التجربة الآسيوية غنية وفريدة معا. ففي غضون ثلاثة قرون انتقلت هذه الدول من قائمة أفقر بلدان العالم إلى مصاف الدول الصناعية. فهل يمكن تكرار الشعارات التي طرحتها هذه التجربة.. أم أن تقليدها أمر مستحيل؟.
في عام 1960 كانت آسيا تصنف باعتبارها أكثر قارات العالم فقرا. ففي هذا العام كانت اليابان، والتي كانت قد بدأت عملية تحديث اقتصادها منذ قرن مضى، أغنى دول المنطقة حيث بلغ متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي نحو 380 دولارا وهو ما كان يبلغ نحو 8/1 المعدل الأمريكي في هذا الوقت. وبلغ نفس المتوسط في كوريا الجنوبية عام 1962 نحو 110 دولارات ( نفس المتوسط في السودان في ذلك الوقت). وفي تايوان بلغ المتوسط في عام 1962. أيضا حوالي 160 دولارا ( نفس المتوسط في زائير ). أما الدول الآسيوية العملاقة فكان المتوسط فيها في نفس العام أقل من ذلك بكثير، ففي الصين بلغ المتوسط 60 دولار ( كانت الصين في المرتبة 11 بين أقل دول العالم بالنسبة لهذا المتوسط ) وكان الحال في الهند أفضل قليلا من الصين.
وكان لعملية النمو التي بدأت في الظهور في ذلك الوقت واستمرت لمدة ثلاثة عقود كاملة أثرها في إنتاج أسرع زيادة في الدخول في شرق آسيا لأكبر أعداد من البشر وفي ظاهرة لا مثيل لها على وجه الأرض، ففي اليابان التي بدأ نموها السريع في الخمسينيات أخذ هذا شكل ثورة في التصنيع وزاد دخل الفرد الحقيقي بمقدار أربعة أضعاف بين عامي 1960 و 1985 ليصبح اليابانيون في النصف الثاني من الثمانينات أغنى شعب في العالم.
وفي أربعة بلدان أخرى اقتفت أثر اليابان مع تأخر زمني قدره 10 سنوات ( كوريا الجنوبية، تايوان، هونج كونج وسنغافورة أي النمور الآسيوية الأربعة ) فإن الناتج المحلي الإجمالي تضاعف كل ثماني سنوات خلال الفترة 1960 - 1985 ( أي زاد الناتج بمقدار ثمانية أضعاف على مدار هذه الفترة ) وفي أربعة بلدان أخرى هي ماليزيا، تايلاند، أندونيسيا، الصين ( النمور الآسيوية القادمة ) فإن النمو الاقتصادي سجل نفس هذه المعدلات ولكن مع تأخر بلغ نحو 20 عاما أخرى إذ لم يبدأ النمو السريع في هذه البلدان إلا في أواخر السبعينيات، ولذلك فإنه لم يحقق سوى ربع ما حققه النمو المركب في النمور الأربعة بمعدل 8 - 9 % لمدة ثلاثين سنة. وفي المحصلة النهائية كانت هذه البلدان الثمانية بين أنجح 13 دولة فقيرة في العالم في رفع الدخول الحقيقية لمواطنيها بين عامي 1960 و 1985. وخلال الثمانينيات وحدها حققت هذه الدول نموا يزيد ثلاث مرات على الدول الغنية ( باستثناء اليابان من قائمة الدول الأخيرة ). كما أن هذه البلدان نجحت كذلك في اقتفاء أثر اليابان في تحقيق ما لم يتحقق من قبل في العالم وهو الجمع بين معدل النمو السريع والعدالة الأكبر في توزيع الدخل.
قصة النجاح هذه تقدم أيضاً بعدا جديدا كونها أول مرة في التاريخ الحديث ( بعد الحرب العالمية الثانية ) التي يتركز فيها النجاح جغرافيا إلى هذا الحد، وهو ما دفع بالبنك الدولي إلى القول إن فرض أن يكون هذا النجاح بمحض المصادفة لا يزيد احتماله على أن يكون 1 إلى 10 آلاف.
