مفاهيم أساسية عن حل النزاعات - القسم الاول
د. جوتيار محمد رشيد - جامعة دهوك
القسم الاول
يعد حل النزاعات أحد أهم العلوم الاجتماعية الحديثة التي تتبع الوسائل والأساليب السلمية لمساعدة الأشخاص والجماعات على حل نزاعاتها وإدارتها على نحو سلمي. ويتكون علم حل النزاعات من مدارس فكرية عدة تختلف بتوجهاتها وآرائها، فبعضها آت من علم النفس والآخر من علوم السياسة والقانون والتربية وغيرها. وعلم حل النزاعات، على الرغم من انه حديث نسبيا، فانه علم مستمر بالنمو والتكيف مع المتغيرات الدولية والمحلية، وقد شمل هذا النمو دولا مختلفة حيث يساهم العديد من المنظمات والاختصاصيون في تنمية هذا العلم عن طريق تنظيم ندوات ومحاضرات وورش عمل لتدريب الأفراد على حل النزاعات ولإعداد مدربين في هذا المجال.
حديثا، ظهرت نظريات اجتماعية تعتبر أن النزاعات المدمرة ليست حتمية وليست سمة من سمات الطبيعة البشرية لا يمكن التحكم بها، حيث انه باستخدام وسائل مختلفة- مطبقة بالفعل في العديد من النزاعات التي نشهدها يوميا كالخلافات العائلية- في إدارة النزاعات يمكن الوصول إلى نتائج مرضية. وهكذا، بدأ حقل حل النزاعات بالظهور، وأصبح هناك اهتمام متصاعد بالوساطة والمفاوضات وتسهيل حل المشاكل كبدائل في حل النزاعات. وبالتالي فإذا كانت هذه الأساليب فعالة ومؤثرة وتعزز عملية تدبر أمور النزاعات فسيكون هناك تحليلات عقلانية وبشكل اكبر للأسباب التي تؤدي إلى نشوء وتطوير أدوات جديدة لها.
واهم استعمال لحل النزاعات يكمن في تطبيقه على الأفراد والمجتمعات الخارجة من الحروب والنزاعات والتي تبحث عن طرائق لإعادة اللحمة بينها، وكذلك في مساعدة أطراف النزاع التي وصلت إلى طريق مسدود في التعرف على أسباب النزاع والخوض في حوارات سلمية مبنية على احترام الآخر والاعتراف بالمصالح المتبادلة وتأسيس علاقات بنّاة وتعاونية.
وتعتمد فلسفة حل النزاعات على ضرورة إيجاد ارض مشتركة بين مختلف الفرقاء، وتعتمد أيضا على قناعة بوجوب محاولة إيجاد حل للنزاعات بطرق سلمية تشجع على التعاون وتتركز على بناء علاقات سليمة بين الأطراف. وينقسم علم حل النزاعات إلى اختصاصات عدة تتركز على الوساطة بين المتنازعين أو تحليل النزاعات أو المفاوضات المباشرة أو إدارة الحوار...الخ.
أدى تطور أنشطة حل النزاعات وانتظامها في إطار مؤسسات إلى ظهور بعض عناصر الاتفاق بين أولئك الذين يعملون في هذا الحقل. ومع ذلك، فان عددا كبيرا من النزاعات التي ينصب عليها عمل حل النزاعات والسلسلة الواسعة لمصادر أفكار حل النزاعات، يجعل الاتفاق العالمي حول مبادئ وتقنيات حل النزاعات بعيد الاحتمال .
مناهج حل النزاعات
إن كيفية فهم جذور أسباب النزاع ستحدد إلى درجة كبيرة أنماط النظريات والممارسات المفضلة لحل النزاعات. وفي هذا السياق، يورد Kevin Avruch اثنين من التعاريف التي تلقي الضوء على الجذور المختلفة لأسباب النزاع:
"النزاع...صراع حول القيم أو السلطة أو الموارد المحدودة؛ أو هو صراع تتعادل أو تتعارض فيه أهداف المتخاصمين".
"يعني النزاع تعارضا مدركا في المصالح؛ أو اعتقاد بان الطموحات الحالية للطرفين لا يمكن تحقيقها معا في آن واحد".
يوحي هذين التعريفين بوجود منهجين أساسيين للنزاع وبالتالي لحل النزاع؛ إذ يركز التعريف الأول على فكرة محدودية الموارد فيما يتعلق بأسباب النزاع، ويولي الاهتمام بعواقب النزاع: الصراع الذي ينطوي بالضرورة على استخدام للعنف؛ أما التعريف الثاني، فانه يسلط الضوء على الثوابت والمعتقدات والتفسيرات المتباينة لهذه الثوابت والمعتقدات. ويبدو ان التعريف الثاني يوحي بإمكانية إجراء حوار ومفاوضات .
