الجغرافيا العسكرية والحروب
تمثل القوى المسلحة السند الحقيقي للسياسة، وتساند السياسة بالمثل القدرة العسكرية وتخفف الأعباء عن القوات المسلحة، أي أنه من الصعب الفصل بين النواحي السياسية والعسكرية، كذلك يصعب الفصل بين الجغرافيا السياسية والجغرافيا العسكرية لصعوبة التمييز بينهما.
وتمثل الجغرافيا عمقاً أساسياً لكل التحركات العسكرية وسير العمليات الحربية، إذ أنه من المستحيل فصل العمليات العسكرية عن ظروف البيئة الجغرافية حيث تمثل الأرض بواقعها الطبيعي والبشري مسرحاً للعمليات العسكرية. لذا تهتم الجغرافيا العسكرية بدراسة العلاقة بين البيئة الجغرافية من جهة وبين الأنشطة العسكرية من جهة أخرى.
وهناك ارتباط وثيق بين الجغرافيا العسكرية والإستراتيجية الوطنية . إذ تبحث الأولى عن الخطوط العريضة، التي تحدد اتجاه القوى، والأهداف، والمصالح القومية، وتحديد أماكن النزاع الفعلي أو المحتملة، والتنبؤ بوقت ومكان الأحداث، وتهتم الثانية بإعداد، واستخدام القوة السياسية والاقتصادية للدولة، إلى جانب قوتها المسلحة في السلم والحرب لتامين الأهداف الوطنية. لذا يصعب الفصل بينهما فكل واحدة منهما تعتمد على الأخرى، تتأثر بها وتؤثر عليها، كذلك يصعب فصل الإستراتيجية العسكرية عن الشؤون السياسية، والمدنية، والاقتصادية، وذلك لأن الحرب لا تقتصر على معارك الجيوش في الميدان، بل تشمل جميع مظاهر الحياة كذلك.
ومن البديهيات أن العلاقة وثيقة بين الجغرافيا العسكرية والحرب، فعندما تتوتر العلاقات بين الدول وتصل إلى درجة الحرب، تقوم الجغرافيا العسكرية برسم المسارات الجغرافية البرية والبحرية، التي سوف تنتهجها القوات المحاربة في سبيل الوصول للهدف، فضلاً عن أنها تحدد مواقع الأهداف الرئيسية الحيوية، التي يكون في تدميرها أثر على إعاقة تقدم الجيش المعادي، مثل الطرق والكباري والمناطق الصناعية، وتعد الأخيرة من الأهداف الإستراتيجية المهمة في الحرب، لأنها تزود الجيش المحارب بالضرورات اللازمة، وتدميرها يثير القلق داخل صفوف الجيش المعادي. أي أن للجغرافيا العسكرية دوراً فعالاً في كل أنواع الحروب البرية، والبحرية، والجوية، توضحها الدراسة التالية.
1. الجغرافيا العسكرية والحرب البرية
غالباً ما يكون الهدف من الحرب البرية الضغط المباشر على أفراد الشعب المعادي، بتدمير وسائل المقاومة لديه، والسيطرة على مراكز القوى التي يعتمد عليها. بمعنى أن الهدف الرئيسي من الحرب البرية تحطيم جيش العدو عن طريق تدمير مراكز الصناعات الحربية، والمدنية، والمراكز التجارية، باعتبار أنها تحد من قدرة العدو على القتال وإشعاره بأنه غير قادر على إحراز أي نصر عسكري وكشفه أمام شعبه بأنه غير قادر على الحفاظ على أراضيه مما يؤدي إلى انهيار الروح المعنوية لدى الشعب واستسلامه أمام عدوه.
وتحدد الجغرافيا العسكرية المحاور الرئيسية على الجبهة، التي تتوزع عليها القوات، بشن هجوم مباشر على القوات المعادية بعد تحديد مناطق الضعف فيه، حتى تتمكن من الدخول إلى أراضيه، أو التسلل من حوله للوصول خلف صفوفه لقطع طرق النقل والمواصلات، وبالتالي شل حركات الإمداد والتموين إليه، وتراعي الجغرافيا العسكرية في ذلك العوائق الطبيعية مثل التضاريس والمناخ، وتشترك مع الأفرع العسكرية في تجهيز الإمكانيات اللازمة للتغلب عليها. فمثلاً في حرب أكتوبر 1973، استطاعت القوات المسلحة المصرية أن تعبر العائق المائي المتمثل في قناة السويس من ضفتها الغربية إلى الضفة الشرقية بالقوارب المطاطية، لمفاجأة العدو، واستغلال مراكز الضعف في جبهته، ثم مُدَّت بالآليات والمركبات بعد بناء كوبري سابق التجهيز. أي أنه مجرد أن توضع الخطط الإستراتيجية، ويُحدد الهدف، تنطلق القوات نحو الهدف بعد دراسة وسائل الحركة والطرق، التي تتبعها الجيوش مع وضع جدول زمني للتقدم، ومراعاة العوائق التي قد تحد من كفاءة الحركة.
2. الجغرافيا العسكرية والحرب الجوية
تطورت أهداف الجغرافيا الإستراتيجية للحرب الجوية تطوراً كبيراً وسريعاً مع تطور التكنولوجيا الحديثة، فلم تعد وظيفة السلاح الجوي قاصرة على نقل الجنود، والسلاح، والذخيرة، والمؤن، لتعزيز الهجوم العسكري، بل تطور دورها، وأصبحت تسهم بدور فعال وبخاصة خلف خطوط العدو وفي أعماق أراضيه، وذلك بتحطيم وتدمير كل ما يمكن أن يقلل من عزيمة الجيش المعادي وإرباك خطوطه، وهذا ما حدث في حرب أكتوبر 1973، حيث بدأتها مصر بالسلاح الجوي، ونجحت في تحطيم معنويات الجيش الإسرائيلي وحدت من قدرته وعزيمته على القتال.
كما تهدف الجغرافيا العسكرية إلى التحكم في الفراغ الجوي وتدمير الطائرات المعادية وحرمانها من استخدامه، وبالتالي يتمكن السلاح الجوي من السيطرة على قوات العدو البرية والبحرية، ويقوم بضربها وتحطيم الصواريخ المضادة، وبذلك يقضي على المقاومة الأرضية ضد الطائرات، وعليه يقوم بحماية، ومساعدة قواته البرية المتقدمة، وإرشادها إلى مناطق الضعف في صفوف العدو للتركيز عليها.
