منفعة متبادلة: دور العسكريين في التنمية وأثره علي التحول السياسي
المصدر: السياسة الدولية
بقلم:
محمد عبدالله يونس صمويل هنتجتون، احد اشهر اساتذة العلوم السياسية الذين اسهموا فى تحليل العلاقة بين العسكر والدولة فى كتابةthe soldier and The State |
|
ارتبطت بداية التنظير لوظائف المؤسسة العسكرية بتطور المهنية، وتحول الخدمة العسكرية إلي أحد واجبات المواطنة، بما حولها من ظهير للحاكم إلي دعامة مجتمعية، وعزز ذلك التحول نشأة الدولة القومية منذ معاهدة صلح وستفاليا عام 1648، وتأسيسها جيوشا نظامية كونت جماعات مهنية مستقلة، وقيام الثورة الصناعية، وما أفرزته من طفرة في تكنولوجيا التسلح، وتصاعد الحاجة لإكساب العسكريين معرفة تخصصية للتعامل معها، وما ترتب علي ذلك من تطبيق مبادئ التخصص، وتقسيم العمل، وتقسيم القوات المسلحة إلي وحدات متمايزة في مهامها العسكرية، بما حقق الترابط بين المؤسسة العسكرية، والتنمية الاقتصادية، والتحول السياسي في الدول المتقدمة(1).
وجاءت موجات التحرر من الاستعمار في الدول النامية، وقيام نظم للحكم العسكري في عديد منها لتؤسس نموذجا تؤدي المؤسسة العسكرية في إطاره أدوارا مدنية تتجاوز الخطوط الوظيفية المحددة للاحتراف العسكري، وفق النظريات الليبرالية التقليدية. بيد أن تفاوت حدود ومآلات التوسع في أدوار المؤسسة العسكرية أفرز جدلا نظريا واسع النطاق، حول محفزات وأنماط الدور التنموي للمؤسسة العسكرية وتداعياته علي مسار عملية التحول الديمقراطي في تلك الدول، لا سيما مع انهيار النظم الشمولية والسلطوية في موجات متتابعة، وفي ضوء ما أفرزته ثورات الربيع العربي من تحولات هيكلية في بنية النظم السياسية في الدول النامية، وموقع المؤسسة العسكرية داخل كل منها.
أولا- الجدل النظري حول الدور التنموي للعسكريين:
تؤدي الدولة، وفق تعريف تشارلز تيلليCharles Tilly ، سبع وظائف رئيسية، هي: بناء الأمة، وشن الحرب، والحماية، والتحكيم، واستخراج الموارد، وتوزيعها، والإنتاج. وتتطلب هذه الوظائف قيام مؤسسات الدولة بتحقيقها(2)، ومن ضمنها المؤسسة العسكرية التي احتدم الجدل حول حدود دورها المجتمعي، باعتبارها مركز القوة الأكثر رسوخا في أي دولة.
وفي هذا الصدد، تناولت الدراسات النظرية الدور التنموي للعسكريين من عدة منظورات، أولها يركز علي مفهوم العمل المدني Civic Action بمعني أداء مهام غير قتالية لبناء الاقتصاد المدني، والثاني يركز علي مفهوم امتداد الدور Role Expansion بمعني تغلغل العسكريين في القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، بعيدا عن وظيفتهم العسكرية، وأخيرا مفهوم بناء الأمة Nation Building الذي يركز علي قيام المؤسسة العسكرية بوظائف ربط المجتمع بالدولة، وسد الاحتياجات المجتمعية في مراحل ما بعد الاستقلال والصراعات الأهلية(3). وفي هذا الإطار، يتمحور الجدل النظري حول الدور التنموي للمؤسسة العسكرية حول ثلاثة اتجاهات رئيسية:
1- النظرية المؤسسية التقليدية: يرتبط هذا الاتجاه بأدبيات النظريات التقليدية في العلاقات المدنية - العسكرية التي تركز علي تحجيم الدور السياسي للمؤسسة العسكرية، والتزامها بالاحترافية العسكرية، بمعني تعزيز تخصص العسكريين في الشئون العسكرية، مقابل خضوعهم لسيطرة السياسيين المدنيين الذين يصلون للسلطة بصورة شرعية(4). حيث يري هنتنجتون أن الحرب الباردة والتهديد السوفيتي أديا لمنح العسكريين مستوي مرتفعا من الموارد والاختصاصات، بما عدَّه تهديدا لليبرالية المجتمع الأمريكي(5). وإجمالا، يري منظرو هذا الاتجاه أن كل توسع في دور المؤسسة العسكرية Role Expanison يعني تغلغلا اقتصاديا واجتماعيا للمؤسسة العسكرية يمكن أن يتحول إلي تدخل سياسي يتعارض مع الاحتراف العسكري، والحياد السياسي المفترض والسيطرة المدنية.