عوامل النجاح الآسيوية
لا يكاد يختلف أي دارس للتجربة الآسيوية على حجم النجاح المتحقق. وتبدأ الأمور في التشتت مع محاولة رد هذا النجاح إلى عوامله الأساسية. فهناك القول بالدور الكبير للدولة مقابل آراء أخرى تقطع بالحرية الاقتصادية. وهناك القول باتباع استراتيجية تستند إلى نمو الصادرات مقابل الآراء التي تؤكد بأن التنمية المتوازنة مع عدالة التوزيع والاستناد إلى السوق في نفس الوقت كانت هي العوامل الأكثر أهمية. وهناك من يقول بالأهمية الفائقة للشركات عابرة القوميات والاستثمار الأجنبي المباشر في تحقيق هذا النجاح، مقابل آخرين يقولون بالاستناد أولا إلى الإمكانات الذاتية. وفي الواقع فإن هذه الآراء على اختلافها تكاد تكون صحيحة بحكم تعدد التجارب الآسيوية برغم التوصل في النهاية إلى نتائج متشابهة. وربما تكون الإجابة الواضحة التي لا خلاف حولها والتي قدمتها دراسة البنك الدولي في عام 1993 هو نجاح هذه البلدان بشكل متواصل في الأداء الجيد في تشغيل أربعة عناصر للإنتاج هي العمل ورأس المال المادي ورأس المال البشري ثم كفاءة الجمع بين هذه العوامل أو ما يسمى بالمزج الأمثل بين عناصر الإنتاج في النظرية الاقتصادية.
أما ثاني العوامل الأكثر تحديدا والتي لا خلاف حولها فهو نجاح هذه الدول ( في هذا العالم الذي تسوده المنافسة غير الكاملة في أسواق المال) في قدرتها على تراكم رأس المال المادي ( الآلات والمعدات والأبنية.... إلخ ) استنادا إلى مدخراتها واستثماراتها المحلية. فعند أواسط الستينيات كانت الدولة الفقيرة في آسيا تدخر نحو 16 % فقط من ناتجها المحلي الإجمالي، وهو معدل يقل عن المعدل السائد في أمريكا اللاتينية في هذا الوقت. ولكن مع مطلع التسعينيات كانت دول شرق آسيا ( بما فيها اليابان ) تدخر أكثر من 36 % من ناتجها المحلي الإجمالي وهو ما يبلغ أربعة أمثال هذا المعدل في شبه القارة الهندية وإفريقيا ونحو مثلي هذا المعدل في أمريكا اللاتينية. كما أن دول شرق آسيا كانت تستثمر تقريبا بمعدلات تقترب مما تدخره، حيث يبلغ معدل الاستثمار حاليا نحو 35 % من الناتج المحلي الإجمالي مقارنة بحوالي 20 % في عام 1965. ويبلغ نصيب القطاع الخاص في هذه الاستثمارات نحو 3/2 حجم الاستثمار الإجمالي وهو ما يزيد بمقدار 3/2 أيضاً على نصيب استثمارات القطاع الخاص في الدول الأخرى ذات الدخول المشابهة. ويمكن أن ينسب النجاح إما إلى كون الآسيويين قد اتبعوا فلسفة السوق الحرة أو بالمهارة الفائقة في تدخل الدولة بشكل مثمر في الأسواق. والتجارب هنا متعدد من هونج كونج ذات الاقتصاد المفتوح بالكامل على السوق العالمي إلى تجارب الصين وكوريا الجنوبية وسنغافورة التي شهدت تدخلا كثيفا للدولة. ويشير تقرير البنك الدولي إلى نجاح عدد كبير من هذه الدول كان يكمن في تجاوز