إنتشار أسلحة الدمار الشامل في الشرق الاوسط
العميد الركن المتقاعد نزار عبد القادر
شكّل موضوع اسلحة الدمار الشامل المحور الأساسي للسياسة الخارجية بين الشرق والغرب, وبالتحديد بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي إبّان فترة الحرب الباردة. وكان من الطبيعي ان تخيّم الأسلحة النووية على أجواء كل المباحثات الدولية, سواء بين الكتلتين او داخل الاحلاف العسكرية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية برعاية أميركية او روسية.
بعد خمسين عاماً من بدايتها, انتهى الفصل الأول من الدراما النووية بنهاية سعيدة, فزال الكابوس المخيّم والذي كان يتمثل بإمكانية حصول حرب نووية شاملة يجري فيها تدمير البشرية جرّاء تبادل القصف النووي بعشرات الآلاف من الرؤوس النووية التي تصل القوة التدميرية لكلٍّ منها الى عشرات لا بل مئات ألوف الأطنان من المتفجرات. وتخلّص المجتمع الغربي, الذي كان يعي هذا الخطر, من عقدة الخوف التي كانت قد دفعت الى الواجهة, مقولة “أن تصبح احمرَ أفضل من أن تكون ميتاً”.
صحيح أنه ومع انتهاء الحرب الباردة وما تبعها من جهود للتخلص من اكبر عدد من الاسلحة النووية التي كانت مصوّبة الى المدن والاهداف الأخرى ذات القيمة العالية, تراجعت نسبة التهديد التي كانت تشعر بها المجتمعات الى ادنى مستوى ممكن, لكن الهواجس لدى المسؤولين في العواصم الكبرى لم تتراجع بنفس النسبة وخصوصاً في واشنطن, حيث تبدلت روزنامة المسألة النووية لتحتل مكانها روزنامة جديدة تتحدث عن مخاطر اسلحة الدمار الشامل باشكالها النووية والكيماوية والبيولوجية وانتشارها المتسارع, في ظل بروز سعي حثيث لدى مجموعة من الدول الكبرى والمتوسطة والصغيرة لتطوير اسلحة الدمار الشامل(1).
ان تراجع مخاطر اندلاع حرب نووية شاملة بعد انتهاء الحرب الباردة لم يجعل من العالم مكاناً اكثر أماناً واستقراراً, حيث ان انتاج اسلحة الدمار الشامل وانتشارها في عدد من الدول, ما زال يشكل قلقاً لمعظم دول العالم, ولم تعد الاسلحة النووية وحدها مصدر القلق, فقد أضيف إليها سلاحان جديدان: الكيماوي والبيولوجي, خصوصاً وان انتاج بعض الاصناف من هذين السلاحين لا يتطلب تكنولوجيا خاصة معقدة او متقدمة, بل يمكن انتاجهما في مختبرات عادية, ومن مواد أولية أو نصف مصنّعة يمكن استيرادها من الاسواق العالمية لانها تصلح للاستعمال المزدوج, اي صناعة المستحضرات الكيماوية والأدوية او لحاجات تتعلق بالبحوث العلمية.
وهكذا يمكن القول ان التهديد لم ينته مع انتهاء الحرب الباردة ومع سعي الولايات المتحدة وروسيا لاجراء تخفيضات دراماتيكية في عدد الاسلحة النووية التي يمتلكها كل منهما, ولكن المخاطر الناتجة عنه تبدلت, فبدل الخوف الذي كان سائداً من امكانية اندلاع حرب نووية قادرة على إفناء البشرية, فقد تدنت المخاطر الى مستوى التدمير الشامل الذي يمكن ان يقتصر على مسرح محدّد للعمليات.
ويترتب على التبدل الجديد الحاصل مخاطر اكثر احتمالاً من امكانية استعمال عدد اصغر من الرؤوس النووية, في وقت تغيّرت فيه المفاهيم والقواعد الاستراتيجية التي كانت معتمدة للتقليل من مخاطر اندلاع حرب نووية شاملة(2).
مع ازدياد دور الولايات المتحدة تعاظماً بعد ان أصبحت القوة العظمى الوحيدة في العالم غداة تفكك الاتحاد السوفياتي, كان من الطبيعي ألا تتجاهل تنامي الخطر الجديد الناتج عن الانتشارالمتسارع لأسلحة الدمار الشامل, وخصوصاً في مناطق الشرق الاوسط وشبه القارة الهندية والشرق الاقصى, والتي ما زالت غارقة في نزاعات إقليمية مزمنة, تهدد باندلاع حروب يمكن ان تتوسع لاستعمال اسلحة الدمار الشامل, خصوصاً في غياب الاستراتيجيات والمفاهيم المتطورة التي يمكن ان تضبط او تحدّ من استعمالها.
استحوذ موضوع انتشار اسلحة الدمار الشامل على اهتمام صَنّاع القرار في الولايات المتحدة في اعقاب انتهاء الحرب الباردة اكثر من اي وقت مضى, حيث ركزت دوائر وزارتي الدفاع والخارجية ووكالة المخابرات المركزية على متابعة برامج وابحاث الدول الطامحة لامتلاك أسلحة الدمار الشامل, كما تابعت عن كثب انتقال التكنولوجيا المتطورة لصناعة السلاح النووي والصواريخ والمواد الداخلة في صناعة السلاح الكيماوي والبيولوجي باتجاه مناطق أبرزها: الشرق الأوسط, جنوبي آسيا وأميركا الجنوبية. وانطلاقاً من المصالح الحيوية الاميركية في منطقة الشرق الاوسط فقد ركزت الادارة الاميركية اهتماماتها لمتابعة النزعة المتنامية لانتشار اسلحة الدمار الشامل في المنطقة(3), كما بذلت جهوداً مكثفة لاحتواء التهديدات المحتملة القادمة, ولكن الموضوع بقي ضمن دائرة اهتمامات دوائر الادارة ولم يبلغ المستوى الشعبي, كما كان عليه الوضع في المواجهة مع الاتحاد السوفياتي, وانصبّ الاهتمام على التهديد الذي يمكن ان تشكله هذه الاسلحة على الانتشار والتواجد العسكري الاميركي في الخارج, اكثر من التهديد الشامل للولايات المتحدة نفسها وامكانية قتل اعداد كبيرة من المواطنين المدنيين(4)..
عالم يتهدده الارهاب
اثبتت هجمات 11 أيلول على مركز التجارة العالمي ومبنى البنتاغون ان المخاوف والهواجس التي شغلت الدوائر الاميركية خلال عقود من مخاطر انتشار اسلحة الدمار الشامل, لم تبلغ المستوى المطلوب لتطرح امكانية تعرّض الولايات المتحدة نفسها لهجوم محدود تشنه مجموعات إرهابية او دول تطلق عليها تسمية “الدول المارقة” بأحد اسلحة الدمار الشامل. ولقد اظهرت الرسائل الملوثة بالجمرة الخبيثة, رغم محدودية عددها ومستوى التلوث المنخفض, مدى تعرّض المجتمع الاميركي لمثل هذا الهجوم.
