آفاق تسوية نزاع الصحراء الغربية بعد القذافي
http://studies.aljazeera.net/reports/2011/12/20111218113954537826.htm
مونية رحيمي آخر تحديث : الإثنين 19 ديسمبر 2011 15:04 مكة المكرمة
أثار انهيار نظام القذافي إشكاليات كبرى حول انعكاسات وتداعيات هذا الحدث على مستوى السياسة الداخلية والخارجية للجماهيرية الليبية. وأهم هذه الإشكاليات التي أود طرحها في هذه التقرير، ما مدى تأثير انهيار نظام القذافي على تغيير المناخ الجيوبوليتيكي بمنطقة المغرب العربي؟ وكيف ستتعامل الحكومة الانتقالية الليبية الحالية، في إطار سياستها الخارجية، مع حركة البوليساريو؟
ومن أجل مقاربة هذا الموضوع، سأتناول موقف نظام القذافي وسياسته الخارجية من نزاع الصحراء الغربية خلال المراحل الأولى من النزاع لاسيما فترة السبعينيات والثمانينيات، التي شهدت أحداثًا عديدة وتطورات نوعية تستحق الدراسة والتقييم، ثم نتطرق إلى ملامح المرحلة الجديدة بعد سقوط نظام القذافي.
القذافي: مبدأ الوحدة العربية والتجزئة القُطْرية
قبل التطرق لأهم خصائص السياسة الخارجية الليبية تجاه النزاع، أود التأكيد على مسألة أساسية عادة ما تكون موضع خلط من طرف الباحثين؛ ذلك أن الحديث عن دعم القذافي للبوليساريو في البدايات الأولى للنزاع لم يكن قائمًا على أساس دعم الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب كحركة انفصالية تهدف إلى الاستقلال عن المملكة المغربية -حسب الأطروحة المغربية- وإنما كـ"حركة تحرير" في مواجهة الاستعمار الإسباني. وكان القذافي يعتبر نفسه المؤسس المنشئ للبوليساريو، وأنه هو الذي دعمها بالسلاح الذي جعل منها قوة حية تتصدى للوجود الإسباني في الصحراء، وهو ما يبدو واضحًا من خلال خطابه بمناسبة ثورة الفاتح من سبتمبر/أيلول عام 1987 بقوله: ".. أستطيع أن أتكلم عن قضية الصحراء أكثر من أي طرف آخر لأن البوليساريو الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب، نحن الذين أسسناها عام 1972، ونحن الذين دربناها وسلَّحناها لتطرد الاستعمار الإسباني من الساقية الحمراء ووادي الذهب، ولم نسلحها لإقامة دولة، ولم نقل لهم: انضموا إلى موريتانيا أو الجزائر أو المغرب أو لا تنضموا، دربناها وسلحناها لتحرير الأراضي العربية من الاستعمار الإسباني..".
وهو ما يتوافق وفكرة تحقيق "الولايات المتحدة للصحراء الإفريقية" التي لم تفارق مخيلة العقيد معمر القذافي التي تصورها من المحيط الأطلسي إلى البحر الأحمر، بل وكان يسميها أحيانًا حسب مزاجه "اتحاد الصحراء الإسلامية" حينما كان يدرج ضمنها صحراء العربية السعودية(1). وفي إطار هذه الرؤية، تابع القذافي هدف تحقيق الوحدة العربية في العالم العربي، كهدف لحد ذاته، وكشرط مسبق لهزيمة إسرائيل، بحمية عصبية وقدرات سياسية معتبرة وموارد نفطية واسعة. غير أنه ومع تطور أحداث نزاع الصحراء الغربية، تصادمت أهدافه القومية مع واقع سياساته المنتهَجة، فتولد عن ذلك غموض وتناقض واضحان يصعب معهما تصنيف الموقف الليبي وإدراجه ضمن المساند لأطروحة البوليساريو أو نقيض ذلك(2).
1- فترة السبعينيات: تطور دعم البوليساريو
في الوقت الذي كانت فيه الصحراء الغربية ترزح تحت السيطرة الإسبانية، كانت ليبيا في واجهة الدول العربية التي تدفع في اتجاه الصراع المسلح ضد احتلال دولة عربية، وتحمست للفكرة من منطلق إيمانها بضرورة تصفية الاستعمار من كل الأراضي العربية. وقد انسجم هذا التوجه وروح خطاب العقيد القذافي في مدينة أطار بموريتانيا عام 1972، وكذا الخطاب الذي ألقاه يوم 11 يونيو/حزيران 1972 بقاعدة عقبة بن نافع بالجماهيرية حيث دعا إلى ضرورة تصفية الاستعمار الإسباني من هذا الجزء من الوطن العربي قبل نهاية السنة. كما صرح بالجزائر في نفس السنة أنه مستعد لخوض الحرب لإخراج إسبانيا من أقاليم الساقية الحمراء ووادي الذهب. وقد سبق للملك المغربي الحسن الثاني أن أوضح طبيعة الموقف الليبي في الندوة الصحفية التي عقدها يوم 17 سبتمبر/أيلول 1974 حين قال: "يجب أن أقول: إن ليبيا هي البلد الذي بيني وبينه أقل المشاكل في هذا الميدان، لأن الأمر الرئيسي بالنسبة له هو انسحاب الإسبانيين".
وبعد الانسحاب الإسباني من الصحراء الغربية عام 1976، عارض القذافي خلق دولة صحراوية في المنطقة. لكن ولأنه كان يعتقد أن النظام المغربي ذو طبيعة كولونيالية، فقد جنح إلى حق تقرير مصير "الشعب الصحراوي" بل وحتى استقلال الصحراء. وهذا الموقف كانت تغذيه مجموعة من العوامل التي أسفر تشابكها عن عداء علني للنظام السياسي المغربي وملكه؛ فعلى المستوى الشخصي، كان القذافي يضمر كرهًا عميقًا للحسن الثاني باعتبار أنه ملكي محافظ، وعلى أنه يجسد مفارقة تاريخية في نهاية القرن العشرين. وعلى المستوى الأيديولوجي، كان القادة الليبيون يعتبرون النظام المغربي إقطاعيًّا وملكيًا مواليًا للغرب في زمن الثورة العربية الاشتراكية(3). كما أن دعم الحسن الثاني لمبادرة السلام مع إسرائيل التي أقدم عليها الرئيس المصري أنور السادات أثار سخط القذافي وغيظه.
