تعرف القواميس الدبلوماسية بأنها مشتقة من لفظ "دبلوم" أي الوثيقة الرسمية التي كانت ولا تزال تمنح للمبعوثين الرسميين لاعتمادهم لدى سلطات البلد الموفدين إليه، كما تعرفها القواميس نفسها بأنها الفرع من السياسة الذي يعنى بالعلاقات بين الدول ويرعى المصالح الخارجية للدولة ويتفاوض باسمها مع الآخرين ويتابع تنفيذ الاتفاقيات.
وبعيدا عن اشتقاق الدبلوماسية اللفظي من كلمة "دبلوم" أو الشهادة، اعتبر الدكتور عبد الهادي بوطالب - وهو سفير سابق - في كتابه :
"مسار الدبلوماسية العالمية ودبلوماسية القرن الواحد والعشرين"
أن الدبلوماسية أداة العمل السياسي المستعملة في إدارة العلاقات الخارجية لدولة معينة بأداء سليم.
نماذج تاريخية
تتفق شهادات التاريخ السياسي العالمي على أن عمر الدبلوماسية العالمية طويل وممتد إلى حيث دخل العالم عهود الحضارة السياسية، بحيث ذكرتها قصص إلياذة "هوميروس" عندما تحدثت عن الضمانات التي أعطيت للمندوبين عن كل معسكر خلال المحادثات التي كانت تجري بين المتحاربين للاتفاق على هدنة أو سلام. وبعدها ذكر عددا من الأمثلة من العهد القديم والتاريخ اليوناني والروماني وكذا من تاريخ الإمبراطورية البيزنطية في العصر الوسيط، حيث كان السفراء بمثابة مفاوضين مع الخارج دون أن يكونوا دائمين لكن مع عناية خاصة بطقوس البروتوكول.
تطرق بوطالب أيضا لدبلوماسية الرسول محمد ( ص ) في بداية القرن السابع الميلادي بعد استقرار دولة الإسلام الأولى بالمدينة، ورسائله المختومة بخاتمه إلى كسرى فارس وهرقل قيصر الروم وغيرهما، موضحا أن الرسول صلى الله عليه وسلم استعمل "أساليب الدبلوماسية ففاوض خصومه وأبرم معهم الصلح ودخل مع بعضهم في حوار وعقد معهم اتفاقيات احترام متبادل وتعايش معهم في سلام واحترام كل دين للدين الآخر، والتقيد بمقتضيات الاتفاق المبرمة بينه وبين الغير".
وفي السياق نفسه نفى أن يكون فرنسوا كاليير -أحد دبلوماسيي لويس الرابع عشر- أول من ألف عام 1716 كتابا عن الدبلوماسية بعنوان "طريقة التفاوض مع الملوك"، موضحا أن السيرة النبوية دونت تفاصيل مفاوضات الرسول مع الملوك والأباطرة ونشرت رسائله إليهم كما دونت الاتفاقيات التي أبرمها مع غير المسلمين من قبيل صلح الحديبية مع قريش، وهي وثائق تتوفر لها جميع الشروط لوصفها بالدبلوماسية.
التكنولوجيا وثورة الدبلوماسية
عرف العالم ثلاث ثورات كبرى كانت الأولى زراعية والثانية صناعية والثالثة معلوماتية غيرت النسيج والسلوك الاجتماعي العالمي وأنماط التفكير البشري، وكانت تلك الثورات برأي بوطالب بمثابة موجات مختلفة الوتيرة انعكست على العمل الدبلوماسي للدول تبعا لطبيعة الموجة التي تركبها، حيث تحتل الدبلوماسية الأميركية الطليعة متبوعة بدبلوماسية أوروبا واليابان، فيما يسير العالم الثالث "بسرعة السيارة في أحسن الأحوال، هذا إذا لم تسر دبلوماسيته على وتيرة سير السلحفاة عندما تكون في موسم الحركة والتنقل".