لقد رأى العالم على شاشات التلفزة النتائج الرهيبة لهجمات ارهابية تشنها جماعات بواسطة طائرات مدنية, حوّلت حمولتها من المحروقات والتي تزيد عن 200 الف رطل الى سلاح دمار شامل, قتل بنتيجته ما يقارب ثلاثة آلاف مدني, وبشكل يزيد على عشرة أضعاف ما يمكن ان يتسبّب به انفجار شاحنة محملة بالمتفجرات(5).
منذ هجمات 11 أيلول أصبح موضوع انتشار اسلحة الدمار الشامل, خصوصاً في أعقاب الصدمة التي تبعت ذلك جرّاء الرسائل المحملة بمادة “الإنتراكس” المعروفة بالجمرة الخبيثة, الهاجس الأساسي الذي يحرك سياسة الولايات المتحدة, سواء على الصعيد الديبلوماسي او الصعيد الأمني. ويمكن اعتبار امتلاك أسلحة الدمار الشامل وخصوصا النووية والبيولوجية, من قبل جماعات ارهابية او دول “مارقة” او معادية للولايات المتحدة أكبر تهديد للأمن الاميركي وبالتالي للأمن والاستقرار الدوليين. وتعتبر الولايات المتحدة بأنها تتعرض لتهديد مباشر وكبير في ظل الجهود السرية التي تبذلها دول عديدة “معادية لها” من اجل الحصول على التكنولوجيا النووية تمهيداً لصنع السلاح النووي. ولا يقتصر الخطر على هذه الدول بل يتعداها ليشمل المنظمات الاسلامية الأصولية, والتي تناصب الولايات المتحدة العداء, خصوصاً بعدما خرج هذا العداء الى العلن حيث لا يمر اسبوع دون ان نسمع بياناً أو تصريحاً متلفزاً لقيادة هذه المجموعات تعلن فيه عن خطط تعدّها لقتل اكبر عدد من الاميركيين او مهاجمة اهداف اميركية حيوية.
وما يقضَّ مضجع القادة الاميركيين هو ان المنظمات هذه, “كالقاعدة” او ما شابهها من المنظمات الاصولية, قد درّبت آلاف النشطاء والارهابيين ووزعتهم على عدد كبير من الدول لانتقاء وترصد الاهداف الاميركية للانقضاض عليها في الوقت المناسب. ان الخطر الذي تشعر به الولايات المتحدة يتعاظم بعدما نجحت هذه الجماعات في تتطوير ادوات الهجوم من السيارة المحملة بالمتفجرات الي الطائرة التي تشبه السلاح التكتي النووي, وهي وفق بعض المعلومات, تسعى للحصول على أسلحة بيولوجية, او نووية من نوع “القنابل الوسخة” التي تعمل بالتلوث الاشعاعي. وبالواقع فقد ورد في التحقيقات مع افراد من “القاعدة” بأن اسامة بن لادن قد أبلغ مساعديه بان السعي للحصول على اسلحة الدمار الشامل يشكل مهمة مقدسة. وتبقى المسألة المطروحة في ما اذا كان سينجح في الحصول عليها(6).
في التقويم العام لموضوع انتشار اسلحة الدمار الشامل, وخصوصا في منطقتي غربي آسيا والشرق الاوسط, لعب النزاع الهندي الباكستاني المزمن في كشمير, والصراع العربي الإسرائيلي المتمادي مع استمرار إسرائيل في احتلالها للاراضي العربية, بالاضافة الى تطوير اسرائيل لترسانة نووية كبرى, دوراً أساسياً في إيجاد الدوافع والمبررات للبحث في تطوير أسلحة دمار شامل للحفاظ على توازن الرعب كما حصل بين الهند وباكستان, او التعويض عن العامل النووي بامتلاك اسلحة كيماوية او بيولوجية, اومن خلال قوة صاروخية ذات رؤوس تقليدية, بهدف تحقيق حالة تصحيح محدود للتوازن العسكري بين بعض الدول العربية وإيران من جهة واسرائيل من جهة ثانية.
وبرزت مع نهاية الحرب الباردة مخاوف من ان تتسرب بعض الرؤوس النووية الجاهزة او على الاقل المواد المشعّة الجاهزة لصنع سلاح نووي باتجاه الشرق الاوسط أو شبه القارة الهنديّة. كما برزت مخاوف جديدة أخرى من ان تتسرب المعارف والتقنيات اللازمة عن صنع السلاح النووي عبر شبكة الانترنت. كذلك فإن الإحتمال المتمثل بالسوق السوداء بالاضافة الى انتقال المعلومات التقنية عبر الحدود دون رقابة, وضع مؤسسات الرقابة الدولية على الطاقة النووية في حالة إنذار, خصوصاً بعد ان شهدت السوق السوداء لتجارة المواد المشعة حركة نشيطة وغير اعتيادية, استدعت تحركاً ديبلوماسياً اميركياً واسعاً وضاغطاً باتجاه عدد من الدول كالعراق وايران وكوريا الشمالية وباكستان. ويرى المسؤولون الاميركيون ان هناك امكانية ان توفر النزاعات المتعددة لامتلاك اسلحة الدمار الشامل بعض الظروف المادية, في السنوات القادمة, لوقوع حادث نووي تكون نتائجه كارثية, تتعدى النتائج التي عرفها العالم بتفجير قنبلتي هيروشيما وناكازاكي عام 1945, حيث قتل ما يزيد على مئة ألف ياباني وشوّه عشرات الالوف(7).
الاخطار المتغيّرة للانتشار
مع انتهاء الحرب الباردة تبدلت مصادر التهديد حول امكانية اندلاع حرب نووية مدمّرة, حيث لم يعد محصوراً بالاخطار التي تمثلها اسلحة الدمار الشامل التي تمتلكها الدول الكبرى. من هنا فقد تبدّل التقويم الأميركي لمصادر وحجم التهديد الجديد, وعلى أساس أن دولة صغيرة وفقيرة تمتلك عدة رؤوس نووية وتمتلك القدرة على إيصالها الى الاهداف التي تنتقيها, يمكن ان يتسبب ذلك بتهديد كبير لأمن الولايات المتحدة, وان المخاطر ستكون كبيرة جداً في ما لو استعملتها ضد أهداف اميركية ذات قيمة عالية, كالمدن الأميركية الكبرى. وانه حتى في حالة عدم اللجوء لاستعمال هذه الرؤوس النووية, فإن مجرّد امتلاكها من قبل احدى الدول في مناطق تشكو من حالة عدم الاستقرار السياسي او الامني في آسيا أو الشرق الاوسط, سيؤدي الى اخلال كبير في موازين القوى المحلية والدولية. وسيطرح مثل هذا الخلل الاستراتيجي تحدياً جديداً للولايات المتحدة سواء في ممارسة دورها كالقوة العظمى الوحيدة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي, او في تأمين الضمانات اللازمة لأمن أصدقائها وحلفائها في المناطق هذه.
