فكرة العوائق الإبستيمولوجية
مقدمة:
"الإبستيمولوجية[1] epistemology مصطلح ذو أصل إغريقي مؤلف من كلمتين: epistemo وتعني المعرفة و logos وتعني علم. ويعني المصطلح حرفياً علم المعرفة أو علم العلم. وكان أول من وضع هذا المصطلح الفيلسوف الاسكتلندي جيمس فريدريك فيرييه (1808 - 1864) حين ألف كتابه مبادئ الميتافيزيقا. إذ قسم الفلسفة فيه إلى قسمين: أنطولوجية إبستيمولوجية، أما المعنى المعاصر لمصطلح إبستيمولوجية في الفلسفة العربية والفرنسية فهو: الدراسة النقدية للمعرفة العلمية.
ومع أن مفهوم «العلم» حاضر في تاريخ الفلسفة، ولاسيما عند أفلاطون وأرسطو وديكارت ولوك وليبتنز فإن الإبستيمولوجية بوصفها مبحثاً مستقلاً موضوعه المعرفة العلمية، لم تنشأ إلا في مطلع القرن العشرين حين اتجهت إلى تحديد الأسس التي يرتكز عليها العلم، والخطوات التي يتألف منها، وإلى نقد العلوم والعودة إلى مبادئها العميقة. وذلك بتأثير التقدم السريع للعلم، والاتجاه نحو التخصص المتزايد، وما ولدّه ذلك من تغيّر في بنية منظومة العلوم، ومن صعوبات وإشكالات ذات طبيعة نظرية.
والإبستيمولوجية بوصفها الدراسة النقدية للعلم تختلف عن نظرية المعرفة. ففي حين تتناول نظرية المعرفة théorie de la connaissance عملية تكون المعرفة الإنسانية من حيث طبيعتها وقيمتها وحدودها وعلاقتها بالواقع، وتبرز - بنتيجة هذا التناول - اتجاهات اختباريه وعقلانية ومادية ومثالية، فإن موضوع الإبستيمولوجية ينحصر في دراسة المعرفة العلمية فقط. وإذا كانت الإجابات التي تقدمها المعرفة «إطلاقية» وعامة وشاملة، فإن الإبستيمولوجية تدرس المعرفة العلمية في وضع محدد تاريخياً، من دون أن تنزع نحو إجابات مطلقة. بل ترى الإبستيمولوجية في التعميمات الفلسفية للمعرفة عائقاً أمام تطور المعرفة العلمية. ذلك أن التصورات الزائفة عن المعرفة تؤثر سلبياً في مجال المعرفة العلمية، وخاصة حين تضع حدوداً للعلم.
فالإبستيمولوجية ليست استمراراً لنظرية المعرفة في الفلسفة بل هي تغير كيفي في النظر إلى الفلسفة بالعلم، وتجاوز للتناقض بين نظرية المعرفة والعلم.
وليس هذا فحسب، بل إن الإبستيمولوجية أتت على ما كان يعرف بفلسفة العلم science philosophie de التي تولدت من علاقة الفلسفة بالعلم وتناولت جملة موضوعات أهمها علاقة العلم بالمجتمع وتأثيره في تكوّن النظرة الفلسفية إلى الطبيعة والكون. أما من حيث الاختلاف بين الإبستيمولوجية ومنطق العلم logic de science، فإن منطق العلم أقرب المباحث إلى الإبستيمولوجية. ذلك لأنه يحلل لغة العلم تحليلاً منطقياً. ويبحث في مناهج الكشف العلمي ومنطقه، لكن أنصاره يقطعون كل صلة بينه وبين الفلسفة.
تدرس الإبستيمولوجيا أيضا وسائل إنتاج المعرفة ، كما تهتم بالشكوك حول إدعاءات المعرفة المختلفة. بكلمات أخرى تحاول الإبستمولوجيا أن تجيب عن الأسئلة : "ماهي المعرفة؟" "كيف يتم الحصول على المعرفة؟". و مع أن طرق الإجابة عن هذه الأسئلة يتم باستخدام نظريات مترابطة فإنه يمكن عمليا فحص كل من هذه النظريات على حدة[2].
ولكن إذا كانت الإبستيمولوجية مبحثا موضوعه المعرفة العلمية، وهو الموضوع الذي تهتم به معظم التخصصات ، فمن أي زاوية تختص بها الإبستيمولوجيا في دراسته؟.
تهتم الإبستيمولوجيا بنقد العلم من زاويتين:
أولا "الأفكار المكونة" أو كما يسميها لالاند "العقل المكون" يتمثل في النشاط الذهني الذي يقوم به الفكر حين البحث والدراسة، والذي يصوغ المفاهيم ويقرر المبادئ ، بمعنى أدق "هو الملكة التي يستطيع بها كل إنسان أن يستخرج من إدراك العلاقات بين الأشياء مبادئ كلية وضرورية…"[3]، ثانيا الأفكار المكونة أو ما يسميه لالاند "العقل المكون" ويقصد به مجموع المبادئ والقواعد التي نعتمدها في استدلالاتنا. يقول لالاند "إن العقل المكون والمتغير ولو في حدود، هو العقل كما يوجد في حقبة زمنية معينة…" بعبارة أخرى هو "منظومة القواعد المقررة والمقبولة في فترة تاريخية ما، والتي لها خلال يلك الفترة قيمة مطلقة"[4].
إن معظم الجدل والنقاش الإبستيمولوجي يدور حول تحليل طبيعة المعرفة العلمية، وارتباطها بالترميزات والمصطلحات مثل الحقيقة، الاعتقاد، التبرير…الخ، إضافة إلى دراسة وسائل إنتاج هذه المعرفة، وطرح الشكوك حول إدعاءات المعرفة المختلفة، ولكن الذي يهمنا في موضوعنا هنا ليس الإبستيمولوجيا بشكل عام إنما مبحث من مباحثها وهو عوائق العلم، فإذا كانت الإبستيمولوجية مبحثاً موضوعه المعرفة العلمية، وهدفه التحليل النقدي لها، فما هي عوائق العلم التي تتطلب تدخلاً إبستيمولوجياً؟.