ويركز الكاتب في هذا الباب على التطور الهائل على المستوى التكنولوجي والمعلوماتي والتواصلي أو الاتصالاتي الذي يبدأ من اعتماد الحصان والرسول لحمل الرسالة أو الحقيبة الدبلوماسية وصولا إلى البريد الإلكتروني، ومن قطع المسافات للقاء مسؤول الدولة مع مبعوثيه الدبلوماسيين إلى اللقاء والحديث المباشر بالصورة والصوت من أماكن بعيدة.
وبفضل هذا التطور تزعمت الولايات المتحدة النظام العالمي الجديد وأخذت تمارس فيه دور القطب الأعظم الوحيد، مستفيدة من نجاح دبلوماسيتها في استقطاب أغلبية الدول للانخراط في نظام العولمة، وتمكنت من ضبط علاقات الأمم بأساليب سريعة الأداء واكتساب فعالية لا تقدر على مجاراتها فيها أي دبلوماسيات دول عظمى.
فقد ألغت ابتكارات تكنولوجيا الاتصال المتطورة الحدود بين الدول وأغنتها عن آليات الدبلوماسية التقليدية بظهور أجهزة اخترقت الحدود الزمانية والمكانية بحيث لم تعد المعلومة حصرا على تقارير السفراء ورؤساء البعثات الدبلوماسية وآلياتهم التقليدية.
وباتت الدبلوماسية العصرية هي هذا الاتصال، إذ لا دبلوماسية فاعلة بغير أساليب التواصل التكنولوجي في تلقي المعلومات وإرسالها بشكل أسهل وأشمل وأسرع.
لقد وفرت التكنولوجيا المتقدمة للدبلوماسية الوقت وأعفت السفراء من الحضور إلى بلدانهم لتقديم المعلومات بشكل دوري، وبات متيسرا عقد الاجتماع مع المسؤولين من مكاتبهم على غرار الشركات المتعددة الجنسيات العملاقة التي تعقد مجالسها الإدارية عبر الأقمار الاصطناعية في جلسة مفتوحة بالصوت والصورة، وهو الأمر الذي لم يعد معه أمام الدبلوماسية في العالم العربي والإسلامي مفر من إعادة النظر في بنياتها وآلياتها وفق مستجدات التقدم التكنولوجي في ميدان الاتصال والتواصل حسب قول المؤلف.
دبلوماسيات مختلفة وجديدة
باتساع وتنوع مجال العلاقات الدولية في القرن الحادي والعشرين تنوعت الدبلوماسية وتعددت أشكالها وأغراضها، وبذلك انضافت إلى وزارة الخارجية وبعثاتها الدبلوماسية أجهزة دبلوماسية جديدة منها ما هو رسمي علني ومنها ما يعمل في الخفاء، وكلاهما يدخل في إطار الدبلوماسية الموازية.
فأما الرسمي منها فمنه ما هو محفوظ لرؤساء الدول من خلال نظام القمة التي تتخذ فيها القرارات بخصوص القضايا السياسية الكبرى، ومنه ما يصطلح عليه بدبلوماسية المنظمات العالمية والجهوية التي تضع السياسات في بعض القطاعات وتتابع تنفيذها، ولا يبقى لوزراء الخارجية إلا تطبيق توجيهاتها.
وأما الدبلوماسية السرية الموازية فقد عهد بها إلى أجهزة المخابرات التي أصبحت من أهم الوسائل التي يعتمد عليها رؤساء الدول في تصريفهم للشؤون الخارجية، وهي تشكل منافسا قويا للجهاز التقليدي (وزارة الخارجية) بل مراقبا له عن بعد ومقيما لعمله ومصححا لمعلوماته وتعطي عن أدائه تقارير سرية لرئيس الدولة مباشرة.
