أذربيجان في لعبة الكبار الجيوسياسية: من هنا يبدأ الصراع على أنابيب النفط
الخميس, 27 أيار/مايو 2010 02:00 | الكاتب: Administrator |
|
|
باكو – وسام متى
"السفير" – 27/5/2010
ينطلق أنبوب ضخم من مصب سانغاشال النفطي على بعد نحو خمسة وأربعين كيلومتراً من باكو. يمتد هذا الأنبوب في جوف الأرض على مسافة 1768 كيلومتراً، لينقل الذهب الأسود الذي تنتجه أذربيجان بوفرة من بحر قزوين باتجاه الأراضي الجورجية، ومنها إلى ميناء جيهان النفطي على البحر الأبيض المتوسط، راسماً في مساره ملامح الصراع الدولي المعاصر في آسيا الوسطى.
ومنذ تدشينه قبل أربعة أعوام، أصبح خط "باكو - تبليسي - جيهان" بمثابة طوق النجاة للأوروبيين، لما يمثله من خيار بديل للقارة الزرقاء في مجال إمدادات الطاقة، نظراً لكونه أحد الطرق المهمة لكسر الاحتكار الروسي في هذا المجال، أو بمعنى آخر أفضل السبل الممكنة للتخفيف من التداعيات الكارثية لأي نزاع محتمل بين موسكو، الطامحة إلى الحفاظ على هيمنتها الاقليمية، وبين جمهوريات القوقاز وآسيا الوسطى التي كانت تدور يوماً ضمن الفلك السوفياتي.
ولعل ما حدث خلال السنوات الماضية من أزمات محورها الخلاف حول تعرفة نقل النفط والغاز بين روسيا وأوكرانيا، قد دفع بالأوروبيين إلى البحث عن خطوط جديدة، كان أولها خط "باكو - تبليسي - جيهان"، الذي يوفر للغرب ما يقارب مليون برميل من النفط يومياً، وخط "نابوكو"، الذي جرى التوقيع على اتفاق بشأنه العام الماضي، ومن شأنه أن يشكل ضمانة أكيدة لإمدادات الغاز إلى أوروبا في حال تمكّن القيمون على هذا المشروع من تخطي العقبات التي تعترضهم، وأهمها مشكلة إيجاد مصادر جديدة للغاز الطبيعي، وذلك بالنظر إلى الضغوط السياسية والاقتصادية التي تمارسها موسكو على الدول المنتجة في القوقاز وآسيا الوسطى.
في مقر بعثة المفوضية الأوروبية في وسط باكو، التي كانت المحطة الأولى من الجولة التي قام بها المشاركون في ورشة العمل التي نظمتها "شبكة الصحافيين للجوار الأوروبي" حول قطاع الطاقة في أذربيجان، بدا السفير الأوروبي رولان كوبيا أشبه بقائد ميداني يشرح لضيوفه إستراتيجية الاتحاد الأوروبي في مجال الطاقة، وهي خطة تهدف بشكل أساسي إلى ضمان إمدادات النفط والغاز، وذلك من خلال تنويع مصادر الحصول على الطاقة، والبحث عن بدائل عديدة لطرق نقلها.
ويتضح من هذه الخطة أنّ الأوروبيين يسعون لإفقاد موسكو ورقة الضغط التي برعت في استخدامها خلال السنوات الماضية. فعدا المنافسة الكبرى بين خطي "باكو - تبليسي - جيهان" و"دروجبا"، يدور الحديث اليوم عن منافسة أكثر حدة بين خطي "نابوكو" الأوروبي و"جنوب القوقاز" من جهة، و"التيار الشمالي" الروسي من جهة ثانية. لكن كوبيا يؤكد – بحنكته الدبلوماسية – أن لا تعارض بين كل هذه المشاريع، خاصة أنها تهدف إلى تحقيق غاية واحدة وهي ضمان امن الطاقة.