مفهوم العائق الإبستيمولوجي: العائق obstacle: لغة هو كل ما يعطل أو يؤخر حركة أو فعل ما، أنه "قوة شد إلى الوضع القائم والحكم الجاهز والرأي السائد في حين أن المحفز هو قوة دفع لتجاوز ما هو كائن طمعا فبما يجب أن يكون. الأول قوة ممانعة والثاني قوة محركة كما يقول الفيزيائيون. الأول شد إلى الموجود والثاني توق إلى المنشود..."[5]
وفي اصطلاح العلماء فالعوائق الإبستيمولوجية هي تلك العقبات الاجتماعية الإيديولوجية، وبالأخص المعرفية العقلية والمعرفية التي تحول دون تطور العلم، وكذا التفكير العلمي بشكل عام,
لقد تكلم غاستون باشلار وكثير من العلماء والمهتمين بموضوع العلم والمعرفة عن العوائق التي تحدثها المعرفة العامة أمام المعرفة العلمية, وتعنى المقاربة الإبستيمولوجية بتحليل بنية المعرفة وإيجاد العلاقات بين المفاهيـم والقوانين والنظريات، وكذا بالبحث عن التصحيحات المتتالية التي طرأت على هذه المفاهيـم عبر تاريـخ بنائها والعوائـق التي تـمّ اجتيازها. ويبرز مفهوم القطيعة والعائق من خلال الدراسة التاريخية للمفاهيم العلميـة أن نموّ الفكر العلمي ينتج عن سيرورة لا خطية؛ إذ يتميّـز بمسار تطبعه عدة انعراجات تتخللها عوائق وقطائع. وبهذا فإن ظهور نظرية معينة لا يتمّ عن جمع الوقائع بل عن مصادفة وتجاوز العوائق.[6]
وإذا كان العلـم يتطـوّر ويتقـدم باجتياز عوائق إبستيمولوجية، فقد أصبحت لهذا المفهوم مكانة خاصة في التعلم، حيث يستوجب اكتساب المفاهيم العلمية معرفة العوائق لدى المتعلـم ومحاولة اجتيازها. ومن بين العوائق الإبيستمولوجية عند باشلار Bachelard هناك: -عائق التجربة الأولى ويتمثل في اعتماد التجربة اليومية (الحدسية). -عائق المعرفة العامة ويتمثل في الميول إلى التعميم.
ويهتم هذا المبحث بمحاولة إقامة نظرة فلسفية صحيحة تتماشى مع طبيعة العلم المعاصر، وبصيغة أخرى إزالة الهوة بين الفلسفات المعاصرة والعلم الحديث. فقد لاحظ باشلار مثلا أنه قد حدثت ثورات معرفية كبيرة أعادت انظر في كثير من المفاهيم الأساسية، مما جعل الفلسفات جميعا غير قادرة على إعطاء القيمة التي يستحقها العلم الحديث.
ومن أهم القضايا التي تثيرها الإبستيمولوجيا:
I- الإيديولوجيا:
إن الإبستيمولوجية[7] لا تكتفي بتحديد الشروط العلمية لإنتاج المعرفة العلمية. وإنما تسعى - أيضاً - لبحث شروط المعرفة العلمية الاجتماعية. وآلية ذلك أن الاستقلال النسبي للمعرفة العلمية لا يفصلها إطلاقاً عن شروط تكونها التاريخية - الاجتماعية، وهذا ما يجعل من مبحث علم اجتماع المعرفة جزءاً لا يتجزأ من البحث الإبستيمولوجي. فلقد رأى جورج غورفيتش - مثلاً - أن الداروينية تتبنى في علم الحياة مبدأ التنافس في الحياة الرأسمالية. ويظل الحكم بوجود اختلاف بين العلم والأيديولوجية صحيحاً، فأحكام العلم أحكام حول حقائق قابلة للإثبات أو الدحض، وذات طابع موضوعي، تحظى بالقبول من العلماء، أما أحكام الأيديولوجية فهي أحكام قيمية، تتعلق بما يجب أن يكون، مع اعتمادها في كثير من الأحيان على حقائق علمية.
كما أن الأبحاث العلمية - لاسيما في العلوم الدقيقة - تكون في ترابط مع الأيديولوجية وذلك بما تحتاج إليه تلك الأبحاث من مختبرات وأجهزة بحث واختبارات واسعة النطاق، ومؤسسات خاضعة على نحو ما لأهداف قومية.
ويظل الحكم بوجود اختلاف بين العلم والأيديولوجية صحيحاً، فأحكام العلم أحكام حول حقائق قابلة للإثبات أو الدحض، وذات طابع موضوعي، تحظى بالقبول من العلماء، أما أحكام الأيديولوجية فهي أحكام قيمية، تتعلق بما يجب أن يكون، مع اعتمادها في كثير من الأحيان على حقائق علمية.
مفهوم الإيديولوجيا:
تعرف الإديولوجيا بأنها "مجموعة المعتقدات والاتجاهات والآراء التي تتشكل مجتمعة، بالإضافة إلى أنها قد تكون مرتبطة بمحددات أو غير مرتبطة"[8]. كما تشير أيضا إلى "نسق من الأفكار أو المعتقدات التي يستخدمها المفكر"[9] ويستخدم المصطلح في ثلاث معان أساسية للإشارة إلى أنواع محددة من المعتقدات، أو إلى معتقدات تكون في معظمها مضللة أو مزيفة وأخيرا مجموعة من المعتقدات تغطي كل شيْ من خلال المعرفة العلمية والدين ومعتقدات الحياة اليومية بشأن التصرفات الملائمة بصرف النظر عما إذا كانت هذه المعتقدات حقيقية أو زائفة.
يقول الجابري[10] " إن كلمة فكر خصوصا عندما تقرن بوصف يرتبط بشعب معين كقولنا الفكر العربي…تعني في الاستعمال الشائع اليوم، مضمون هذا الفكر ومحتواه أي جملة الآراء والأفكار التي يعبر بها ومن خلالها ذلك الشعب عن اهتماماته ومشاغله وأيضا عن مثله الأخلاقية ومعتقداته المذهبية وطموحاته السياسية والاجتماعية، وبعبارة أخرى، إن الفكر بهذا المعنى هو والإيديولوجية اسمان لمسمى واحد"ويضيف بأن هناك تداخلا بين الفكر والإيديولوجية، تداخل بين مفهوم الفكر بوصفه أداة لإنتاج الأفكار، والفكر بوصفه مجموع تلك الأفكار…وأن التمييز بين هاتين الفكرتين هو تمييز مصطنع لكنه ضروري بهدف التبسيط والتوضيح، وعلى الرغم من أهمية التمييز بين العقل الفاعل والعقل السائد… فيجب ألا نغفل علاقة التأثير والتأثر القائمة أبدا بينهما، فمن جهة ليس العقل السائد شيئا سوى تلك المبادئ والقواعد التي أنشأها وينشئها العقل الفاعل…"
إن الفكر كمنتوج هو دوما نتيجة للاحتكاك مع المحيط الذي يتعامل معه (الاجتماعي، الثقافي…الخ)، إن التفكير بواسطة ثقافة ما، معناه التفكير من خلال منظومة مرجعية تتشكل إحداثياتها الأساسية من محددات هذه الثقافة ومكوناتها، وفي مقدمتها الموروث الثقافي والمحيط الاجتماعي والنظرة إلى المستقبل، بل والنظرة إلى العالم، الكون والإنسان كما تحددها تلك الثقافة.
لكن السؤال الإبستيمولوجي المطروح هو: هل تمثل الأيديولوجية عقبة أمام تطور المعرفة العلمية أم هي حافز من حوافز تطورها؟.