ومن الأجهزة المباشرة للدبلوماسية الموازية الفعاليات التي تدخل في ربط علاقات متخصصة بين الدول بحكم وظيفتها ونوعية تخصصها من قبيل البعثات البرلمانية والغرف التجارية والمقاولات والملتقيات الثقافية والعلمية وفعاليات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية، وكلها فعاليات ذات دور مؤثر في القرار السياسي ولها مكانتها في خضم التنافس الذي لا يزال يشكل أهم الثوابت للعلاقات الدولية، فضلا عن دبلوماسية وسائل الإعلام التي تسبق البعثات الدبلوماسية في إيصال الخبر والتعليق عليه وتحليله وتقييمه بخبرة قد تفوق خبرة بعض الدبلوماسيين.
ونظرا لتنوع حقول عمل الدبلوماسية العالمية فقد تنوعت أشكال الدبلوماسيات الوطنية فظهرت الدبلوماسية الاقتصادية والتنموية والإعلامية والرياضية وغيرها من الحقول التي تلتقي عليها العلاقات الخارجية وتقرب بين الشعوب.
غير أن الدبلوماسية الاقتصادية والتكنولوجية تتزعمان الدبلوماسية العالمية خاصة في ظل سيادة نظام العولمة، إذ لم تعد أغلبية المفاوضات ذات طابع سياسي وتخلت الدبلوماسية السياسية عن دورها لفائدة الدبلوماسية الاقتصادية والتقنية.
هاتان الدبلوماسيتان دعمتا بأخريين مهمتين هما الدبلوماسية الوقائية والافتراضية كشكلين جديدين من أشكال الدبلوماسية المعاصرة، وتعني الأولى مجموعة من التدابير التي تتخذها الدبلوماسية لتوقي ظهور توتر خطير أو نزاع منذر بالحرب أو تلافي دخول دولتين في حرب وتوقي استخدام دولة نووية سلاحها باعتماد خيار التفاوض وكل ما من شأنه إنهاء النزاعات وتكريس الاستقرار.
أما الثانية فتستحضر جميع السيناريوهات المحتمل وقوعها وتفترض وقوعها جميعا لتحدد التدابير التي على الدبلوماسية اتخاذها لمواجهتها، معتمدة بالأساس على وسائل الاتصال والتقنيات التكنولوجية.
في هذا السياق بدت دبلوماسية العالم الثالث على وجه الخصوص عاجزة عن التحكم في قواعد اللعبة التي تدور أشواطها في المحافل الدولية، ولم تستطع الحفاظ على الانتصارات التي حققتها في الستينات، نظرا لعدم مسايرتها لتطور الأحداث والتقدم التكنولوجي وبالتالي ضعف جهازها الدبلوماسي، الأمر الذي استغله الغرب لصالحه وبنى عليه إستراتيجية جديدة لفرض نفوذه السياسي والاقتصادي على العالم الثالث.
ويرى الدكتور عبد الهادي بوطالب أن العلاقات الدولية ستظل في الأمد القريب والمتوسط متأثرة باختيارات الولايات المتحدة وتوجهاتها لما لها من نفوذ اقتصادي وعسكري لن تتخلى عنه مهما كان الثمن.
غير أن ذلك يجب أن لا يفقد الدبلوماسية في العالم الثالث الأمل في ظل وجود إطار مؤسساتي ممثل في منظمة الأمم المتحدة والهيئات الجماعية الأخرى التي من شأن تفعيلها وتقوية دور الإطار المؤسساتي وتهذيب سلوك الدول احتراما للرأي العام العالمي.
وبناء على ما سبق خلص الكاتب إلى أن أهم أهداف الدبلوماسية في القرن الحادي والعشرين يكمن في ترسيخ النمط الجماعي لتدبير العلاقات الدولية لأنه سينعكس في استتباب الأمن والسلم الدوليين، خاصة إذا تيسرت سبل نجاح مشروع الدبلوماسية الوقائية.