تهتم الجغرافيا العسكرية بدراسة الظروف المناخية لطبقات الجو، ومنها اتضح وجود تيارات هوائية شديدة السرعة، ويُطلق عليها التيارات النفاثة Jet Streams. وأول من أكد على وجود هذه التيارات رجال السلاح الجوي الأمريكي خلال الحرب العالمية الثانية أثناء عمليات هجومهم الجوي فوق الجزر اليابانية على ارتفاعات 30 ألف قدم، وقُدرت سرعة هذه التيارات حينئذ بين 200 إلى 300 ميل/ ساعة. وأصبح لهذه التيارات أهمية كبيرة في الطيران خاصة بعد استخدام الطائرات النفاثة التي تُحلق على ارتفاعات شاهقة. إذ يمكن أن تستفيد منها إذا كانت تسير في نفس اتجاها. أو تتجنبها إذ كانت تسير في اتجاه مضاد لها. كما لا يستغني السلاح الجوي والملاحة الجوية عن بيانات الطقس، وذلك تأميناً لسلامة الطلعات الجوية وحركات الطيران. ولا يتوقف دور الجغرافيا العسكرية على دراسة ظروف الطقس فحسب، بل تتعداه إلى اختيار مواقع المطارات بالأماكن، التي تقع في سهول فسيحة حتى لا تُشكل عقبة أمام الطيران من جهة، والتي يقل تعرضها لحدوث الضباب بكثرة ولا تتأثر بالزوابع والأعاصير من جهة أخرى.
3. الجغرافيا العسكرية والحرب البحرية
تقوم الجغرافيا العسكرية للحرب البحرية بتحديد المسارات البحرية والاستفادة من التيارات البحرية إذا كان الإبحار في اتجاها، أو تجنبها إذا كان خط السير في اتجاه مضاد لها، كما تهتم بدراسة العوائق، التي تؤثر على المناورات البحرية وبخاصة ما يتعلق بالظروف المناخية مثل الأعاصير ـ وما يتبعها من ارتفاع الأمواج أو ما يعرف بهياج البحر ـ والضباب وأثره في حجب الرؤية، كما تهتم بتحديد أماكن الشعاب المرجانية وجبال الجليد حتى تتجنبها السفن أثناء الملاحة البحرية، إضافة إلى أنها تُحدد أعماق البحار والمحيطات على خرائط تُعرف بالخرائط البحرية Marine Maps، كما أنها تدرس المد والجزر وحركات الأمواج واتجاهاتها.
وتهدف الجغرافيا العسكرية للحرب البحرية إلى مهاجمة السواحل وإنزال القوات عليها لتقوم بدورها في تدمير مراكز العدو الإستراتيجية والحيوية، أو في الاستيلاء على مصادر الثروة الموجودة مثل ما كان يحدث في الحروب الاستعمارية، كما تهدف إلى حماية سواحل الوطن من الهجوم، كما هو الحال بالنسبة للبحرية الأمريكية التي تعمل على درء الخطر عن القارة الأمريكية بعيداً عن سواحلها، بحيث يكون الدمار على أرضٍ غير أراضيها. فوزعت الأساطيل الحربية على المحيط الأطلسي، والهادي، والهندي، والبحر المتوسط، والبحر الكاريبي.
وتهتم الجغرافيا الطبيعية بدراسة الأغلفة الأربعة للكرة الأرضية، (الغلاف الجوي، والغلاف المائي، والغلاف الصخري، والغلاف الحيوي). أمّا الجغرافيا البشرية فتتناول دراسة الظاهرات البشرية على سطح الأرض ومدى التأثير المتبادل بينهما وبين بيئاتها الطبيعية والصور الاجتماعية الناجمة عن تفاعل الإنسان مع بيئته المحلية مثل توزيع السكان وأنماط العمران، كما تشمل دراسة النشاط البشري ومؤثراته وتوزيعاته، وكذلك التركيب السياسي للدولة بوصفه ظاهرة جغرافية، وتعرف كل الأفرع سابقة الذكر بالجغرافيا الموضوعية Topical Geography، أو الجغرافيا الأصولية Systematic Geography، وتركز على الموضوعات أكثر من تركيزها على الأماكن، أو على الظاهرات الجغرافية أكثر من المساحة. وإضافة إلى ما سبق، هناك فروع جغرافية تهدف إلى الربط بين الظاهرات الجغرافية المختلفة لإبراز العلاقة التبادلية بين الإنسان والبيئة، مثل الجغرافيا الإقليمية، والجغرافيا الطبية، وجغرافيا المياه.
k.g.b, 5 نوفمبر 2010
#5
k.g.b
القيادة
إنضم إلينا في:
30 يوليو 2008
المشاركات:
3,645
الإعجابات المتلقاة:
121
نقاط الجوائز:
62
Offline
رد: الجغرافيا العسكرية
أهمية الجغرافيا العسكرية كخلفية علمية للجيوستراتيجية
أ.د. جهاد محمد قربة
جامعة أم القرى، قسم الجغرافيا
مقدمة:
يتمتع الجغرافي في أوروبا بمكانة هامة في مجتمعه، ليس لأن كلمة "جغرافي" توقع نوع من الرهبة في عقول السكان بل لأن الثقافة العامة لهؤلاء السكان ساعدتهم على إدراك دور هذا الجغرافي في صياغة المكان وبالتالي في نشؤ وتطور عظمة الأمة، وكذلك لإدراكهم في نفس الوقت، بأن الجغرافي كان له الدور الأكبر في توثيق مواقع وحركات جيوشهم الاستعمارية وتوثيقها خرائطياً بدقة عالية، متتالية مع الزمن. أي أنهم يستشعرون من وراء الجغرافي تلك المهنة التي هيكلت ماضيهم البعيد والقريب، وساهمت في غناء أوروبا الاستعمارية وأدت إلى تكوين عظمتها العسكرية والاقتصادية حتى منتصف القرن العشرين.
والجغرافي الأوروبي بعد انقضاء الفترات الاستعمارية، شكل أصول الحضارة التي يحمل سطح الأرض أشكال بصماتها وتعكس باع الجغرافي الذي مهد هذا السطح، كونه مهندسا للمجال، لتحضير القاعدة التي سمحت لتلك المجتمعات بتطوير مرافق اقتصادهم الزراعي والصناعي والخدمي.
فالجغرافيا ليست هدفاً بحد ذاتها، بل هي وسيلة أداة، وهي تحتوي على الكل، والكل المرئي والملموس والمحسوس من سطح الأرض الذي يعيش عليه الإنسان ويحيا، يشكل الجغرافيا. ومع بداية عصر النهضة دعيت الجغرافيا بعلم "الجغرافيا الأم" لأنها أم العلوم السائدة التي اهتم بها الإنسان حيث كانت جميع الدراسات والأبحاث المتعلقة بالأرض هي "جغرافيا" وذلك حتى أواسط القرن التاسع عشر، الذي عرف البدايات الحقيقية لتخصص العلوم وتميزها وتفردها عن بعضها البعض بالتسمية، وبحقل الدراسة، وبالمنهجية، والأهداف.
فإذا كان حقل الدراسة الجغرافية هو "المكانSPACE"، فإن الجغرافيا إذن هي القاعدة الأرضية لكل أعمال البشر منذ بداية الحضارات القديمة، وسطح الأرض يحمل آثار عمل البشر التي تعكس مقدار تطورهم في مختلف العلوم وبراعتهم الحربية والبنائية.