2- نظريات الدور المجتمعي للعسكريين: تركز هذه الاجتهادات النظرية علي الروابط الوثيقة بين المؤسسة العسكرية والمجتمع، ومكامن القوي التنظيمية والبشرية والتكنولوجية لديها، بما يجعل تدخلها لأداء مهام تنموية ترتبط ببناء الدولة منطقيا، خاصة المنظرين الذين درسوا حالات الدول النامية بعد الاستعمار، والتي اتسمت مؤسساتها بضعف التنمية والتحديث، وتلك التي تأسست في محيط عدائي يموج بالتهديدات. حيث يشير موشيه ليزاك ودان هورويتز إلي التماهي بين المؤسسة العسكرية والمجتمع باعتبارها أداة مجتمعية في مواجهة تحديات التنمية والتهديدات الخارجية، بحيث تتحول المؤسسة العسكرية إلي "جيش الموطن" Citizenصs Army الذي يشهد تماهيا لخطوط الفصل بين المؤسسة العسكرية والمجتمع(6).
ويري منظرو هذا الاتجاه ضمن مدرسة التحديث مثل لوشيان باي أن المؤسسة العسكرية، بما تملكه من موارد بشرية وتنظيمية وتكنولوجية، الأقدر علي دفع التنمية الاقتصادية، وبناء مؤسسات الدولة في الدول النامية، وهو ما يرتبط باجتهادات صمويل فينر حول محفزات التدخل السياسي للعسكريين، لا سيما مؤسسية التنظيم العسكري، والتضامن بين العسكريين في إطار الانتماء لجماعة مهنية متماسكة Syndicalism تقوم علي الهيراركية، وطاعة السلطة، والمؤسسية، بما يجعلهم أقدر علي حسم تحديات التنمية وصراعات السلطة لصالحهم(7).
3- نظريات التحول الوظيفي: يري أنصار هذا الاتجاه أن مهام ووظائف المؤسسة العسكرية قد تغيرت كلية بعد نهاية الحرب الباردة، حيث انحسرت الصراعات بين الدول، وباتت الصراعات الأهلية النمط الأكثر شيوعا بما فرض علي المؤسسة العسكرية أداء وظائف جديدة مثل بناء الدولة، والبنية التحتية، وحفظ السلام، وتوفير الخدمات، والتدخل للعمليات الإنسانية لإنقاذ ضحايا الكوارث الطبيعية، وغيرها من المهام غير التقليدية(
.
وفي هذا الإطار، يطرح بعض المنظرين نماذج نظرية للتوسع في وظائف المؤسسة العسكرية علي غرار النموذج الوظيفي لتشارلز موسكوز الذي يري أن الجيش تحول من مؤسسة لها هيكل منفصل وقواعد تنظيمية إلي مجموعات من الوظائف والمهام، يضطلع بها المجتمع للحفاظ علي بقاء الدولة دون كونه مؤسسة، بما يعزز من مقولات الاندماج بين المؤسسة العسكرية والمجتمع والأدوار التنموية والاقتصادية للمؤسسة العسكرية، خاصة في ظل تراجع التهديدات المرتبطة بالمواجهات العسكرية التقليدية(9).
ثانيا- محفزات الدور التنموي للعسكريين:
يعزي تصاعد الأدوار التنموية للمؤسسة العسكرية في الدول النامية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية موجة التحرر من الاستعمار، إلي ما يراه إدوارد ليتواك Edward Luttwak توافر مجموعة ظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية، تزيد من احتمالات التوسع في دور المؤسسة العسكرية، مثل حدوث أزمة اقتصادية حادة بتداعيات اجتماعية معقدة، يترتب عليها تصاعد في احتياجات المجتمع، أو خلل مؤسسي في أداء وظائف التنمية، أو قيام نظام للحكم العسكري لحسم الصراعات السياسية والحزبية لصالح التنمية(10). وإضافة إلي هذه الأسباب، فإن تدخل العسكريين سياسيا يرتبط بتوافر مجموعة أخري من العوامل تتمثل فيما يلي:
1- بنية النظام السياسي: تشير الأدبيات إلي أن النظم السلطوية غير الديمقراطية التي تتسم بمركزية السلطة تميل إلي توسيع مساحة مشاركة المؤسسة العسكرية في الاقتصاد، تدعيما لنموذج التنمية القائم علي دور مركزي للدولة في الاقتصاد، واستغلالا لموارد المؤسسة العسكرية. وتعد النظم الاشتراكية الأكثر اعتمادا علي المؤسسة العسكرية لأداء أدوار اقتصادية لتوافق المنظومة القيمية لتلك النظم مع دعائم المؤسسة العسكرية القائمة علي الهيراركية، وطاعة السلطة، والإنجاز، والتنظيم، والحشد(11).
