عبد الناصر والثورة العربية
أحمد صدقي الدجاني
مقدمة
" الثورة العربية " هي من أهم الظواهر في تاريخ العرب المعاصر . وستبقى وسيبقى مصير الوطن العربي لفترة قادمة مرتبطا بهذه الظاهرة وحين نتحدث عن الثورة العربية باعتبارها الحركة التاريخية لجماهير الأمة العربية على مدى الوطن العربي كله، يتداعى الى الخاطر جمال عبد الناصر... الرجل الذي قاد مسيرة هذه الثورة على مدى ثمانية عشر عاما.
وهذا كتاب عن " عبد الناصر " والثورة العربية " نقصد به أن نتعرف على الثورة العربية في عهد عبد الناصر . نبين ما وصلت اليه فكرتها وما قطعته مسيرتها بقيادته . وهذه المعرفة ضرورية لكل عربي يتطلع للمساهمة في وضع مستقبل الأمة العربية وتحقيق النصر لها . وان يعرف من أين وإلى أين .
يصدر هذا الكتاب في الذكرى الثالثة لرحيل عبد الناصر. وقد برزت فكرة كتابته أول ما برزت اثر نكسة حزيران ( يونيو) 1967 استجابة لالحاح شعور بحاجة شبابنا الى المعرفة العلمية للثورة العربية ولدور عبد الناصر، وبحاجتهم أيضا الى تقويم علمي للتجربة العربية الثورية، يجيب عن التساؤلات التي طرحتها النكسة حول مسيرة الثورة .
وحين رحل عبد الناصر فجأة يوم 28 أيلول ( سبتمبر) 1970 وانتقل إلى الرفيق الأعلى زاد الحاح ذلك الشعور واشتدت الحاجة الى المعرفة والتقويم فقوي الدافع لمباشرة الكتابة . وقد شارك كاتب هذه السطور منذ النكسة في نشاطات فكرية تتصل بهذا الموضوع فساعده ذلك على رسم الخطوط الرئيسية للدراسة . ثم شارك بعد الرحيل في القاء محاضرات وندوات عن عبد الناصر والثورة العربية كان لها فضل اغناء أفكاره حول الموضوع .
وهكذا تبلور مخطط تفصيلي للدراسة يتضمن تحديد المقصود بالثورة العربية وعطاء عبد الناصر لها. ويعرض لبناء عبد الناصر قاعدة الثورة في مصر العربية... وتحديده لمصر المكان والدور، واستلامه السلطة ، واعلان الثورة المبادىء الستة، وتطبيق كل مبدأ منها، وتقويم ما أنجز بايجابياته وسلبياته ثم يعرض لقيادة عبد الناصر الثورة العربية في الوطن العربي … بلورته لفكرة القومية العربية ، ودوره في تحرير الأرض العربية وانشغاله بتحرير فلسطين ، في السعي لتحقيق الوحدة العربية ، وفي بناء الاشتراكية في الوطن العربي ، وفي اغناء التجربة التنظيمية وطرح البناء التنظيمي العربي الواحد ، وتقويم ما أنجز بايجابياته وسلبياته . ثم يعرض أخيرا لمشاركة عبد الناصر في بلورة فكرة العالم الثالث... رسم سياسة الحياد الايجابي و عدم الانحياز ، ودعم حركة التحرر العالمي ، والدعوة الى السلام القائم على العدل، والى التعاون من أجل الرخاء . وضمن كل نقطة من هذه النقاط تندرج قضايا كثيرة . لا بد من طرحها و مناقشتها .
ولقد تبين بعد مباشرة الكتابة أن الوفاء بهذا المخطط التفصيلي الطموح يستوجب وقتا طويلا وتفرغا لاتتيحه مشاغل العمل العام . فلا مندوحة من انجازه على مراحل .
وهذا الكتاب هو ثمرة المرحلة الأولى . وهو يتضمن مدخلاً للدراسة ينتهي بتحديد عطاء عبد الناصر للثورة العربية. ثم تلى فصول هذا العطاء في مصر والوطن العربي والعالم ، وتركز على الجانب الفكري منه دون أن تغفل عن متابعة ما تحقق عمليا.
أول هذه الفصول تأكيد حقيقة عروبة مصر وهو ينشغل بالقاعدة وتأثير الفكرة فيها . ويليه فصل يبحث في مصر المكان والدور، وفصل آخر عن نضال ثورة 23 يوليو لتحقيق المبدأ الأول من المبادىء الستة وهو القضاء على الاستعمار . ويبقى أن نتناول في دراسة أخرى المبادىء الباقية واحدا واحدا فنعرض للثورة الزراعية ونقومها، ونعرض لبناء جيش قوي ، ولاقامة حياة ديموقراطية، وللتصنيع الخ...