إن العلم ممتزج بالممارسة الأيديولوجية وذلك حين يستعير القول الأيديولوجي ضماناته من النظريات العلمية، أو حين يتكون العلم في حقل الممارسة الأيديولوجية، والإبستيمولوجية علما لا يكتفي بتحديد الشروط العلمية لإنتاج المعرفة العلمية، بل تسعى أيضا لبحث الشروط الاجتماعية لإنتاج هذه المعرفة،ذلك أن الاستقلال النسبي للمعرفة العلمية لا يفصلها إطلاقا عن شروط تكوينها التاريخية-الاجتماعية، وهو ما نطلق عليه الإيديولوجية، فكيف تؤثر الإيديولوجية على التفكير العلمي؟.
· الإديولوجيا وتكوين الوعي الزائف:
يقصد بالوعي أنه ".. شكل عال من انعكاس الواقع الموضوعي الذي يرثه الإنسان بمفرده، وهو المجموع الكلي للعمليات العقلية، والأنشطة التي يشارك بها في فهم العالم الواقعي واحتياجاته الشخصية، ويضع الوعي في اعتباره والنشاط الاجتماعي والاقتصادي للناس…"[11] ويعد الوعي نتاجا للتطور الاجتماعي ولا يوجد بعيدا عن المجتمع، لذلك فهو يرتبط ارتباطا وثيقا بالإيديولوجيا السائدة في المجتمع. فكيف تؤثر الإيديولوجيا في تزييف الوعي؟.
ترى الماركسية[12] أن الإيديولوجيا مجموعة المعتقدات والآراء التي تتشكل مجتمعة بالإضافة أنها قد تكون مرتبطة بمحددات أو غير مرتبطة، وترى أيضا أية إيديولوجيا هي نتاج لعملية تتم في فئات و مجموعات محدودة من الأفراد المثقفين والقانونيين والسياسيين، ومن خلالهم تنتشر هذه الإيديولوجيا عن طريق الصحافة والكتب والأحاديث…الخ،كما أن لكل طبقة إيديولوجيتها، وإيديولوجيون يعبرون عن مصالحها…
وتنظر الماركسية إلى الإيديولوجيا من زاويتين: الأولى ايجابية كونها مجموعة أفكار مبنية على اقتصادية تستمد منها الأفكار السياسية والاقتصادية والقانونية…،أما الجانب الثاني فهو سلبي كونها تمثل وعيا زائفا مرتبط بالظروف الاجتماعية أو الوجود الاجتماعي… فهي إذن صورة من الوعي الزائف، والأفكار المضللة وأوهام ليس لها وجود حقيقي، إضافة إلى أنها تقف في مواجهة النظريات العلمية. يقول انجلز "إن الإيديولوجيا عملية يقوم بها من يعرف بالمفكر بطريقة واعية لكنه في الحقيقة وعي زائف، إذ أن الدوافع الحقيقية التي تدفعه إلى ذلك تظل مجهولة أو غير معروفة لديه…"
ويحدد ماركس عنصرين هامين للإيديولوجيا، الأول أن كل فكر اجتماعي عملية يتبنى بالضرورة موقفا تجاه موضوع دراسته يرتبط ارتباطا مباشرا بالمصالح العملية وبنشاطات رواده البارزين، أي رواد هذا الفكر، لذلك كان مثلا كل مكن آدم سميث و ريكاردو يعبران عن مصالح البرجوازية الثورية في صراعها مع الملاك. أما الثاني فالمعرفة الإيديولوجية تعمل على تخريب وتقويض دعائم المعرفة العلمية إذا هذه المعرفة تعبر عن وجهة نظر جماعة اجتماعية ذات مكانة اقتصادية متدهورة أو ما أسماها "طبقات التحول والانتقال".
من المبادئ الأساسية للفلسفة الماركسية أن إنتاج الأفكار والمفاهيم والوعي مرتبط أولا وبشكل مباشر ودقيق بالنشاط المادي والعلاقات المادية للبشر ولا يمكن للوعي أن يكون غير الوجود الواعي، فوجود البشر هو مجرى الحياة الحقيقية، وأن البشر بتطويرهم لإنتاجهم المادي وعلاقاتهم المادية يتغير بتغير وجودهم الواقعي، فالحياة لا يحددها الوعي بل الوعي تحدده الحياة، … وبما أن الأفكار هي منتوج اجتماعي فإن البناء الطبقي السائد في المجتمع له القدرة على نشر أفكار معينة، "فمن خلال تحليل مسلمات الفكر الوظيفي نجد أنه يسعى جاهدا لخدمة مصالح الطبقة المسيطرة المتحكمة، فمثلا يسخر علم الإجماع في الولايات المتحدة الأمريكية لخدمة قضايا السلطة المهيمنة، وتستغل الشركات الكبرى في المجتمع الرأسمالي علم الإجماع لإجراء بحوث ميدانية لخدمة مصالحهم وتوجيه الرأي العام إلى ما يريدون توجيهه إليه"[13] .