وفي بداية السبعينيات، كان معمر القذافي خصمًا لا يلين للملك الحسن الثاني، وطيلة هذه الفترة كانت ليبيا بمثابة المكان المقدس بالنسبة لقياديي البوليساريو، وهي الفترة التي وصفها إبراهيم حكيم -المسؤول السابق بالجبهة وممثلها في الجزائر قبل أن يصبح ممثلاً دبلوماسيًّا للملك المغربي- في تصريح له قال فيه: "منذ عام 1973 و1974، أصبحت رحلات الوالي مصطفى السيد(4)- الرئيس الأول للبوليساريو- إلى ليبيا متتالية، وقد عاد منها بمساعدة مالية ودبلوماسية وأحيانًا عسكرية، وبالفعل فقد كانت البوليساريو في بداية الأمر أكثر موالاة لليبيا منها للجزائر، وأعتقد أن التخوف من أن يسقط في أحضان العقيد القذافي هو الذي دفع بالرئيس بومدين إلى استعادته"(5). وهي علاقة تعكس بصماتها الرسائل التي كان يبعث بها الوالي مصطفى السيد إلى العقيد معمر القذافي، وما تحمله من معاني التقدير والإعجاب والامتنان. وتُعتبر الرسالة التي بعث بها بتاريخ 11 يوليو/تموز 1975 نموذجًا لذلك، وقد ورد فيها: "إلى من آلى على نفسه أن يعمل على نصرة الإسلام والمسلمين، مؤمنًا بأن من ينصر الله ينصره، إلى السيادة العالية بنصرة الحق.. إلى من لا يخاف في الله لومة لائم، إلى الأخ العقيد معمر القذافي، سلام الله عليكم أيها القائد العربي المسلم.. لقد كنتم لنا أيها الأخ العقيد لا منشئًا فقط، ولكن حاميًا أيضا، جزاكم الله عنّا كل خير..". إلا أن ليبيا ومنذ عام 1976 رفضت الاعتراف بالجمهورية العربية الصحراوية، رغم أنها كانت توفر المساعدات الطبية والمالية والأسلحة للبوليساريو إلا أنها كانت تقدمها بحذر.
ومع توقيع اتفاقيات مدريد الثلاثية، عاشت الجزائر حالة تهميش سعت إلى الخروج منها بالسعي إلى كسب الدعم الليبي، لكن طرابلس ومنذ عام 1975، تعذر عليها اتخاذ موقف واضح تجاه هذا النزاع. فليس بإمكانها أن تتعارض مع موريتانيا البلد الذي تربطه وإياها العديد من علاقات التوافق والتجاذب، ولم يكن بإمكانها أن تقبل التحالف مع الجزائر التي ناهضت اتفاقية جربة بين تونس وليبيا عام 1974 الهادفة إلى تحقيق الوحدة بين البلدين، وموازاة مع ذلك لم يكن القذافي على استعداد لتشجيع تطلعات النظام الملكي المغربي التي كان يحاربها دائمًا، ولم يكن ليقبل أيضًا بخلق دولة جديدة في المغرب العربي، في الوقت الذي كان يتزعم فيه المطالبة بتحقيق وحدة المغرب العربي والعالم العربي. وقد حاول القذافي طوال هذه الفترة تفادي التورط في نزاع مغاربي رغم استمرارية دعمه للبوليساريو.
وخلال لقاء "حاسي مسعود" في 28-29 ديسمبر/كانون الأول 1975 ولقاء سرت في 13 فبراير/تشرين الثاني 1976 بين القذافي والرئيس الجزائري بومدين، قرر الرئيسان "ربط علاقات بنيوية عميقة ومتينة في طريق الوحدة والتحرير"، معلنَيْن أن "أية محاولة للمس بإحدى الثورتين ستعتبر مساسًا بالأخرى"(6). غير أن التقارب الليبي الجزائري الذي تحقق أساسًا بسبب رفض الرئيس الموريتاني الاقتراح الليبي المتمثل في تأسيس فيدرالية موريتانية صحراوية خلال ربيع 1976، لم يكن إلا عنصرًا من عناصر مسلسل الصراع الذي تقوده الجزائر(7). وإذا كانت الجزائر وليبيا قد اتفقتا مبدئيًّا على توفير جميع أنواع الدعم للبوليساريو، فإن تنافسًا أكيدًا كان قد ترعرع فيما بعد تبعًا للعبة التأثير الممارسة في المنطقة ومصلحة كلتا الدولتين؛ فقد تنازع كل من القذافي وبومدين على المركزية ووضع اليد الطولى على "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية"، وحاول كل واحد منهما، حسب سياسته وأيديولوجيته، تسيير هذه الحركة والتحكم فيها عن طريق استقطابها ضد الطرف الآخر(
. ووفقًا لهذا المعنى، يؤكد إبراهيم حكيم، وزير خارجية البوليساريو سابقًا والدبلوماسي المغربي بعد ذلك، في تصريح له أن "بومدين لم يؤمن أبدًا بالبوليساريو، لقد دخل لعبة المزايدة مع القذافي الذي خشي من سيطرته على الحركة"(9). كما أن حكومة الرئيس الجزائري الشاذلي على غرار حكومة بومدين كانت تنظر بارتياب إلى نظام القذافي، فكثيرًا ما انزعجت من سياساته التوسعية واحتمال زعزعته للاستقرار. ولهذا السبب حذَّر الشاذلي بن جديد القذافي مرارًا خلال عام 1981 بأن الجزائر لن تتسامح مع أية محاولة لزعزعة الاستقرار في تونس ومالي والنيجر وفولتا العليا(10). ووعيًا من البوليساريو بما يجري ويدور من تسابق بين الطرفين بخصوصها استغلت هذه الوضعية، ونهجت سياسة التشكيك والارتياب في طرف تجاه الطرف الآخر من أجل الحصول على الحد الأقصى من الامتيازات.
ومنذ 1973، ساندت ليبيا جبهة البوليساريو ماليًّا وعسكريًّا ودبلوماسيًّا، مكملة بذلك الدعم الجزائري وأحيانًا متجاوزة إياه؛ حيث وفَّر نظام القذافي مساعدات مالية مهمة شملت جانب الأسلحة والتدريب لبعض وحدات البوليساريو والمساعدات الطبية، إلى جانب توفير الدراسة لأطفال الصحراء. ورغم أن حجم هذه المساعدات غير معروف، لكن من المحتمل أن ليبيا رفعت تدريجيًّا حصة مساهمتها في نفقات البوليساريو منذ 1976 إلى غاية منتصف 1981 (11).