وهناك فصل عن بلورة فكرة القومية العربية وتحديد أهداف النضال العربي وهودراسة فكرية نظرية. ويبقى أن نتناول في دراسة أخرى التطبيق العملي لهذه الفكرة وما تحقق على طريق التحرير والوحدة ومسالك العمل العربي اوالأداة التنظيمية للثورة .
وأخيرا يأتي فصل عن المشاركة في بلورة فكرة العالم الثالث وهو يجمع بين عرض الأحداث ومعالجة الموضوع فكريا .
سيتضح من قراءة هذا الكتاب ان مؤلفه عالج الموضوع من موقع الايمان بالثورة العربية . وكان من أجل ذلك شديد الحرص على الموضوعية . وقد استفاد من دراسات عدة صدرت عن عبد الناصر والثورة العربية. وكان حريصا أن يشير الى مراجعه، وهو يستشعر تقديرا خاصا لدراسات الدكتور جمال حمدان في الجغرافية السياسية وخصوصا في كتابيه " استراتيجية الاستعمار والتحرير " و"شخصية مصر" .
ولقد سار المؤلف في كتابه على أسلوب الدراسة التاريخية متأثراً من جهة بتخصصه ، ومستشعراً من جهة اخرى أن هذا الاسلوب الأفضل لتتبع حركة المسار ورصد تطور الافكار ضمن نمو الظاهرة. وسيلاحظ القارىء أن المؤلف حرص على الاستشهاد بكلمات عبد الناصر في مواضع كثيرة لتعتبر هي بنصها عن فكر الثورة العربية ، وليتتبع القأرىء خط سيرها في التجربة العربية الثورية .
ويرجو المؤلف أن يحقق هذا الكتاب هدفه فيساهم في التعريف بالثورة العربية في عهد عبد الناصر . كما يرجو أن يتاح له متابعة كتابة الجوانب الأخرى في هذا الموضوع .
والله الموفق
المؤلف
القاهرة - طرابلس الغرب
صيف 1973
مدخل
اعمال عبد الناصر التي سيسجلها التاريخ كثيرة . ولكن عبد الناصر يدخل التاريخ في المقام الأول ويخلد فيه باعتباره رائد القومية العربية وقائد الثورة العربية الشاملة في العصر الحديث .
ان هذه الصفة تستوعب وتشمل جميم أفكار وأعمال وانجازات عبد الناصر على المستويين الوطني والقومي في مصر والوطن العربي . وعلى أساسها أصبح عبد الناصر زعيم الأمة العربية جمعاء ، وأول زعيم لها على المستوى القومي منذ صلاح الدين .
كما أن هذه الصفة كانت المنطلق الذي أنطلق منه عبد الناصر الى العالم أجمع واحتل به مكانه في العالم كواحد من عظماء القرن العشرين .
وهكذا فان عطاء عبد الناصر للتاريخ هو التحامه بالثورة العربية وقيادته لها على مدى ثمانية عشر عاما. وهو العطاء الذي أوصل الى قيام الزعامة العربية الشاملة التي " لا تنحصر في الحدود السياسية التي تقوم بين الاقطار العربية ، ولا يعترف الولاء لها بمثل هذه الحدود ... والتي جعلت زعامة عبد الناصر نوعا متميزاً من الزعامات ، فما من زعيم عربي تمتع بهذا النوع من الزعامة أو أوجد لنفسه ولاء مثل الولاء الذي يشعر به نحو القيادة الناصرية في عموم الأقطار العربية " (1) . وهو العطاء الذي طرح عبد الناصر " كداعية لثورة جديدة تستهدف استقلال كل العرب وتقدم انموذجا للثورة في العالم الثالث " (2) .
ومن أجل هذا العطاء احتل عبد الناصر مكان القيادة في الوطن العربي وقد ساهم في قيادة العالم الثالث ونال تقدير الأمة العربية والعالم في حياته . ثم كان ذلك التعبير الرائع عن التقدير من هؤلاء جميعاً يوم وداعه. وقد بدا هذا- المعنى في كثير من الأقوال التي قيلت بمناسبة وفاته في شتى أرجاء المعمورة، ونكتفي بايراد انموذج لها ما قاله المؤرخ العالمي توينبي : " لقد استثار عبد الناصر في العرب طاقاتهم الكامنة فكان رد الفعل هو ذلك التجاوب العميق الرائع من المحيط الى الخليج .