وهكذا فإن الخطر الكبير الذي تواجهه في التعامل مع التهديد النووي بعد تفكك العالم الشيوعي, لم يعد محدداً في دولة معينة, بل تبدّل بحيث اصبح المطلوب محاربة النزعة المتسارعة للانتشار النووي(
.
توقّع الرئيس جون كينيدي عام 1963 ان يرتفع عدد الدول التي تمتلك السلاح النووي الى ما بين 15 و20 دولة في العام 1975. ولكن الجهود التي بذلت في سنوات الحرب الباردة من قبل الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي لاحتواء نزعة الانتشار قد تكللت بالنجاح حيث تمكنّا من الحؤول, عن طريق المنع او التأخير, دون توسّع النادي النووي كما توقع الرئيس كينيدي, واستطاعت اسرائىل وحدها وبمساعدة فرنسية وأميركية الانضمام الى هذا النادي في وقت مبكّر, فيما تأخر دخول الهند وباكستان إليه حتى أواخر الثمانينات او مطلع التسعينات على وجه التأكيد.
نظراً للقدرة التدميرية الهائلة للسلاح النووي والتي تشكل قوة جذابة جداً لعدد من الدول التي تسعى لدعم نظامها الأمني الاقليمي ولعب دور القوة المهيمنة, فقد بذلت دول عديدة جهوداً وأموالاً طائلة لتطوير قاعدة للتكنولوجيا النووية بهدف الانضمام الى لائحة الدول النووية التي اقتصرت بداية على الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وانكلترا وفرنسا والصين, حيث نجح بعضها في اختراق الطوقين الدولي والأميركي, فيما فشلت الجهود الأخرى, إما عن طريق المنع المادي او الاقناع بضرورة وقف البرامج, عبر مجموعة من وسائل الضغط السياسي والاقتصادي او التهديد او الضمانات الأمنية او عن طريق المساعدات المتنوعة السخية.
وقد حققت الجهود الدولية للحد من انتشار الاسلحة النووية انجازات ضخمة كان ابرزها ما تحقق في المراجعة الخامسة لاتفاقية عدم الانتشار عام 1995, التي وافقت على التوقيع عليها 168 دولة, كما انضمت اليها في مرحلة لاحقة اربع دول جديدة, فيما رفضت التوقيع عليها كلٌّ من اسرائىل والهند وباكستان. وكانت اتفاقية الحدّ من انتشار السلاح النووي قد أقرت ودخلت حيّز التنفيذ عام 1970, في وقت كان يقتصر فيه امتلاك هذا السلاح على الدول الخمس الكبرى. ولكن نظام عدم الانتشار بموجب الاتفاقية لم يملك الضوابط والموانع اللازمة لوقف جهود عدد من الدول الطامحة في الحصول على السلاح النووي, مما استدعى ان تقوم الولايات المتحدة ببذل جهود واسعة ومتواصلة, باعتماد مجموعة من السياسات المعقدة لاقناع عدد كبير من هذه الدول بالتخلي عن برامجها عبر مجموعة من الاتفاقيات الاقليمية او عبر ضمانات امنية تقدمها الولايات المتحدة لبعض الدول. وأنتجت هذه السياسات مجموعة من الاتفاقيات الاقليمية لإقامة مناطق خالية من الاسلحة النووية, كما اقنعت الضمانات الاميركية كلاً من المانيا واليابان بعدم سلوك الطريق باتجاه دخول النادي النووي(9). وبقي خارج اطار النجاح الأميركي ثلاثة دول منتشرة في منطقتين من اخطر مناطق العالم وهي اسرائىل والهند وباكستان. ولكن الخروج على “الارادة الاميركية والدولية” والذي افضى الى تملّك الدول الثلاث للسلاح النووي قد حدث بسبب تعقيدات السياسة الاميركية في مواجهة السياسات السوفياتية ابان الحرب الباردة في ما يعود للبرامج النووية لكل من الهند وباكستان, وبسبب التراخي الاميركي والذي وصل الى حد تقديم المساعدات غير المعلنة للبرنامج النووي الاسرائيلي تحت ضغط ونفوذ اللوبي الصهيوني الأميركي.
التحديات الداخلية والخارجية لنظام منع الانتشار
يؤشر توقيع 172 دولة على معاهدة الحدّ من انتشار الاسلحة النووية على ان المعاهدة تحظى اليوم بتأييد عالمي شبه كامل, وبأن المجتمع الدولي يعلق أهمية كبرى على هذا النظام الذي اصبح له صفة القانون الدولي بحيث ان اية مخالفة لنظام الحدّ من الانتشار تعتبر وكأنها انتهاك للقانون الدولي, وكان قد انطلق هذا المفهوم قد انطلق في عام 1992 عبر اعلان اطلقه رئىس مجلس الامن اعتبر فيه ان انتشار السلاح النووي يشكل تهديداً للسلام والأمن الدوليين. ويعزز هذا الاعلان الاعتقاد الذي كان سائداً بأن أي خرق لمبادئ اتفاقية الحدّ من الانتشار يشكل انتهاكاً فاضحاً للقانون الدولي.
لم يستطع هذا المبدأ بوضوحه وبالتأييد الواسع الذي يلقاه دولياً, ان يحقق الحلول اللازمة للمشاكل والتحديات التي تتعرض لها أتفاقية الحدّ من الإنتشار. وتبيّن ان مواجهة هذه التحديات لا يمكن ان تلاقي اي نجاح اذا لم تقترن بتعاون أقليمي يتلاقى او يسير بخط مواز مع الجهود والضوابط الدولية, وتمثل المعالجة للمسألة النووية مع كوريا الشمالية أفضل مثال لمعالجة التحدي الذي كان يتمثل بالبرنامج النووي الكوري الشمالي.
لكن نظام الحدّ من الانتشار لم يتمكن من مواجهة التحديات الأخرى المتمثلة بالبرامج النووية لكل من اسرائيل والهند وباكستان التي رفضت الانضمام للاتفاقية الدولية للحدّ من الانتشار, وهي غير راغبة بالاعلان عن التزام ضد الانتشار النووي. وهنا لا بدّ من طرح السؤال الملحّ: ما هي البدائل التي تسمح بخفض المخاطر الناتجة عن بقاء دول تمتلك السلاح النووي خارج نظام الحدّ من الانتشار؟
جرى تداول عدد من الاقتراحات, في محاولة للاجابة عن هذا السؤال, تركز الأول على فتح الباب امام هذه الدول للانضمام الى النادي النووي الرسمي المؤلف من الدول الكبرى الدائمة العضوية في مجلس الامن, فيما تركز الثاني على إنشاء نادٍ نووي ثانٍ يضم فئة الأعضاء الجدد على أساس انهم تحت السقف النووي للدول الكبرى, فيما تركز الثالث على ضرورة إيجاد حلول اقليمية لهذا التحدي, ولم يكن أيٌّ من الاقتراحات مقبولاً من هذه الدول الثلاث (اسرائىل والهند وباكستان). ولا يبدو ان هناك اية حلول لمواجهة هذا التحدي الخارجي الذي تواجهه معاهدة الحدّ من الانتشار في المستقبل المنظور.