فالجغرافيا كانت منذ أن بدأت الحضارات الأولية ولازالت هي البوتقة الأساسية للإستراتيجية العسكرية للإنسان في صياغة خططه الهجومية أو خططه التكنيكية. لقد استعرض أحد الضباط الجغرافيين الفرنسيين وهو (جوستاف ليون ينوكس ـ1890 - 1921 GUSTAVE-LEON NIOX,) في كتابه عن الجغرافيا الحربية بإسهاب دور الجغرافيا في الحروب، وهو الذي أرسى مفاهيم وأسس ومبادئ الجغرافيا الحربية، وبدأت هذه المبادئ بالتطور مع نهاية الحروب العسكرية في الفترة النابليونية، وبدأت باقي الدول الأوروبية كإيطاليا، والنمسا، والبرتغال، وسويسرا، وروسيا تستفيد من الفكر الجغرافي الحربي الفرنسي القاضي بالتعرف الجيد على مختلف عناصر جغرافية المكان من أجل استخدامها والاستفادة منها للأعراض العسكرية، فأشكال التضاريس، والمناخ، والهيدرولوجيا "جغرافية المجارى المائية السطحية"، وجغرافية النبات، تشكل قواعد العمل الرئيسة في التحليل الحربي للأغراض الدفاعية والهجومية على حد سواء.
ولأجل أن تؤدي الجغرافيا دورها، فقد قامت المدارس والكليات العسكرية الكبرى بتدريس الجغرافيا الحربية وأصولها وقواعدها وهذا الأمر يعني ويعكس أهمية العلوم الجغرافية للأغراض العسكرية! كيف لا، والجميع قادر الشعور بالكيفية التي قامت بها مختلف وزارات الدفاع في العالم القديم بتطوير أهم تابع لها وهي التوابع المتمثلة في الخدمات الطبغرافية، التي تدعى بإدارات المساحة العسكرية، أو المديريات الطبوغرافية، أو المعاهد القومية الجغرافية كما في العاصمة باريس، وكيف قامت هذه الإدارات والمعاهد المساحية ـ الجيوديزية ـ الطبغرافية بأداء دورها في تمثيل مختلف عناصر سطح الأرض خرائطيًا وبمقاييس عدة، وضعت بداية لخدمة الأغراض العسكرية وأصبحت في الوقت الحاضر تخدم مختلف النشاطات المدنية للإنسان.
ولكي يتمكن العسكريون من تنفيذ خططهم، فكان لابد من السيطرة على جغرافية سطح الأرض، فكيف يمكن السيطرة على جغرافية السطح دون التمكن منه بواسطة الخرائط العلمية الفنية عالية الدقة في التنفيذ، الأمر الذي أضفى ويضفي على العلوم الجغرافية، هذا البعد الفني الرائع الذي طورته الجغرافيا بواسطة علومها الكارتوجرافية المختلفة.
لقد سيطرت الجغرافيا على الفكر العسكري للغرب طوال القرن الثامن عشر والتاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، وكانت الجغرافيا الحربية توحد هذا الفكر العسكري الغربي، وكذلك الشرقي، أي كانت تشكل عامل مشترك للفكر الاستراتيجي العسكري للقوى الكبرى في العالم. ولأسباب تتعلق بأساليب الكشف المتطورة فيما وراء الحدود التي عرفها العالم بعد الحرب العالمية الثانية، ومنها الكشف الراداري المحمول بواسطة الطائرات والأقمار الصناعية، تطور المسح الأرض بواسطة الأقمار الصناعية، وتطورت آليات المسح الفضائي والجوي الرقمي واستخدام الحواسيب في آليات الكشف والتحليل، جعلت الجغرافيا بداية تتجرد من أهميتها الحربية، ولتصبح "جغرافيا مدنية" وتحولت الدراسات والأبحاث الجغرافية من أهدافها لتستقر عند تطوير واستخدام سطح الأرض الاستخدام الأمثل، وتحول الجغرافي من مهندس حربي للمكان الى مهندس تخطيطي للمجال، وفي نفس الوقت أدى إلى ترجيح كفة العلوم الجغرافية باتجاه التطبيقات الحضرية عوضًا عن التطبيقات الحربية التي كانت سائدة في القرنين 18 و19 وبداية القرن العشرين.
لقد عرفت الجغرافيا الحربية ذروتها في القرن التاسع عشر، ففي إيطاليا تؤكد دراسات "Ferrucio Botti" ذلك وبأن الجغرافيا كانت أهم مركبة يجب أن تدرك في الفنون العسكرية، وفي الواقع وتأثرت المدرسة الفرنسية العسكرية بالمدرسة الايطالية واشتهر في فرنسا عدد في كبار الضباط الذين تخصصوا في الجغرافية الحربية خاصة بعد الحرب الفرنسية الألمانية (1870-1871م) ومنهم على سبيل المثال وليس الحصر"Niox" و "Marga"الذين قاما بتأليف موسوعة هامة في الجغرافيا الحربية الفرنسية وقاما بتدريسها حتى نهاية الثلاثينات من القرن العشرين.
أما سويسرا فقد كان لها باع كبير في الجغرافيا العسكرية الحربية التي طورها وساهم في بلورة أهميتها في المعارك الحديثة العقيد "Arnold keller" الذي كان رئيساً لأركان الجيش السويسري، قام بدوره بتأليف مرجع في الجغرافيا العسكرية لسويسرا وهو مكون من 34 كتاب (جزء) بين عامي 1906 و1922م، وكان يعتقد بأن الدول الأوروبية لن تحترم كون سويسرا دولة محايدة غير حربية وغير عدوانية، وبأنها ستتعرض للعدوان المباشر أو ستستخدم أراضيها لعبور الجيوش المتحاربة.
وهكذا نجد بأن لكل دولة أوروبية عدد من الجغرافيين العسكريين الذين ساهموا في وضع استراتيجيات دفاعية هامة عن بلادهم أخذ بعين الاعتبار الخصائص الجغرافية داخل المجال الوطني، وكذلك أخذا بعين الاعتبار شروط الموقع وخصائصه، ونستطيع أن نجد في السويد أعمال "Gunnar Aselius" وفي رومانيا أعمال "Tudorel Ene" وفي البرتغال أعمال "Toao Vieira Borges".
ولا يستطيع أحد الجزم بأن الجغرافيا الحربية هي جغرافيا أوروبية فإن عدد كبير من الدراسات الجغرافية العسكرية ظهرت في كندا بين عامي 1867 و2002م والتي تؤكد بأن المدرسة الجغرافية العسكرية الكندية بعد تأثرها بالفكر الفرنسي تحولت إلى التأثير بالفكر الأنكلوساكسوني الأميركي.