ثم استثار ناصر طاقات الشعوب المتطلعة الى الحرية فكان رد الفعل قيام ثورات تحررية مشتعلة في آسيا وأفريقيا واكبت سير القافلة الى الاستقلال واستثار عبد الناصر الاستعمار العالمي فكان رد الفعل ألوانا من العدوان ثم الاستسلام أمام القوى الصاعدة " (3) .
وحين نتحدث عن عبد الناصر والثورة العربية فاننا نقصد أن نتعرف على الثورة العربية في عهد عبد الناصر ... نتبين ما وصلت اليه فكرتها وما قطعته مسيرتها بقيادته، لنصل الى الاجابة العلمية على السؤال الكبير الذي ألح عند فراق عبد الناصر القائد .
ماذا بعد؟ وما مستقبل الثورة العربية؟
ان هذا الحديث يستوجب منا بداية أن نعرض لبعض المواضع العامة المرتبطة به والتي لا بد من ايضاحها تمهيدا له وحسما لأي لبس يمكن أن يبرز فيه .
هناك أولأ تحديد معنى الثورة العربية الذي ينبغي أن يكون واضحا ومحددا قبل الحديث عن عطاء عبد الناصر في مجال الثورة العربية ... ويلاحظ في كثير من الكتابات التي تناولت هذا الموضوع افتقار معنى الثورة العربية فيها الى التحديد الأمر الذي سبب خلطا بين معان عدة وتشابكا بين دوائر مختلفة. وأبسط مثل هو تحديد الصلة بين معاني الثورة المصرية وثورة 23 يوليو العربية والثورة العربية الواحدة أو الشاملة والثورة العربية الوحدوية الاشتراكية ، وما قد يتردد من تعبيرات في هذا الموضوع .
لقد جاء تعبير الثورة العربية على لسان عبد الناصر في مناسبات كثيرة . وشرح عبد الناصر في أكثر من مناسبة المقصود من الثورة معرفا اياها ومحددا أبعادا لها . من ذلك قوله في مجلس الأمة 25 نوفمبر 1965:
" ان الثورة العربية الشاملة... ما تزال هي القوى الأصلية القادرة على تحقيق الآمال العربية كلها . لكني أود أن أقول بوضوح ... ان الثورة العربية الشاملة لا يمكن أن تكون مجموعة من المغامرات أو الانقلابات، وانما هي الحركة التاريخية لجماهير الأمة العربية للقفز عبر التخلف ... الى التقدم السياسي والاجتماعي والثقافي ، مستندة على القيم الحضارية للامة العربية، محققة بالنضال الثوري أهدافها ".
واضح من هذا القول أن الثورة العربية الشاملة لا تنحصر في جزء من الوطن العربي دون غيره من الاجزاء . وإنما هي الحركة التاريخية لجماهير الأمة العربية على مدى الوطن العربي كله . فبعد المكان فيها يشمل الساحة القومية جميعها . كما انها لا ئقتصر على جانب واحد من جوانب الحياة للجماهير العربية وانما تنشغل بتلك الجوانب جميعا في تكامل جلي بين الثورتين السياسية والاجتماعية للقفز عبر التخلف الى التقدم السياسي والاجتماعي والثقافي . فمضمونها أيضا يتصف بالشمول . وهـي- الثورة العربية- ليست مقطوعة الجذور تقوم في فراغ وانما تستند على القيم الحضارية للامة العربية، وتحمل رسالة العرب الحضارية الى العالم . فبعد الزمان فيها يمتد عبر قرون في الماضي ويستشرف آفاق قرون في المستقبل .
واذا كان عبد الناصر قد حدد في قوله السالف معنى الثورة العربية في وطنها وعلى ارضها، فانه وعى بعمق مكانها في عالم اليوم على الكرة الارضية ككل . فقد قال في خطاب له يوم 20 مايو سنة 1963:
"... ان الثورة العربية بقوى الشعب العاملة تزداد كل يوم قوة واندفاعا، وتقترب باستمرار والحاح من يوم انتصارها الكامل النهائي . وتشعر الثورة العربية أنها لا لا تمارس دورها وحدها. انها تشعر انها تقف، من التحالف العظيم لقوى الثورة المعادية للاستعمار والتخلف، هذه الثورة التي تقف فيها حركة التحرير الوطنية الهائلة التي تجتاح آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية جنبا الى جنب مع قوى المعسكر الاشتراكي التي استطاعت أن تحقق انجازات سياسية واقتصادية وعملية جبارة ".
