). ولجميعها مقرّات بالبنايات القديمة للسوربون. وتعد شهادتها مفتاحاً للمناصب العليا الرفيعة وللشهرة. لقد افتتحت ثورة الطلبة مرحلة جديدة في أزمة المجتمع المعاصر، حيث انتقلت الحركة بالفعل من النظرية إلى النضال في الشوارع. وتحوّلت الجامعة إلى متاريس يحتمي بها الطلبة، ويدافعون عن حصنهم الأخير.. الثقافة.
ولعلّ أهمّ ما أنجزته ثورة الطلبة، أنّها جعلت التعليم مجانيّاً لجميع طبقات المجتمع من دون تفريق. وقد خرّجت الجامعة أفواجاً من الطلبة الفقراء الآتين من أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط، الذين لم يكونوا يمتلكون رسوم الجامعة في البلدان الأوروبية الأخرى. فقد كانت جامعة السوربون تؤمن أنّ رسالتها، كما رسمها مؤسّسها، هي نشر العلم والمعرفة بين الجميع. - See more at: http://www.alaraby.co.uk/miscellaneous/2015/2/3/%D8%AC%D8%A7%D9%85%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D8%A8%D9%88%D9%86-%D8%B3%D8%A8%D8%B9%D8%A9-%D9%82%D8%B1%D9%88%D9%86-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%86%D9%88%D8%A7%D8%B1#sthash.dJwPrjQM.dpuf