أنماط الانقلابات العسكرية في الوطن العربي
منذر سليمان
هناك أربعة أنماط يمكن تصنيفها للانقلابات العسكرية أو لأدوار المؤسسة العسكرية وأشكال تدخلها في الوطن العربي:
1 ـ انقلاب يتحول إلى مشروع ثورة وبناء تنظيم سياسي بعد تسلم السلطة، ـ إنقلاب 23 تموز 1952ـ ويعتبر من أبرز وأكثر تجارب الانقلابات العسكرية تأثيراً في الوطن العربي؛ ليس فقط لارتباط التجربة بشخصية جمال عبد الناصر الكاريزمية الجاذبة شبه الأسطورية في المخيال الشعبي، حيث لا تزال استفتاءات الرأي العام العربي تضعه في المرتبة الأولى كأهم وأبرز قائد عربي معاصر؛ وحتى بعد غيابه أو تغييبه عن المسرح السياسي بما يقرب من 43 عاما، بل لكونه حمل مشروعاً قومياً انتشر نداؤه في طول الوطن العربي وعرضه بانتصاراته وإخفاقاته.
تتميز تجربة انقلاب الضباط الأحرار في مصر بأنها لم تخرج من رحم حزب سياسي لتعدد المشارب الفكرية والسياسية التي انتموا إليها قبل الثورة، لكنهم حاولوا إنشاء تنظيم سياسي موحد بعد استلامهم السلطة، مضافاً إلى ذوبان العدد الأكبر من الضباط الأحرار في حياة مدنية أوسع، وتمدد دور المؤسسة العسكرية الحامية للنظام في السنوات السابقة على هزيمة 1967 إلى مناح عدة من أنشطة المجتمع والدولة المدنية.
وبعد العام 1967 بدأ عمل الجيش كجيش محترف تماماً لا علاقة له بالحياة الداخلية... وساهم في تركيز مهمة الجيش الدفاعية الخارجية قرار عبد الناصر الدخول في حرب الاستنزاف وتأكيد عدم تدخل التنظيمات السياسية في الجيش، وتم تشكيل الأمن المركزي لضمان عدم تدخل الجيش في الشأن الداخلي. ولكن السادات جعل من الأمن المركزي جيشاً ثانيا... ولم يتدخل الجيش وينزل إلى الشارع منذ العام 1967 سوى 4 مرات في 18 و19 كانون الثاني 1977 عندما اقتربت الجماهير الغاضبة من بيت السادات، والمرة الثانية كانت عندما تمرد الأمن المركزي، والثالثة خلال ثورة «25 يناير» التي أطاحت مبارك، والرابعة في «30 يناير» 2013 لدى إطاحة مرسي.
2 ـ جيش تحرير وطني ضد احتلال أجنبي في الجزائر، يصل إلى السلطة بعد الاستقلال. ولكن ورغم مشاركة المدنيين معه، ومنذ البداية، تولدت قناعات لدى العسكريين بأن لهم دورا يسمو على السلطة السياسية التقليدية. إن هذا الاقتناع يدفع إلى الاستيلاء على الحكم أو تغييره إما بصفة عرضية وظرفية منعزلة، أو بصفة دورية متكررة، تجعل من تدخل الجيش في الشأن السياسي شبه وظيفة دائمة، وكانت هذه سمة بارزة في وضعية الجيش الجزائري.
3 ـ وصول مدنيين إلى السلطة بعد إقدام العسكريين على انقلابهم، ويبرز هنا مثال تسلم «حزب البعث» السلطة في العراق بعد انقلاب العام 1968. واستطاعت القيادة المدنية المتمثلة بالرئيس الراحل صدام حسين، إزاحة العسكريين عن الواجهة وإخضاع المؤسسة العسكرية للقيادة المدنية. وقد تم إصباغ صفة عسكرية على الرئيس ومنحه رتبة عسكرية عالية بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة، واستطاع أن يجعل القيادة الفعلية للجيش مودعة في مكتب عسكري تابع للقيادة القطرية. وتعاقبت على قيادة المكتب شخصيات غير عسكرية... وتبدو أيضاً ظاهرة الاعتماد على الدائرة العائلية والعشائرية والمناطقية الموالية، للتحكم في مفاصل الجسم الأمني والعسكري من قبل المدنيين، وتصفية أو إزاحة أي مراكز قوى منافسة داخل الحزب ومؤسسات الحكم، من الأدوات التي استخدمها الرئيس العراقي لضمان سلطته المطلقة على الجيش والدولة.