ومع التصعيد العسكري في الصحراء الغربية بين كل من موريتانيا والبوليساريو ما بين 1977 و 1978 برزت مجموعة من التناقضات في محاولة ليبيا الحفاظ على علاقات متينة مع طرفين يتحاربان. وفي خضم هذا التصعيد، لم يوافق القذافي على استعمال الأسلحة الممولة من ليبيا لضرب حليفته موريتانيا التي هاجمتها البوليساريو في شنقيط، مركز أغلب الآثار الإسلامية، والمكان الذي ضم أكثر المنشآت الممولة من طرف ليبيا. وأمام التورط الموريتاني في هذا النزاع، استقبل القذافي الرئيس ولد داداه في ربيع 1978 ووعده بمساعدات من أجل تطوير قطاعات الاقتصاد الموريتاني.
هذا التورط الموريتاني في نزاع الصحراء يساهم في تفسير: لماذا لم تعلن ليبيا عن دعمها للبوليساريو خلال المراحل الأولى للحرب؟ ولماذا منذ منتصف 1978 حين بدأت البوليساريو توجيه كل مجهوداتها ضد المغرب، كانت ليبيا أكثر انفتاحًا ووضوحًا في دعمها للبوليساريو، حيث عززت ليبيا تدخلها في نزاع الصحراء الغربية بعد انقلاب يونيو/حزيران 1978 بنواكشوط الذي أدى إلى وقف إطلاق النار بين موريتانيا والبوليساريو؟ وخلال الأشهر الموالية لذلك، استقبل القذافي مبعوثين موريتانيين، كما استضاف محادثات سرية بين البوليساريو وموريتانيا.
وإلى حدود نهاية السبعينيات اتسم الموقف الليبي من البوليساريو بغموض بالغ، فمن جهة كان القذافي مرتاحًا لتقديم مساعداته للثوار ضد الاستعمار الإسباني والاستعمار الفرنسي، لكنه تصدى للاعتراف بالجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية، التي اعتقد أنها ستكون غير ذات جدوى اقتصاديًّا وأنها ستعمل على "بلقنة" الأمة العربية سياسيًّا. ولطالما طمح للتوسط في مجمل نزاع الصحراء في المستقبل القريب، كما رغب بكل تأكيد في حرمان الجزائر من ربح كل مكتسبات البوليساريو العسكرية والدبلوماسية، وكان يطمح للتوسط في جميع الخلافات الممتدة عبر الصحراء على الأمد البعيد (12).
وفي مقابل القادة السود للدول المتاخمة للصحراء الذين يخافون من التقدم العربي في إفريقيا على حساب العالم الأسود، وخلافًا للقوات الغربية التي تهدف إلى الإبقاء على الوضع القائم في المغرب العربي، تطلع العقيد القذافي إلى تعزيز تقدم الإسلام في الجنوب بصفة عامة والتقدم الليبي تحديدًا. وعلى ضوء مثل هذه الأهداف يمكننا قراءة التدخل الليبي في تشاد، وخلق الحركة الأمازيغية الجديدة بطرابلس، وتعزيز جبهة تحرير شمال مالي (13)؛ مما يعني أن القذافي كان أقل اهتمامًا بحركة البوليساريو ومطالبها من اهتمامه بمضاعفات النزاع وتداعياته على وضعية مجمل دول شمال إفريقيا. وهو الأمر الذي سيتأكد من خلال الآثار البعدية التي ترتبت على اعترافه بالجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية.
2- فترة الثمانينيات: من الاعتراف بالبوليساريو إلى إبرام اتفاقية الوحدة مع المغرب
بعد الاعتراف الليبي بالجمهورية الصحراوية بتاريخ 15 إبريل/نيسان 1980، أعلن المغرب قطع علاقاته الدبلوماسية مع الدولة الليبية. وفي مقابل هذا، اتجهت مجهودات القذافي الدبلوماسية إلى الدعم المالي لعدد من الدول الإفريقية الضعيفة من أجل كسب مساندتها للجمهورية الصحراوية. وخلال هذه الفترة دافع القذافي، دونما نتيجة، عن "ميثاق ضد الإمبريالية" يشمل كلاًّ من الجزائر وليبيا وموريتانيا والجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية، من أجل عزل المغرب وتحقيق الوحدة العربية التي يسعى إليها. كما أن إغراءات خلق كيانات سياسية واسعة قوَّت رغبة القذافي في توحيد جميع القبائل الصحراوية من تشاد إلى موريتانيا تحت إمرته(14).
وفي شهر يونيو/حزيران من عام 1981، شرعت ليبيا في تعزيز علاقاتها مع المغرب، وأبانت عن إرادة أكيدة في تليين موقفها من نزاع الصحراء الغربية. وقد جاءت هذه التحركات الليبية إثر الحملة الدعائية الواسعة التي شنها الملك الحسن الثاني في مايو/أيار 1981 من خلال إرسال مبعوثيه إلى تسعين دولة لشرح الوضعية في شمال إفريقيا على ضوء "التهديد الليبي"(15). ويفسر جون داميس هذا التغير برغبة القذافي في التخفيف من العزلة المفروضة على ليبيا بسبب تدخلها في تشاد، كما أن القصف الإسرائيلي للمصنع النووي العراقي في شهر يونيو/حزيران من نفس العام أثار مخاوف ليبيا من نتائج وضعيتها الانعزالية واحتمال هجوم عسكري من طرف تحالف قد يجمع كلاًّ من إسرائيل ومصر والولايات المتحدة الأميركية. وباتساق مع هذه الاعتبارات، حرصت ليبيا على تعزيز حظوظها في استضافة قمة منظمة الوحدة الإفريقية خلال عام 1982 (16).
ولما أرادت ليبيا استئناف العلاقات الدبلوماسية مع المغرب، رهن الملك الحسن الثاني هذا المبتغى بإنهاء الدعم الليبي للبوليساريو. فكان أن تبادل كل من معمر القذافي والحسن الثاني سريًّا مبعوثين على مستوى عالٍ، وأعلنا عن رغبتهما في إعادة العلاقات الدبلوماسية ما دامت مسألة الصحراء لم تكن مدرجة في جدول أعمال القمة، فكان التحفظ الليبي بخصوص الصحراء في قمة نيروبي وعدم إدانة المغرب للتدخل الليبي في تشاد من بين أهم النتائج الجلية لهذه القمة.
وتفسر بعض المصادر الأميركية هذه التحولات على أساس أن القذافي أراد أن يراهن على "الوحدة العربية التقليدية" وهو موضوع خاص بالزعيم الليبي، وهو في هذه الحالة يلعب لصالح الحسن الثاني. غير أن الباعث الأساسي يتمثل في خوف القذافي من أن تحطم إسرائيل منشآته النووية كما حدث بالنسبة لبغداد. كما تتحدث هذه المصادر عن حالة توافق بحيث يضطر القذافي إلى التغاضي عن الأنشطة المغربية في الصحراء ويلتزم الحسن الثاني بالصمت تجاه التدخل الليبي في تشاد. ويدل هذا الكبح المتبادل لموقفي كلا القيادتين، على أن الرباط وطرابلس قد عملتا على إيجاد حل توفيقي، أدى في نهاية شهر يونيو/حزيران 1982 إلى تطبيع علاقاتهما (17).