2- تصاعد الاحتياجات الاجتماعية: يترتب علي تصاعد احتياجات المجتمع من السلع والخدمات، وعدم قدرة الدولة علي الوفاء بالحد الأدني من تلك الاحتياجات، في ظل ندرة الموارد التي تعانيها الدول النامية، فضلا عن افتقادها للبنية الأساسية اللازمة للنمو الاقتصادي والاستثمار في القطاعات الاقتصادية، تدخل المؤسسة العسكرية لتحفيز الاقتصاد، وإنشاء البنية التحتية، وسد احتياجات المجتمع.
3- تصحيح الاحتكار والتوازن الاقتصادي: يؤدي إخفاق الدولة في مواجهة أزمات التغلغل والتوزيع إلي تدخل المؤسسة العسكرية لسد الفجوة بين القدرات المحدودة لمؤسسات الدولة والقطاعات الإنتاجية والخدمية والاحتياجات المجتمعية المتصاعدة، حيث ترتبط أزمة التغلغل بافتقاد الوجود الفعال للحكومة المركزية في كافة أرجاء الإقليم، وعدم قدرتها علي تطبيق القوانين، لا سيما المتعلقة بفرض الضرائب، وفرض السياسات الاقتصادية، وهو ما يجعل الاستعانة بالمؤسسة العسكرية أحد خيارات المجتمع لمواجهة تلك الأزمة(12).
4- الدور التحديثي للمؤسسة العسكرية: تتميز المؤسسة العسكرية بعدة خصائص، أهمها مركزية القيادة، والهيراركية، والانضباط، وارتباط السلطة بالجدارة، والتنظيم، والاحترافية، بما يجعلها مؤهلة للاضطلاع بدور اقتصادي كفء، لا سيما في المجالات التي لا يقبل عليها القطاع الخاص لارتباطها بالسلع العامة والتي لا تكون ذات ربحية تحفز المستثمرين علي العمل بها، أو تكون من الضخامة والتعقيد بحيث لا يملك القطاع الخاص القدرة علي المنافسة بها مثل مجالات الإنشاءات والبنية التحتية، ومد المرافق العامة، ويرتبط ذلك بموضع المؤسسة العسكرية كمرتكز قوي للتطوير التكنولوجي والتحديث في المجتمع(13).
ثالثا- نماذج الدور التنموي للعسكريين:
تفرق الدراسات النظرية والتطبيقية بين أنماط عديدة للدور الاقتصادي للمؤسسة العسكرية، وفق مدي انخراط المؤسسة العسكرية في عملية التنمية، وتأثير ذلك الدور في عملية التحول الديمقراطي، ويتراوح بين ممارسة السيطرة الكاملة علي السياسات الاقتصادية، والانفراد بإدارة عملية التنمية، أو الانسحاب التام لمجرد تنفيذ السياسة الدفاعية التي يقرها السياسيون المنتخبون. وفي هذا الإطار، يمكن التمييز بين خمسة أنماط للأدوار الاقتصادية للمؤسسة العسكرية:
1- نموذج الانغلاق العسكري: وتتمثل أركانه في اقتصار دور المؤسسة العسكرية علي أداء الوظيفة الدفاعية بمختلف أبعادها الاستراتيجية والميدانية، إذ لا يتجاوز وضع المؤسسة العسكرية مجرد أداة لتنفيذ السياسة الدفاعية التي تقرها الحكومات المنتخبة. وقد تؤدي التعددية التي يتسم بها المجتمع المدني، ورفض الثقافة العامة للتدخل السياسي والاجتماعي للعسكريين، ومحدودية الإنفاق العسكري، وسيطرة المؤسسات السياسية علي تحديد نطاقه إلي تقليص الدور الاقتصادي للمؤسسة العسكرية الذي لا يتجاوز الانخراط في قطاع صناعات التسلح. وقد يصل التضييق علي النشاط الاقتصادي للمؤسسة العسكرية إلي إسناد هذا الدور للقطاع الخاص، مع فرض ضوابط تنظيمية علي نشاط المؤسسات المنتمية للقطاع الخاص العاملة في صناعة السلاح. ويمكن اعتبار هذا النموذج أقرب للمثالية، لأن المؤسسة العسكرية عادة ما تقوم بأدوار اقتصادية، مهما يكن مدي السيطرة المدنية علي أنشطة المؤسسة العسكرية(14).