واضح من هذا القول أن الثورة العربية ليست معزولة عن العالم المحيط بها ومن ثم فهي لا تمارس دورها وحدها. وانما تقف ضمن التحالف العظيم لقوى الئورة المعادية للاستعمار والتخلف. هذا التحالف الذي يجمع حركات التحرير الوطنية في العالم الثالث مع قوى المعسكر الاشتراكي في مواجهة الاستعمار العالمي . ولقد أكد عبد الناصر مرارا هذا التوجه العالمي للثورة العربية واقامه على اساس موضوعي ووعي علمي بطبيعة عالم اليوم . يتضح ذلك في قوله ببور سعيد يوم 23 ديسمبر سنة 1966.
"... نحن في عالم لايستطيع أن يعيش فيه أحد بمفرده في عزلة عن غيره .. قوى العدوان تتقاسم فيما بينها الادوار ، والغنائم ... قوى السلام لا بد أن تتضامن فيما بينها ، لكي لا تتحول واحدة بعد واحدة فرادى وعزلاء لتصبح بعض غنائم قوى العدوان ..
لا بد من تلاحم قوى السلام في العالم، حتى نستطيع ان نواجه قوى العدوان في العالم ".
وهكذا يتحدد بدقة معنى الثورة العربية التي نتحدث عنها في هذه الدراسة كما فهمها عبد الناصر.
فهي ثورة الجماهير العربية على مدى الوطن العربي ضد الاستعمار والقهر بلوغا للتحرر السياسي ، وضد التخلف والاستغلال بلوغا للتحرر الاجتماعي وصنعا للتقدم ، وضد التجزئة وتعدد الكيانات بلوغا للدولة العربية القومية الواحدة . وهي في نضالها قوة من قوى الثورة العالمية المعادية للاستعمار والتخلف والمناضلة من أجل السلام والرخاء .
وعلى هذا فهذه الثورة العربية على مدى ساحة الوطن العربي ثورة شاملة وهي أيضا ثورة واحدة . وقد اطلقت عنيها اسماء ونعوت تفيد هذا المعنى . فهي " الثورة القومية العربية الشاملة " أو " الثورة القومية العربية الاشتراكية الديموقراطية " (4) أو " الثورة الوحدوية الاشتراكية " (5) . أو " الثورة العربية الحديثة "... الخ .
ونحن في هذه الدراسة سنستخدم تعبير الثورة العربية الذي استخدمه عبد الناصر ليفيد معنى الثورة العربية بأبعادها المختلفة جميعها... التحرري والاشتراكي والوحدوي والروحي والانساني .
ان هذا المعنى المحدد الشامل للثورة العربية لم يكتمل في الوطن العربي الا بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952 في مصر. وكان لعبد الناصر نفسه كما هو معروف وكما سيتضح من هذه الدراسة- فضل كبير في بلورته وتحديده . وعلى هذا فأننا حين نتحدث عن الثورة العربية فأننا نقصد الحركة التاريخية التي ظهرت في الوطن العربي منذ 23 يوليو. والتي عبرت عنها مرحلة جديدة في النضال العربي . فالحق أن يوم الثالث والعشرين من يوليو سنة 1952- كما افتتح الميثاق- " كان بداية مرحلة جديدة ومجيدة في تاريخ النضال المتواصل للشعب العربي في مصر " ونضيف ونحن ننطلق من منطلق قومي- أن ذنك اليوم كان ايضا بداية مرحلة جديدة ومجيدة في تاريخ النضال المتواصل للامة العربية جمعاء في الوطن العربي كله . وواضح من الحديث عن النضال المتواصل ان هذه المرحلة لا تنفصل عما سبقها ولا تقوم وحدها. ولكنها تتميز باكتمال معنى الثورة العربية فيها.
أن الثورة العربية بهذا المفهوم تعبر عن المرحلة الحاضرة في حركة اليقظة العربية الحديثة التي ظهرت في الوطن العربي منذ أواخر القرن الماضي ، وشقت طريقها صعدا لتحقيق انبعات الامة العربية وبناء نهضتها بفضل جهود قادة الفكر المصلحين من امثال جمال الدين الافغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي ونضال جماهير الشعب الذي تجسد في صور عدة طوال النصف الاول من هذا القرن . وهكذا فان الثورة العربية بهذا المفهوم لا تنطلق من فراغ ولا تمثل نبتا بلا جذور. وانما هي التطور الطبيعي ضمن الحركة التاريخية لليقظة العربية الحديثة.