وفي الثالث عشر من أغسطس/آب لسنة 1984، ظهرت إلى حيز الوجود اتفاقية وجدة التاريخية "لتعلن إلى الأمة العربية من محيطها إلى خليجها وإلى العالم كافة، عزم المملكة المغربية والجماهيرية الليبية على العمل يدًا بيد من أجل تطوّر البلدين الشقيقين في جميع الميادين، ولوضع اللبنة الأولى في صرح وحدة المغرب العربي، تلك التي ستكون جنين وحدة الأمة العربية كلها" (18). وهي اتفاقية تتصف بالسرية والكتمان اللذين أحاطا تنظيم المسيرة الخضراء التي فاجأت الجميع، كما أن إعدادها لم يستغرق أكثر من أربعة أسابيع كاملة، حسب ما يتضح من الخطاب الملكي بمناسبة الإعلان عن الاتفاقية وعرضها للاستفتاء، حيث أكد الملك الحسن الثاني قائلاً: " كنا قد تكلمنا في هذا الموضوع يوم 13 يوليو/تموز 1984، وفي 13 أغسطس/آب من نفس العام، كان في مقدورنا توقيع اتفاقية الوحدة في وجدة. ثلاثون يومًا فقط بين ظهور فكرة الوحدة وتحقيقها". وفي تبريره لإبرام هذه الاتفاقية، فسّر الملك الحسن الثاني ملابساتها قائلاً: "كان أبنائي يتعرضون آنذاك لقصف مدفعين؛ أحدهما جزائري والثاني ليبي، وكان من أوجب واجباتي إسكاتهما. فبتوقيع هذه المعاهدة، تمكنت من جعل القذافي محايدًا، وحصلت على التزامه لي بعدم الاستمرار في تقديم أدنى مساعدة لأعدائي وللبوليساريو"(19). وعبّر الزعيم الليبي من جهته عن هذا الحدث بقوله: "إننا في مرحلة نريد فيها أن نجمع شمل الأمة العربية، في مرحلة تتحد فيها مملكة مع جماهيرية، لأن درجة التحدي المعادي ودرجة الخطر الداهم وصلت إلى الحد الذي جعل الوحدة ضرورية بين المملكة والجماهيرية، بين ملك وقائد ثورة. إن الوحدة بين المملكة والجماهيرية تبدو وكأنها متناقضة كل التناقض، ولكن النقيض الأكبر هو الصهيونية والإمبريالية والتخلف"(20).
ومما يجب التأكيد عليه، أن هذه الاتفاقية لم تأت من فراغ ولم يكن مرغوبًا فيها لذاتها، بل كان لكل من المملكة المغربية والجمهورية الليبية أسبابهما الخاصة لخوض هذه التجربة. فليبيا كانت تطمح إلى تأييد مغربي لإقليم "أوزو" المتنازع بشأنه مع تشاد، أو بالأحرى "الحيلولة دون إرسال الملك الحسن الثاني قواته إلى تشاد من أجل مساندة نظام هبري كما سبق له أن فعل مع الرئيس موبوتو في زائير، ومن جهة أخرى، فإنه خشي أن تُفرض عليه عزلة ما في العالم العربي من جراء التوافق الذي تم بين الولايات المتحدة ومصر والسودان، وأيضًا من طرف فرنسا التي أرسلت ثلاثة آلاف جندي إلى تشاد ما بين أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول 1983"(21). وإلى جانب هذا الاعتبار، هدف معمر القذافي لـ "تفادي هجوم إسرائيلي من قبيل ذلك الذي شنته القوات الإسرائيلية على المفاعل العراقي في يونيو/حزيران 1981؛ مما كرَّس لديه التخوف من التعرض لهجوم عسكري مماثل من طرف تحالف عسكري إسرائيلي مصري أميركي"(22).
وبالنسبة للملك الحسن الثاني، فقد كان هدفه بالأساس هو كسر العزلة التي أحاطت به من جراء اتفاقية "الأخوة والوفاق" بين تونس والجزائر، والاعتراف الموريتاني بالجمهورية العربية الصحراوية عام 1984. وعليه فقد اعتقد الملك الحسن الثاني أن بتوقيع اتفاقية وجدة سوف لن يكسب حليفًا فقط، وإنما سوف يكسر هذه العزلة، وسيوقف الدعم الليبي لحركة البوليساريو(23). وقد فسّر العاهل المغربي هذا الباعث خلال اللقاء الصحفي الذي جمعه بمدير مجلة نوفال أوبسرفاتور الفرنسية قائلاً: "إن أوجب الواجبات لرئيس دولة هو تحييد أكبر عدد من خصوم بلاده، وكسب أكبر عدد من الأصدقاء؛ ففي ذلك الوقت الذي نتحدث عنه، أي سنة 1984، كان يصوب إليّ مدفعان، أحدهما قوي وبعيد المدى بينما المدفع الثاني كان متوسط المدى، وكان عليّ تحييد أحدهما، فأتيحت لي الفرصة الملائمة بينما كنت أنتظر بفارغ الصبر رد الجزائريين على مشروع فيدرالية أو كونفيدرالية، لاسيما وأن هذه المبادرة السعيدة أقدم عليها الجزائريون أنفسهم.. لقد كان القذافي وفيًّا بوعوده؛ إذ إنه منذ قيام الاتحاد قطع كل صلة مع البوليساريو"(24).
وإضافة إلى هذا الاعتبار المحوري، فإن الجانب الاقتصادي والإعلامي كان حاضرًا أيضًا؛ إذ كانت الاتفاقية مناسبة للملك الحسن الثاني كي يجد فرصة للعمالة المغربية بليبيا بسبب أزمة البطالة التي اجتاحت المغرب خلال بداية الثمانينيات، وهو ما تمت دراسته باهتمام من طرف اللجنة المغربية-الليبية المشتركة التي انعقدت بالرباط مابين 25 و26 فبراير/شباط 1984. كما أن التصريحات المعادية للنظام السياسي المغربي التي كانت تُبث عبر أجهزة الراديو والتلفزة الليبية، كان لها حظها من المحادثات خاصة فيما يتعلق بمبادرات المغرب في الشرق الأوسط(25).