حل النزاعات يبدو بالأحرى مختلفا متوقفا على أي تعريف للنزاع يتم تبنيه. وبالجمع بين التعريفين أعلاه، يمكن القول ان النزاع ينشأ عندما يجد طرفان أو أكثر أنفسهم منقسمين بسبب المصالح أو الأهداف المتعارضة، أو في تنافس على السيطرة على الموارد المحدودة. هذا التعريف الجامع للنزاع يفترض مباشرة وجود ثلاثة استراتيجيات لحل النزاع:
الأولى، إذا كان النزاع صفة مميزة لعلاقة اجتماعية بين الطرفين، فان بإمكان أحد الطرفين أو كلاهما قطع العلاقة ومن ثم إنهاء النزاع. والثانية، إذا نشأ النزاع من القيم أو المعتقدات المتعارضة للطرفين أو بسبب محدودية الموارد، فانه يمكن إثبات عدم صحة القيم أو المعتقدات (على سبيل المثال، بإثبات ان الطرفين يتشاطران في الحقيقة المصالح أو الأهداف لكن ليس بمقدورهما لسبب أو أخر تلمس ذلك)، أو بإثبات ان الموارد هي غير محدودة فعلا. وأخيرا، بسبب انه لا يمكن بسهولة قطع جميع العلاقات الاجتماعية أو ليس من السهل إثبات عدم صحة جميع المعتقدات بوجود تضارب في القيم أو ندرة في الموارد، فان بوسع الطرفين التحرك نحو حل نزاعهما عن طريق الدخول في نوع من النزاع يصفه البعض بأنه صراع يسعى فيه أحد الطرفين إلى إبادة الطرف الآخر أو الهيمنة عليه ومن ثم السيطرة على الموارد المحدودة .
إن السؤال الذي يطرح نفسه بشأن هذه الإستراتيجيات الثلاث هو ما إذا كانت جميعها تعتبر مظاهر لـ"حل النزاعات"؟ فهل ان تجنب طرف ما للنزاع بتطبيق إستراتيجية قطع علاقاته مع الطرف الآخر، أو الخضوع تماما لمطالبه، هو من ذات الحل الذي يتم التوصل إليه عن طريق التفاوض على اتفاق يقضي بتقاسم الموارد، مثلا؟
إن الحرب واردة وفقا لفكرة Coser للصراع. ولكن هل تعتبر الحرب، أو أي استخدام للقوة بصورة عامة، أيضا حلا من حلول النزاع؟ لقد عدّ كثير من أنصار حل النزاع الأوائل وسيلة القوة أداة لتحقيق العدل الاجتماعي . ولا يزال هذا الموضوع مثيرا للجدل بين محللي وممارسي حل النزاعات، حيث يختلف هؤلاء في الأهمية التي تولى للإكراه والعنف في حالة النزاعات التي يجري حلها. فمن ناحية، يرى بعض المحللون ان التعويل على الإكراه يتناقض واتباع منهج حل المشكلة . ويميل "الواقعيون" التقليديون، من ناحية أخرى، إلى الافتراض بان جميع النزاعات تحل في النهاية باستخدام الإكراه . ويعتقد العديد من العاملين في حقل حل النزاعات، متخذين موقفا وسطا، بأن قوة التباينات حقيقة لا مفر منها لجميع العلاقات، ويشددون على ضروب من القوة، مثل القدرة على فرض جزاءات إيجابية أو سلبية والإغراءات المقنعة والإيثار ومشاطرة الهوية. ويؤكد هؤلاء على كيفية إعادة صياغة النزاعات وإعادة تحديد الهوية الذاتية لطرفي النزاع، وذلك في سياق الصراع والجهود المبذولة لحله .
ومن دون الأخذ بنظر الاعتبار وجهات النظر أعلاه، يجب التسليم، بقدر ما يكون الأطراف غير متساوين في المراكز أو القوة، بان الطرف الضعيف يميل إلى التخلي عن كثير من المطالب في اتفاق يجري التفاوض عليه أو التوسط بشأنه. غير ان هذا من المرجح أن لا يكون صحيحاً إذا ما تم التعامل مع النزاع بأساليب أخرى تشكل فعلا حلا حقيقياً له. وفي ضوء ذلك، ما الذي يراد إذن بـ"حل النزاعات"؟
تعريف حل النزاعات
يوجد في هذا السياق معنيان لـ "حل النزاعات": الأول عام يعكس الاستعمال الشائع؛ وهو شامل، يتضمن فعليا أية إستراتيجية أو تقنية تؤدي إلى إنهاء نزاع أو "خلاف" أو حتى إلى وقف العنف. وبموجب هذا المعنى، يعد ما يأتي بمثابة أساليب لحل النزاعات: تجنب النزاع أو التخلي عن المطالب (وفي كلتا الصورتين ينسحب أحد الطرفين من النزاع)؛ التفاوض على تقسيم الموارد أو التسوية بين المواقف؛ تدخل طرف ثالث يقترح أو يفرض حلا للنزاع؛ وحسم النزاع الذي يتضمن قضاء أحد الطرفين على الأخر . وهكذا، يهدف حل النزاعات، وفق هذا المعنى، إلى تقليل فرص أو احتمالات العنف ودعم توقف أعمال العنف لغرض الحيلولة دون تفاقم حدة النزاع .