وبالرغم من تراجع كفة الجغرافيا الحربية في الغرب لتحل محلها الجغرافيا المدنية أو الحضرية، فقد بقيت الجغرافيا الحربية ذات أهمية خاصة في مجموعة الدول الأسيوية وخاصة لدى المفكرين العسكريين في اليابان، والصين وكوريا وأندونسيا، دراسات "Kyoichi Tachi Kawa" في اليابان تثبت بأن من أهم أهداف الجغرافيا الحربية في اليابان تكمن في تنظير المجال "Space" لأغراض إستراتيجية تطبيقية دفاعية أو هجومية وأقرت قيادة أركان الجيش الياباني أهمية الجغرافيا الحربية من خلال هذا التعريف منذ عام 1941.
الدراسات والأبحاث في الجغرافيا الحربية أو العسكرية التي عرفت ذروتها في القرن 19 أدت إلى تطوير علوم عسكرية هامة منشقة أو متفرعة منها وخاصة علم الجيوستراتيجية "Geostrategy" أو الجغرافيا الإستراتيجية ـ فما هي أصول هذه الجغرافيا ومفاهيمها.
الجيوستراتيجية:
التغيرات الملاحظة في الفنون الحربية والأدوات الالكترونية المستخدمة بها لعمليات الكشف المكاني، وللكشف فيما وراء الخطوط بالإضافة إلى الاستخدام الموسع لآليات القتال عن بعد ولوسائل التدمير الشامل غير الإستراتيجية، ومختلف أنواع الحروب الإعلامية المتطورة، والالكترونية، وحروب المحاصرة السياسية والمحاصرة الاقتصادية، والتجليات التي أدت الى تطور آليات الحروب الاقتصادية، ناهيكم عن حرب النجوم، والحروب التجسسية العسكرية منها والاقتصادية، القائمة حتى بين الدول الصديقة، جعلت الجيوستراتيجية تتخذ لنفسها أبعاد عملاقة تتعدى حدود القارات لتشمل العالم أجمع وتعتبر الأرض بأنها ميدان واحد للعمليات، وأنه على المفكرين المتخصصين في الجيوستراتيجية أن يتدربوا على هذا البعد الكوني، بالرغم من كون هذا المسرح العالمي للعمليات الذي هو ميدان الجيوستراتيجية مع مطلع القرن 21، هو مسرح مركب بداخله يحتوي على عدد من المستويات السياسية والاقتصادية الخاصة بعلاقة الدول مع بعضها البعض، تحدد أنماط المسارح الرئيسة للعمليات، التي تتفاوت فيما بينها من حيث الأهمية، ومن حيث النتائج المتولدة عن انتهاء أو وصول إحدى العمليات الى أهدافها الجزئية أو الكلية.
ونستطيع على سبيل المثال، مقارنة مسرح العمليات في جنوب الهادي المشتمل على بعض المستعمرات الفرنسية القديمة، الذي بدأ دوره بالتقلص من حيث كونه مسرحاً ذو أهمية سياسية خاصة بعد أن انتهت فرنسا من إجراء آخر تجاربها النووية في عام 1995، مع المسرح العمليات لشمال الأطلسي الذي يعتبر جزيرة أيسلندة مركزًا جغرافيا له. لقد بدأت الأهمية الجيوستراتيجية لهذا المسرح بالتطور بشكل عجيب كون أيسلندة جزيرة مفصلية بين العالم القطبي والعالم الأطلسي، مما جعل أيسلندة غير قادرة على الحفاظ على حيادها السياسي.
ومن ناحية أخرى، يلاحظ إجماع المتخصصين، على أن من أهم المسارح الجيوستراتيجية على الإطلاق هو المسرح المكون من مجموعة دول الخليج وبلاد الشام ومصر، الذي يعتبر محركاً للسياسة العالمية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والذي استقطب وسيستقطب أهم المخططين الجيوستراتجيين في العالم.
المسارح الجيوستراتيجية الإقليمية تعكس أصداء المستويات الثلاثة للعمل الجيوستراتجي، وهي المستوى العالمي والمستوى الإقليمي، والمستوى المحلي، وتداخل أصداء الجيوستراتيجية الخاصة بهذه المستويات الثلاثة داخل أحد مسارح العمليات، يؤول إلى نشوء وضعيات في غاية التعقيد، ونتائج يصعب أحيانا تحملها على المستويين السياسي والاقتصادي، ولا أدل على ذلك إلا بالنظر إلى مسرح العمليات في منطقة الشرق العربي، والعلاقات الإستراتيجية المعقدة الناتجة عن الصراع العربي الإسرائيلي.
والسؤال الأهم الذي يطرح نفسه الآن يكمن في ماهية دور الجيوستراتيجية؟، وهل نعتبرها كلمة مرادفة إضافية لمجموعة المفردات المتوفرة لدينا مثل: الجغرافيا السياسية، أو جغرافية التفكير السياسي؟، أم أن الجيوستراتيجية هي علم حديث له تصوراته ومبادئه ومنهجياته وطرقه، تاريخه وفلسفته، وأنه كعلم قادر على الإجابة على الإشكاليات التي تجابهه والتي تنتج عنه؟
وتعتبر الإجابة عن هذه الأسئلة عملا ضخما لا يستطيع محيط هذا المقال من استيعابها، وستؤدي الى تأليف عدد في الكتب المتعلقة بالجيوستراتيجية، لذلك فمن المفضل الاكتفاء بتناول المعنى الأكثر قربا لإدراك تعريف مقبول لها، فإذا قبلنا بأن الجغرافيا السياسية تعني سياسة المجال أو سياسة المكان فأن الجيوستراتيجية تعني إستراتيجية المجال أو إستراتيجية المكان. وهنا نستطيع أن ندرك بأن الجيوستراتيجية تعني عبقرية إدراك الخصائص المكانية ـ الجغرافية لاستخدامها لمختلف الأهداف العسكرية،السياسية، أو الاقتصادية بهدف السيطرة وتحقيق المكاسب التي تعتبر المكاسب العسكرية جزء منها.
المركبات الجغرافية للجيوستراتيجية:
يستطيع المجال أو سطح الأرض أن يشكل حاجزا منيعا، تستهلك بداخله العدة والعتاد، وكلما كبرت أبعاد مسرح العمليات كلما انخفضت النتائج المتوخاة من الخطط الإستراتيجية المتبعة للوصول إلى الهدف، بالرغم من استخدام الإنسان الحديث لوسائل نقل وأدوات اتصال، وطرق إليكترونية متطورة لكشف ما وراء مسارح العمليات ولكشف مسارح عمليات الآخر. ومن الخطأ في العمل الجيوستراتجي إدراك المسافات والأبعاد فقط لكونها تعتبر أهم المكونات الجغرافية للمسارح الجيوستراتيجية، وعليه فإن المخطط الجيوستراتجي العامل لأهداف عسكرية أو اقتصادية أو لأهداف إدارية ـ سياسية، أن يعتمد مختلف العناصر الجغرافية في خططه، وهكذا نستطيع دون الدخول في تفاصيل نوعية المخطط الاستراتيجي والأهداف المنوطة بالعمل الجيوستراتجي، القول بضرورة الاعتماد على كافة العوامل الجغرافية التي تتضافر وتتفاعل مع بعضها البعض لتكوين الشخصية الجغرافية لمختلف المسارح الجيوستراتيجية.