كذلك فان الثورة العربية بهذا المفهوم تشمل جميع الحركات العربية الثورية التي قامت في الاقطار العربية منذ 23 يوليو 1952 لتحقيق اهداف النضال العربي ، والتي عبرت عن المد الثوري العربي الذي تلا تفجر الثورة العربية في مصر. ويمكننا ان نلاحظ هذا المفهوم للثورة العربية في اقوال عبد الناصر وأعماله. فقد رأى عبد الناصر في الثورات التي تفجرت منذ 33 يوليو 1952 في تلك الاقطار العربية اجزاء من " الثورة العربية " الشاملة والواحدة . ونكتفي للتدليل ايراد نماذج من أقوال كثيرة لعبد الناصر- فهو يقول : عن ثورة الجزائر في احدى المناسبات ..
"... ان ثورة الجزائر ملك للامة العربية كلها. ان أيام في الجزائر ترتبط بأغلى الذكريات وأعزها في قلوبنا " .
" 2 يوليو 1962 "
وعن ثورة ليبيا يقول في 23 يوليو 1970:
"... لقد حصل النضال العربي، على دور ليبيا كاملا ، لصالح الثورة العربية ولصالح التحرير العربي بقيام الثورة فيها ".
وهو يقول عن ثورة السودان في المناسبة نفسها :
"... بعد هذا ( يقصد النكسة) شهدت أرض الامة العربية ، الثورة السودانية، وصممت الثورة في السودان على أن تتحرر كليا من النفوذ الاجنبي .. وعلى أن تعمل بكل طاقاتها في اطار التضامن العربي وفي اطار الوحدة العربية .. " .
وهكذا فان تفجير ثورة الجزائر منذ عام 1954 وعلى مدى ثماني سنوات ومعركة الاحلاف التي خاضتها الجماهير العربية عام 1954، وكسر احتكار السلاح عام 1955، وتأميم القناة ومجابهة العدوان الثلاثي عام 1956- ووحدة مصر وسوريا عام 1958، وتفجر ثورة العراق عام 1958، وتفجر ثورة اليمن عام 1962، والتحرك الشعبي في السودان عام 1964، وتفجر الثورة في الجنوب العريي حتى أواخر عام 1967 ، واخيرا تفجر ثورتي السودان وليبيا عام 1969... جميع هذه الحركات الثورية فضلا عن ثورة 23 يوليو عام 1952 في مصر تنضوي تحت لواء الثورة العربية بالمفهوم هذا. كذلك فان جميع النكسات التي حدثت خلال مسيرة الثورة العربية ومثلت الجزر الثوري العربي، وأبرزها نكسة الانفصال عام 1961 ونكسة الهزيمة عام 1967 والتجارب المرة في العراق وسوريا، تقع الى جانب الانتصارات ضمن التجربة العربية الثورية .
ولقد كانت ثورة مصر يوم23 يوليو عام 1952 أول وأهم الحركات العربية الثورية في هذه المرحلة من النضال العربي مثلت بداية جديدة ومجيدة وجعلت من مصر قاعدة صلبة للثورة العربية . واذا كان البعض رأى فيها الثورة المصرية الوطنية فانها - وكما ابرزت مسيرتها - تجاوزت حدود اقليم مصر في تأثيرها وتعدت تلك الحدود الى الوطن العربي كله، وحملت الفكرة القومية وظهرت بوجه عربي صميم، فاكدت أنها ثورة مصر العربية واصبحت هذه الثورة من خلال التجربة العربية الثورية " ثورة يوليو الام " - كما أسماهـا البعض - " حيث رصع العالم العربي منذ قيامها بنسل دافق من الثورات التحريرية، تبدو كالاقمار حـول الشمس أو كالنوايات حول النواة ، وكان لكل منها بدورها صداها العميق الفاعل، ابتداء من الجزائر وانتهاء باليمن " (6) . وسميت ايضا " الثورة العربية الام " في " الثورة القومية الشاملة " (7). ووصفت بأنها " قاعدة للعمل الوحدوي الثوري في الوطن العربي " (
وتلتقي هذه الاسماء مع اسم " الثورة العربية النواة " الذي سنستخدمه للدلالة، على مكان ثورة 23 يوليو في مصر من الثورة العربية عامة.
ان الحرص على ابراز وجه ثورة مصر العربي ومضمونها القومي يتفق مع واقعها ومع مفهوم عبد الناصر لها ، ومنطلقه في القيام بها. وتراث عبد الناصر يؤكد أن الرجل كان عربيا مصريا. والحق أنه لم يترك مجالا للتأويل في منطلقه ومفهومه لثورة 23 يوليو حين قال :
"... الواقع أني دخلت الثورة المصرية كوطني وكقومي عربي ، ولا زلت هكذا الى اليوم ومعنى هذا في نظري أن الاولوية لبلادي ، وللامة العربية التي تعد بلادي جزءا منها ولقد كانت أقوالي وأفعالي متمشية مع ايماني بالقومية العربية "
" من حديث مع مراسل مجلة لايف في يوم 14 – 7 – 1959
ان ثورة 23 يوليو كما هو واضح مما سبق جزء من الثورة العربية يقع ضمن دائرتها وهي وان لم تكن مرادفة للثورة العربية، الا انها نواتها الاولى و قاعدتها الصلبة .