2- نموذج المركب الصناعي العسكري Military Industrial Complex: وهو نموذج سائد في الدول الديمقراطية الغربية التي تميل العلاقات المدنية - العسكرية بها إلي نمط من الشراكة المؤسسية، وتقاسم الاختصاصات، في إطار نظام ديمقراطي تعددي، حيث يمثل امتلاك المؤسسة العسكرية لمقدرات قوة، ممثلة في حجم الإنفاق العسكري، والمعلومات والخبرات العسكرية التي يمتلكها القادة، مقارنة بالسياسيين المنتخبين، فضلا عن احتياجات المؤسسة العسكرية الضخمة من السلع والخدمات التي تجعل القطاع الخاص يتكالب علي توريد احتياجاتها، وتنفيذ مشروعاتها، ومن ثم تنشأ شبكات مصالح بين القادة العسكريين والشركات الصناعية الكبري المرتبطة بالصناعات العسكرية والمدنية، ينطوي في إطارها بعض المشرعين وصانعي السياسة العامة القائمة علي تبادل المنافع للإفادة من الإنفاق العام(15). ويسود هذا النموذج في الدول الديمقراطية التي تتبع نموذج اقتصاد السوق الحر، ويكتسب فيها القطاع الخاص مكانة مركزية، علي غرار الولايات المتحدة.
3- نموذج الاندماج السياسي العسكري Military Fusion political: ينطوي هذا النموذج علي نمط من شبكات تبادل المنافع بين المؤسسة العسكرية والنظام الحاكم، لا سيما في النظم السلطوية. وفي المقابل، تطلق السلطة السياسية يد المؤسسة العسكرية في القطاع الاقتصادي من خلال عدة آليات:
أ- مستوي مرتفع للإنفاق العسكري: يتمتع العسكريون بسلطات واسعة النطاق في تحديد مستوي الإنفاق العسكري. وعادة ما تكون الموازنة العسكرية مرتفعة لتحقيق الأهداف المتعددة التي تسعي النخبة السياسية والعسكرية لتحقيقها، لا سيما إذا ما ارتبطت بتصدير الثورة للدول المجاورة، أو مواجهة طرف إقليمي مناوئ، أو فرض الهيمنة الإقليمية والتأثير في المحيط الخارجي. ويؤدي ذلك لتصاعد نفوذ المؤسسة العسكرية كمركز قوة اقتصادي، لا سيما إذا تجاوز الإنفاق العسكري نسبا ضخمة من إجمالي الموازنة العامة(16).
ب- إسهامات ملحوظة للمؤسسة العسكرية في الناتج المحلي الإجمالي: بمعني انخراط المؤسسة العسكرية في الاقتصاد القومي من خلال ممارسة أنشطة إنتاجية وخدمية، يتم توظيف أرباحها في دعم الموازنة العسكرية.
ج- غياب مختلف آليات الرقابة والمحاسبة البرلمانية: عادة ما لا تخضع هذه الأنشطة لرقابة المؤسسات السياسية المدنية، ولا تتم مناقشة الموازنة العسكرية من جانب المؤسسة التشريعية، ولا تقوم المؤسسات الرقابية بمراجعتها، ولا تتناولها وسائل الإعلام، كما تعد كافة شئون المؤسسة العسكرية محظورة علي كافة مؤسسات المجتمع المدني، لكونها شئونا سيادية تتسم بالسرية. ومن الأمثلة الواضحة علي هذا النموذج إيران بعد الثورة الإسلامية 1979، ومصر خلال الفترة الناصرية، وسوريا في ظل حكم حافظ الأسد(17).