· الإيديولوجية وتشكيل الوهم:[14]
ذكرنا سابقا أن الإيديولوجيا مجموعة المعتقدات والاتجاهات والآراء التي تتشكل مجتمعة، بالإضافة إلى أنها قد تكون مرتبطة بمحددات أو غير مرتبطة، لذلك فإن طرق التفكير السائدة والتي تفسر الأحداث تفسيرات ذاتية ولا تعرف أي شكل من أشكال طرق التفكير غير العلمية وغير العقلانية تنطلق من أسس ذاتية صرفة في تفسير الظواهر والأحداث، سواء في الطبيعة أو في واقع الحياة اليومي. فطريقة التفكير هذه، والتي يأخذ بها السواد الأعظم من الناس، تفسر الأمور وظواهرها الطبيعية بناء على غايات خارجية أي تنسب لها أسبابًا غير أسبابها الفعلية أو المادية التي تسببها كما لا يزال الكثير ينظر للطبيعة وأحداثها. وهذا بلا شك يقف على النقيض من طريقة التفكير العلمية التي تتصف بالموضوعية وتفسر الظواهر بأسبابها الفعلية والمادية ولا تتعلق تفسيراتها بالأهواء أو الرغبات الذاتية مما ينتج عنه تعامل أدق مع الأحداث والأمور وفهمها بطريقة منهجية، ومن ثم إيجاد الحلول التي يمكن أن تساهم في معالجتها.وخلاصة القول إن طريقة أو طرق التفكير السائدة تساهم بشكل كبير في إعاقة أو إحداث تقدم ثقافي أو علمي حقيقي. فمن الواضح إذن أن طريقة التفكير هي التي تلعب الدور الأساسي في إحداث التغييرات الثقافية والفكرية في المجتمع فأي طريقة تفكير لها ثقافتها الخاصة بها التي تميزها عن طرق التفكير الأخرى، وبما أن الخلل يكمن في التفكير فلا يمكن أن يعالج إلا بالأساليب والأدوات والمناهج الفكرية التي تتوافر في التراث الفلسفي والذي مارس من خلاله الفلاسفة التأثير الأكبر في إحداث نقلات نوعية من التفكير على مر العصور.وقد طرح الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون أوهامه الأربعة ، التي نقد بها طرق التفكير غير العلمية والمفتقرة إلى المنهجية والموضوعية وهي أوهام الجنس (أو النوع) والكهف والسوق والمسرح، وهذه الأوهام شبيهة إلى حد كبير بما هو سائد في ثقافتنا من أوهام ومسلمات بأمور غير خاضعة للجدل والنقاش، والتي تشل في حقيقة الأمر أي نوع من أنواع التفكير النقدي الحر وتفتقر إلى الأدلة والبراهين المادية التي تدعمها
انواع الوهم عند فرانسيس بيكون:[15]
v أوهام الجنس أو (النوع) : انتقد فيها كون «الحواس البشرية - التي تتخذ مقياسًا للأشياء جميعًا - معرضة للخطأ، وعقل الإنسان أشبه بمرآة غير مصقولة تضفي خصائصها الخاصة على الأشياء، وتشوه صورتها». إن ما يذهب إليه بيكون هنا هو ما تمت الإشارة إليه سابقًا حول تغليب الجوانب الذاتية في تفسير الظواهر الطبيعية والأحداث بطريقة مختلفة عمّا هي عليه في واقع الأمر كما هو شائع عندنا، وإسباغ التمنيات والرغبات والمواقف الذاتية عليها، أي أن العقل يفرض منطقه ونظامه الخاص على الأشياء والظواهر ويفسرها بمنطق ذاتي بعيد عن الموضوعية وعن منطقها الطبيعي
v أوهام الكهف: أما بالنسبة لأوهام الكهف فهي الأوهام «الفردية التي يقع فيها كل شخص نتيجة تكوينه الخاص».إن أكثر ما يدفع المرء إلى العيش في الأوهام هو طريقة التفكير التي يفكر بها، والتي تأتي نتيجة، في معظم الأحيان، من واقع الثقافة السائدة في المجتمع. فإذا كانت هذه الثقافة تفتقر إلى التفكير الواقعي والنظر للأمور بموضوعية وتجرد، فستكون أرضًا خصبة للأفكار الوهمية، التي لا صلة لها بالواقع. ومع الأسف فإن هذه الظاهرة منتشرة بشكل كبير لا بين العامة فقط، بل حتى بين بعض شرائح المتعلمين والمثقفين السياسيين والحكام الذين يحلمون بعوالم مثالية، أو يسبغون على أنفسهم هالات من العظمة أو التقديس، ظنًَا منهم أنهم عمالقة في تخصصاتهم أو المعرفة التي يحملونها. علمًا بأن كل المعرفة التي يملكونها هي في الأغلب مستوردة من الخارج، ناهيك - بالطبع - عن الأوهام المتفشية بين العامة كالخرافة والقصص الأسطورية الخارقة للعادة، والتي تتقبلها طريقة التفكير المبنية على الوهم وأسس مفارقة للواقع.
v أوهام السوق : وتعد أوهام السوق التي تحدث عنها بيكون من أكثر أنواع الأوهام خطورة. فقد شبه عملية تبادل الأفكار في المجتمع بعملية التبادل التجاري بالسوق. فأي فرد يعيش في مجتمع ما سيتبادل مع الآخرين الأفكار السائدة فيه من خلال اللغة، التي تعتبر وسيلة التعبير عن الأفكار، وأداة توصيلها للآخرين، أي أن اللغة لا تنقل ألفاظًا فقط، بل أفكار يمكن أن تتشكّل العقول بناء عليها. وإذا كانت اللغة السائدة حبلى بالكثير من الأفكار غير الواقعية، فسيكون خطرها الفكري كبيرًا على طريقة تفكير العامة. فهناك الكثير من الألفاظ الشائعة الاستعمال، إما تعبر عن موضوعات وهمية أو تفتقر إلى الدقة والتحديد، ولا تخضع في الوقت نفسه للنقد أو التحليل نتيجة لطابعها غير الواقعي.
ولاشك أن ما أشار إليه بيكون متأصل في ثقافتنا الدارجة، فهي ثقافة غير علمية، أي تفتقر إلى اللغة المعبرة عنها للدقة الموجودة في العلم، فاللغة العلمية تتميز بالدقة والتحديد وتعبيرها عن أمور واقعية مدركة، يقام عليها الدليل والبرهان، بينما تفتقر اللغة غير العلمية إلى ذلك، فهي حبلى بالكثير من الأفكار الذاتية وغير الواقعية، مما ينعكس سلبًا على متلقيها وعلى طريقة تفكيره. ومع الأسف فإن هذه الظاهرة منتشرة في واقع الثقافة العربية بشكل كبير. فالثقافة العربية بشكل عام ثقافة سمعية، أي تتداول فيها الأفكار شفاهة لا عن طريق القراءة أو البحث، ويرجع ذلك إلى أسباب عدة أبرزها نسبة الأمية العالية، والتي يعتمد تكوين أفكارها على الشفاهية نتيجة لعدم قدرتها على القراءة والاطلاع. ولا يقتصر الأمر على هذه الشريحة، بل إن شريحة واسعة من المتعلمين تعتمد على نقل أفكارها عبر الثقافة السمعية، وهذه الشريحة تعاني من الأمية الثقافية، وتنتهي عملية القراءة والاطلاع عندها فور الحصول على الشهادة والعمل، وتتحول بعد ذلك إلى تلقي المعرفة الشفاهية دون عناء البحث والتدقيق فيما ينقل من أفكار أو أحداث.وقد ساهمت الأدوات التكنولوجية المستخدمة في الوسائل الإعلامية في تعزيز هذا الأمر، فعلى الرغم من كثرة المحطات الفضائية، التي تبث مادة مرئية ومسموعة كثيفة، فإنها استخدمت لتعزيز الثقافة السمعية من حيث المادة، التي تعرضها، والتي تفتقر إلى الدقة العلمية، وكون معظمها موجهًا ويخدم أهدافًا سياسية.ولا تخرج مادتها وطرق نقل أخبارها عن الطرق الدارجة في نقل الفكرة أو المعلومة في ثقافتنا السائدة، فساهمت هذه الوسائل بدورها في تعميق ما أطلق عليه بيكون أوهام السوق، لدرجة أن من يفكر بطريقة عقلانية أو منهجية، ويحرص على الدقة في طرح وتناول موضوعاته، أصبح شاذًا تلصق به مختلف النعوت.