في مقابل هذا التحدي الخارجي لنظام الحدّ من الانتشار النووي هناك تحديات داخلية تضطلع بها بعض الدول الموقِّعة على النظام. ويشكل العراق وكوريا الشمالية المثال الأبرز للتحدي الداخلي الذي تواجهه المعاهدة, حيث عملت الدولتان على تطوير برامج نووية بصورة سرية, ومخالفة لتعهداتهما, وضعتهما على طريق امتلاك السلاح النووي. بالإضافة الى العراق وكوريا الشمالية, تساق الاتهامات اليوم ضدّ إيران بانها تسعى لتطوير قدراتها لانتاج السلاح النووي, وتجري في هذا الخصوص محاولات اميركية حثيثة لاقناع روسيا بالتوقف عن تزويد ايران بالطاقة التي تسمح لها بانتاج قنبلة من البلوتونيوم أو من الأورانيوم المكثّف.
وهناك جهود مكثفة تبذل لتمكين الوكالة الدولية للطاقة النووية (IAEA) من اكتشاف اي خرق من الدول الموقعة على المعاهدة, ولكن في رأي الخبراء فان كل هذه التدابير الضرورية لن تكون كافية, للحؤول دون حدوث خروقات. من هنا تبرز الحاجة أكثر الحاحاً لإيجاد منظمة أمنية داخل نظام الحد من الانتشار تملك القدرة على فرض نظام المنع المطلوب(10).
لا يمكن بالوسائل المتوفرة الآن الاعتماد على ان معاهدة الحد من انتشار الاسلحة النووية توفر الوسائل اللازمة لضمان التزام الاعضاء الموقعين, وان القبول بالضمانات دون مراجعة سيؤدي الى اضعاف الثقة والسقوط التدريجي للمعاهدة والقبول بمخاطر جديدة على أمن الانسانية.
اسلحة الدمار الشامل الكيماوية والبيولوجية
عندما نتحدث عن اسلحة الدمار الشامل اليوم فان الحديث لا يمكن ان يقتصر على السلاح النووي, الذي شكّل بمفرده في الماضي السلاح الأخطر والأكثر تدميراً بحيث بذلت الجهود لاحتواء مخاطر استعماله, ولكن لا بدّ مع التطور العلمي من إضافة سلاحين آخرين هما السلاح الكيماوي والسلاح البيولوجي الى هواجس المجتمع الدولي في الحدّ من مخاطر انتشار اسلحة الدمار الشامل.
صحيح انه لا يمكن وضع السلاحين الكيماوي والبيولوجي على درجة الخطورة نفسها التي يمثلها السلاح النووي, فهما لا يتمتعان بنفس القدرة على الإفناء, ولكن بامكانهما ان يتسببا بعمليات قتل جماعي لعدد كبير من الناس او لتلويث كمية كبيرة من الموارد او مساحات شاسعة من الأماكن المأهولة, او نشر أوبئة تتطلب السيطرة عليها جهوداً كبيرة ومكلفة وخسارة آلاف القتلى.
منذ انتهاء الحرب الباردة, وعلى ضوء عمليات الخفض المتتالية للترسانتين النوويتين الروسية والاميركية, انخفضت مخاطر اندلاع حرب نووية شاملة تدمّر العالم. لكن تراجع هذا الخطر ترافق مع تنامي خطر آخر يهدد بنتائج كارثية جراء انتشار تكنولوجيا صنع السلاحين الكيماوي والبيولوجي, الذي فتح الباب أمام عدد كبير من الدول للمغامرة بسلوك طريق التعويض عن عدم القدرة على امتلاك السلاح النووي لتصحيح خلل استراتيجي في موازين القوى على الصعيد الاقليمي, او من اجل زيادة القدرات العسكرية لبعض هذه الدول ترجيحاً لدورها في لعبة النفوذ والتوازن الاقليمي.
مع تنامي الخطر الناتج عن انتشار السلاحين الكيماوي والبيولوجي ازدهرت صناعة وضع سياسات جديدة للحدّ من هذه التهديدات الجديدة, فنشطت الجهود داخل وزارة الدفاع الاميركية وفي وكالة المخابرات المركزية من أجل تحضير القواعد والمبادرات اللازمة لمواجهة التهديدات الجديدة, إنما غاب الاهتمام الشعبي الاميركي والدولي عن هذا الموضوع. ذلك ان السياسات الاميركية تركزت حول مفهوم الدفاع وطرائق إيجاد الحماية اللازمة للقوات الاميركية العاملة خارج الولايات المتحدة, بدل التركيز على استدراك المخاطر التي يمكن ان يواجهها المجتمع الاميركي(11).
هناك حاجة لمواجهة موضوع انتشار اسلحة الدمار الشامل بانواعها الثلاثة من خلال الأخذ بعين الاعتبار العاملين الآتيين:
- الأول, هو ان الدور الذي يمكن ان تلعبه اسلحة الدمار الشامل في الصراعات الدولية قد تغيّر في اعقاب انتهاء الحرب الباردة, بحيث انه لم يعد السلاح المحصور امتلاكه بالدول المتطورة تكنولوجيا, بل هناك نزعة قوية لدى الدول الضعيفة او المتخلفة على غرار باكستان او ليبيا او كوريا الشمالية او ايران او العراق لامتلاكه وذلك كتعويض عن نقص في القوة تجاه النظام الاقليمي الذي تعيش به, والمترافق مع طموحاتها للعب دور اكبر أو لتقليد دور الكبار في اجتراح سياسات خارجية مستقلة. ومع الضوابط المفروضة على انتقال التكنولوجيا النووية وتعقيدات صنع السلاح النووي في حال توافر المواد الانشطارية, فقد تحوّل اهتمام عدد من الدول الصغيرة والمتوسطة, وبصورة خاصة دول الشرق الاوسط, من السلاح النووي الى السلاحين الكيماوي والبيولوجي. وإذا كان لا بد من ترتيب لاهتمامات هذه الدول لامتلاك سلاح الدمار الشامل فإن السلاح البيولوجي يحتل المرتبة الأولى, يتبعه السلاح النووي وبعده السلاح الكيماوي.
والثاني, يتمثل في صعوبة لا بل استحالة تطبيق النظام الامني الدولي الذي كان معتمداً أثناء الحرب الباردة لمنع انتشار اسلحة الدمار الشامل عبر اتفاقيات بين الدول الكبرى او عبر اعتماد سياسة الردع التي كانت تقوم على خطر التدمير المتبادل. هناك تهديدات جديدة لا يمكن ضبطها سواء من خلال اعتماد برامج سريّة من بعض الدول لانتاج السلاح البيولوجي او الكيماوي وذلك نظراً للاستعمال المزدوج لمعظم المكونات اللازمة لصنعه من جهة, كما ان هناك خطراً متنامياً لإمكانية امتلاك هذين السلاحين من قبل مجموعات ارهابية لا تخضع لأية رقابة, وذلك قياساً على هجومين نفّذا, الأول في اليابان من قبل مجموعة ارهابية باستعمال السلاح البيولوجي, والثاني رسائل محملة بالجمرة الخبيثة أرسلت في البريد الاميركي لعدد من الاشخاص بينهم عدد من المسؤولين, وذلك في اعقاب هجمات نيويورك وواشنطن عام 2001 و2002.