4 ـ ظاهرة وصول عسكريين إلى السلطة عن غير طريق الانقلاب العسكري، ولقد تكررت في التجربة اللبنانية، ففؤاد شهاب وإميل لحّود، وأخيراً ميشال سليمان، لم يصلوا إلى الرئاسة بفعل الانقلابات العسكرية. يبدو أن طبيعة النظام الطائفي الذي يولد أزمات دورية تصل إلى حدود الحرب الأهلية، مضافاً إليها تقاطع العوامل الإقليمية والدولية، وخاصة مفاعيل الصراع العربي ـ الصهيوني على الساحة اللبنانية، مقرونة بمحدودية قوى الأجهزة الأمنية الداخلية من درك وأمن داخلي، جعلت مهمة الجيش اللبناني بالأساس مهمة أمنية داخلية. ورغم انفراط عقد الجيش وانقسامه على خطوط طائفية وسياسية في الحرب الأهلية (1973 ـ 1976) وفي منتصف الثمانينيات إلى أواخرها، إلا أن التوصل بعد اتفاق الطائف إلى معادلة قبول التعايش بين الجيش والمقاومة التي يقودها «حزب الله»، مع تعزيز ثقافة وطنية جامعة، وتوجه عقائدي وتدريبي وطني عروبي متأثر بفترة التواجد السوري في لبنان؛ كل ذلك قد أعاد إلى الجيش حيّزاً واسعاً من اللحمة الوطنية الجامعة، رغم بقاء عناصر التفرقة الطائفية والمذهبية متوفرة بسبب قواعد التوزيع الطائفي على مستوى قيادته ، والتي تطل برأسها أحياناً عند اشتداد الاستقطاب السياسي الداخلي ووصوله إلى حدود التأزم.
... وتبقى التجربة اللبنانية مثالاً ساطعاً على بقاء دور المؤسسة العسكرية العربية بارزاً في الحياة السياسية العربية وكأنه الممر الإجباري أو المخزون الاحتياطي لحل أزمات الانتقال إلى السلطة.
فإذا كان لبنان البلد الذي يزخر بحياة مدنية سياسية ناشطة ومنسوب عال من الحريات السياسية والإعلامية والممارسة الانتخابية (ولو أنها مشوّهة وبرداء طائفي) قياساً بالأقطار العربية الأخرى... لا يجد مفراً من اللجوء إلى عسكريين بالتراضي لتجاوز أزماته، فماذا سيكون الموقف لدى تفجر الأزمات الداخلية في الأقطار العربية الأخرى؟
عوامل ساهمت في غياب الانقلابات العسكرية
منذ نهاية العام 1970، توقفت المسيرة الصاخبة والمتلاحقة للانقلابات العسكرية في الوطن العربي، ويبدو أن الأنظمة الرئاسية (العسكرية أصلاً) تمكنت من إتقان فنون البقاء في السلطة ومنع الانقلابات عليها بتضافر عوامل عديدة أبرزها:
1 ـ تكوين ميليشياتها الخاصة تحت مسميات مختلفة (الحرس الجمهوري، الحرس الخاص، والوطني/الأمن المركزي) وتضخم أدوار المؤسسة الأمنية المرتبطة بحماية النظام؛ كالمخابرات العامة في مصر، والأمن العسكري في الجزائر، ومروحة متنوعة من الأجهزة الأمنية في كل من سورية والعراق وليبيا واليمن، وممارستها لأدوار أمنية شديدة في الداخل ضد أي محاولات احتجاج أو تمرد أو معارضة منظمة. كما تم ربط العديد من الأجهزة الأمنية بشبكة الولاء القبلي أو العائلي ومنحها صلاحيات واسعة لحماية النظام، وإطباقها بيد من حديد على الجيش الرسمي عبر المغريات أو المناقلات المفاجئة لكبار الضباط، أو الترقيات أو الإقالات، وأحيانا التصفيات الغامضة.