v أوهام المسرح[16]: يرى فيها هيمنة أفكار ونظريات القدماء على الأذهان لفترة طويلة، وتقبلها دون إثارة أي تساؤل حولها، من حيث صحتها أو جدواها في الواقع الذي لم تظهر فيه.وهذه المسألة تعد من بين المسائل المنتشرة في ثقافتنا، وتعززت بشكل كبير، فهناك العديد من الأفكار والآراء التي لا تزال تهيمن على جوانب عدة من طرق التفكير السائدة في مجتمعاتنا مضى عليها قرون طويلة وتتوارثها الأجيال، وتضفي عليها هالة من القداسة، علاوة على العديد من الشخصيات، التي لا يمكن أن تخضع أفكارها لأي شكل من أشكال النقد، أو حتى المناقشة، ويتم التسليم بأفكارها بشكل تلقائي.وقد ساهمت هذه الظاهرة في الجمود الفكري، وعدم إعمال العقل في النظر في المشكلات والظواهر التي نعيشها، وإهمال جوانب التفكير العقلاني والنقدي، لقد صدق بيكون حينما شخّص واقعه الذي كان يمر في فترة تحولات بإطلاقه كلمة «أوهام» على أنماط التفكير السائدة آنذاك، والتي - مع الأسف - تسود في واقعنا الثقافي الحالي، وأنتجت ثقافة الأوهام المنتشرة من المحيط للخليج، التي تفسر العالم بظواهره وأحداثه بطرق لا صلة لها مع الواقع، ولا بالثقافة العلمية والتكنولوجية التي فتحت للإنسان آفاقًا لا نهاية لها، وتغير وجه العالم باضطراد.
II- المعرفة السابقة:
تعد مشكلة المسار الذي تسلكه المعرفة العلمية واحدة من أهم مشكلات الإبستيمولوجية. إن خصائص المعرفة العلمية تختلف كليا عن المعرفة العامية، فهل هذا يعني أن الأولى منفصلة في تطورها ونشأتها عن الثانية أم أنها متصلة بها رغم ما بينهما من تباين؟.
لقد انقسم الإبستيمولوجيون - في النظر إلى هذه المشكلة - إلى فريقين: فريق نظر إلى مسار العلم على أنه سيرورة متصلة مستمرة لا انقطاع فيها ولا انفصال، وفريق يقول بانفصال وقطيعة بين المعرفتين.
أنصار الاتصال:
يرون أن مسار العلم مسار انقطاع واضطرابات وأزمات وثورات. "ويعد إميل ميرسون Emil Meyerson وليون برنشفيك Léon Brunschvicg أهم دعاة الاتجاه الذي يقول بالاستمرارية. والمعرفة العلمية - من وجهة نظر هذا الاتجاه - استمرار وتطور للمعرفة العادية. كما أن كل معرفة علمية جديدة هي استمرار للمعرفة العلمية السابقة فتاريخ العلم سلسلة يتولد بعضها من بعض. وما التغير الذي يحدث في العلم إلا تغير تدريجي. إن أصحاب هذا الرأي ينظرون العلم إذن على أنه سلسلة حلقات متصلة والمعرفة العلمية ما هي إلا حلقة من هذه الحلقات فكونت مثلا رأى أن المعرفة البشرية مرت بثلاث مراحل متصلة (لاهوتي، ميتافيزيقي وأخيرا علمية أو وضعية) كما يرون أن المعرفة العلمية لم تنشأ من عدم بل هي حصيلة تطور لمعارف عامية وخبرات شخصية ذاتية، فالكيمياء مثلا التي أسس لافوازيه هي امتداد لفكر الشعوذة والسحرة المصريين وعلم الفلك هو امتداد لعلم التنجيم، إلى غير ذلك من العلوم.
إضافة إلى هذا يستدلون بالتطور التدريجي للمنهج العلمي وطريقة انتشاره".[17] إذ يرون أنه لا يوجد فرق جوهري بين المعرفتين؛ يقول ماكس بلانك: "لا فرق في الطبيعة بين الاستدلال العلمي والاستدلال العادي اليومي، وإنما الفرق بينهما في درجة النقاء والدقة وهذا شنيه شيئا ما بالاختلاف بين المجهر والعين المجردة"[18] . فالمنهج العلمي الاستقرائي الحديث تمتد جذوره في الماضي، وقد تمَّ انتشاره واستيعابه شيئاً فشيئاً عن طريق علماء متخصصين في العلوم الطبيعية ولاسيما في علم الفيزياء.
أما من حيث لغة العلم، فيرى أنصار الاستمرارية أنها استمرار للغة العامة، مع تميز لغة العلم من هذه الأخيرة بطابعها الرمزي.
أنصار الانفصال والقطيعة:
أهم ممثليه غاستون باشلار وتوماس كوهن Th.Cohen، ولوي ألتوسير Louis Althusser، وميشيل فوكو Foucault. يؤكدون على الانفصال المطلق بين المعرفتين، ويرون أن تاريخ العلم تاريخ قطْعٍ بين المعارف العلمية البالية والمعارف الباقية. والذي يفصل بين هذين النمطين من المعرفة العلمية هو مفهوم القطيعة الإبستيمولوجية، فالمعرفة العلمية ليست امتداداً للمعرفة العامية، بل هي انتقال من التجربة إلى «العقلنة» rationalisation ومن الملاحظة المضطربة إلى المعرفة الموضوعية. فبنية المعرفة العلمية تختلف جوهريا عن بنية المعرفة العامية يقول باشلار: "لابد لنا أن نقبل القطيعة بين المعرفة الحسية والمعرفة العلمية.."[19]
ولو صح أن المعرفة العلمية هي استمرار للمعرفة العامية لصح أن يكون اختراع المصباح الكهربائي استمراراً للمصباح العادي. ولكن الأمر ليس على هذا النحو، فاختراع المصباح الكهربائي ثمرة معرفة علمية بالعلاقات بين الظواهر، ودراسة وصلت مرحلة التعبير عن هذه العلاقات بصيغ رياضية.
كما أن المنهج العلمي ذاته لا يقوم على الاستمرارية، فكتاب ديكارت «مقال في المنهج» لا ينطوي اليوم على أي فائدة تذكر في البحث العلمي، كما أن منهج بيكون الاستقرائي لم يعد صالحاً في تحصيل المعرفة العلمية.
ولغة العلم - هي الأخرى - تختلف اختلافاً كلياً عن اللغة العادية، فاللغة التي تستخدمها الفيزياء ذات دلالة مختلفة عن اللغة العادية. حتى لو استعارت الفيزياء لغتها من هذه الأخيرة فلكلمة ذرّة في الفيزياء معنى مختلف عن كلمة ذرّة في اللغة العادية.
ولغة العلم ومناهجه معياران أساسيان في حدوث القطيعة الإبستيمولوجية. فلغة العلم لغة متجددة دائماً والعلم صوغ مستمر للمفاهيم والمصطلحات، إلى حد تغدو معه لغة العلم الجديدة مختلفة عن لغة العلم القديمة. فلغة المنطق الرمزية عند رَسِلْ مختلفة كلياً عن لغة منطق أرسطو، لأن لغة المنطق الرمزية لا تحتمل أكثر من معنى واحد. وقد توصل مؤسسو علم الفيزياء الحديث إلى أن المنهج الاستقرائي أصبح عاجزاً عن قراءة كتاب الطبيعة، ولهذا عولوا على المنهج الاستنباطي الرياضي. ولقد توصل نيوتن إلى نظريته في الميكانيك وقانون الجاذبية عن طريق المنهج الاستنباطي وليس عن طريق الاستقراء.