ورغم أن الملك الحسن الثاني والعقيد معمر القذافي قد أكَّدا في مناسبات عديدة على أن الاتحاد لا يدخل في إطار سياسة المحاور، وأنه خطوة لبناء المغرب العربي والوحدة العربية الشاملة، وأنه لا تعارض بين معاهدة "الأخوة والوفاق" التي تمت بين الجزائر وتونس بتاريخ 19 مارس/آذار 1983 وبين معاهدة وجدة، فإن المعاهدة لم تسلم من انتقادات دول الجوار والدول الصديقة والحليفة للمغرب خاصة الولايات المتحدة الأميركية؛ إذ كانت الجزائر أكثر الدول معارضة لقيام الاتحاد العربي-الإفريقي؛ حيث اعتبرت أن هذا الاتحاد هو تكريس لسياسة المحاور في منطقة المغرب العربي، وهو ما أوضحه الرئيس الشاذلي بن جديد في تصريح أكَّد فيه أن "الاتفاق المغربي الليبي هو محور يبعثر الجهود ولا يجمع الصفوف، ويبتعد عن تطلع بلداننا إلى وحدة أصلية.. نحن لا نؤمن بسياسة المحاور لأنها تتناقض مع المصالح الحقيقية لبلادنا.. ولكننا نؤمن بالتعاون والتكامل وبحسن الجوار الإيجابي كوسيلة فعالة توفر المناخ الملائم للسير في طريق تحقيق الوحدة"(26).
وفي رده على مثل هذه الادعاءات، صرّح العاهل المغربي في خطاب العرش بتاريخ 3 مارس/آذار 1985، قائلاً: "ويسرنا اليوم أن نؤكد مرة أخرى أن الاتحاد العربي-الإفريقي الذي أرسينا أساسه ووضعنا إطاره لا يعادي أحدًا ولا يحارب أحدًا ولا يقوم على حساب أي قطر من الأقطار أو أية دولة من الدول، ولم يكن القصد من تأسيسه أن ينشئ محورًا لمناورة أو مناهضة جهة من الجهات، بل كانت الغاية المتوخاة منه أن يؤلف ويجمع لا أن يفرق ويشتت".
غير أنه -وبسبب الاحتجاجات الأميركية على سرية ومضمون الاتفاقية، والضغوط الممارَسة من طرفها للتحلل منها، وشنّها لعدوانها الشهير على كل من طرابلس وبنغازي في 15 أبريل/نيسان 1986، إلى جانب الزوبعة السياسية التي أثارتها زيارة الوزير الأول الإسرائيلي شيمون بيريز للمملكة المغربية بتاريخ 21 يونيو/حزيران 1986 في إطار ما يُعرف بلقاء إفران (27)- توترت العلاقات المغربية-الليبية من جديد، وأُلغيت الاتفاقية تبعًا لذلك.
ورغم أن ليبيا لم تسحب اعترافها رسميًّا بالجمهورية الصحراوية، فإنها -وإلى عهد قريب- ظلت من البلدان القليلة التي تسمح بعبور صحراويي البوليساريو عبر أراضيها بجواز سفر الجمهورية العربية الصحراوية، وإلى حدود الألفية الأخيرة ظلت المساعدات الليبية للبوليساريو قليلة وضئيلة. ولعل الحدث الوحيد الذي استفز المسؤولين المغاربة في وقت قريب هو استقبال القذافي زعيم البوليساريو محمد عبد العزيز خلال احتفالات الفاتح من سبتمبر/أيلول 2009. غير أن اللجنة الشعبية العامة للاتصال الخارجي والتعاون الدولي للجماهيرية الليبية أصدرت بيانًا فسرت فيه ملابسات استقبال محمد عبد العزيز على اعتبار أن تواجده "كان بمناسبة المشاركة في قمة الاتحاد الإفريقي التي عُقدت بمدينة طرابلس في 31 أغسطس/آب 2009 ، الخاصة بفض النزاعات باعتبار الجمهورية الصحراوية عضوًا في الاتحاد الإفريقي، ولم يكن مدعوًا للاحتفالات رغم إبدائه رغبة في ذلك في حال وُجّهت له دعوة بهذا الشأن؛ حيث إن الدول التي دُعيت للمشاركة تمت دعوتها للمشاركة بوفود رسمية تضم رؤساءها أو من يمثلهم ووحدة عسكرية وفرقة فنية، وهو ما لم يحدث بالنسبة للجمهورية الصحراوية، وقد جاء ذلك التزامًا منّا بالضمانات المقدمة للأشقاء في المملكة المغربية".
كما أكد البلاغ على أنه "لا وجود لأية أبعاد سياسية في هذا الخصوص، وهي تعبر عن حرصها الشديد على استمرار وتدعيم وترسيخ العلاقات الأخوية والإستراتيجية بين البلدين الشقيقين في كافة المجالات".
المجلس الوطني الانتقالي الليبي: اعتراف صريح بمغربية الصحراء الغربية
حينما احتدم وطيس العراك واشتد القتال بين الثوار وأنصار القذافي، طالعتنا الأنباء بأهم المواقف السياسية للمجلس الثوري الليبي، على رأسها الاعتراف بمغربية الصحراء الغربية والتأكيد على عدم الاعتراف بالبوليساريو، وهو ما عبّر عنه أبو القاسم علي مبعوث المجلس الوطني الانتقالي الليبي إلى المغرب بقوله: "لن تبقى ليبيا طرفًا داعمًا لجبهة البوليساريو ما بعد نظام العقيد معمر القذافي، بل ستدعم الوحدة الترابية للمملكة". وهو نفس المبدأ الذي أكده السيد جمعة القماطي المتحدث باسم المجلس الوطني الانتقالي الليبي بلندن في اتصال هاتفي مع قناة العيون الجهوية ضمن نشرتها المسائية بتاريخ 31 أغسطس/آب 2011 بقوله: "لا مستقبل للصحراء الغربية إلا تحت السيادة المغربية"، معبِّرًا عن رفض مجلس الثورة للتجزئة والتقسيم في مقابل ضرورة بناء المغرب العربي. وإلى جانب موقفه المبدئي هذا، فإن مؤشرات ميدانية تؤكد هذا التوجه السياسي للمجلس وتغذيه، أهمها:
1- اتهام البوليساريو بالتورط في قمع الثورة الليبية
تناقلت وكالات الإعلام الإفريقية والعربية والدولية خبر تورط البوليساريو في الثورة الشعبية الليبية، وهو ما نقلته مؤسسة "هيودسن" (28) التي أفادت أن "الثوار الليبيين اعتقلوا نحو 556 مقاتلاً من جبهة البوليساريو"، موضحة أن القذافي قد "دعم البوليساريو ضد المغرب ماليًا ولوجستيًا منذ أواسط سبعينيات القرن الماضي، واختير أكثر من مائتي مقاتل من الجبهة مدربين بشكل جيد على مهارات حرب العصابات بناء على طلب القذافي وتم تسليحهم برشاشات كلاشينكوف والقنابل اليدوية وقاذفات الصواريخ وأرسلوا بسيارات الدفع الرباعي إلى ليبيا". وهو الأمر نفسه الذي أكّده علي الريشي وزير الهجرة الليبي السابق الذي انضم إلى الثوار في تصريح له لقناة "المهاجر" التي مقرها واشنطن بأن "مرتزقة البوليساريو كانوا يقاتلون إلى جانب قوات نظام القذافي ضد الشعب الليبي" (29). كما أن موظفين سامين بمنظمة الحلف الأطلسي أعلنوا أن القذافي قد صرف ما مقداره 3.5 مليون دولار من أجل استجلاب المئات من المرتزقة من شمال إفريقيا، بقيمة 10 آلاف دولار لكل واحد طيلة شهرين، وأن أغلب أولئك المرتزقة كانوا من صحراويي الصحراء الغربية (30).