4- نموذج الجيش الحارس للتوازن الاجتماعي: تتميز المؤسسة العسكرية في هذا النموذج بانتماء قياداتها وكوادرها لطبقة معينة، واحتفاظهم بدور في حسم الصراعات السياسية دون اختلال التوازن الاجتماعي القائم. حيث يشير عاموس بيرلموتر Amos Perlmuiter إلي أن العسكريين يميلون في هذا النمط للتدخل المرحلي لحسم خلافات بين قوي سياسية مدنية متصارعة، ثم العودة للثكنات العسكرية(18). ويتسم النظام السياسي في هذا النموذج بتشظي وانقسام القوي السياسية، وعدم تمكن أي منها من إحكام السيطرة علي السلطة، وضعف مستوي المؤسسية، ويظل العسكريون في الخلفية، ويتدخلون في حالة احتدام الصراع علي السلطة(19).
ولا يقتصر الدور المركزي للعسكريين علي المجالين السياسي والدفاعي، وإنما تقوم المؤسسة العسكرية بأدوار متعددة مثل القيام بأنشطة اقتصادية إنتاجية وخدمية، وأنشطة اجتماعية تتعلق بالتنشئة السياسية والتثقيف، والسيطرة علي بعض وسائل الإعلام للتأثير في توجهات الرأي العام تجاه الدور السياسي للعسكريين(20).
5- نموذج الاحتكار الاقتصادي: ويطلق بعض المنظرين علي هذا النموذج النمط البريتوري Praetorian Model، ويتميز هذا النموذج بسيطرة العسكريين علي مؤسسات الدولة السياسية عقب انقلاب عسكري، يتم من خلاله تنحية النخبة السياسية، وتعطيل العمل بآليات تداول السلطة المنصوص عليها في الدستور(21).
ويتسم المجتمع المدني، في ظل الحكم العسكري، بالضعف نتيجة القيود السلطوية التي يفرضها العسكريون عليه لضمان احتكار الممارسة السياسية في المجتمع. وعادة ما يميل النظام العسكري لممارسة دور اقتصادي طاغ قد يصل لاحتكار بعض الأنشطة الاقتصادية الحيوية، واتباع استراتيجية بناء الاقتصاد الوطني والتصنيع للإحلال محل الاستيراد بهدف السيطرة علي القطاع الخاص الذي يتعرض لموجة عاتية من القيود والتصفية، لا سيما إذا ما ارتبطت سيطرة العسكريين بشعارات حول العدالة الاجتماعية والمساواة، والقضاء علي مراكز القوي المنتمية للنظام السابق الموصوم بالفساد والتبعية للخارج(22).
رابعا- تأثير الدور التنموي للعسكريين في التحول السياسي:
لا يتفق منظرو العلاقات المدنية - العسكرية علي أثر قيام المؤسسة العسكرية بالانخراط في أنشطة اقتصادية، وفق النماذج المختلفة. وفي هذا الإطار، تتلخص التداعيات السياسية للدور الاقتصادي للمؤسسة العسكرية في الآتي:
1- تدعيم الاستقلال السياسي للمؤسسة العسكرية: يكفل النشاط الاقتصادي للمؤسسة العسكرية بشتي نماذجه تصاعدا للتأثير السياسي للمؤسسة العسكرية واستقلاليتها، وتأثيرها في عملية صنع القرار، ومن ثم استعصائها علي السيطرة المدنية والضبط من جانب السياسيين المنتخبين، وقد تؤدي في مراحل لاحقة للانقلاب العسكري، في حال تقاطع المصالح بين القادة السياسيين والمدنيين، وتكلس قيود الرقابة المدنية علي المؤسسة العسكرية(23).
2- تأسيس شراكة نخبوية سياسية عسكرية: يؤدي النشاط الاقتصادي للمؤسسة العسكرية بدرجاته المختلفة إلي اندماج المؤسسة العسكرية في المجتمع، وانخراطها في التجاذبات المجتمعية، بما قد يؤدي لتأسيس شبكات مصالح بين القادة العسكريين والفاعلين المجتمعيين والسياسيين والبيروقراطية، تقوم علي المنفعة المتبادلة، وتلاقي المصالح في إطار نمط الدولة العميقة، في إطار نموذج الجيش الحارس الذي تتدخل فيه المؤسسة العسكرية للحفاظ علي استقرار النظام السياسي ودعائمه الأكثر رسوخا(24).
وقد تصبح هذه الشبكات عائقا في سبيل الديمقراطية، عبر اعتراض وصول تيارات معينة للسلطة، إذا هددت أوضاعها ومصالحها المشتركة بما قد يؤدي لقيام الانقلاب الاعتراضي. ويستهدف هذا الانقلاب التصدي لسياسة حكومية ترفضها المؤسسة العسكرية، خاصة بعد وصول قوي سياسية راديكالية للسلطة، تسعي لتغيير البنية السياسية والطبقية للمجتمع، علي غرار الانقلاب العسكري في الجزائر، بعد وصول جبهة الإنقاذ الوطني للسلطة عام 1991، وانقلاب 1984 في تركيا للحفاظ علي علمانية الدولة(25).