لم يكتفي رواد هذه المدرسة بدراسة العلاقة بين المعرفة العلمية والعامية فقط بل تعدوها إلى دراسة علاقة العلم بالعلم ونقصد بذلك دراسة القواعد التي يعتمدها علم معين في مرحلة ما ثم تعتمد قواعد أخرى تختلف عن الأولى اختلافا جوهريا فمثلا القواعد التي اعتمدها اينشتاين في الفيزياء تختلف من حيث المبدأ عن فيزياء نيوتن ولهذا شكلت ثورة علمية في الفيزياء.
خلاصة:
من خلال ما سبق ذكره يتضح أن دراسة تطور العلم تختلف باختلاف معيار الدراسة فإذا نظرنا إليه من زاوية وصفية تأريخية فهو امتداد للمعرفة العامية أو سابقة أما إذا نظرنا من زاوية نقدية أي من حيث المبادئ والمناهج والأدوات والنتائج فهو بناء خاص لا يشترك مع المعارف السابقة في شيء، ولكن هذا لا يعني الانتقاص من قيمة المعرفة يقول باشلار:"ومن الجلي أن لاديكارتية الإبستيمولوجيا المعاصرة لا تحملنا على تجاهل أهمية الفكر الديكارتي، كما أن اللااقليدية لا يمكن أن يجعلنا نتجاهل تنظيم الفكر الإقليدي، ولكن من الواجب على هذه الأمثلة التنظيمية المختلفة أن توحي إلينا بتنظيم أعم يشمل الفكر المتعطش"[20]
III- إنتاج المعرفة أو الصراع بين العقل والتجربة:
إذا كانت مشكلتا سيرورة العلم وتصنيفه تنتميان إلى تاريخية العلم فإن بنية المعرفة العلمية تطرح - إبستيمولوجياً - مسألة إنتاجها والعلاقة التي تقوم بين الذات والموضوع وبين العقل العالم ومعطيات الواقع، ليصار إلى تحديد دقيق للواقعة العلمية. فالعلاقة التي تقوم بين الذات والموضوع في المعرفة العلمية علاقة مركبة، فلا وجود لواقعة علمية تُسند إلى معطيات مباشرة فقط من دون مبادئ عقلية، كما أنه لا وجود لمبادئ عقلية من دون معطيات مباشرة. ولما كان العلم يهدف إلى تحقيق المعرفة النظرية، فالمعرفة العلاقة هي ثمرة العلاقة المركبة بين العقل والطبيعة.
ومن هنا تدرس الإبستيمولوجيا الدور الذي يلعبه العقل البشري في عملية إنتاج المعرفة العلمية، حيث تطرح الإشكالية التالية: هل أساس المعرفة العلمية أم التجربة الحسية هي الأساس؟.
ومن هنا فمدارس الابستمولوجيا مختلفة، فالتجريبيون يردون المعرفة إلى الحواس، والعقليون يؤكدون أن بعض المبادئ مصدرها العقل لا الخبرة الحسية، وعن طبيعة المعرفة، يقول الواقعيون إن موضوعها مستقل عن الذات العارفة، ويؤكد المثاليون أن ذلك الموضوع عقلي في طبيعته لأن الذات لا تدرك إلا الأفكار.
أ ـ النزعة التجريبية:
يذهب دعاة المذهب التجريبي إلى أن العقل صفحة بيضاء خالية من أفكار فطرية، يقول جون لوك: "لو كان الناس يولدون وفي عقولهم أفكار فطرية لتساووا في المعرفة"[21]. لذلك فالتجربة الحسية هي أساس المعرفة، ومن هنا نجد الاختلاف في عقلانية الناس، لاختلاف معرفتهم وتجاربهم، ومن هنا يظهر الدور الثانوي للعقل. ولذلك أصبحت التجربة العلمية أساس الاختبار المنطقي للظاهرة.
ب ـ النزعة العقلية:
أما العقلانيون فيرون أن العقل أساس المعرفة لأنه جوهر الفكر ومبدأه، يحتوي على أفكار فطرية تعتبر أوليات بديهية للمعرفة اللاحقة، فبالعقل تكون المعرفة يقينية أما المعرفة المستمدة من التجربة الحسية تحتمل الشك لأن الحواس تخدع يقول ليبنيتز: "أعترف بأن التجربة ضرورية، حتى يمكن للعقل أن يكون متيقنا بخصوص هذه الفكرة أو تلك، وحتى ينتبه للأفكار التي توجد بدواخلنا، لكن أن تكون الوسيلة هي أن التجربة أو الحواس يمكنها أن يعطيانا الأفكار؟ .. فلا؛ إذ لا شيء في العقل مما يأتي من الحواس غير العقل ذاته" ويضيف ديكارت "لا تقدم لنا الحواس لنا أية فكرة عن الأشياء كما نصوغها نحن بواسطة العقل....وحتى إذا كانت الصورة تقابل شيئا ما فهذا لا يعني أنها إعادة إنتاج له، وذلك ليست أكثر من أن صورة الشمس التي تقترحها علينا نظرتنا البصرية ليست إعادة إنتاج لشمس المعروفة عن طريق علم الفلك"[22].
خلاصة:
إذا تفحصنا كلا من الرأيين نظرة نقدية يمكن أن نقول أن الأولى عملت على تجاهل دور العقل في عملية الفهم والتفسير لما تلتقطه الحواس، فبدونه لا يمكن فهم الحوادث، أما الاتجاه الثاني فقد أعطت العقل قيمة أكثر مما يجب أن يكون، ففي كثير من الأحيان يقف العقل عاجزا أمام الكثير من الحوادث العلمية دون أن يجد لها تفسيرا، رغم ثبوتها تجريبيا مما يعطي قيمة للمعرفة الحسية. ومن هنا ولتجاوز هذه الجدلية القائمة يمكن أن نقول أن العلاقة بين العقل الحسي والعقل التجريبي هي علاقة تساند وليست علاقة تعارض أو تناقض فالمعرفة العلمية اليوم تعتمد على التجربة لكن لأن التجربة هي أساس اليقين لأن التجربة في حد ذاتها تعتمد على العقل والتخيل ووضع فروض…، وكل هذا لا يكون إلا بالاستعانة بالعقل، يقول باشلار "إذا جاز لنا أن نترجم إلى اللغة الفرنسية تلك الحركة المزدوجة التي تغذي الفكر العلمي، في الوقت الراهن، قلنا إنها حركة تتأرجح لزوما بين ما هو قبلي وما هو بعدي، حركة ترتبط فيها النزعة التجريبية بالنزعة العقلانية في الفكر العلمي ارتباطا غريبا لا يقل قوة عن ارتباط اللذة بالألم. والواقع أن مل واحد منهما تعزز الأخرى وتبررها: إن النزعة التجريبية في حاجة إلى أن تتعقل، والنزعة العقلانية في حاجة إلى أن تطبق"[23].