وبالرغم من محدودية الهجومين فقد تسببا بحالة من الهلع الشعبي داخل دوائر الأمن الياباني والأميركي.
تنامى خطر السلاح البيولوجي بشكل متعاظم ومتسارع في العقد الأخير. ان مخزون الدول التي دخلت مضمار صنع السلاح البيولوجي كان محدوداً بأصنافه وكمياته حتى منتصف الثمانينات, فكانت لوائح المخزونات تقتصر على عدد من السموم و”الباتوجانات” المعروفة, وكانت المخاطر تقتصر على امكانية قتل عدة آلاف في الطرف المعادي في ما لو استعملت السموم والفيروسات كسلاح من خلال نشرها بواسطة الصواريخ او الطائرات. كان من السهل حتى عام 1985 مواجهة هذا التهديد, من خلال مخزون المضادات الطبية التي صنعتها الدول الكبرى والمتطورة, والمتناسب مع تقديرات حجم التهديد. لكن الوضع لم يستمر على ما كان عليه, فعلوم البيولوجيا التي كانت في الثمانيات ما كانته الفيزياء في الأربعينات والخمسينات, قد حققت قفزة جبارة, وما كان غير ممكن في الثمانينات, أصبح حقيقة في التسعينات ومع مطلع القرن. لقد تمكّن المهندسون في البيولوجيا من وضع خريطة للتطور الجيني للفيروسات مثل “الإيبولا” كما توصل علماء مركز فريدريك لأبحاث السرطان في ولاية ماريلاند الاميركية لمعرفة كيف تهاجم الجمرة الخبيثة “انتراكس” الخلايا البشرية وتقتلها(12). وكان رد الجيوش الغربية على الخطر الجديد القيام بجملة تلقيح لمواجهة خطر بعض هذه الفيروسات, كما خزّنت كميات من اللقاحات والمواد المضادة. وخصوصاً المضادات الحيوية. لكن هذه التدابير لا تحمي السكان المدنيين في حال حدوث حرب تستعمل فيها الاسلحة البيولوجية, او تعرّضها لهجوم مفاجئ من قبل جماعات ارهابية استطاعت الحصول على كميات من الفيروسات القاتلة.
يتبيّن من هذه المعطيات مدى المخاطر التي تواجهها منطقة الشرق الأوسط من انتشار السلاح البيولوجي, اذ ان الخطر لا يقتصر على عامل استعماله او التهديد به, بل يتعدى ذلك من خلال رسمه خطوطاً جديدة لنتائج الاستعمال والتهديد بالاستعمال, والذي يمكن ان يترك آثاراً كبرى على الاستقرار ودورة الحياة للشعوب من خلال الشعور بمدى تعرّضها للخطر في وقت لا تملك فيه هذه المجتمعات وسائل الحماية السلبية او المخزون اللازم من المضادات الحيوية. وتشكل اسرائىل في هذا المجال الاستثناء الوحيد حيث يمتلك معظم المواطنين فيها اقنعة للوقاية الفردية, كما ان هناك ملاجئ جماعية مجهزة للحماية من مخاطر اسلحة الدمار الشامل, الى جانب الاحتفاظ بمخزون كبير من المضادات الحيوية.
النزعة الجديدة لانتشار أسلحة الدمار الشامل
بدأ البحث لامتلاك اسلحة الدمار الشامل في منطقة الشرق الاوسط بعد سنوات معدودة من انشاء دولة اسرائيل عام 1949, عبر جهود اسرائيلية مكثفة باتجاه فرنسا من أجل إدخال أول مفاعل نووي الى منطقة الشرق الاوسط, وكانت اسرائيل, المحاطة بدول عربية لا تعترف بوجودها, (تعتبر ان قيامها هو عمل عدواني يهدد الأمن العربي بعدما سلب الشعب الفلسطيني ارضه), تريد ان تمتلك السلاح النووي لمواجهة هذا التهديد العربي ولتصحيح الخلل في الموازين العسكرية سواء كانت لجهة العدد او العمق الجغرافي.
اما من وجهة النظر العربية فان عملية تطوير وامتلاك السلاح النووي من قبل اسرائيل تشكل تهديداً كبيراً للأمن العربي, لا يمكن مواجهته إلا من خلال العمل على تطوير سلاح مماثل, حيث ان خطر التدمير المتبادل هو وحده الكفيل بإعادة تصحيح الخلل في التوازن الاستراتيجي بين الطرفين. وبما ان اقامة برنامج لتطوير القدرات النووية تشكل عملية علمية وهندسية معقّدة, فقد تعثّرت الجهود العربية لدخول حقل التكنولوجيا النووية. وكانت الدول الغربية قد رفضت التعاون مع اي دولة عربية في مجال التكنولوجيا النووية وذلك لاعتبارات عديدة منها الجهود الاميركية لوقف الانتشار النووي لاعتبارات اسراتيجية او بسبب الضغوط الاسرائيلية, عبر اللوبي الصهيوني تحقيقاً للتفوق والمزيد من الضمانات الأمنية لإسرائيل. وعندما تعاونت فرنسا مع العراق لبناء مفاعل “أوزيراك” كانت اسرائىل قد تجهزت بالقوة الجدية اللازمة وبالخطة المتطورة لمهاجمة المفاعل وتدميره.
بعد تدمير “مفاعل تموز” في العراق لم تنجح أيّ من “المحاولات” المزعومة لدخول اي دولة عربية عصر التكنولوجيا النووية, كما لم تنجح الجهود الديبلوماسية التي بذلت سواء عبر الامم المتحدة او من خلال المطالبة غير الجادّة للجبارين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في وضع المنشآت النووية الاسرائيلية تحت الرقابة الفعلية ووقف الجهود الاسرائيلية لصنع الاسلحة النووية ونشرها عملانياً.
كان من الطبيعي ان تدفع الدينامية لبعض الدول العربية باتجاه إيجاد البدائل للسلاح النووي من اجل استعادة توازن جزئي مع التهديد النووي الاسرائيلي المتفاقم, بعدما تأكد بما لا يقبل الشك امتلاك اسرائىل لعدد كبير من الرؤوس النووية, مع سعي حثيث لتطوير اسلحة الحمل اللازمة لها.
ان الديناميات الأمنية في البيئة الشرق أوسطية, وتحت تأثير عامل غياب السلام واحتلال اسرائىل عام 1967 للضفة وغزة وسيناء والجولان قد أوجدت الدوافع المبررة لدى اكثر من طرف للبحث عن بديل للسلاح النووي. وهكذا ظهر بوضوح ان هناك نزعة نحو انتشار اسلحة الدمار الشامل الأخرى في المنطقة وذلك من اجل سد الفجوة الأمنية الناتجة عن تفوق اسرائىل من خلال امتلاك السلاح النووي.