الزيادة في إنتاجية عنصر العمل للزيادة في الأجور. ثم هناك النجاح الملحوظ في العمل على استقرار الاقتصاد الكلي عن طريق معدل تضخم منخفض ومعدلات فائدة حقيقية موجبة وأسعار صرف مستقرة.. ولكن البنك الدولي ذاته يخلص إلى أن بعض الأنواع من التدخل الحكومي مثل توجيه وتخصيص الائتمان لأغراض محددة على سبيل المثال كانت من العوامل وراء سرعة النمو المتحقق. ففيما عدا استثناءات قليلة مثل هونج كونج وتايلاند حيث تتوافر بنوك وتمويل أكثر حرية، فإن التمويل الآسيوي له نمط خاص. فنسبة الادخارات المرتفعة التي تشجع أو يحفز عليها من قبل الحكومة وفرت تمويلا داخليا متسعا. والنسبة الغالبة من هذه المدخرات في البداية وحتى بعد فترة طويلة من النمو وضعت في البنوك لتوفر للمودع عائدا صغيرا ولكنه موجب. وتمتلك الحكومة أو تتحكم بشكل كبير في البنوك ويتم التحكم في أسعار الفائدة على الإقراض لتكون متوازية جزئيا مع معدلات الفائدة على الإيداع للحفاظ على عدم اتساع الفارق ولضمان أن النسبة الكبرى من المدخرات من الممكن تحولها للاستثمار.
أما بشأن دور الاستثمارات الأجنبية المباشرة فالوضع لا يشكل قاعدة عامة في جميع التجارب الآسيوية فدولة مثل اليابان كانت معادية للاستثمارات الأجنبية ولكنها كانت تتمتع بدرجة عالية من المهارة في اتباع إشارات الأسواق الخارجية إما من خلال صادراتها أو من خلال شراء ترخيصات التكنولوجيا الأجنبية وسمحت تايوان بالاستثمار الأجنبي في ظل شرط أن يصحب ذلك نقل التكنولوجيا وما زالت تعارض حتى الآن زيادة رؤس الأموال الأجنبية العاملة في سوق المال على حد معين. وهي تجارب تفترق عن تجارب أخرى مثل هونج كونج أو الصين حاليا. فمع تحول الصين في عام 1978 من التبني التدريجي لآليات السوق إلى السماح بدخول المشروعات الأجنبية لاقتصادها فإن الكفاءة زادت بشكل غير مسبوق ولكن في نفس الوقت كانت معدلات الادخار والاستثمار كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي في الصين تدور حول 35 % وهو ما يعني أن تعبئة الموارد المحلية في اقتصاد كبير الحجم كالصين ما زالت هي الأساس. والواقع أن التجارب الآسيوية تقدم الحكمة القائلة بأن جذب الاستثمار الأجنبي عامة، ليس هو الصانع الحقيقي للنجاح بقدر محاولته الاستفادة من هذا النجاح ليدعم من الفرص طويلة الآجل في استمرار الأداء الاقتصادي الجيد. ففيما بين عامي 1989 و1992 زاد الاستثمار الأجنبي المباشر ( الأمريكي ) في آسيا بمقدار 120 % وهو ما يقدر بأكثر من مثلي معدل زيادة الاستثمارات الأمريكية في بقية أرجاء العالم. وسبب هذه التوجه مفهوم للغاية. ففي مسح قامت به الشركات عابرة القومية اليابانية وجدت أن نحو 80 % من استثماراتها في آسيا قد أصبح مربحا خلال عامين بالمقارنة مع 20% فقط من استثماراتها في أمريكا.