3- الاستحواذ علي شرعية الإنجاز الاقتصادي: إذا ما نجحت المؤسسة العسكرية في تحقيق التنمية الاقتصادية، وتوفير السلع العامة بديلا عن القطاع الخاص والدولة، فإنها تستحوذ علي شرعية الإنجاز الاقتصادي، وتجعل نظام الحكم أكثر هشاشة، لا سيما في حال إخفاقه في أداء وظائف التنمية والتحديث والتخصيص العادل للموارد. وقد تعد شريعة الإنجاز الاقتصادي بديلا لشرعية الانتخاب الديمقراطي، بما يؤدي لتصاعد النفوذ السياسي للمؤسسة العسكرية.
ويرتبط هذا النفوذ بما تتمتع به المؤسسة العسكرية في الذاكرة التاريخية للشعوب من صور ذهنية إيجابية وأخلاقيات مثل الشجاعة، والنظام، والانضباط، والوطنية، والاعتماد علي الذات، بما يمكن اعتباره رأس مال سياسيا يعزز من مكانتها في المجتمع.
4- أداء دور الحكم بين القوي السياسية المتعارضة: قد يترتب علي الدور التنموي للمؤسسة العسكرية واستحواذها علي مصادر للاستقلال السياسي عن الدولة، ممثلة في عوائد أنشطها الاقتصادية، أن تتدخل كحكم بين القوي السياسية في الدول مهتزة الاستقرار، نتيجة تشظي وانقسام القوي المدنية، وذلك استنادا للنفوذ الاقتصادي والاجتماعي الذي تتمتع به، نتيجة كونها المؤسسة الأكثر تماسكا في الدولة، والأكثر تمتعا بالثقة العامة كعنصر للتوازن الوحيد في المعادلة السياسية، في ظل مناخ يغلب عليه التناحر والاستقطاب(26).
5- احتواء الاتجاهات الانقلابية: تؤكد بعض الاتجاهات النظرية أن إطلاق يد المؤسسة العسكرية في الأنشطة الاقتصادية يؤدي لاحتواء أي نزعات انقلابية، عبر علاقات المنفعة والزبونية الاقتصادية بين النظام الحاكم والمؤسسة العسكرية، فضلا عن أن انخراطها في الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية المختلفة يعد بمثابة آلية شرعية لامتصاص تطلعاتها السياسية، وتعويضها عن الحياد السياسي المفروض عليها، لا سيما في ظل غياب التهديدات الخارجية، واستاتيكية الوظيفة القتالية للمؤسسة العسكرية، بما يؤدي إلي تصاعد التطلعات للتدخل في العملية السياسية، نتيجة ترقبها الدائم للأوضاع السياسية(27).
ملاحظات ختامية:
لم يُحسم الجدل النظري حول تبعات الدور الاقتصادي للمؤسسة العسكرية. فبينما تؤكد اتجاهات نظرية أنه يعد أحد عوائق عملية الانتقال الديمقراطي والاستقرار السياسي، فإن اتجاهات أخري تستند إلي حالات تطبيقية تشير إلي أن امتداد دور المؤسسة العسكرية لمجالات التنمية يحقق للمجتمع والدولة عوائد جمة، لا سيما في قطاعات التشييد والبنية التحتية والخدمات الاجتماعية التي لا يقبل عليها القطاع الخاص بسبب ضخامة نطاقها، أو التكنولوجيا المعقدة التي تتطلبها، أو افتقادها للربحية والمحفزات المالية الدافعة.
ويمتد ذلك الخلاف حول التأثير الاقتصادي لدور المؤسسة العسكرية بين اتجاه داعم لاقتدار المؤسسة العسكرية، اقتصاديا وتقنيا وتنظيميا، علي الاضطلاع بأعباء التنمية بالمقارنة بكل من القطاع الخاص والقطاع الحكومي، واتجاه آخر يؤكد أن المؤسسة العسكرية حينما تتدخل عسكريا تميل إلي تحقيق مصالحها المالية والاقتصادية، ربما علي حساب الغايات والمصالح المجتمعية، وهي رؤية تستند للنموذج التقليدي في العلاقات المدنية - العسكرية التي تقوم علي الفصل التحكمي بين المؤسسة العسكرية والنظام السياسي والمجتمع.