على مقربة من مقر الدبلوماسية الأوروبية، التقى صحافيو الجوار الأوروبي بنائب رئيس شركة النفط الوطنية في أذربيجان ("سوكار")، إلشاد نازيروف، الذي أكد، بصراحة ووضوح، أن شركته "لا تعمل وفق معايير سياسية بل تجارية". فـ"سوكار"، بحسب نازيروف، تطمح إلى تحقيق فائض من الأرباح يؤمن النمو والازدهار للبلاد، وبالتالي فإن "ما يهمها هو التعامل مع من يريد التعاون، ومن باستطاعته أن يدفع أكثر". ولعل صراحة نازيروف، في خطوطها العريضة، تشكل عاملاً محفزاً لتنافس شديد بين روسيا والغرب للحصول على اكبر حصة من الكعكة النفطية الأذرية.
ولكن تلك المنافسة لا تقتصر فقط على الثنائي روسيا - أوروبا، فـ"اللعبة الكبرى الجديدة" – وهي التسمية التي تطلق على الصراع الجيوسياسي في أوراسيا – تمتد إلى دائرة أكثر اتساعاً لتصل إلى منطقة الشرق الأوسط ومناطق أخرى في آسيا الوسطى. ولا يخفى على احد أن النفط كان المحرّك الرئيسي للاحتلال الأطلسي لأفغانستان، وهو ما تؤكده وقائع عديدة بينها انخراط مسؤولين في شركات النفط الأميركية - أمثال زلماي خليل زاد – في الحياة السياسية في أفغانستان، سواء قبل الغزو أو بعده، وما يطرح من استثمارات جديدة في قطاع الطاقة في آسيا الوسطى، لعل أبرزها خط "عبر القزوين"، الذي سينقل النفط والغاز الطبيعي من تركمانستان إلى أذربيجان، وخط "عبر أفغانستان"، الذي سيمتد من تركمانستان إلى باكستان والهند مروراً بالأراضي الأفغانية.
الشرق الأوسط
وفي الشرق الأوسط، تعدّ إسرائيل عدتها للدخول في تلك "اللعبة النفطية الجديدة". والواقع أن الدولة العبرية كانت قد سربت منذ افتتاح مشروع "باكو - تبليسي - جيهان" الذي تزامن مع بدء الحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز العام 2006- معلومات مفادها أنها ستكون شريكا أساسياً في هذا المشروع، عبر إقامة شبكة أنابيب للغاز والنفط بين مرفأي جيهان وعسقلان، على أن يترافق ذلك مع تفعيل خط أنابيب عسقلان - إيلات، وهو مشروع كان قد أبرم بين إسرائيل ونظام الشاه في إيران قبيل اندلاع الثورة الإسلامية، وهو لا يزال موضع نزاع دولي بين الدولتين اللدودتين.
ومن شأن هذا المشروع، في حال تم إطلاقه، أن يسهل نقل النفط بحراً من القوقاز باتجاه دول جنوب شرق آسيا ذات الاقتصاديات الصاعدة، علماً بأنّ طريق "جيهان - عسقلان - إيلات" اقصر بكثير من المسار التقليدي لتجارة النفط، الذي يمر عبر قناة السويس، وبذلك فإنه سيوفّر ما لا يقل عن دولارين من كلفة نقل النفط إلى الدول الآسيوية، وهو خيار يبدو مغرياً بالنسبة لشركات النفط في ظل التقلبات المستمرة في الأسعار.
لا احد في باكو ينفي أو يؤكد وجود هذا المشروع، الذي يرى المحلل السياسي في مركز الدراسات "غلوبال ريسيرتش" ميشال شوسودوفسكي انه كان المحرك الأول للحرب الإسرائيلية على لبنان في صيف العام 2006، وعملية "الرصاص المسكوب" في قطاع غزة في شتاء العام 2009، اللتين كان الهدف الاستراتيجي منهما "عسكرة البحر الأبيض المتوسط"، سواء في لبنان، عبر الانتشار المكثف لبحرية "اليونيفيل" في المياه الإقليمية، أو في غزة بعد تشديد الحصار الإسرائيلي على القطاع.