وحين نتحدث عن عبد الناصر والثورة العربية فإننا ننطلق في حديثنا من وعي عميق لحقيقة الصلة بين الفرد ومجتمعه وبين القائد وجماهيرالامة ، ومن فهم كامل لدور البطل وحدود تأثيره ضمن حركة تيار التاريخ .
والحق أن هذا هو الموضوع الثاني الذي يستحق التحديد والايضاح ، ومعلوم ان قضية البطل في التاريخ كانت ولا تزال محل خلاف بين المذاهب التاريخية المختلفة. وان الخلاف حولها تراوح بين رأي يقول بأن تاريخ البشرية هو تاريخ ابطالها، ورأي مناقض يرى في الابطال افراد كانوا مجرد أدوات ولو لم يوجدوا لوجد غيرهم . وليس هذا المجال مجال مناقشة تفاصيل الموضوع وانما نكتفي بالقول أننا حين نتحدث عن عبد الناصر كقائد وكبطل ففي اعتبارنا ما أكده عبد الناصر مرارا من أنه جاء تعبيرا عن الوطن العربي في ظرف معين وفي زمان معين وأن دوره في قيادة الوطن العربي كان بمقدار تعبيره عنه. وفي اعتبارنا أيضا أن عظمة عبد الناصر كانت في قدرته الفائقة على استلهام ارادة الجماهير وصياغتها والتعبير عنها والالتحام الكامل بها .. بذلك اصبح عبد الناصر زعيم الامة وقائدها، ومن ثم رمز الثورة العربية وصار اسمه مرادفا لمدلول هذه الثورة . وتلك ظاهرة متكررة في التاريخ بالنسبة لعظام الرجال الذين قادوا الثورات الانسانية .
لقد كان عبد الناصر حريصا غاية الحرص على التأكيد أن الشعب هو المعلم وهو القائد وهو الرائد. وعلى التقليل من شأن دوره في قيادة هذا الشعب ، والتحذير من الاعتماد على الفرد . هو حرص يزيد في قيمة عبد الناصر ومنزلته ، ونكتفي بالاستشهاد ببعض اقواله في هذا المجال لنرى كيف كان عبد الناصر نفسه يفهم هذا الموضوع . فها هو يخاطب الامة في افتتاح مجلس الامة في مارس سنة 64 قائلا :
" ... ان الارادة الشعبية هي التي تملك ان تصنع قيادتها وأن تحدد لها مكانها . واني لأرفع صوتي هنا أمامكم محذرا من ااأعتماد على الفرد.
ان الشعب يجب دائما أن يبقى سيد كل فرد.
ان الشعب أبقى وأخلد من كل قائد .. مهما بلغ اسهامه في نضال أمته.
أقول أمامكم هذا وأنا ادرك وأقدر ان هذا الشعب العظيم أعطاني من تأييده وتقديره ما لم اكن أتصوره يوما أو احلم به.
لقد قدمت له عمري ... ولكنه اعطاني ما هو اكثر من عمر أي انسان .
لقد أسلم الي أمانة لم أكن أتصور أن يتحملها فرد".
ان هذا الحديث ينبض بمشاعر ائمحبة والتقدير للشعب ، وهو ايضا يسلط ضوءا كاشفا على العلاقة الوثيقة بين الشعب والقائد وموقف كل منهما تجاه الاخر. ولقد تجلت هذه العلاقة بأروع صورها مرات كثيرة خلال قيادة عبد الناصر للثورة العربية . وكان من اعظم هذه المرات ما حدث . يومي 9 و 10 يونيو سنة 1967. فكيف فهم عبد الناصر هذا الذي حدث؟ انه يقول يوم 23 يوليو سنة 1967 موضحا فهمه :
"... انني لم اعتبر لدقيقة واحدة ، أن خروج جماهير شعبنا برغم الظلام وبرغم غارات العدو مساء يوم 9 يونيو تكريما لشخصي ، وانما اعتبرت أن ذلك الموقف كان تصميما على النضال . ولقد قلت مرات عديدة أن هذا الشعب قد أعطاني اكثر مما حلمت به في أي يوم من الايام .
... ولقد رفعت صوتي اكثر من مرة محذرا من الاعتماد على الفرد لأن كل فرد له دوره يؤديه ويمضي، ويبقى الشعب وحده من الازل الى الابد واذن فمن هذه الناحية ليس عندي ما أقوله.