الهوامش:
(1) Samuel P. Huntington, 'The Soldier and The State: The Theory and Politics of Civil Military Relations', (Massachusetts:The Belkanap Press of Harvard University Press, 1957), PP. 91-23.
(2) Charles Tilly, War making and state making as organized crime', in Peter Evans, Dietrich Rueschemeyer and Theda Skocpol, زBringing the State Back Inس, (Cambridge: Cambridge University Press. , 5891) , pp. 181-381.
(3) شادية فتحي إبراهيم، "الدور التنموي للعسكريين في الدول النامية: دراسة مقارنة"، رسالة ماجستير، (القاهرة: كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 1989)، ص ص19-12.
(4) Samuel P. Huntington, زThe Soldier and The State: The Theory and Politics of Civil Military Relationsس, Op.Cit., pp. 08-18.
(5) Ibid., pp. 49-79.
(6) Stuart A Cohen, زIsrael and Its Army: From Cohesion to Confusionس, (New York: Routledge, 8002) p. 23-33.
(7) Samuel E. Finer, The Man on Horseback: The Role of the Military in Politics, (Colorado: Westview Press,8891), pp. 32-42.
(
شادية فتحي إبراهيم، "العلاقات المدنية - العسكرية والتحول الديمقراطي: دراسة تحليلية في الاتجاهات النظرية المعاصرة، (النهضة: المجلد السابع، العدد الرابع، أكتوبر 2006)، ص42-62.
(9) Charles C. Moskos, زInstitutional/Occupational Trends in Armed Forces: An Updateس., (Armed Forces & Society, vol. 21, no3., 6891 ), p73.
(10) Edward Luttwak, Coup d'Etat: A Practical Handbook, (New York: Harvard University Press, 1979) , pp. 31-52.
(11) عبدالمنعم المشاط، "العسكريون والتنمية السياسية في العالم الثالث"، (السياسة الدولية: العدد 29، أبريل 8891):
- http://digital.ahram.org.eg/articles.aspxSerial=763612&eid=1673
(12) Jorn Brommelhorster, Wolf-Christian Paes, زSoldiers in Business: An Introductionس, in Jorn Brommelhorster, Wolf-Christian Paes(eds.), زThe Military as an Economic Actor: Soldiers in Businessس, (New York: Palgrave Macmillan, 3002), pp. 31-61.
(13) Mazhar Aziz, زMilitary control in Pakistan:the Parallel stateس, (New York: Routledge , 2008), p. 72.
(14) Ayesha Siddiqa, زMilitary Inc.: Inside Pakistan's Military Economyس, (London: Pluto Press,,2007), pp. 53-73.
(15) J Paul Dunne, and Elisabeth Skns (0102), زThe military industrial complexس, in Andrew Tan (ed), زThe Global Arms Trade: A Handbookس, (New York: Routledge, 0102), pp. 182-582.
(16) Ayesha Siddiqa, زMilitary Inc.: Inside Pakistan's Military Economyس, (London: Pluto Press,,2007), pp.1-4.
(17) Steven A. Cook, Ruling But Not Governing: The Military and Political Development in Egypt, Algeria, and Turkey, (Baltimore: The Johns Hopkins University Press , 2007) , pp.37-47.
(18) Gerassimos Karabelias, Civil Military Relations: A Comparative Analysis of The Role of Military in Political Transformation of Post war Turkey And Greece 0891-5891, (Rome: North Atlantic Treaty Organization (NATO), June 1998), pp.01-21.
(19) Amos Perlamutter, زThe Praetorian State and The Praetorian Army: towards a Taxonomy of Civil Military Relations in Developing Polities, (Comparative Politics: vol. 1, No. 3, April 9691), PP. 283-683.
(20) Gerassimos Karabelias, Civil Military Relations: A Comparative Analysis of The Role of Military in Political Transformation of Post war Turkey And Greece 1980-1985 , Op.cit., pp.01-31.
(21) Amos Perlamutter, زThe Praetorian State and The Praetorian Army: towards a Taxonomy of Civil Military Relations in Developing Polities, Op.Cit., PP. 283-683.
(22) Samuel Finer, The Man on Horseback: The Role of the Military in Politics, Op.Cit., pp.921-041.
(23) Gerassimos Karabelias, Civil Military Relations: A Comparative Analysis of The Role of Military in Political Transformation of Post war Turkey And Greece 0891-5891, (Rome:North Atlantic Treaty Organization (NATO), June 1998), pp.7-41.