فخلال عملية التجريب يقوم الباحث بتأثير في الظاهرة من خلال إزاحة الصفات السطحية غير المهمة ووضع فرضيات علمية عما هو أساسي وغير أساسي في حدوثها، قصد الوصول إلى وصف علمي لها. وعليه فالتفسير العلمي للظاهرة أصبح يعتمد على إعادة تركيب وبناء للمتغيرات التي تؤثر فيها، باختصار الاعتماد على تخيل مسبق أو فرضيات لها.
ففي الفيزياء والكيمياء المعاصرتين لم تعد ظواهر العالم الخارجي - بوصفها معطيات مباشرة - هي موضوع المعرفة العلمية، بل تلك الموضوعات المعقدة التي نشأت بفعل تركيب دقيق وعميق من قبل العالِم المسلح بتقنية عالية، من دون أن هذه الموضوعات واقعيتها ونتيجة لذلك لم تعد الواقعة العلمية مجرد ظاهرة خاصة، بل هي ثمرة تدخل نشط وفعّال لذات تتصف بالقدرة على التخيّل. فكل كشف أو توسع في المعرفة العلمية يبدأ، بوصفه تصوراً خيالياً قبْلياً لما يمكن أن تكون عليه الحقيقة العلمية. ولا يمكن فهم عمل الخيال إلا من حيث هو إعمال العقل أو استخدام الحواس.
غير أن العالِم لا يستطيع أن يحوّل حدسه أو خياله إلى إبداع علمي من دون المثابرة العلمية، فيوحد، على نحو أصيل، الحدس والاختبار والموضوعية وسعة الأفق.
http://www.namespedia.com/index.php
IV- عائق المنهج:
· المنهج[24]: المنهج هو الطريقة التي يعتمدها الباحث للوصول إلى هدفه المنشود ، و أن وظيفته في العلوم الاجتماعية هي استكشاف المبادئ التي تنظم الظواهر الاجتماعية و التربوية ، و الإنسانية بصفة عامة و تؤدي إلى حدوثها حتى يمكن على ضوئها تفسيرها و ضبط نتائجها و التحكم بها.
· الخطوات المنهجية العلمية: يتخطى الهدف الرئيسي لأي بحث علمي مجرد وصف المشكلة أو الظاهرة موضوع البحث الذي فهمها وتفسيرها،وذلك بالتعرف على مكانها من الإطار الكلي للعلاقات المنظمة التي تنتمي إليها،وصياغة التعميمات التي تفسر الظواهر المختلفة،هي من أهم أهداف العلم، وخاصة تلك التي تصل إلى درجة من الشمول ترفعها إلى مرتبة القوانين العلمية والنظريات. إن تفسير الظواهر المختلفة تزداد قيمته العلمية إذا ساعد الإنسان على التنبؤ، ولا يقصد بالتنبؤ هنا التخمين الغيبي أو معرفة المستقبل، ولكن يقصد به القدرة على توقع ما قد يحدث إذا سارت الأمور سيرا معينا، وهنا يتضمن التوقع معنى الاحتمال القوي. كما أن أقصى أهداف العلم والبحث العلمي هو إمكانية "الضبط" وهو ليس ممكنا في جميع الحالات، وتعتمد جميع العلوم في تحقيق الأهداف الثلاثة، المشار إليها سابقا(التفسير التنبؤ، الضبط)على الأسلوب العلمي.
· المنهج عند فرانسيس بيكون:[25] شهد القرن السابع عشر تغييرات هامة في طريقة تفكير الكثيرين وذلك راجع إلى الضغوط القوية المستحدثة التي أثرت على بناء الفكر وتلاحمه، هذه الضغوط أثرت في طريقة التفكير ولم يكن أمام الفلسفة خيار سوى الاستجابة واستيعاب أكثر قدر من الأفكار والمعلومات والحقائق الجديدة. ولهذا الغرض ابتدأت بالشك، لأن التفكير العلمي الفعال يبدأ من الشك لا من الإيمان. ويعتبر بيكون من أوائل الذين دعوا إلى تحرير الفكر والاصطباغ بالروح العلمية في يقول بيكون: إن إفساح المجال أمام الشك له فائدتان، الأولى تكون كالدرع الواقي للفلسفة من الأخطاء والثانية تكون كحافز للاستزادة من المعرفة.
وقد أدرك بيكون بأن العيب الأساسي في طريقة التفكير لدى فلاسفة اليونان والعصور الوسطى إذ ساد الاعتقاد بأن العقل النظري وحده كفيل بالوصول إلى العلم، ورأى أن الداء كله يكمن في طرق الاستنتاج القديم التي لا يمكن أن تؤدي إلى حقائق جديدة، فالنتيجة متضمنة في المقدمات. فثار ضد تراث أفلاطون وأرسطو بأسره، وليس هناك أمل في تقدم العلوم خطوة واحدة إلا باستخدام طريقة جديدة تؤدى إلى الكشف عن الجديد وتساعد على الابتكار لما فيه خير الإنسانية. وقد حمل الفلسفة التقليدية وزر الجمود العلمي والقحط العقلي ويستغرب عجزها عن الإسهام الفاعل في رفاهية الإنسان وتقدمه وسعادته. وقد اعتقد بيكون أنه قد وجد الطريقة الصحيحة في الصيغة الجديدة التي وضعها للاستقراء، ويقصد به منهج استخراج القاعدة العامة (النظرية العلمية) أو القانون العلمي من مفردات الوقائع استنادا إلى الملاحظة والتجربة.
أراد بيكون أن يضع نظرة جديدة إلى الطبيعة، فالأشياء تظهر لنا أولا في الضباب نسميه في أغلب الأحيان مبادئ وهي مجرد مخططات عملية تحجب عنا حقيقة الأشياء وعمقها.ورأى أنه يجب أن تكون للإنسان عقلية عملية جديدة، يكون سبيلها المنهج الاستقرائي الذي يكون الهدف منه ليس الحكمة أو القضايا النظرية بل الأعمال، والاستفادة من إدراك الحقائق والنظريات بالنهوض في حياة الإنسان وهذا ما عبر عنه بقوله: "المعرفة هي القوة". تتجلى فكرة بيكون في مقولته بأن المعرفة ينبغي أن تثمر في أعمال وان العلم ينبغي أن يكون قابلا للتطبيق في الصناعة، وأن على الناس أن يرتبوا أمورهم بحيث يجعلون من تحسين ظروف الحياة وتغييرها واجبا مقدسا عليهم.