وإلى جانب مجمل هذه التصريحات والتقارير، فإنه بعد هجوم الثوار على السفارة الجزائرية بطرابلس بتاريخ 22 أغسطس/آب 2011، أعلنوا عثورهم على وثائق خاصة تدل على الدعم الجزائري القوي للقذافي بما في ذلك الدعم العسكري واللوجستيي، وأيضا إيفاد العديد من مرتزقة البوليساريو إلى التراب الليبي(31). وفي ردهما على هذه التصريحات، اعتبرت جبهة البوليساريو والجزائر أن ما سبق ذكره محض ادعاءات واهية لا أساس لها من الصحة.
وموازاة مع هذا الإنكار، تضاربت أقوال مسؤولي المجلس الانتقالي الليبي بهذا الخصوص، فنفى مصطفى عبد الجليل رئيس المجلس تورط كل من الجزائر والبوليساريو في إرسال المرتزقة خلال تصريح له أمام مؤتمر صحفي ببنغازي ردًّا على سؤال حول ما تم تداوله من اعتقال المجلس لـ 556 عضوًا من الجبهة أثناء تورطهم مع كتائب القذافي في الحرب على الثوار والمدنيين، بقوله: "لا علم لنا بأي تواجد لجبهة البوليساريو ومساعدتها لمعمر القذافي، ولا نستطيع أن نتهم أي أحد في هذا الشيء".
2- توتر العلاقات الليبية-الجزائرية
بسبب عدم دعم الجزائر للثورة الليبية في مرحلة كان فيها الثوار في أشد الحاجة للدعم أو على الأقل التزام الحياد، وهو ما عبَّر عنه السيد مصطفى عبد الجليل في العديد من تصريحاته، بما في ذلك تصريحه للقناة التلفزيونية "ميدي 1 تي.في" بمدينة بنغازي بأن "الموقف الجزائري أثار استغرابنا بالنظر إلى كون الشعبين الليبي والجزائري تربطهما علاقات عميقة تعززت في المعركة والكفاح المشتركين"، وعبَّر عن أسفه قائلاً: "كنا نتوقع أن يكون للشعب الجزائري دور أكثر فاعلية لكن الساسة أو العسكريين كان لهم رأي آخر". ورغم ذلك، عبر عن تفاؤله بالفعالية المستقبلية لاتحاد المغرب العربي بعد الثورتين الليبية والتونسية على الصعيدين العربي والإفريقي.
وبنفس لغة المرارة والأسف، عبَّر الناطق العسكري باسم المجلس الوطني الانتقالي الليبي العقيد أحمد عمر باني عن استيائه من الموقف الجزائري أمام الصحافة في بنغازي بالقول: "لقد أثبتنا للعالم أننا نستحق أن يعترف بنا وقد فعلت ذلك القوى العظمى. أما الآخرون فلا ننتظر اعترافهم. وسيأتي يومٌ يكون عليهم توضيح موقفهم تجاه الثوار الليبيين". ومقابل هذا الاستياء من الحكومة الجزائرية، أشاد المتحدث باسم المجلس الوطني الانتقالي الليبي بلندن بالموقف المغربي من الثورة الليبية الذي وصفه بـ "الرائع والمتعاطف". ورغم أن النظام الجزائري كان قلقًا على صمود نظامه في ظل هذه الثورات العربية المتصاعدة، مما جعله يقف إلى جانب نظام بن علي والقذافي من أجل تجنب انعكاسات انهيار هذين النظامين على الاستقرار السياسي والأمني في الجزائر، فإنه في نهاية المطاف اضطر للاعتراف بالمجلس الوطني الانتقالي الليبي.
آفاق تسوية نزاع الصحراء الغربية فيما بعد نظام القذافي
على قاعدة ما تم التطرق إليه من موقف النظام الليبي السابق وسياسته الخارجية تجاه نزاع الصحراء الغربية، فإنه يمكنني القول بأن الثابت الوحيد بعد انهيار نظام القذافي هو جغرافية ليبيا، من منطلق أن "كل شيء قابل للتغيير بين الدول إلا الجغرافيا"، على حد تعبير بسمارك، وبأن انهيار نظام القذافي قد وضع نهاية للدعم التاريخي الليبي للبوليساريو. ويتأكد هذا المتغير الجديد من خلال تصريح أبي القاسم –المبعوث الليبي إلى المملكة المغربية- الذي أكد أن "ليبيا المستقبل لن تكون دولة داعمة لأي حركة، سواء البوليساريو أو غيرها من الحركات التي تفتقر إلى الشرعية الأممية". كما أكد المتحدث باسم المجلس الوطني الانتقالي الليبي بلندن السيد جمعة القماطي أن "مستقبل الصحراء لا يمكن أن يكون إلا تحت السيادة المغربية". وهو ما سيطبع المرحلة الجديدة بعدد من الخصائص التي ستكون من أهم نتائج ثورات ربيع العرب، وثمرة انهيار نظام القذافي تحديدًا، وأقصد بالقول هنا: تغير المناخ الجيوبوليتيكي بمنطقة المغرب العربي بسبب تغير النخبة الحاكمة ومنطق إدارتها للأزمات والنزاعات. وبناء على مجمل هذه التحولات؛ فإن آفاق تسوية نزاع الصحراء الغربية سيتجاذبها سيناريوهان أساسيان:
السيناريو الأول: هو بقاء الوضع. ورغم أن مثل هذا السيناريو مستبعد ونسبة تحققه ضعيفة، إلا أنه يظل احتمالاً قائمًا بذاته ولا يمكن تجاهله، وهو استشراف يقوم على احتمالين أساسيين:
فشل الحكومة الانتقالية الليبية في استتباب الأمن وتحقيق تطلعات الشعب الليبي بسبب عراقيل وتعقد المرحلة الانتقالية التي يمر بها قادة المجلس في ضبط الملفات الثقيلة التي خلّفها نظام القذافي وراءه، ومن بينها مشكل الطوارق، احتداد النزاعات القبلية، إشكالية تجميع السلاح الليبي وتكوين جيش ليبي موحد، مما سيجهض التجربة الديمقراطية في مهدها، وسيمكِّن أنصار القذافي من الاستيلاء على السلطة من جديد، وهو ما سيعيدنا القهقرى، وسنعيش ساعتها على أسلوب التوازنات القديمة التي شهدت مناصرة البوليساريو ودعمها، بل إن الأمر سيكون على مستوى أكبر كرد فعل انتقامي لاعتراف المملكة المغربية بالمجلس الانتقالي، مما قد يعيدنا إلى حرب العصابات والمناوشات العسكرية بين البوليساريو والمملكة المغربية كما كان عليه الأمر في البدايات الأولى من النزاع قبل أن يتم وقف إطلاق النار عام 1991، وهو الأمر الذي لا تتوانى البوليساريو عن التلويح به كلما صدر قرار من قرارات مجلس الأمن في غير صالحها. ومن شأن هذا أن يخلق حالة من الفوضى وتعميمها على الحدود المحاذية لتونس أيضًا نظرًا للصراع التاريخي مع ليبيا.