الأمر الآخر أن البلدان الآسيوية طبقا لسياسات حكومية قد نجحت في استغلال مزيتها النسبية إلى أقصى حد ممكن ونعني بذلك عنصر العمل أساسا. فالآسيويون لم يستثمروا أكثر في التعليم مقارنة بالدول النامية الأخرى إذ في عام 1989 على سبيل المثال كان متوسط الإنفاق في دول شرق آسيا على التعليم هو 3 % من الناتج المحلي الإجمالي مقارنة بمتوسط يبلغ 3.6 % لكل الدول النامية. ولكن بينما كان الوضع في دول أمريكا اللاتينية وشبه القارة الهندية هو توجيه النسبة الكبرى من هذا الإنفاق للجامعات، فإنه في دول شرق آسيا ذهب الإنفاق إلى التعليم الأساسي. والمثال الفارق تقدمه كل من كوريا الجنوبية وفنزويلا. فبينما أنفقت كوريا 10% من ميزانية التعليم في عام 1985 على الجامعات فإن فنزويلا أنفقت 43 % على هذا التعليم في نفس السنة.
بل إن سياسات الدولة تمتد إلى حد نوع المخرجات التعليمية، فدولة مثل سنغافورة ذات التعداد السكاني المنخفض ( 2.8 مليون نسمة ) توزع المتفوقين من خريجي التعليم الأساسي على تخصصات التعليم الجامعي وفقا لنسب محددة وليس بناء على رغبة الطالب. وتحرص على تدريس علوم الكمبيوتر واللغات بدءا من دور الحضانة. ويتم الحفاظ على فرص العمل بمنع دخول العمال المهرة الأجانب أيا كان التخصص للحفاظ على الأعمال المهمة للمواطنين فقط برغم حاجة البلد إلى زيادة قوتها العاملة.
التدخل الحكومي
هناك العديد من الاختلافات المهمة بين مجموعة دول شرق وجنوب شرق آسيا. فعلى سبيل المثال هناك بعض البلدان التي اختارات درجة ملموسة من التدخل الحكومي، بينما لم تختر بلدان أخرى نفس النهج. ولذا فالأمر المتفق عليه بين أغلب الدراسات حول التطور الاقتصادي في المنطقة أنه ليس هناك نموذج شرق آسيوي واحد يكمن وراء النجاح الملحوظ الذي تحقق.
أن هذا لا ينفي أن هناك عددا من السمات التي تجمع بين السياسات الاقتصادية في هذه المنطقة وهو تمسكها بتوازن ملحوظ في اقتصادها الكلي والتطوير المستمر لمواردها البشرية وانفتاحها على السوق الدولي. وربما الأمر الأكثر أهمية وراء ذلك كله هو وجود درجة عالية من البراجماتية في عملية صنع السياسة الاقتصادية، وتعني هذه البراجماتية أمرين الأول أن صنع السياسة الاقتصادية لا يتم وفقا لالتزامات ايديولوجية محددة، وثانيهما أنه يمكن الرجوع بسرعة عن بعض السياسات إذ ما ثبت فشلها في تحقيق الهدف المأمول وتبقى الحقيقة الواضحة من أن الأداء الاقتصادي في شرق آسيا كان على مدى ربع قرن 1965 - 1990 أفضل من نظيره في بقية البلدان المتوسطة والمنخفضة الدخل، وهو الأمر الذي قاد منذ البداية إلى البحث في تجربة شرق آسيا باعتبارها نموذجا في التنمية والتطور الاقتصادي. الأداء ومدى فعالية التدخل الحكومي بالمقارنة ببقية دول العالم النامي.
وفي دراسة للبنك الدولي تم استخدام نموذجين لدراسة الارتباط بين تصميم السياسة الاقتصادية ومدى التطور في الإنتاجية. وأول هذين النموذجين يستند النظرية النمو الكلاسيكية.. حيث تم استخدام نموذجين لدراسة الارتباط بين تصميم السياسة الاقتصادية ومدى التطور في الإنتاجية. وأول هذين النموذجين يستند لنظرية النمو النيوكلاسيكية.. وتبدو الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج باعتبارها البواقي غير المفسرة لمعدل النمو الاقتصادي باعتباره دالة في السياسات الحكومية وغيرها من المتغيرات. أما النموذج الثاني فهو الذي استخدم الأدب النظري الراهن حول نظرية النمو الداخلي. ويفترض هذا النموذج أن السياسات الحكومية تؤثر على النمو من خلال آثارها على المعدل الحقيقي للعائد من رأس المال الذي يؤثر بدوره على معدل الاستثمار والنمو الاقتصادي.