2 ـ في غياب المساعي الجدية إلى بناء مؤسسات المجتمع المدني، تحولت المؤسسة العسكرية إلى أهم قطاعات الدولة وأوسعها حجماً، والمتلقي للقسط الرئيسي من الميزانية السنوية بحجة الإعداد للمواجهة مع العدو الصهيوني. ورعت السلطة أفراد المؤسسة العسكرية عبر الإنفاق السخي بمنح الزيادات المتكررة في الرواتب، وتقديم التعويضات والخدمات وتسهيلات الرعاية الاجتماعية والتعليمية والسكنية وغيرها من المنافع التي ربطت الأفراد وعائلاتهم وجيش المتقاعدين في شبكة المصالح المشتركة. وهكذا تحولت الدولة إلى دولة الرفاه والرعاية الاجتماعية والصحية للقوات المسلحة ومتقاعديها الذين يضمنون مداخيلهم ومنافعهم مدى الحياة مقابل الولاء المطلق للنظام.
3 ـ أدى عدم انخراط المؤسسة العسكرية في معارك وطنية ضد العدو الخارجي إلى تحويل النخبة العسكرية إلى مجموعة من الموظفين الإداريين بعيدين عن الاحتراف العسكري وإتقان العلوم العسكرية وفنون القتال وإدارة المعارك، وحال ذلك عملياً دون بروز قيادات عسكرية لامعة، تمكنها الخبرة الميدانية من التحول إلى رموز وطنية تتجاوز شعبيتها دائرة السلطة الحاكمة، وتمنحها الحافز للقيام بمبادرات إنقاذية داخلية أو «تصحيحية» عن طريق الانقلاب.
4 ـ اقتصار العمل الحزبي والعقائدي في الجيش على الحزب الحاكم، مضافاً إلى إلغاء الحياة السياسية والتعدد الحزبي والاكتفاء أحياناً بصيغة ديكورية للمشاركة في الحكم بطريقة هامشية لبعض الأحزاب الموالية للسلطة مع تحريم أي عمل سياسي لهذه الأحزاب داخل القوات المسلحة.
5 ـ رغم عدم طغيان الرعاية الأجنبية أو التنسيق مع الأجنبي أو التقاطع مع مصالح قوى أجنبية في معظم الانقلابات العسكرية التي شهدها الوطن العربي، إلا أن العديد منها حظي برضا بريطاني أو فرنسي أو أميركي، أو سعي من هذه الأطراف إلى احتضان بعض الانقلابات... وتبقى السمة العامة، هي انعدام حاجة الأطراف الخارجية الدولية إلى التخطيط أو التآمر عبر انقلابات عسكرية للإتيان بأنظمة حكم متعاونة أو تابعة لها، إذ إن العديد من أنظمة الحكم في الوطن العربي تتعاون بصورة طوعية معها، وتبرم اتفاقات أمنية مع أطراف خارجية، وخاصة الولايات المتحدة لضمان الحماية لها.
6 ـ سيادة المنطق الإقليمي في التعامل مع القضية القومية، خاصة منذ العام 1974 في مؤتمر القمة العربي في الرباط، حيث تم تفويض منظمة التحرير الفلسطينية بالتمثيل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وتكريس التنازل الرسمي العربي عن المشاركة الفعالة في القضية القومية، وتكريس الفصل التعسفي بين الشأن الوطني الداخلي والشأن القومي، وإزالة مفاعيل التأثير الطبيعي والتفاعلي للقضية القومية في تثوير الواقع الداخلي لكل قطر عربي. يضاف إلى ذلك ترسيخ أركان الدولة القطرية، وتراجع في التزام النخب العسكرية بالأفكار القومية، أو بمفهوم العمل العسكري العربي المشترك، لمصلحة الولاءات القطرية الضيقة.
7 ـ تحول شرائح واسعة من النخب العسكرية العربية إلى نسج علاقات عضوية مع البرجوازية المدنية، البيروقراطية منها أو التقليدية، وانشغالها بتكديس الثروة، وانخراطها في أعمال ومشاريع تجارية سهّلت انزياح العديد منها إلى دائرة الفساد والإفساد رغم تفاوت هذه الظاهرة من قطر إلى آخر، لكنها تبقى سمة عامة مرافقة لانعدام الحرفية والابتعاد عن التقاليد العسكرية في الانضباط والنزاهة والاستقامة. وقد ساهمت بعثات التدريب والتعليم الخارجية في إذكاء بعض هذه الانحرافات التي وصلت إلى مستويات خطيرة لدى البعض، كما أن سيادة عصر البترودولار في احتواء وشراء بعض النخب العربية لم تقتصر على نخبها الثقافية والسياسية، الإعلامية، والأكاديمية، بل شملت النخب العسكرية أيضاً.