إعادة التحالف مع الجمهورية الجزائرية ومساندتها في جهودها الرامية إلى استقلال الجمهورية الصحراوية، والسعي إلى الضغط على موريتانيا تحديدًا لنهج نفس السياسة، والتأثير على الموقف التونسي الذي سيلزَم الحياد عوض دعم مغربية الصحراء؛ مما سيجعل المملكة المغربية في عزلة من أمرها. وساعتها إما أن يتم الدفع في اتجاه خرق إطلاق النار والدخول في مواجهات عسكرية مع القوات المسلحة الملكية المغربية، أو الضغط على الأمم المتحدة من أجل استصدار قرار تنفيذ الاستفتاء عوضًا عن الحكم الذاتي الذي يطالب به المغرب ويزكيه عدد من القوى الدولية والإقليمية.
السيناريو الثاني: هذا السيناريو قائم على أساس أن تسوية نزاع الصحراء ستشهد تحولاً حقيقيًا في ظل ربيع العرب الراهن، عنوانه الأساسي: وحدة الشعوب والدول ودمقرطة الأنظمة القائمة، ويستند هذا السيناريو إلى متغيرين أساسيين:
على مستوى التوسع الديمقراطي: إذا نجحت هذه الثورات في استتباب النهج الديمقراطي في بلدانها وامتدت هذه الثورات الشعبية إلى كامل بلدان المنطقة، وعملت على الإطاحة بقياداتها وتغيير أنظمتها المستبدة إلى أنظمة ديمقراطية تحترم إرادة شعوبها، فإننا سنكون بالتأكيد أمام واقع جيوبوليتيكي جديد عنوانه إنهاء النزاعات وتسويتها، وفتح الحدود المغلقة، وتوحيد رؤى وجهود الدول المغاربية في اتجاه مغرب عربي موحد في ظل قيادات ديمقراطية تعمل على احترام حقوق شعوبها وتعزيزها، وهو المنطق الذي تقوم عليه نظرية السلام الديمقراطي للفيلسوف الألماني إيمانويل كانط في كتابه "مشروع السلام الدائم" عام 1795، الذي يؤمن بأن توسيع الديمقراطية يقود إلى بروز السلام وتسوية النزاعات بشكل سلمي، لأن الديمقراطيات لا تتحارب فيما بينها، وكلما كان العالم ديمقراطيًا كان سلميًا.
وحتى إذا افترضنا أن الجزائر ظلت على حالها، ولم تشهد أي تقدم على مستوى دمقرطة المؤسسات الحاكمة باعتبارها البلد الاستثنائي الذي لم تتأثر قيادته بالاحتجاجات الشعبية التي لم تصل إلى مستوى الانتفاضات والثورات التي شهدتها تونس ومصر وليبيا بسبب معاناة الشعب الجزائري من سنوات الرصاص والحرب الأهلية خلال عقد التسعينيات، إلى جانب تجاذب الأحزاب السياسية الجزائرية وعدم تمكنها من تشكيل أرضية موحدة لانطلاقة شعبية حقيقية، وحرص جنرالات الجيش على استمرار الوضع الراهن خدمة لمصالحهم الضيقة، وغيرها من الاعتبارات الأساسية الأخرى، فإن الحكومة الجزائرية سوف تتأثر حتمًا بالمناخ الجيوبوليتيكي الجديد، وستسعى لتكييف سياستها الخارجية تجاه النزاع وفقًا لموازين القوى المستجدة على الساحة. كما أنه وبمنطق الأحداث، فإن ليبيا خلال العهد الجديد لن تتراجع إلى الوراء لتتحالف مع قيادة كانت فيما مضى حليفة العهد البائد.
وإلى جانب هذا، فإن الواقع الجيوبوليتيكي الإقليمي الجديد سيفضي بدوره إلى تغيير طبيعة العلاقات القائمة بين دول العالم العربي ودول الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، من علاقات التحكم والاستغلال، إلى علاقات قائمة على أساس الندية والحفاظ على مصالح البلدان العربية دونما اضطرار لتقديم تنازلات تضحي بتطلعات الشعوب وترهن مصائرها.
على مستوى تجدد النخبة الحاكمة: إن إسفار ثورات ربيع العرب عن بروز الإسلاميين كقوى صاعدة وواعدة لممارسة العمل السياسي في كل من مصر وتونس وليبيا والمغرب، مع تبني هؤلاء لمنهج الوسطية والاعتدال والرفض القاطع لجميع أشكال العنف والتطرف والإقصاء سيمنح نفَسًا جديدًا للخطاب السياسي العربي والأجنبي على حد سواء، أساسه الاعتراف بالإسلاميين كحركة اجتماعية وسياسية والتعامل معها بالمنطق الديمقراطي البعيد عن الإقصاء وكيل الاتهامات، لاسيما وأن هذه الثورات العربية قد أماطت اللثام عن فزاعة التهديد الإسلامي التي كانت تستعملها الأنظمة العربية، ولا تزال، لتبرير أسلوبها القمعي والاستبدادي من أجل استدرار الدعم الغربي وضمان بقائها الأبدي، وطرحت علامة استفهام كبيرة حول حقيقة النخبة الفكرية والسياسية التي تصدرت مراكز اتخاذ القرار ببلداننا طيلة هذه العقود.