وقد أوضحت هذه الدراسة أن هناك دليلا على وجود علاقة إيجابية بين الإنفاق الحكومي والنمو في الإنتاجية والناتج المحلي الإجمالي حتى مستوى معين من هذا الإنفاق، ثم بعد ذلك تنقلب العلاقة إلى أن تكون سلبية. ويبدو من ثم أن دول شرق آسيا تقع ضمن المدى الذي تعد فيه العلاقة بين هذين المتغيرين إيجابية. ومن الأمور التي يكاد يتفق عليها أغلب الباحثين للتجربة أن حكومات شرق آسيا تدخلت في اقتصاداتها إلى حد بعيد، ولكن بشكل أكثر كفاءة من التدخل الحكومي في أي تجربة أخرى.
وبرغم الإحصاءات تبين أن الاختلاف بين شرق آسيا وغيرها لم يكن في الواقع الكبير، ويظل السؤال المطروح هو: لماذا كان الإنفاق العام في شرق آسيا أكثر إنتاجية؟. وتبين الدراسة أن خمسة من بلدان شرق آسيا الستة التي تتوافر عنها بيانات كان لديها إنفاق عام معتدل ومعدل أداء مرتفع بينما كانت النتيجة هي أن سبعة بلدان فقط من بين 31 بلدا ناميا كان لديها إنفاق عام مماثل لشرق آسيا حققت أداء جيدا. وهو ما يظهر أن الأداء لا يعتمد على مستوى الإنفاق وحده ولكن على نوعية التنفيذ ونوعية رأس المال البشري ونوع الأدوات المختارة للتدخل( دعم الأسعار أو منح ائتمان أو معاملة ضريبة أفضل).
بل تبين أن الدراسة المذكورة أن أربعة بلدان - هي الصين وتايوان وماليزيا وسنغافورة - كان نصيب القطاع العام في الاستثمار فيها أعلى من المتوسط في بقية إقليم شرق آسيا ومقارنة بنحو 58 بلدا ناميا آخر. ولان مساهمة القطاع العام في القيمة المضافة في إقليم شرق آسيا كانت متفاوتة فإن هذه التفاوتات تبين من ثم، أنه من الخطأ الاعتقاد بأن جميع هذه البلدان قد طبقت نموذجا واحدا للتنمية. ولكن هناك اتفاقا مع ذلك بين جميع هذه البلدان في بعض المؤشرات العامة مثل كثافة الاستثمارات والاستقرار في البيئة الاقتصادية الكلية والانحرافات السعرية الأقل من غيرها من بقية بلدان العالم النامي. وينطبق نفس الأمر على التجارة وسياسات الأسعار، فالأداء الأفضل لهذه البلدان، لا يعني أن حكوماتها كانت أقل تدخلا من غيرها من الحكومات في العالم النامي ولكن تدخلها كان باستمرار عرضة للاختبار بواسطة المنافسة الأجنبية، بحيث إن التدخلات التي فشلت في اجتياز هذا الاختبار إما جرى تغييرها أو تم التخلي عنها كلية.