المسافة:
يتحدد المسرح الاستراتيجي للعمليات مع كبر المسافات المقطوعة، بالرغم من أن التطور التكنولوجي لوسائل النقل أدى إلى إدخال تغيرات هامة في كيفية التعامل مع هذا العامل الجغرافي للحد من تأثيراته، فبينما كانت الحرب العالمية الأولى ذات مسرح عمليات جيوستراتجي ينحصر في قارة أوروبا، صار المسرح العمليات الجيوستراتيجية للحرب العالمية الثانية مسرحا دوليا عالميا. واليوم بعد أن استطاعت التكنولوجيا الحديثة هضم المسافات الأرضية بانتقالها إلى تطويع المجالات الفضائية، لتدخل أبعادا إضافية في الجيوستراتيجيات الحديثة، والمتمثلة في السيطرة على المسارح الجيوستراتيجية للأرض ابتداء من الفضاء، مما أدى الى تطوير تعابير جديدة منها على سبيل المثال لا الحصر " الجيوستراتيجية الفضائية" التي يكمن دورها في تقديم الدعم الفضائي لمسارح العمليات وأصبحت النتائج العملياتية متعلقة بنوعية التوابع المستخدمة مما جعل للجيوستراتيجية مركبة تقنية ـ فضائية هامة جدا.
الشروط المناخية:
تأثير المناخ على المسارح الجيوستراتيجية هو من المسلمات التي تمت دراستها عدد كبير في المرات ، ولا شك بأن الشروط المناخية تدخل تغيرات تؤدي إلى تأجيل تنفيذ أو إلغاء العمليات التكتيكية التي تمهد لتطبيق الخطط الجيوستراتيجية على المجال العملياتي إن كان عسكريا أو اقتصاديا أو لأغراض الإدارة المدنية كإدارة الأراضي وغيرها.
والأمثلة كثيرة في تاريخ الحروب العالمية والإقليمية، فالثلوج تمنع من استخدام جيد ومتناغم لسلاح الطيران، كما أن العواصف الرملية تؤدي إلى تعطيل كامل ومحتم للعمليات التكتيكية، والترب الطينية المتولدة عن ذوبان الجليد تؤثر في حركة الآليات الثقيلة، والحرارة الناتجة عن تشغيل محرك الدبابات الثقيلة وناقلات الجنود الميدانية، تسمح بكشفها في ليالي الباردة، وفي الأراضي ذات المناخات الباردة وشبه القطبيةْ، ناهيكم عن تأثير التجلد أو الجمد على رجال العمليات الميدانية بمختلف أنواعها، وخاصة في الأراضي ذات المناخات الصعبة القريبة في المناطق القاحلة أو القطبية الصرفة، وأراضي الجبال العالية في العروض المعتدلة وغير المعتدلة في كافة فصول السنة.
الطبوغرافية:
تحدد الطبوغرافية ممرات واتجاهات العمليات والتنقلات العسكرية والبشرية الهامة للبضائع والسلع والتكنولوجيا، وغالبا ما تشكل الممرات مثل ممر خيبر في أفغانستان المستخدم من قبل الغزاة والفاتحين منذ الاسكندر الكبير، الطريق الوحيدة المفتوحة للحركة، ناهيكم عن الفتحات الجبلية التي لولاها لما استطاعت الحركة البشرية مهما كانت أغراضها أن تتم بسهولة على سطح الأرض كفتحة فولدا في وسط ألمانيا وفتحة كوزيزيا على الحدود الإيطالية، وفتحة حمص في سوريا والممرات الجبلية بين سلاسل الأطلس المتوسط والأطلس الكبير في المغرب العربي التي لولاها لما استطاع الإنسان التحرك بين الواجهتين الأطلسية والقارية للمغرب.
الجميع يعلم أهمية ودور التلال في تكوين التحصينات العسكرية المتقدمة في الجبهات القتالية الحديثة، وخير مثال على ذلك تمركز الجيش الإسرائيلي بشكل دائم على رؤوس التلال في جبهاته الشمالية مع سورية ولبنان، واستغلاله لأعلى قمة في المنطقة وهي قمة جبل الشيخ لإنشاء أكبر مرصد عسكري إلكتروني حديث في المنطقة، ونجد من ناحية أخرى أهمية الطبوغرافية في العمليات العسكرية في الحرب الدائرة في جبال كشمير بين الهند وباكستان، وكذلك في أفغانستان، حيث تلعب طبوغرافية الجبال دورا هاما في فشل أو نجاح العمليات التكتيكية بين مختلف أطراف النزاع الميداني، ناهيكم عن المناوشات الكردية التركية في شمال العراق التي بدورها تستفيد من الطبوغرافية الجبلية بشكل موسع.
وفي البحار والمحيطات فإن الممرات والمضائق البحرية تشكل نقاط إستراتيجية هامة، تحاول الدول القوية بحريا في العالم السيطرة عليها، كما أن أشكال السواحل وتعرجاتها تؤدي إلى نشوء حماية طبيعة للدفاع عن الأراضي الساحلية ولحماية السفن والمراكب في أيام الحرب، أما في أيام السلم فهي تشكل موانئ طبيعية تسمح لمختلف أنواع المراكب والبواخر باستخدامها كملاجئ أيام الاضطرابات الجوية الهامة.
شبكة الطرق والمواصلات:
جاء التطور التقني الخاص بالمركبات والآليات والسيارات المختلفة بضرورات جديدة خاصة بشبكة الطرق والمواصلات التي يجب أن تكون شبكة من الطرق المعبدة بشكل تسمح بتحقيق سرعات عالية مع تحمل كثافة مرورية عالية، وأن تكون بشكل دائم جيدة الصيانة، لتسهيل الحركة داخل مسارح العمليات إن كانت عسكرية أو مدنية.
ولا شك بأن تطوير شبكات الطرق يؤدي إلى تسهيل مهمة المحتل في المسارح العسكرية، كما حدث للجيوش الألمانية عند احتلالها للأراضي الفرنسية التي تحمل فوقها شبكة كثيفة من الطرق.
وكانت الطائرات في الحرب العالمية الثانية قادرة على الهبوط على أية أرض مستوية، أما اليوم فإن الطائرات الحديثة بمختلف أغراضها تتطلب تطوير قواعد جوية تحتوي على مختلف التجهيزات الخاصة بالطيران النفاث وصيانته، وتحولت بدورها القواعد الجوية إلى قواعد عسكرية قتالية من الطراز الأول، وهذا الأمر جعل منها أهداف يجب السيطرة عليها في الجيوستراتيجيات التكتيكية.