ومن جهة أخرى، فإن الربيع العربي قد أسس ثقافة جديدة لدى الحركات الإسلامية ذات النهج المتطرف أو الجهادي؛ فأسقطت خيار التغيير بالقوة والعنف من حساباتها، وأرست جدارًا سميكًا ضد التشدد الديني وتفرعاته الفكرية والأيديولوجية، وهو ما يمكن اعتباره من أهم نتائج ثورات الربيع العربي التي أسست لثقافة التغيير السلمي والقبول بجميع الأطياف الفكرية والاجتماعية، من أجل تداول السلطة والاحتكام إلى صناديق الاقتراع.
وعليه، فإن تجدد النخبة الحاكمة، وصعود الإسلاميين إلى مواقع الحكم وصناعة القرار السياسي سيقود على الأرجح إلى توحيد الرؤى من منطلق "إسلامية" الفكر السياسي، الذي سيقود بدوره إلى السعي وراء وحدة الدول والأمم، وهو ما سيكون بالتأكيد لصالح نزاع الصحراء الغربية الذي سيلقى حله على المستوى الإقليمي.
لكن هذا قد يصطدم مع القوى الغربية التي رغم تعبيرها عن التعامل مع الحركات الإسلامية بالوطن العربي، إلا أنها تنحاز بوضوح لإسرائيل، وبالتالي ستتصادم مع القوى الإسلامية التي ترفض كل أنواع التطبيع مع إسرائيل، فتتشكل عقبة كأداء أمام أي تعاون أميركي/غربي مع قيادات الحركات الإسلامية الحاكمة في المستقبل، وهو ما يطرح علامة استفهام حقيقية حول مستقبل علاقات المجلس الانتقالي الليبي مع الولايات المتحدة والبلدان الغربية المناصرة لإسرائيل.
______________________________
د. مونية رحيمي: باحثة في نزاع الصحراء الغربية وصاحبة كتاب "نزاع الصحراء في إطار السياسة الخارجية الأميركية"
المراجع
1- Mohammed Boughdadi. Le passé et le présent marocains du Sٍٍahara. Edition Maroc-Soir, Casablanca 1989, p. 342
2- حول أهم خصائص السياسة الخارجية لليبيا، والأسس الإيديولوجية للرئيس معمر القذافي. انظر:
William Zartman et Aureliano Buendia. "La politique étrangère libyenne". In La Libye nouvelle : ruptures et continuité. Centre de recherche et d'études sur les sociétés méditerrannénnes. Paris, France 1975, p. 101-131; Hervé Bleuchot. "Les fondements de l'ideologie du colonel Mou'Ammar el-Qaddafi". In : La Libye nouvelle : rupture et continuitè. Ibid. p. 69-82; André Martel. La libye 1835-1990: Essai de geopolitique historique. Presses Universitaires de France. 1991.
3- وصل الحقد الليبي على المغرب إلى درجة أن راديو طرابلس بث تهانيه للشعب المغربي بمناسبة المحاولة الانقلابية على الحسن الثاني في يوليو/تموز 1971.
4- الوالي مصطفى السيد، يعتبر بمثابة المؤسس الأول لجبهة البوليساريو. وهو من مواليد بئر لحلو الواقعة شمال شرق الصحراء الغربية عام 1948. نبغ صيته خلال دراسته الجامعية بالرباط (تلقى التعليم الأصلي والشؤون الدينية بمدينة تارودانت المغربية، وتابع دراسته الثانوية بالرباط ثم التحق بجامعة محمد الخامس عام 1970)، إذ تميز بنشاطه السياسي الموجه لتحرير الصحراء من الاستعمار الإسباني، وتمكنه من استقطاب الطلبة الصحراويين وتنظيم مظاهرات طلابية منددة بالاستعمار الإسباني...وعقب أحداث الزملة الدامية عام 1971 سارع الوالي إلى تجنيد الطاقات الصحراوية داخل الصحراء الغربية والقيام بالاتصالات الخارجية من أجل الحصول على الدعم، خاصة مع القوى السياسية اليسارية المغربية والجزائر وليبيا وموريتانيا، بهدف ممارسة العمل المسلح لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب..ونتيجة تحركاته الداخلية واتصالاته الخارجية تم عقد المؤتمر التأسيسي الأول لجبهة البوليساريو بتاريخ 10 ماي 1973 بمدينة الزويرات الموريتانية.
5- Entrevu avec Ibrahim Hakim. Jeune Afrique N° 1659 22 –29 /10/1992
6- Voir le communiqué commun de Syrte. In: Révolution africaine. N°626 du 20 au 26 Février 1976.
7- Abdelkader Berramdane. Le Sahara occidental : Enjeu maghrebin. Editions Karthala, Paris 1992, p. 60.
8- Mohamed Boughdadi. op.cit .p. 342.
9- Jeune Afrique. N° 1659, 1992, p. 57.
10- Damis John. "Morocco, Libya and the treaty of Union". Arab American Affairs. 3 Summer, N 1, 1985, P. 111.
11- قدر مراسل جريدة le Monde الفرنسية Paul Balta أنه في ربيع، 1981 وفرت ليبيا ما يقارب 9/10 من المساعدات المقدمة للبوليساريو (leMonde Avril 10. 1981. 9: 5). و في مايو 1981 صرح الجنرال أحمد الدليمي بأنه 80% من التجهيزات العسكرية للبوليساريو كانت تأتي من طرف ليبيا.
12- Virginia Thompson and Richard Adloff. The western saharains: Background to conflict. Barnes and Noble Books. Fotow, New Jersey, USA 1980, p. 259.
13- Ibid. p. 260.
14- Le Monde. May 22, 1981, p. 9.
15- Voir: Mustapha Shimi. "Le rapprochement marocco-americain et la stabilité régionale". Revue Juridique et Politique et Économique du Maroc. N 13-14, 1983, p. 126.
16- John Damis. Opcit. p.112.
17- يذكر John Damis انه مع تطبيع العلاقات مع المغرب، أرجأت ليبيا شحن سفنها بالتموين العسكري للبوليساريو، لكنها استمرت في الوفاء بدفع رواتب قادة البوليساريو، ومن الممكن أنها استمرت أيضا في التكفل بمعاشات القوات المقاتلة. أنظر مرجع سابق ص:110.
18- اليوسفي فؤاد. الاتحاد العربي الإفريقي. اتفاقية وجدة. المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، طرابلس ليبيا 1985، ص. 23.
19- الحسن الثاني. ذاكرة ملك. كتاب الشرق الأوسط، الشركة السعودية للأبحاث والنشر، الطبعة الثانية، 199