كوبيا، الذي بدا أكثر دبلوماسية في الرد على سؤال لـ"السفير" حول هذا الموضوع، استبعد وجود أي صلة بين مشروع "جيهان - عسقلان - إيلات" الذي يدور الحديث حوله منذ نحو أربعة أعوام، ومقولة "عسكرة البحر المتوسط"، رغم إشارته إلى اهتمام العديد من القوى الدولية، بما في ذلك حلف شمال الأطلسي، بحماية أمن شبكة أنابيب النفط.
وبحسب كوبيا فإنّ لا خطر أصلاً على أمن أنابيب الطاقة في المنطقة العربية، إذ يشير إلى أنّ "خط الغاز العربي - الأوروبي يعمل بشكل جيّد، ولم يتعرض حتى الآن لأي هجوم". لا بل يرى أنّ إقامة مشاريع مشتركة في مجال الطاقة من شأنها أن تشكل عامل استقرار في الشرق الأوسط، بما يسهم في حل النزاعات القائمة في المنطقة.
من جهته، يؤكد الخبير في قطاع النفط إلهام شعبان لـ"السفير" أن "إسرائيل اقترحت خطة للربط بين خطي (باكو - تبليسي - جيهان) و(عسقلان - إيلات)، غير أن أذربيجان أعطت رداً دبلوماسياً، أكدت فيه أنها لن تعارض مشروعاً كهذا في حال وجدت شركات النفط الكبرى مصلحة فيه. وكل ذلك يعني أن إسرائيل قد خططت منذ البداية لكي تصبح دولة ترانزيت في مجال الطاقة".
وحول احتمالات نجاح هذا المشروع، يشير شعبان إلى أنّ "أذربيجان تصدّر النفط الخفيف، وهو من أفضل أنواع النفط في العالم، ولهذا فإن الشركات الكبرى في أوروبا وأميركا الشمالية تتنافس للحصول عليه، ما يجعلها تحظى بحصة الأسد من النفط الأذري. أما دول جنوب شرق آسيا، كالهند واندونيسيا وسنغافورة فلا تستورد سوى 10 في المئة من نفط أذربيجان، وبالتالي فإن المشروع الذي تقترحه إسرائيل يبدو غير مجد من الناحية الاقتصادية". ولعل شعبان يتفق مع مقولة "عسكرة المتوسط لأغراض النفط"، وإن تلميحاً، حيث يرى أنّ "الصراع حول ممرات النفط ليس ظاهرة جديدة في العالم".
وخلافاً لرأي شعبان، قالت المسؤولة الإعلامية في شركة "بي بي" البريطانية (الجهة المشغلة لخط باكو - تبليسي - جيهان) تمام باياتلي لـ"السفير" إن "توسيع هذا الخط نحو إسرائيل أمر يعني الحكومتين الأذرية والإسرائيلية"، موضحة "لا توجد أي خطط توسعية محددة في هذه المرحلة"، وهو ما ذهب إليه نازيروف الذي أوضح أنّ "لا شيء مطروحاً على أرض الواقع حتى الآن في ما يتعلق بالتوسع نحو إسرائيل".
ولعل التداعيات الخطيرة لهذا المشروع تشكل مصدر قلق بالنسبة لمصر، التي يعتمد اقتصادها بنسبة لا بأس بها على عائدات "الترانزيت" في قناة السويس. ولهذا السبب تتجه القاهرة إلى تسريع مشروع "الخط العربي" لنقل الغاز، وهو ما أكده وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط خلال مشاركته في الاجتماع التاريخي لإطلاق خط "نابوكو". ويندرج في هذا الإطار أيضاً الاتفاق المبدئي الذي أبرمته "سوكار" مع "شركة النفط السورية" لنقل الغاز الأذري من باكو إلى دمشق.
الدائرة تتسع، لكنها تدور حول محور واحد. فأذربيجان تبدو اليوم في قلب الصراع الدولي على أنابيب النفط ومصادر الطاقة في آسيا الوسطى. قد يمثل هذا التنافس محفزاً رئيسياً للنمو الاقتصادي في تلك الدولة التي ما زالت في ربيعها الثامن عشر، لكن اللعب مع الكبار قد يجلب بدوره ما هو أسوأ، خاصة أن تجربة جورجيا ما زالت ماثلة في أذهان القوقازيين.