تناسب القوى:
والمقصود بهذا العامل هو "السكان"، فالكثافات السكانية لمختلف مسارح العمليات، وبقع التنازع السلمي والعسكري وكذلك أقاليم التطوير الإداري ـ السياسي التي تتطلب جيوستراتيجيات سلمية خاصة للتخطيط وإعادة استغلال الأراضي. فالحجوم السكانية تشكل قوى تؤدي إلى تزويد مسارح العمليات بالرجال ـ الأفراد، وكذلك تؤدي إلى تزويد السلطات العليا المسؤولة عن مسارح العمليات بالمفكرين القادرين على إدارة الأزمات إن كانت حربية أو مدنية.
الإنسان مولد للثروة وللتكنولوجية ومن هنا تأتي الأهمية الإستراتيجية لبعض الدول النامية كالصين والهند واندونيسيا والبرازيل، فالقوة البشرية أدت إلى تغيير النزاع أو تحويله لصالح المحتل أو لإيقاف العمليات العسكرية وتغيير مهمتها، وهذا ما أدى إلى تطور حروب العصابات لدى المجتمعات المتفوقة بأعداد سكانها والضعيفة تكنولوجيا، والأمثلة في هذا المجال لا تعد ولا تحصى في التاريخ القديم والحديث، لعدد من دول العالم شرقه وغربه، فهل تعتبر مهمة الجيوستراتيجية غزو المكان أم أن أهدافها المعلنة تكمن في استخدام خصائص المكان من أجل إعادة تطويعه لأغراض الإنسان النفعية الاقتصادية منها وغير الاقتصادية.
ومن أجل الوصول إلى هذا الهدف فإن الجيوستراتيجية الحديثة تبحث عن تطوير الأمن القومي الداخلي كونه الإطار الذي يسمح بتطوير الأمة بمختلف قطاعاتها الاقتصادية، وإتباع الجيوستراتيجية الحديثة لمنهج "سلمي" قائم على تطوير آليات الدفاع عن المسرح العملياتي القومي الوطني الذي يمتد على كامل التراب الوطني للدول، ولا يعني هذا تخلي أصحاب القرار الجيوستراتيجي خاصة في الدول الكبرى عن طموحاتهم في السيطرة على اقتصاديات العالم للمحافظة على مكتسباتهم في خيراته وثرواته، لدرجة جعلت رؤساء بعض من هذه الدول يعلنون صراحة أنه من الخطأ التفكير بأن دولنا هي دول محايدة، ولن تتردد في استخدام الخيارات العسكرية المدعومة بالسلاح الرادع لتحقيق الأهداف الستراتيجية لحماية مصالحها.
ويلاحظ المهتمون والمتابعون لشؤون السياسة العالمية، بأن تطوير العالم لتكنولجيا المراقبة الفضائية باستخدام توابع ذات مرئيات عالية الوضوح المكاني، كمرئيات التابع الصناعي "إيكونس" والتابع الصناعي "كويك بيرد" جعل للجيوستراتيجية بشقيها العسكري والمدني بعداً فضائياً هاماً، كما يمكن اعتماد التفكير المغاير لذلك، والقول بأن الطموحات التي مازالت كثيرة ومتعددة للدول المتقدمة في العالم في حربها الاقتصادية، ونتيجة لمتطلبات الجيوستراتيجية الحديثة، فقد تم تطوير هذه التوابع الصناعية الماسة للأرض التي تقدم مرئيات في غاية الدقة والتفصيل لمختلف مسارح العمليات.
ولا شك في هذا المجال بأن الهدف الثاني والأكبر بعد الهدف الرئيسي الأول للجيوستراتيجية الحديثة، يكمن في تحقيق المكاسب وتكوين مناطق التأثير والأنظمة اللاحقة أو التابعة، ذلك أن الجيوستراتيجية التطبيقية تتطلب أن يكون هناك منافع ومكاسب من وراء الأراضي المحتلة ، التابعة أو الحليفة، بشكل مباشر أو غير مباشر عن طريق عبقرية اتخاذ القرار الصادر عن الاستراتيجي المسيطر أو الأقوى الذي يتخذ عادة "القرارات التكتيكية الهجومية" التي لها بالضرورة علاقات مكانية، وإلا فإنها لن تكون جيوستراتيجية ولن يتمكن الاستراتيجي من تطويع "مكان الآخر" لصالحه، وذلك باعتماد واقع المكان والعلاقات السياسية ـ الاقتصادية المهيمنة أو السائدة والأهداف الإستراتيجية المطلوب الوصول إليها.
وتحتاج الجيوستراتيجية اذن إلى المعلومة المكانية ـ الزمنية، وهذه المعلومة يجب أن تكون موثقة وصحيحة لكي تتمكن القرارات التكتيكية الصادرة حسب الخطة الجيوستراتيجة من أن تكون صحيحة وقيمة وبالتالي ذات فاعلية، والحصول على المعلومات المكانية بأن عن طريقين فقط هما: العمل الميدان، وآليات استشعار عن بعد بواسطة المرئيات الفضائية عالية الدقة، كما أن الحصول على المعلومات المكانية المرئية والبيانات الخاصة بمختلف الخصائص الجغرافية لأي مسرح عمليات تسمح بعزل وحصار هذا المسرح إعلامياً وقطعه عن العالم مما يؤدي إلى شلل كبير في مختلف مرافق هذا المسرح وسرعة وقوعه كقيمة نافعة إن كان ذلك بالمعنى الفكري أو المدني للجيوستراتيجية المستخدمة.
وهكذا نجد بأن الجيوستراتيجية هي ليست نوعاً من أنواع الإستراتيجية لأن المسئول الجيوستراتجي يهدف إلى السيطرة المتكاملة على المجال ـ الزمن من أجل أن يتمكن الإستراتيجي من اتخاذ قراره الصحيح والأمثل، ونظرياً نعتقد بأن الجيوستراتيجية لا تستخدم لأغراض "محو الآخر" أي لأغراض عسكرية بل هي تقوم على دراسة الطرق الأمثل لتنظيم المجال لزمن محدد لتحقيق أهداف عسكرية ومدنية ولخدمة الاستراتيجية السياسية ـ الاقتصادية، فهي إذن من هذا المنطلق أداة تقنية لاتخاذ القرار وهي تكتسب كل أهميتها من هذا المنطلق.
- اقتباس :
- الجغرافيا العسكرية والحروب
تمثل القوى المسلحة السند الحقيقي للسياسة، وتساند السياسة بالمثل القدرة العسكرية وتخفف الأعباء عن القوات المسلحة، أي أنه من الصعب الفصل بين النواحي السياسية والعسكرية، كذلك يصعب الفصل بين الجغرافيا السياسية والجغرافيا العسكرية لصعوبة التمييز بينهما.