وقد ركزت غالبية البحوث في تفسير نمو الناتج في شرق آسيا باعتباره نتيجة لنمو الصادرات وهو ما أدى إلى تثبيت هذه النتيجة على أنها الحقيقة وراء هذا النمو المعجز في شرق آسيا. مع ذلك فهناك بعض الدراسات التي عارضت هذه النتيجة، إذ يؤكد براد فورد أن التفسير السائد لديناميكية شرق آسيا باعتبارها مشتقة من تحرير التجارة وإصلاحات نظام الصرف لا تقدم إطارا كافيا للإمساك بجميع العوامل ذات الأهمية في هذا الشأن. فالأدب الاقتصادي في أواسط السبعينيات وحتى أواخر الثمانينيات ركزت بشدة على أهمية التوجه الخارجي والاقتصاد المفتوح والمؤشرات المرتبطة بالإصلاحات التجارية على أنها مصدر النمو الديناميكي وهو ما يتفق مع نظرية النمو والتجارة والنيوكلاسيكية. وعلى النقيض من ذلك فقد نظر للسياسات الداخلية التوجه المرتبطة بإحلال الواردات، والتدخل الحكومي على أنها سبب للانحرافات في الأسعار وعدم الكفاءة ومن ثم الركود. وما يعد مفتقدا في مثل هذه الثنائية هو إمكان أن يكون التدخل الحكومي مصاحبا أو حتى محفزا على التوجه للتصدير. ومن ثم فإن دراسة تجارب النمور الأربعة قد أدى إلى نتائج غير صحيحة، إذ تنبع التفسيرات القائلة بأن النمو الشرق آسيوي في مجال التجارة والتوجه للسوق من الأساس النظري بأن تنافسية أسواق العمل ورأس المال والسلع هي أمور كانت موضع تطبيق كامل في شرق آسيا وتجادل هذه التفسيرات بأنه مع تحرير التجارة لكي تعمل على تطابق الأسعار المحلية مع أسعار السوق العالمي فإن ذلك يؤدي إلى كفاءة استخدام الموارد محليا بأن تشتري ما يتوافر بسعر أقل من الخارج وهو ما يؤدي إلى تحرير موارد ودخول أكثر لكي تنتج وتشتري السلع المحلية وتوليد سلع قابلة للتصدير. ومن ثم فإن الإصلاحات التجارية وإصلاحات أسعار الصرف ستؤدي إلى خلق حوافز متكافئة لإنتاج سلع للتصدير وهو ما يقود في ظروف السوق التنافسية إلى خلق ديناميكية إيجابية في مجال نمو التجارة والناتج.
وفي تحليل لتجربة النمور الأربعة بالإضافة إلى اليابان وجد أن الاستثمارات هي قوة تفسيرية أكبر لمستوى النمو المتحقق بالمقارنة بالصادرات. وهو الأمر الذي أوضحه براد فورد وشوكين. ويبين هذا التحليل أن مستوى الاستثمار وعملية التغير الهيكلي للتصنيع أدت إلى مستويات غير مسبوقة من نمو الناتج، والقيمة المضافة في الصناعة التحويلية والمستوى الإجمالي للصادرات. ويؤكد ذلك أن هونج كونج كانت أقل البلدان تحقيقا للتغير الهيكلي، وهي أيضاً البلد الأكثر اتباعا لسياسة الحرية الاقتصادية ويلقي ذلك بالضوء حول مدى تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي أو التوجيه الاستراتيجي للدولة في منطقة شرق آسيا. فمعدلات التغير غير المعهودة التي شهدها التركيب القطاعي للناتج في دول شرق آسيا حديثة التصنيع يوضح وجود دور فعال "ويد ظاهرة" للحكومة في تسريع التغير القطاعي وذلك بدعم التحول الهيكلي. وهذا يعني أن الدول في كل من كوريا وسنغافورة وتايوان قد لعبت دورا إيجابيا في تدعيم عملية التصنيع خلال السياسات التي قدمت حوافز للصناعات ذات الإمكانات التصديرية.