أما المعنى الثاني لحل النزاعات، فانه ضيق نشأ بالظهور الرسمي لحقل حل النزاعات؛ وهو على خلاف المعنى الأول، متخصص وغير شامل، ويعرّف على نحو مقيد ودقيق لاستبعاد الانسحاب (وإن كان طوعياً) والإكراه وبالتالي الحرب كأساليب لحل النزاعات. ويذهب بعض الكتّاب حتى إلى حد استبعاد المفاوضات التي تهدف إلى مجرد تقسيم الموارد- أي استبعاد المساومة إزاء الحل الوسط- بوصفها أسلوبا "أصليا". ووفقا لهؤلاء الكتّاب يتميز الحل "الحقيقي" عن "إدارة النزاع" أو "تنظيم النزاع" أو تسوية الخلاف" أو "تخفيف النزاع". ومع ان كلا من هذه المصطلحات قد يكون لها بحق دورا تؤديه كوضع حد للعنف، فإن المعنى الضيق لحل النزاع يستهدف تحديد جذور أسباب النزاع وحل المشاكل التي أدت إلى نشوءه في المقام الأول وليس مجرد التعامل مع مظاهر النزاع أو عواقبه المأساوية . وهكذا فان حل النزاعات، وفقا للمعنى الضيق، عبارة عن عملية تهدف إلى تحول النزاع وليس مجرد التوصل إلى تسوية للخلافات أو وضع حد لها، وذلك عن طريق تحديد الحاجات الإنسانية الأولية وبناء علاقات قابلة للتعزيز بين طرفي النزاع من خلال خلق آليات هيكلية تتضمن المساواة بين جماعات الهوية أو الجماعات متعددة الثقافات . وبذلك، يسعى حل النزاعات إلى دراسة الحاجات والخيارات، وإلى التوصل ألى اتفاقات لا تلبي تلك الحاجات فحسب وإنما يمكن ان تُحدث تغييراً في الأنظمة القائمة وفي أنماط العلاقات التي أدت إلى النزاع في المقام الأول .
بناء على ما تقدم، لا يصدق مصطلح "الحل"، وفقا للمعنى الثاني لحل النزاعات، على الرؤية الشاملة لإنهاء النزاع، والتي تتكون من المساومة والحل الوسط والمفاوضات المبنية على المصالح والوساطة والمساعي الحميدة والتسهيل . إن هذه الوسائل قد تؤدي إلى توقيع اتفاق، أو وقف لإطلاق النار، أو إنشاء مناطق معزولة من السلاح، أو عقد هدنة، أو حتى توقف أعمال العنف؛ إلا أنها ما لم تصل إلى تشخيص أسباب النزاع أو تحديد المؤسسات التي تمارس القمع أو التوزيع غير العادل للموارد، فان الاتفاقات تكون عرضة للانتهاك ولن يستمر وقف إطلاق النار ولن تؤدي الهدنة إلى سلام دائم، وبلا شك ستبدأ أعمال العنف أو القتل من جديد .
وفي الواقع، يدين حل النزاعات بمعناه الضيق إلى التمييز الذي أجراه Johan Galtung بين "السلم السلبي" (الذي يعرّف ببساطة بكونه غيابا لحالة الحرب) وبين "السلم الإيجابي" (الذي يعرّف على انه ظرف اجتماعي يتم فيه القضاء على بنى السيطرة والاستغلال التي تمهد للحرب) .
هذا المعنى الأخـير للحل دافع عنه بقوة اثـنان من الكتّاب: الأول هو جون بيرتن (John Burton) ، الذي دعـا إلى استخدام تعبير "منع النزاع" للإشـارة إلى نمـط من الحل يسعى إلى إزالة جذور أسباب النزاع أو، بحسب ما أشار إليه، "حل للمشاكل التي أدت إلى السلوك المتضارب". أما الكـاتب الثاني فهو جون بول ليـدراخ (John Paul Ledrach)، الذي يذهب إلى إهمال تعبير "حل النزاع" لصالح تعبير "تحول النزاع-Conflict Transformation"، برغم انه يرى ان للتعبير الأول الكثير من دلالات "الإدارة" و "التسوية" المرتبطة به .