وتمثل الجغرافيا عمقاً أساسياً لكل التحركات العسكرية وسير العمليات الحربية، إذ أنه من المستحيل فصل العمليات العسكرية عن ظروف البيئة الجغرافية حيث تمثل الأرض بواقعها الطبيعي والبشري مسرحاً للعمليات العسكرية. لذا تهتم الجغرافيا العسكرية بدراسة العلاقة بين البيئة الجغرافية من جهة وبين الأنشطة العسكرية من جهة أخرى.
وهناك ارتباط وثيق بين الجغرافيا العسكرية والإستراتيجية الوطنية . إذ تبحث الأولى عن الخطوط العريضة، التي تحدد اتجاه القوى، والأهداف، والمصالح القومية، وتحديد أماكن النزاع الفعلي أو المحتملة، والتنبؤ بوقت ومكان الأحداث، وتهتم الثانية بإعداد، واستخدام القوة السياسية والاقتصادية للدولة، إلى جانب قوتها المسلحة في السلم والحرب لتامين الأهداف الوطنية. لذا يصعب الفصل بينهما فكل واحدة منهما تعتمد على الأخرى، تتأثر بها وتؤثر عليها، كذلك يصعب فصل الإستراتيجية العسكرية عن الشؤون السياسية، والمدنية، والاقتصادية، وذلك لأن الحرب لا تقتصر على معارك الجيوش في الميدان، بل تشمل جميع مظاهر الحياة كذلك.
ومن البديهيات أن العلاقة وثيقة بين الجغرافيا العسكرية والحرب، فعندما تتوتر العلاقات بين الدول وتصل إلى درجة الحرب، تقوم الجغرافيا العسكرية برسم المسارات الجغرافية البرية والبحرية، التي سوف تنتهجها القوات المحاربة في سبيل الوصول للهدف، فضلاً عن أنها تحدد مواقع الأهداف الرئيسية الحيوية، التي يكون في تدميرها أثر على إعاقة تقدم الجيش المعادي، مثل الطرق والكباري والمناطق الصناعية، وتعد الأخيرة من الأهداف الإستراتيجية المهمة في الحرب، لأنها تزود الجيش المحارب بالضرورات اللازمة، وتدميرها يثير القلق داخل صفوف الجيش المعادي. أي أن للجغرافيا العسكرية دوراً فعالاً في كل أنواع الحروب البرية، والبحرية، والجوية، توضحها الدراسة التالية.
1. الجغرافيا العسكرية والحرب البرية
غالباً ما يكون الهدف من الحرب البرية الضغط المباشر على أفراد الشعب المعادي، بتدمير وسائل المقاومة لديه، والسيطرة على مراكز القوى التي يعتمد عليها. بمعنى أن الهدف الرئيسي من الحرب البرية تحطيم جيش العدو عن طريق تدمير مراكز الصناعات الحربية، والمدنية، والمراكز التجارية، باعتبار أنها تحد من قدرة العدو على القتال وإشعاره بأنه غير قادر على إحراز أي نصر عسكري وكشفه أمام شعبه بأنه غير قادر على الحفاظ على أراضيه مما يؤدي إلى انهيار الروح المعنوية لدى الشعب واستسلامه أمام عدوه.
وتحدد الجغرافيا العسكرية المحاور الرئيسية على الجبهة، التي تتوزع عليها القوات، بشن هجوم مباشر على القوات المعادية بعد تحديد مناطق الضعف فيه، حتى تتمكن من الدخول إلى أراضيه، أو التسلل من حوله للوصول خلف صفوفه لقطع طرق النقل والمواصلات، وبالتالي شل حركات الإمداد والتموين إليه، وتراعي الجغرافيا العسكرية في ذلك العوائق الطبيعية مثل التضاريس والمناخ، وتشترك مع الأفرع العسكرية في تجهيز الإمكانيات اللازمة للتغلب عليها. فمثلاً في حرب أكتوبر 1973، استطاعت القوات المسلحة المصرية أن تعبر العائق المائي المتمثل في قناة السويس من ضفتها الغربية إلى الضفة الشرقية بالقوارب المطاطية، لمفاجأة العدو، واستغلال مراكز الضعف في جبهته، ثم مُدَّت بالآليات والمركبات بعد بناء كوبري سابق التجهيز. أي أنه مجرد أن توضع الخطط الإستراتيجية، ويُحدد الهدف، تنطلق القوات نحو الهدف بعد دراسة وسائل الحركة والطرق، التي تتبعها الجيوش مع وضع جدول زمني للتقدم، ومراعاة العوائق التي قد تحد من كفاءة الحركة.
2. الجغرافيا العسكرية والحرب الجوية
تطورت أهداف الجغرافيا الإستراتيجية للحرب الجوية تطوراً كبيراً وسريعاً مع تطور التكنولوجيا الحديثة، فلم تعد وظيفة السلاح الجوي قاصرة على نقل الجنود، والسلاح، والذخيرة، والمؤن، لتعزيز الهجوم العسكري، بل تطور دورها، وأصبحت تسهم بدور فعال وبخاصة خلف خطوط العدو وفي أعماق أراضيه، وذلك بتحطيم وتدمير كل ما يمكن أن يقلل من عزيمة الجيش المعادي وإرباك خطوطه، وهذا ما حدث في حرب أكتوبر 1973، حيث بدأتها مصر بالسلاح الجوي، ونجحت في تحطيم معنويات الجيش الإسرائيلي وحدت من قدرته وعزيمته على القتال.
كما تهدف الجغرافيا العسكرية إلى التحكم في الفراغ الجوي وتدمير الطائرات المعادية وحرمانها من استخدامه، وبالتالي يتمكن السلاح الجوي من السيطرة على قوات العدو البرية والبحرية، ويقوم بضربها وتحطيم الصواريخ المضادة، وبذلك يقضي على المقاومة الأرضية ضد الطائرات، وعليه يقوم بحماية، ومساعدة قواته البرية المتقدمة، وإرشادها إلى مناطق الضعف في صفوف العدو للتركيز عليها.
تهتم الجغرافيا العسكرية بدراسة الظروف المناخية لطبقات الجو، ومنها اتضح وجود تيارات هوائية شديدة السرعة، ويُطلق عليها التيارات النفاثة Jet Streams. وأول من أكد على وجود هذه التيارات رجال السلاح الجوي الأمريكي خلال الحرب العالمية الثانية أثناء عمليات هجومهم الجوي فوق الجزر اليابانية على ارتفاعات 30 ألف قدم، وقُدرت سرعة هذه التيارات حينئذ بين 200 إلى 300 ميل/ ساعة. وأصبح لهذه التيارات أهمية كبيرة في الطيران خاصة بعد استخدام الطائرات النفاثة التي تُحلق على ارتفاعات شاهقة. إذ يمكن أن تستفيد منها إذا كانت تسير في نفس اتجاها. أو تتجنبها إذ كانت تسير في اتجاه مضاد لها. كما لا يستغني السلاح الجوي والملاحة الجوية عن بيانات الطقس، وذلك تأميناً لسلامة الطلعات الجوية وحركات الطيران. ولا يتوقف دور الجغرافيا العسكرية على دراسة ظروف الطقس فحسب، بل تتعداه إلى اختيار مواقع المطارات بالأماكن، التي تقع في سهول فسيحة حتى لا تُشكل عقبة أمام الطيران من جهة، والتي يقل تعرضها لحدوث الضباب بكثرة ولا تتأثر بالزوابع والأعاصير من جهة أخرى.