(24) David Pion-Berlin, سInformal Civil-Military Relations in Latin America: Why Politicians and Soldiers Choose Unofficial Venuesس, (Armed Forces & Society: vol63. , 0102) p535.
(25) B.C. Smith, زunderstanding Third World Politics: theories of Political Change and developmentس, Op.Cit., pp. 871-971.
(26) شادية فتحي إبراهيم، "الدور التنموي للعسكريين في الدول النامية: دراسة مقارنة"، مرجع سابق، ص ص188-190.
(27) عبدالمنعم المشاط، "العسكريون والتنمية السياسية في العالم الثالث"، مرجع سابق:
http://digital.ahram.org.eg/articles.aspxSerial=763612&eid=1673
الباب الدوار Revolving door:
أحد أبعاد شبكة العلاقات المصلحية بين المؤسسة العسكرية والقطاع الصناعي، وأقطاب صنع السياسة الدفاعية، في إطار المركب الصناعي العسكري، ويعني عملية انتقال القيادات العسكرية بعد التقاعد للعمل كمستشارين لدي شركات صناعة السلاح المرتبطة بعلاقات تجارية مع وزارة الدفاع في الولايات المتحدة، أو في مناصب سياسية - مدنية، بما يؤدي لتغلغل شبكة المصالح القوية في القطاعات الصناعية والعسكرية والسياسية، وسيطرة اللوبي الصناعي العسكري علي مراكز صنع القرار. ويعد هذا النموذج طاغيا في إطار العلاقات المدنية - العسكرية في الولايات المتحدة، وهو ما دفع الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور في عام 1961 للتحذير من خطورة تشكل مراكز للقوي والنفوذ ذات نفوذ طاغ علي المؤسستين التشريعية والتنفيذية، بما يقوض من ركائز الديمقراطية التمثيلية، نتيجة تحكم جماعات المصالح في عملية صنع السياسة الدفاعية. وفي هذا الإطار، يرتبط تأثير سياسة "الباب الدوار" بعدة مسارات رئيسية:
1- علاقات الزبائنية Patronage relations: بمعني تبادل المنافع بين أطراف الشراكة الاقتصادية العسكرية، حيث تضغط القيادات العسكرية علي السلطة التنفيذية لزيادة الإنفاق العسكري، بما يؤدي لتصاعد عقود التسليح مع شركات صناعة السلاح التي تقوم بتعيين قيادات المؤسسة العسكرية، بعد تقاعدهم في مناصب استشارية، أو تضغط لتعيينهم في مناصب حكومية مدنية، أو تمول حملاتهم الانتخابية ليصبحوا أعضاء في المجالس التشريعية.
2- الضغط السياسي Lobbying: حيث تقوم شركات صناعة السلاح بتمويل الحملات الانتخابية لبعض المرشحين والأحزاب، سواء في الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية، بما يؤدي لاختراقهم مراكز صنع القرار، والضغط لتشكيل السياسة الدفاعية لتحقيق مصالحهم في رفع الإنفاق الدفاعي.
3- ترتيب الأولويات Agenda Setting: يؤدي المركب الصناعي العسكري دورا في تحديد أولويات واتجاهات السياسة العسكرية لضخ المزيد من الإنفاق العسكري، مما قد يؤدي لاتباع الدولة لسياسة دفاعية تدخلية Interventionist تعتمد تكرارا علي الأداة العسكرية لتحقيق أهدافها، فضلا عن النزعة الصراعية المسيطرة علي رؤيتها للعلاقات الدولية ومحيطها الدولي. وقد يمتد ذلك الترابط لتضمين جماعات الفكر والرأي والمراكز البحثية Think Tanks ذات المنظور الواقعي التقليدي لرسم مسارات السياسة الخارجية والدفاعية، بما يرفع الإنفاق العسكري في المحصلة النهائية.
المصدر:
1- J Paul Dunne, and Elisabeth Skصns, زThe Military Industrial Complexس, in Andrew Tan (ed), "The Global Arms Trade: A Handbook",(New York: Routledge, 2010), pp 182-582.
2- "Revolving Door: Methodology", (Washington: The Center for Responsive Politics, May 2012)
http://www.opensecrets.org/revolving/methodology.php
3- كريم الجندي، "صناعة القرار الإسرائيلي: الآليات والعناصر المؤثرة"، (بيروت: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 2011)، ص59-.