وسعت الدول العربية لامتلاك اسلحة الدمار الشامل, مركزة وفق التقارير الغربية على ما يسمى “قنبلة الفقراء” اي السلاح الكيماوي والبيولوجي, وذلك باستثناء العراق الذي كان يُعتقد بأن لديه برنامجا لتطوير السلاح النووي, والذي جرى القضاء عليه كلياً بعد انتهاء حرب الخليج الثانية وجهود المفتشين الدوليين من لجنة “أونسكوم” التابعة للأمم المتحدة(13). وينتقل التركيز الاميركي والاسرائيلي الآن ليشمل إيران بعد العراق, حيث تتهم طهران بالسعي لامتلاك السلاح النووي عبر برنامج تطوره بالتعاون مع روسيا من خلال بناء مفاعل نووي كبير في مدينة بو شهر.
وشهدت المنطقة مجموعة من البرامج والتجارب من اجل تطوير اسلحة صاروخية متوسطة وبعيدة المدى, فدخلت الى جانب اسرائيل التي طورت عدة نماذج من الصواريخ المتوسطة والبعيدة المدى, بعض الدول العربية وايران, حيث تتوافر معلومات عن نجاحها في انتاج مجموعة من الصواريخ المتوسطة المدى.
الإعتبارات والدوافع للإنتشار
تحدث الرئيس جورج بوش الإبن عن التهديد الجديد المتمثل بانتشار اسلحة الدمار الشامل “ان اخطر ما تواجهه الحرية يتمثل بتزاوج ما يحصل بين التطرف والتكنولوجيا. مع انتشار اسلحة الدمار الشامل الكيماوية والبيولوجية والنووية وكذلك تكنولوجيا الصواريخ البالستيه, فإنه اصبح بمقدور دول ضعيفة ومجموعات صغيرة امتلاك قدرة فائقة (كارثية) لمهاجمة دول عظمى. لقد اعلن اعداؤنا عن نوياهم, وقد ضبطوا وهم يحاولون الحصول على مثل هذه الاسلحة الرهيبة. انهم يبغون الحصول على هذه الإمكانية لتهديدنا او إنزال الأذى بنا او بأصدقائنا, وإننا عازمون على مواجهتهم بكل ما نملك من قوة(14)”.
من المؤكد ان منطقة الشرق الاوسط تمثل الجزء الاساسي في تقويم الرئيس بوش للتهديد الجديد الناتج عن انتشار اسلحة الدمار الشامل, سواء كان مصدر التهديد دولا تطلق عليها الولايات المتحدة “الدول المارقة” والتي سمّى بعضها الرئيس بوش في مناسبات أخرى “محور الشر” وهي العراق وايران وكوريا الشمالية, او كان مصدر التهديد جماعات ارهابية اصولية كتنظيم القاعدة الذي يرأسه اسامة بن لادن, وينتشر في اكثر من 60 دولة وفق التقارير والمعلومات التي تتناقلها وسائل الاعلام عن مصادر اميركية.
لكن فات الرئيس بوش أن يذكر الأسباب والدوافع والإعتبارات الأمنية والاستراتيجية الكامنة وراء بحث بعض الدول عن برامج لتطوير أسلحة الدمار الشامل, خصوصاً وأن الدول التي يعنيها الرئيس بوش في منطقة الشرق الاوسط لم تبادر لإدخال هذه الاسلحة بقصد الهيمنة, بل جاءت محاولاتها كردّ فعل طبيعي على تطورات اقليمية ومتغيرات استراتيجية دفعتها للشعور بالخطر الشديد, بعدما امتلك غيرها اسلحة الدمار الشامل بكميات مخيفة.
يمكن وضع البرنامج النووي الاسرائيلي, وامتلاك اسرائىل لمخزون كبير من الرؤوس النووية, والصواريخ والطائرات القادرة على إيصالها الى اي نقطة في العالم العربي وايران, كالسبب الرئيسي المباشر في نمو نزعة انتشار اسلحة الدمار الشامل في منطقة الشرق الاوسط.
كان من الطبيعي ان يشجع استمرار الصراع العربي الاسرائيلي دون حلّ, بعض الدول العربية لتقابل سياسة التفوق العسكري التي تتبعها اسرائيل بدعم مباشر من الولايات المتحدة, بسياسات عسكرية عربية ترمي الى تحقيق الحد الادنى من التوازن الاستراتيجي, سواء لجهة التزود بالسلاح التقليدي, او لجهة امتلاك بعض اسلحة الدمار الشامل كالصواريخ واطلاق بعض البرامج لتطوير “قنبلة الفقراء” الكيماوية او البيولوجية, من أجل إيجاد الحد الادنى من عامل “الردع العربي” في مواجهة التهديد الاسرائيلي الناتج عن المخزون النووي الكبير.
لا يمكن البحث في موضوع انتشار اسلحة الدمار الشامل في الشرق الاوسط بمعزل عمّا يجري في جنوبي غربي آسيا او شبه القارة الهندية, حيث اجرت كل من الهند وباكستان مجموعة من التجارب النووية, التي اعتبرت اعلاناً رسمياً لدخولهما نادي “الدول الكبرى” التي تمتلك السلاح النووي.
وترخي التجارب الهندية والباكستانية في ظل الصراع حول كشمير وما يجري الآن من تطورات في افغانستان بثقلها على منطقة الشرق الاوسط, نظراً للامتداد الجغرافي والتداخل التاريخي بين المنطقتين, خصوصاً وان لإيران حدوداً طويلة ومشتركة مع المنطقة وتتأثّر بشكل مباشر بما يجري هناك. ولا يمكن إهمال تأثير الروابط السياسية والأمنية والثقافية التي تربط باكستان بدول الخليج. ويطرح امتلاك باكستان للسلاح النووي سؤالا كبيراً حول صحة مفهوم “القنبلة الاسلامية”, وما يمكن أن يقدمه هذا المفهوم في المعادلة الاستراتيجية بين العرب واسرائيل, خصوصاً في ظل المعلومات عن تقديم اسرائىل مساعدات ملموسة للبرنامج النووي الهندي.