... لقد كان موقف شعبنا يوم 9 و 10 يونيو اكثر مما استحق ، واكثر مما يستحق اي فرد، ولكنه بالنسبة لي كان يحمل معان اخرى . معنى استمرار النضال ، ومعنى استعداد الشعب لكل التكاليف والتضحيات ، ومعنى التصميم على المقاومة والصمود ".
ان هذه العلاقة الوثيقة بين القائد والجماهير حقيقة بارزة في التاريخ الانساني لا يمكن انكارها مهما كان الخلاف بين المذاهب التاريخية حول دور البطل في التاريخ . وهي تبلغ أوج قوتها حين يرتفع القائد من خلال مسيرة النضال الى منزلة الرمز... المنزلة التي احتلها عبد الناصر في حياته وخلد فيها بعد مماته.
لقد اجمع من تناولوا موضوع زعامة عبد الناصر للامة العربية على تسجيل حقيقة هذه الزعامة وتبين جوانبها. واتفقوا ان هذه الظاهرة لم تتكرر في التاريخ العربي منذ صلاح الدين .
ولسنا هنا في مجال استعراض هذه الاقوال، ولا في مجال دراسة أنماط الزعامة. ولكننا نقصد الى توضيح التأثير المتبادل بين البطل والامة كما جسدتها ظاهرة عبد الناصر والثورة العربية .. البطل الذي اخذ من امته كل شيء واستلهم ارادة جماهيرها فأحسن صياغة هذه الارادة والتعبير عنها والالتحام الكامل بها. والامة التي استجابت وسلمته زمام أمرها . واذا كان تحديد دور البطل من صنع التاريخ فإن البطل يساهم في صنع نفسه وصنع التاريخ . ولا بد من ملاحظة ان هذه العلاقة تعبر عن نفسها في حركة مركبة بمعنى ان آلية ( ميكانيكية) هذه الحركة لا تتصف بالبساطة وانما تتداخل فيها عوامل عدة . فالبطل كفرد طليعي نخبة يتجاوز مجتمعه بعد ان يأخذ منه كل شيء ، ويسعى الى قيادة هذا المجتمع وصولا للاهداف التي اختزنتها احلام الجماهير. والمجتمع يحاول امتصاص البطل أو تطويقه بأساليب مختلفة من اخطرها احاطته بسحر التأليه . والبطل الحقيقي ينجو و ينجح في ارساء العلاقة على اساس صحيح يعطي للشعب حقه ويحفظ له قدره ، ويمكن البطل من القيام بدوره القيادي. وهذا ما نجح فيه عبد الناصر الى مدى بعيد .
ولا يفوتنا أيضا في هذا المجال ان نشير الى ان البطل لا يمكن ان يعمل بمفرده ولكنه يعمل كقائد لمجموعة طلائع ثورية تمثل بالنسبة اليه عصبته ويتبادل معها ثقة كبيرة . وقد توافرت هذه العصبة لعبد الناصر من خلال تنظيم الضباط الاحرار كما التحق بها آخرون خلال المسيرة الثورية .
وهكذا فإن حديثنا عن انجاز عبد الناصر في مجال الثورة العربية محكوم بفهمنا هذا لدور البطل والعلاقة الوثيقة بين القائد والطليعة والجماهير. هذا الفهم الذي يرى فيما أنجزه عبد الناصر ثمرة نضال الجماهير الملتحمة به، وثمرة نضاله ملتحما بالجماهير.
وأخيرا فان الحديث عن عبد الناصر والثورة العربية يقتضي توضيح النظرة التي ننظر بها الى تراث عبد الناصر الفكري والعملي في التجربة العربية الثورية . كما يستوجب التنبيه الى طبيعة دور عبد الناصر في تلك التجربة.
من الطبيعي أن ننظر الى تراث عبد الناصر نظرة شاملة تأخذ هذا التراث بمجموعه، وترى فيه وحدة متكاملة. ولكن في اعتبارنا أيضا في الوقت نفسه حقيقتين . أولاهما : ان هذا التراث لم يتجمع مرة واحدة ، وانما هو حصاد التجربة العربية الثورية خلال قيادة عبد الناصر لها طوال تمانية عشر عاما . بما يعنيه ذلك من ان عبد الناصر اعتمد في هذه التجربة التدرج وعرف التطور وانتهج اسلوب التجربة والخطأ. وثانيهما : أن عبد الناصر كان في هذه التجربة القائد المفكر والقائد المنفذ وجمع بين صفتين وقرن الفكر و التطبيق .