تدخل الدولة.. وآليات السوق
والمشكلة أن معظم الأدب النظري يربط بين تدخل الدولة وبين سياسات الإحلال محل الواردات، بينما تم ربط تحرير التجارة والاعتماد على قوى السوق بالنظم ذات التوجه الخارجي. وقد تركز الجدال حول تحرير التجارة في مواجهة الحمائية وبين النظم التي تعمل وفقا لآليات السوق في مواجهة نظم التدخل المقيد في النشاط الاقتصادي. بينما لم يأخذ هذا الجدال في الاعتبار احتمال أن يمضي التدخل الحكومي والتوجه للتصدير جنبا إلى جنب. وفي دراسة لنانسي باري تؤكد على نفس النتيجة حيث تذكر أن قصص النجاح في الثمانينيات التي تضم اليابان وكوريا وتايوان بها بعض العوامل المشتركة. وواحد من هذه العوامل هو أن هذه البلدان كانت خالقه لمزاياها التنافسية ولم تتعامل معها باعتبارها معطى من السوق الدولي. إذ يبدو أن هذه البلدان قد فكرت فيما سوف يكون عليه العالم في عام 2000، وما هو الموقع الذي تتطلع إلى احتلاله في هذا العالم وما هي الأجزاء التي لا تمتلكها واللازمة لاحتلالها هذا الموقع.. ومثل هذا النمط من التفكير تم في إطار استغلال التنافسية الدولية في الحاضر والمستقبل، باعتبارها الاختبار الواضح على مدى النجاح أو الفشل. ومثل هذه الاستراتيجية التي تميز شرق آسيا عن البلدان النامية الأخرى لا تختلف من ثم في درجة التدخل الحكومي ولكن في أهداف هذا التدخل.
ولا تعني هذه النظرية ما أسماه البعض "بانتقاء الفائزين"، ولكن العمل على توافر علاقة تفاعلية بين القطاعين العام والخاص وهو ما ينجم عنه تنسيق للعمل بين القطاعين. ويرشح هذا مفهوم "الدولة المحفزة" بدلا من "الدولة القوية" وهو المفهوم الذي تكون بمقتضاه الدولة مرنة وقادرة على تعديل سياستها وملتزمة بالكفاءة الإنتاجية على نطاق الاقتصاد ككل، بدلا من الدولة ذات التدخل المسيس للحفاظ على المكاسب الريعية التي تحققها بعض المشروعات. وقد أطلق بعض الباحثين على ذلك "صنع القرار المتكامل" ففي دراسة قام بها اثنان من الباحثين الاقتصاديين لنشاط الحكومة الكورية أوضحا أنها قد أنجزت عملية صنع القرار المتكامل بالعمل كوسيط مركزي يتدخل للوساطة بين الفاعلين في السوق، بدفع وتسهيل عملية تبادل المعلومات والتأكد من تنفيذ القرارات التي يتم التوصل إليها.. ولذلك فإن عملية صنع القرار المتكامل تتميز بأنها مرنة دائما.. وحيث يتم وضع الأولويات على جميع المستويات ويتم مراجعتها بناء على عملية مراقبة دقيقة لمدى وضع هذه الأولويات موضع التنفيذ.
فقد أطلق ( 1990 ,Robert Wade) على هذه العملية في تايوان "حكم السوق" وهو مفهوم يتعارض مع نظرية السوق الحرة (النيوكلاسيكية) وكذلك نظرية "محاكاة السوق الحرة" لتفسير نجاح دول شرق آسيا، حيث تنطلق نظرية محاكاة قوى السوق من التدخل الحكومي بغرض محاولة التوصل لأسعار قريبة من أسعار السوق عند غيابها بسبب عدم التوازن أو عدم توافر المنافسة..على العكس يرى "ويد" أن حكم السوق يركز على تراكم رأس المال باعتباره القوى الرئيسية الدافعة للنمو، ويفسر الأداء المتفوق لشرق آسيا باعتباره نتيجة لمستوى وتركيب الاستثمارات الذي يخالف ما ينتج عن سياسات السوق الحر أو محاكاته، كما أنه يخالف في نفس الوقت ما ينتج في ظل سياسات الحكومات المتدخلة كما طبقت في العديد من الدول النامية.