اما ايران التي تجد نفسها محاصرة من كل الاتجاهات بوضع أمني متفجر أو معادٍ, فان سعيها لامتلاك اسلحة الدمار الشامل وخصوصاً السلاح النووي يجيء كردة فعل على هذا التبدّل الخطير في البيئة الاستراتيجية في المنطقة. فإيران تجد نفسها معنية مباشرة بدخول الهند وباكستان العصر النووي واكتسابهما صفة الدولة الكبرى, يشجعها على ذلك ردود الفعل الضعيفة التي واجه بها العالم التجارب النووية الهندية والباكستانية. ويشكّل اندفاع العراق لاقتناء اسلحة الدمار الشامل حافزاً قوياً لإيران للدخول في سباق معه لتطوير عدة انواع من الصواريخ والدخول في برامج لتطوير اسلحة الدمار الأخرى بما فيها السلاح النووي عبر مشروع المفاعل النووي في بو شهر. لا يمكن أيضاً إغفال عامل تملك اسرائيل لمخزون كبير من اسلحة الدمار الشامل, والتهديدات التي توجّهها لإيران بين الحين والآخر مع الأخذ بعين الاعتبار الدور المهيمن الذي تحاول ان تلعبه اسرائيل في المنطقة, كل ذلك يشكل ايضا اعتبارات استراتيجية لا بدّ لإيران من أن تأخذها بعين الاعتبار وعلى اساس الضرورات الخاصة بأمنها او الضرورات التي تفرضها طموحاتها لتكون دولة اقليمية ذات نفوذ وتأثير واسعين.
ان تراجع عملية السلام بين العرب واسرائيل, والتي ترافقت مع الحرب الوحشية التي تشنها اسرائيل ضد الشعب الفلسطيني, بالاضافة الى التهديدات المتكررة التي توجهها لكلٍّ من لبنان وسوريا, تنعكس سلباً على الاوضاع الامنية برمتها. ويرى العالم العربي وإيران ان اسرائيل تعمل من خلال الدعم الاميركي السياسي والعسكري, ومن خلال التحالف مع تركيا على لعب دور قوة اقليمية قادرة على فرض هيمنتها الأمنية على منطقة واسعة تتعدى محيطها المباشر, لتشمل منطقة شرقي المتوسط وشمالي افريقيا والبحر الاحمر والخليج وصولاً الى شبه القارة الهندية من خلال علاقات وبرامج تعاون في حقول التكنولوجيا مع الهند. وهكذا يمكن طرح هذا الواقع كواحد من أبرز الاسباب التي تشجع الدول العربية وايران على متابعة جهودها لامتلاك أسلحة الدمار الشامل لمواجهة التهديد ونزعة الهيمنة الاسرائيليين.
الى جانب الصراعات ولعبة النفوذ والقوة التي تشكل الاسباب الرئيسية للنزعة القوية لانتشار الاسلحة النووية والكيماوية والبيولوجية في المنطقة فهناك مجموعة من الأسباب الأخرى الخاصة بعلاقات الدول بجيرانها او بالمحيط الاقليمي ككل, والتي يمكن وضعها تحت عناوين مختلفة بعضها داخلي يعود الى تطلّع الحاكم لتأكيد أهمية دوره الداخلي من خلال اللعب على عامل القوة الوطنية وموقع الاحترام الذي يستطيع تأمينه عربياً ودولياً من خلال امتلاك سلاح الدمار الشامل, وقد تمثل هذا الاتجاه في سياسة عبد الناصر لتطوير صواريخ مصرية, كما يمثل عملاً قوياً في سياسة وتطلعات رؤساء آخرين على غرار معمر القذافي, وصدام حسين. ويمكن القول ان الدوافع لدى صدام كانت تنطلق من اسباب استراتيجية يفرضها موقع ودور العراق في المعادلة الاقليمية, وجاءت هذه الاسباب لتتداخل بشكل عضوي مع الدوافع الشخصية, بحيث لم يعد من الممكن التفريق بينها.
ساعد الغرب وخصوصاً فرنسا والولايات المتحدة اسرائيل لبناء قوتها النووية وتحقيق التفوق في كل المجالات العسكرية من خلال تزويدها بأفضل نظم الاسلحة للهجوم والدفاع, فانقلبت المعادلة في الصراع العربي الاسرائيلي بحيث اصبحت الدول العربية بحاجة لدعم قدراتها الدفاعية والحصول على ضمانات لأمنها. فإسرائيل تملك قوة هائلة من الاسلحة التقليدية واسلحة الدمار الشامل. ترى كل الدول العربية نفسها مكشوفة امام هذا التهديد الاسرائيلي الفعلي والذي بلغ ذروته في الغارة التي شنتها الطائرات الاسرائيلية لتدمير مفاعل تموز على مقربة من بغداد للحؤول دون تمكن العراق من امتلاك قوة نووية رادعة. ان اختلال المعادلة القائمة على امتلاك اسرائيل لسلاح الدمار الشامل بكل انواعه سيشكل دافعاً قويا للدول الأخرى في المنطقة للبحث عن اسلحة الدمار الشامل التي تشكل قوة رادعة مقبولة للتهديد الاسرائىلي.
الموقف الاميركي والدولي من الانتشار
في الوقت الذي يستمر فيه التعاون بين الولايات المتحدة وروسيا, بعد انتهاء الحرب الباردة, في مجال خفض عدد الرؤوس النووية الموجودة لدى الدولتين, برزت تحديات جديدة للأمن الأميركي والدولي تتمثل وفق التسمية الاميركية بـ “الدول المارقة” او “محور الشر” بالاضافة الى الخطر الذي تشكله المجموعات الارهابية.
لا يمكن, وفق آخر تقويم للقيادة الاميركية, المقارنة بين التهديدات المعاصرة والقدرات التدميرية التي كان ينشرها الاتحاد السوفياتي لمواجهة القوة الاميركية, ولكن طبيعة العدو الجديد ودوافعه للحصول على اسلحة الدمار الشامل واستعمالها ضد الولايات المتحدة او ضد قواتها ومصالحها المنتشرة حول العالم, تجعل من التهديد الجديد اكثر خطورة وتعقيداً(15).
وتندرج في التقويم الأمني الأميركي الجديد مجموعة من “الدول المارقة” التي ظهرت في التسعينات, وهي تتركز في سياستها على:
1- عدم احترام القوانين الدولية, ويظهر ذلك جلياً في المواقف العدائية التي تتخذها ضد جيرانها ولمخالفتها لكل القوانين والاتفاقيات الدولية بما فيها خروجها على اتفاقية عدم انتشار اسلحة الدمار الشامل التي سبق ووقعتها قبل سنوات عديدة.
2- تتبدل الجهود للحصول على اسلحة الدمار الشامل, والتكنولوجيا المتطورة لصناعة الأسلحة خصوصاً الصاروخية منها, وذلك من اجل ممارسة سياسات عسكرية هجومية من اجل التهديد او الابتزاز.
3- ممارسة الارهاب او تشجيعه عبر دعم وتأمين الملجأ للمنظمات الارهابية.
4- اضطهاد شعوبها وإقامة حكم جائر لا يحترم الحريات ولا يراعي القيم وحقوق الانسان.
واذا اعتبرنا بأن سياسة الولايات المتحدة تنطلق من هذه المبادئ, يمكن الاستنتاج بأن الولايات المتحدة ستجد نفسها في موقع تناقض مع معظم الدول العربية وايران, بحيث يمكن تصنيف العراق بالدرجة الاولى ضمن هذه الفئة كما يمكن ادراج عدة دول عربية اخرى على اللائحة الاميركية نفسها وخصوصاً ليبيا والسودان.