3. الجغرافيا العسكرية والحرب البحرية
تقوم الجغرافيا العسكرية للحرب البحرية بتحديد المسارات البحرية والاستفادة من التيارات البحرية إذا كان الإبحار في اتجاها، أو تجنبها إذا كان خط السير في اتجاه مضاد لها، كما تهتم بدراسة العوائق، التي تؤثر على المناورات البحرية وبخاصة ما يتعلق بالظروف المناخية مثل الأعاصير ـ وما يتبعها من ارتفاع الأمواج أو ما يعرف بهياج البحر ـ والضباب وأثره في حجب الرؤية، كما تهتم بتحديد أماكن الشعاب المرجانية وجبال الجليد حتى تتجنبها السفن أثناء الملاحة البحرية، إضافة إلى أنها تُحدد أعماق البحار والمحيطات على خرائط تُعرف بالخرائط البحرية Marine Maps، كما أنها تدرس المد والجزر وحركات الأمواج واتجاهاتها.
وتهدف الجغرافيا العسكرية للحرب البحرية إلى مهاجمة السواحل وإنزال القوات عليها لتقوم بدورها في تدمير مراكز العدو الإستراتيجية والحيوية، أو في الاستيلاء على مصادر الثروة الموجودة مثل ما كان يحدث في الحروب الاستعمارية، كما تهدف إلى حماية سواحل الوطن من الهجوم، كما هو الحال بالنسبة للبحرية الأمريكية التي تعمل على درء الخطر عن القارة الأمريكية بعيداً عن سواحلها، بحيث يكون الدمار على أرضٍ غير أراضيها. فوزعت الأساطيل الحربية على المحيط الأطلسي، والهادي، والهندي، والبحر المتوسط، والبحر الكاريبي.
وتهتم الجغرافيا الطبيعية بدراسة الأغلفة الأربعة للكرة الأرضية، (الغلاف الجوي، والغلاف المائي، والغلاف الصخري، والغلاف الحيوي). أمّا الجغرافيا البشرية فتتناول دراسة الظاهرات البشرية على سطح الأرض ومدى التأثير المتبادل بينهما وبين بيئاتها الطبيعية والصور الاجتماعية الناجمة عن تفاعل الإنسان مع بيئته المحلية مثل توزيع السكان وأنماط العمران، كما تشمل دراسة النشاط البشري ومؤثراته وتوزيعاته، وكذلك التركيب السياسي للدولة بوصفه ظاهرة جغرافية، وتعرف كل الأفرع سابقة الذكر بالجغرافيا الموضوعية Topical Geography، أو الجغرافيا الأصولية Systematic Geography، وتركز على الموضوعات أكثر من تركيزها على الأماكن، أو على الظاهرات الجغرافية أكثر من المساحة. وإضافة إلى ما سبق، هناك فروع جغرافية تهدف إلى الربط بين الظاهرات الجغرافية المختلفة لإبراز العلاقة التبادلية بين الإنسان والبيئة، مثل الجغرافيا الإقليمية، والجغرافيا الطبية، وجغرافيا المياه.
[*:b1b6]
الجغرافيا العسكرية
- اقتباس :
-
أهمية الجغرافيا العسكرية كخلفية علمية للجيوستراتيجية
أ.د. جهاد محمد قربة
جامعة أم القرى، قسم الجغرافيا
مقدمة:
يتمتع الجغرافي في أوروبا بمكانة هامة في مجتمعه، ليس لأن كلمة "جغرافي" توقع نوع من الرهبة في عقول السكان بل لأن الثقافة العامة لهؤلاء السكان ساعدتهم على إدراك دور هذا الجغرافي في صياغة المكان وبالتالي في نشؤ وتطور عظمة الأمة، وكذلك لإدراكهم في نفس الوقت، بأن الجغرافي كان له الدور الأكبر في توثيق مواقع وحركات جيوشهم الاستعمارية وتوثيقها خرائطياً بدقة عالية، متتالية مع الزمن. أي أنهم يستشعرون من وراء الجغرافي تلك المهنة التي هيكلت ماضيهم البعيد والقريب، وساهمت في غناء أوروبا الاستعمارية وأدت إلى تكوين عظمتها العسكرية والاقتصادية حتى منتصف القرن العشرين.
والجغرافي الأوروبي بعد انقضاء الفترات الاستعمارية، شكل أصول الحضارة التي يحمل سطح الأرض أشكال بصماتها وتعكس باع الجغرافي الذي مهد هذا السطح، كونه مهندسا للمجال، لتحضير القاعدة التي سمحت لتلك المجتمعات بتطوير مرافق اقتصادهم الزراعي والصناعي والخدمي.
فالجغرافيا ليست هدفاً بحد ذاتها، بل هي وسيلة أداة، وهي تحتوي على الكل، والكل المرئي والملموس والمحسوس من سطح الأرض الذي يعيش عليه الإنسان ويحيا، يشكل الجغرافيا. ومع بداية عصر النهضة دعيت الجغرافيا بعلم "الجغرافيا الأم" لأنها أم العلوم السائدة التي اهتم بها الإنسان حيث كانت جميع الدراسات والأبحاث المتعلقة بالأرض هي "جغرافيا" وذلك حتى أواسط القرن التاسع عشر، الذي عرف البدايات الحقيقية لتخصص العلوم وتميزها وتفردها عن بعضها البعض بالتسمية، وبحقل الدراسة، وبالمنهجية، والأهداف.
فإذا كان حقل الدراسة الجغرافية هو "المكانSPACE"، فإن الجغرافيا إذن هي القاعدة الأرضية لكل أعمال البشر منذ بداية الحضارات القديمة، وسطح الأرض يحمل آثار عمل البشر التي تعكس مقدار تطورهم في مختلف العلوم وبراعتهم الحربية والبنائية.
فالجغرافيا كانت منذ أن بدأت الحضارات الأولية ولازالت هي البوتقة الأساسية للإستراتيجية العسكرية للإنسان في صياغة خططه الهجومية أو خططه التكنيكية. لقد استعرض أحد الضباط الجغرافيين الفرنسيين وهو (جوستاف ليون ينوكس ـ1890 - 1921 GUSTAVE-LEON NIOX,) في كتابه عن الجغرافيا الحربية بإسهاب دور الجغرافيا في الحروب، وهو الذي أرسى مفاهيم وأسس ومبادئ الجغرافيا الحربية، وبدأت هذه المبادئ بالتطور مع نهاية الحروب العسكرية في الفترة النابليونية، وبدأت باقي الدول الأوروبية كإيطاليا، والنمسا، والبرت