· المنهج الجديد:
كان بيكون يرى أن المعرفة تبدأ بالتجربة الحسية التي تعمل على إثرائها بالملاحظات الدقيقة والتجارب العملية، ثم يأتي دور استخراج النتائج منها بحذر وعلى مهل ولا يكفي عدد قليل من الملاحظات لإصدار الأحكام، وكذلك عدم الاكتفاء بدراسة الأمثلة المتشابهة بل تجب دراسة الشواذ من الأمور الجوهرية في الوصول إلى قانون عام موثوق به يقول بيكون: إن الاستنباط الذي يقوم على استقراء أمثلة من طراز واحد لا يعتد به وإنما هو ضرب من التخمين، وما الذي يدلنا على استقصاء البحث وعموم القانون وقد تكون هناك أمثلة لا تشترك مع البقية في الخصائص، وهذه لا بد من دراستها؟ وقد دفع به هذا الموقف إلى نقد المدرسيين والقدماء لاكتفائهم بالتأمل النظري حول الطبيعة دون أن يعنوا بملاحظة ظواهرها. ومن ثم فإن الفلسفة الحقة – في نظره- يجب أن تقوم على أساس من العلم وتستمد نتائجه القائمة على الملاحظة والتجربة. فيجب على العلم الطبيعي إذن احترام الواقع الحسي إلى جانب الذهن في تخطيطه للطبيعة. وهذه هي أسس النظرية المنطقية الجديدة، التي استند إليها بيكون في دعوته إلى ضرورة إصلاح المنطق الصوري الأرسطي وتعديله والاستعاضة عنه بمنطق جديد يمهد السبيل أمام الإنسان لكي يستطيع بواسطته الكشف عن ظواهر الطبيعة والسيطرة عليها، أي انه يريد استبدال منهج البرهان القياسي بمنهج الكشف الاستقرائي. يرى بيكون أنه إذا أردنا الوصول إلى الهدف المنشود فلا بد من مراعاة شرطين أساسيين وهما:
ü شرط ذاتي يتمثل في تطهير العقل من كل الأحكام السابقة والأوهام والأخطاء التي انحدرت إليه من الأجيال السالفة.
ü شرط موضوعي ويتمثل في رد العلوم إلى الخبرة والتجربة وهذا يتطلب معرفة المنهج القويم للفكر والبحث، وهو ليس إلا منهج الاستقراء. وليس المنهج هدفا في حد ذاته بل وسيلة للوصول إلى المعرفة العلمية الصحيحة، إذ أنه - كما يقول بيكون - بمثابة من يقوم بإشعال الشمعة أولا ثم بضوء هذه الشمعة ينكشف لنا الطريق الذي علينا أن نسلكه حتى النهاية.
قواعد منهج الاستقراء:
ü جمع الأمثلة قدر المستطاع.
ü تنظيم الأمثلة وتبويبها وتحليلها وإبعاد ما يظهر منها انه ليس له بالظاهرة المبحوثة علاقة عله ومعلول.
وهكذا يصل إلى صورة الظاهرة والتي تعني عند بيكون: قانونها أساس طريقة الاستقراء لدى بيكون هي أن يتجرد الإنسان من عقائده وآرائه الخاصة، ويطرق باب البحث مستقلا، ويتلمس الحكمة أنى وجدها ويتذرع بجميل الصبر وطول الأناة حتى يأمن العثرة. ويتمثل في الكشف عن المنهج العلمي القويم وتطبيقه وإخضاع كل قول مهما كان مصدره للملاحظة والتجربة، فالإنسان لن يستطيع أن يفهم الطبيعة ويتصدى لتفسير ظواهرها إلا بملاحظة أحداثها بحواسه وفكره.
خاتمة
إن المسائل التي ذكرت. والتي تعالجها الإبستيمولوجية، تجعل القول صحيحاً بأن هناك إبستيمولوجية عامة. موضوعها العلم من دون تمييز العلوم الطبيعية من العلوم الإنسانية.
واستناداً إلى ذلك، فإن الإبستيمولوجية[26] مع كونه مبحثاً حاز على استقلاله النسبي في السنوات الأخيرة، تظل مبحثاً فلسفياً. خاصة لأنها تسعى إلى صوغ نظرية عامة في المعرفة العلمية. ولا أدل على ذلك من محاولة جان بياجيه إشادة نظرية في التكوين النفسي للعلم.
ومما يؤكد انتماء الإبستيمولوجية إلى الفلسفة، تحولها إلى علم معياري، وهي تعالج مسائل العلم. لأن السؤال الأساسي الذي يكون خلف معالجاتها هو: ماذا يجب أن يكون عليه العلم؟.
غير أن الإبستيمولوجية العامة لا تنفي وجود مشكلات إبستيمولوجية لزمرة من العلوم أو لعلم جزئي. ومن ثم فإن هناك إبستيمولوجية خاصة وإبستيمولوجية جزئية، إلى جانب الإبستيمولوجية العامة.
فإبستيمولوجية العلوم الطبيعية، تتساءل: ما طبيعة القانون في هذه العلوم؟ ما دور مقولات الحتمية والمصادفة والاحتمال والغائية؟
كما أن هناك مشكلات خاصة بالعلوم الإنسانية: كالموضوعية والفهم والتفسير والجانب الأيديولوجي لأحكامها. والعلاقة بين المنطقي والتاريخي في المعرفة الإنسانية، وإمكانية قيام نظرية اجتماعية، وهل هناك ملامح قانونية عامة في السيرورة الاجتماعية أم أن الواقعة الاجتماعية واقعة فذة؟.
إن هذه المشكلات وغيرها هي موضع الإبستيمولوجية الخاصة بالعلوم الإنسانية. لكن العلوم الجزئية تواجه هي الأخرى مشكلات خاصة بها، بسبب استقلالها النسبي.
.
قائمة المراجع
1. أحمد برقاوي http://www.arab-ency.com/index.php 26/01/2008
2. http://ar.wekipedia.org/wiki 09/12/2007
3. http://www.namespedia.com/index.php 09/12/2007
4. http://membres.multimania.fr/minbar/corsraison.htm 09/12/2007
5. http://maarifa1.blogspot. Com/2007/12/blog-post-11.HTML 20/01/2008
6. ربيعة الشبة: مفهوم الواقع عند غاستون باشلار http://www.w3.org/TR/REC-HTML/40/ 28/01/2008
7. عبد الله هادي: مفهوم العائق http://abdullahhadi.mactoobblog.com 28/01/2008
8. منهجية تدريس علوم الأرض htttp://darsvt.voila.fr 20/01/2008
9. المعرفة في الفكر العربي htttp://WWW.ANTOMLIFE.COM/IOL-ARABIC/GIF/NN2.JPG /19/01/2008
10. مجلة المستقبل العربي، مركز الوحدة العربية، العدد 146، 1991
11. علم الاجتماع بين الالتزام والأدائية، عبد الرزاق جلالي مجلة المجتمع، وحدة البحوث والدراسات في علوم الإنسان، المعهد الوطني للتعليم العالي ـ قالمة ـ العدد 1، 1990
الهوامش:
[1] http://www.arab-ency.com/index.php