ان كل الدول التي تصنفها الولايات المتحدة “مارقة” موجودة في منطقة الشرق الأوسط باستثناء كوريا الشمالية, التي تحاول الولايات المتحدة إقناعها بالتخلي نهائيا عن برامج اسلحة الدمار الشامل, بحيث تتركز جهودها لمنع الانتشار في منطقة الشرق الاوسط من خلال الضغوط على الحكومات للتخلي عن برامجها وجهودها للحصول على اسلحة الدمار الشامل والتخلي ايضاً عن دعم او تشجيع المنظمات الارهابية. ويمكن ان تشمل الجهود الاميركية مجموعة واسعة من التدابير, من انشاء تحالف دولي الى التعاون الثنائي وخصوصاً التعاون مع روسيا والصين لمنع تصدير المواد والمعدات التي تستعمل في صنع سلاح الدمار الشامل باتجاه دول الشرق الاوسط. ويمكن في هذا الاطار اتخاذ السياسة التي تعتمدها الولايات المتحدة تجاه العراق من خلال اتهامه بحيازة سلاح الدمار الشامل كنموذج للسياسة الاميركية التي ستعتمد تجاه دول اخرى في مراحل لاحقة والتي تفترض ممارسة كل انواع الضغوط وانتداب فرق للتفتيش, واستعمال القوة العسكرية للضرب بقسوة عند اللزوم, الى جانب استعمال افضل انواع التكنولوجيا للتجسس على هذه الدول.
في المرحلة التي تلت انتهاء الحرب الباردة مباشرة, كانت السياسة الاميركية في الشرق الاوسط تتركز حول تأمين تدفق النفط من منابعه وتأمين خطوط شحنه باتجاه الغرب واليابان, وتحقيق امن اسرائيل في مواجهة “التهديدات العربية”. وكان التركيز الاساسي على الامن الاسرائيلي قبل المصالح النفطية, ومن هنا فان الولايات المتحدة قد اعتمدت سياسة مركّبة, تسمح بمنع المفاجآت التي تهدد الامن الاسرائيلي على غرار ما حدث عام 1973 من ابرز عناصرها:
اولاً: زيادة التفوق العسكري الاسرائيلي بتزويد اسرائيل بآخر ما انتجته التكنولوجيا الاميركية من اسلحة جديدة في وقت خسر فيه العرب المصدر الاساسي لمدهم بالسلاح, الا وهو الإتحاد السوفياتي.
ثانيا: رفع العلاقة مع اسرائيل الى درجة الحليف الاستراتيجي والتي بدأت في عهد ريغان وتطورت في ما بعد لتصبح اسرائيل في مصاف اقرب وأهم الحلفاء للولايات المتتحدة سواء خلال التنسيق الأمني وتبادل المعلومات, وتخزين الذخائر والمعدات بمليارات الدولارات, مع برامج مشتركة لتطوير نظم اسلحة جديدة كالصاروخ “هايتس” وانشاء شبكة دفاع مضادة للصواريخ.
ثالثاً: تزويد اسرائيل بطائرات قادرة على حمل السلاح النووي الى مسافات بعيدة تغطي وسط ايران ومعظم العالم العربي والسماح لها بتحويرها لهذه الغاية. والتزام الصمت الكامل عن برامجها لتطوير صواريخ بالستية, واجراء تعديلات على الغواصات التي اشترتها من المانيا بحيث اصبح بامكانها اطلاق صواريخ تحمل رؤوسا نووية, وهكذا اصبحت اسرائيل القوة النووية الكبرى التي تملك مئات الرؤوس النووية القادرة على اطلاقها من البرّ والجوّ والبحر, أي النظام الثلاثي الذي كانت تمتلكه الدول الكبرى حصراً.
رابعاً: اما مع الدول العربية وايران فقد مارست الولايات المتحدة كل وسائل الضغط المباشر وقامت بجهود جبارة لمنع وصول الاسلحة بما في ذلك الاسلحة التقليدية. اما في مجال اسلحة الدمار الشامل فقد ضغطت بكل ثقلها السياسي والاقتصادي على الصين وروسيا وكوريا الشمالية لمنع اية مساعدة ممكنة لانتاج اسلحة الدمار الشامل بما في ذلك الصواريخ المتوسطة المدى. وذهبت الولايات المتحدة في اكثر من مناسبة لاستعمال قواتها الجوية والصاروخية لقصف منشآت في العراق والسودان وليبيا بحجة انها مصانع لصنع اسلحة الدمار الشامل او بعض مركباتها, وتبيّن في وقت لاحق انها منشآت مدنية كمعمل الأدوية في السودان.
ويبدو بوضوح ان الولايات المتحدة وبتحريض ظاهر من اسرائيل ستعتمد سياسة اكثر تشددا لمنع الدول العربية وايران من اقامة اية انشاءات تتيح لها القيام بأية مغامرة لصنع سلاح الدمار الشامل من اي نوع كان. ويظهر ذلك من خلال الاستراتيجية التي تعتمدها حيث تعمل في اكثر من اتجاه بما فيه إستعمال القوة العسكرية لتحقيق هذا الهدف.
وتنص الاستراتيجية الأمنية التي اعتمدتها الولايات المتحدة في اعقاب هجمات 11 ايلول على بذل جهود فعّالة, لمنع انتشار اسلحة الدمار الشامل من خلال منع التهديد او الدفاع ضده في عمليات هجومية وقائية ومانعة وقبل حصوله.
ويقتضي ذلك التركيز على “الدول المارقة” والارهابيين لمنعهم من الحصول على المواد والتكنولوجيا والخبرات اللازمة لصنع هذه الاسلحة, “اننا سنكثف العمل الديبلوماسي, ونظام الرقابة على السلاح, وتدابير مراقبة الصادرات وكل التدابير الاخرى المتوافرة لتخفيف التهديد الذي يمكن ان ينتج عن حصول هذه الدول “المارقة” والارهابية على اية مساعدة في مجال اسلحة الدمار الشامل. وسنلجأ الى اعتراض ومصادرة المواد والتكنولوجيا اذا لزم الأمر”(16).
وتضيف الاستراتيجية الامنية الاميركية في محاولتها للتهرب من ضوابط القانون الدولي الذي يمنع مهاجمة الدول الاخرى الا في حال الدفاع عن النفس من خلال الدعوة الى تغيير مفهوم الخطر الداهم: “يجب ان نغيّر مفهوم الخطر الداهم (الذي يسمح بمهاجمة دولة اخرى) ليتناسب مع اهداف وامكانيات اعدائنا الحاليين. فالدول المارقة والارهابيون لا يهاجموننا باستعمال الوسائل التقليدية, لأنهم يدركون ان مثل هذه الهجمات ستفشل. فهم يلجأون الى الارهاب مع امكانية استعمال اسلحة الدمار الشامل, وخصوصاً الأسلحة التي يمكن اخفاؤها ونشرها بصورة سرية ودون انذار(17). وترى الولايات المتحدة انطلاقاً من تجربة 11 أيلول بأن الاهداف التي ستها