فبالنسبة للحقيقة الاولى نجد ان عبد الناصر دخل الثورة وقد توافرت لديه نظرات حول امور عدة ، ولكنه من خلال الممارسة سار سيرا حثيثا نحو بلورة النظرية ويمكننا أن نرى تلك النظرات في المبادىء الستة التي اعلنتها ثورة 23 يوليو أثر قيامها، ونراها في فلسفة الثورة حين تناول عبد الناصر بالشرح بعدي الزمان والمكان . وقد وصف الميثاق المبادىء الستة بأنها : " كانت اعلاما للثورة وليست أسلوب عمل ثوري ومنهاج تغيير جذري " .
وآمن عبد الناصر بأهمية الممارسة ودورها في اغناء النظرات وانضاجها لتصبح نظرية ، وفي بلورة الفكر من خلال حقائق الواقع، باعتبار الممارسة هي التفاعل المستمر بين الفكر والواقع . وانطلاقا من وعي عبد الناصر للصلة العضوية بين القائد والجماهير كان واضحا في ذهنه ان الممارسة بما فيها من تجربة وخطأ هي الاسلوب المناسب.
ونلاحظ ان الميثاق سجل هذا المعنى حين قال : " لكن الشعب المعلم صانع الحضارة .. راح يلقن طلائعه اسرار آماله الكبرى ، ومضى يحرك المبادئء الستة بالتجربة والخطأ نحو وضوح فكري لصنع التصميم الهندسي لبناء المجتمع الجديد الذي يريده . وراح الشعب الكادح يكدس مواد البناء ويكتل جميع القوى الثورية القادرة على الاسهام فيه في صفوف آلجماهير ".
ويشرح لنا عبد الناصر ايمانه بأهمية الممارسة ودورها في التجربة العربية الثورية، ويوضح لنا اسلوبه ومنهجه الثوري ، بشكل مبسط في مناقشات اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطني القومي للقوى الشعبية (25 نوفمبر سنة 1961) وذلك بمناسبة اعداد الميثاق بعد عشرة اعوام من قيام الثورة ومن الممارسة المستمرة فيقول :
" .. ولم يكن مطلوبا مني في يوم 23 يوليو ان اطلع ومعي كتاب مطبوع واقول ان هذآ الكتاب هو نظرية .. مستحيل ... لو كنا قعدنا نعمل هذا الكتاب قبل 23 يوليو لم نكن عملنا 23 يوليو.
في الاسلام ، كان يقدر ينزل مع سيدنا جبريل كتاب مطبوع ومجلد ويقول هذه النظرية، هذا هو القرآن، وهذه هي العقيدة . وقد حدث غير ذلك ليعطينا ربنا في حياتنا عبرة وعظة.
ابتدأ الاسلام بأشهد أن لا اله الا الله ، وأن سيدنا محمدا رسول ال له.. ابتدأ الاسلام بهذا .. جملتان ... لم يبدأ بكل ما هو موجود في القرآن ثم بدأ بعد هذا ايضا الاسلام يعطينا عبرا وعظة في حياتنا ..
23 سنة لغاية تمام القرآن ، وتم نزول القرآن . لماذا فعل الله ذلك؟ فعله حتى يعطينا الفرصة والدليل او الوسيلة التي نقدر أن نعمل بها في حياتنا وفي دنيانا ".
ان هذا التفسير للقصد الالهي من تنزيل القرآن الكريم منجما يبرز أهمية الممارسة ودورها ويكشف في الوقت نفسه ايمان عبد الناصر بها.
وطبيعي ان الممارسة تحمل في طياتها التدرج والتطور والتجربة والخطأ، وصولا الى بلورة النظرية أو دليل العمل . وهذا يعني ان التطبيق الثوري فيها يسبق النظريات . وقد اوضح عبد الناصر في مناقشات اللجنة التحضيرية تجربته الخاصة في هذا المجال وكان مما قاله
"... في يوم 23 يوليو لم أكن اعرف أبدا أن اتكلم الكلام الذي اتكلم به الان ، وذلك لاني لم امش يومئذ في تجربة آلعشر سنين التي وجدت فيها هذه المدة..
ان ظروفنا قضت ان التطبيق الثوري، تطبيقنا الثوري ، كان سابقا النظرية التي هي دليل العمل . عن أي شيء تكون النظرية هي تأتي عن دراسة المشاكل ..
انا لا أستطيع ان احدد اين نقف .. الشعب هو الذي يحدد أين نقف.. أنا لن استطيع أن اقف الا اذا انتهى استغلال الانسان للانسان، وكل واحد اصبح يشعر أن فيه فرصة متكافئة مع الآخر ".
وهكذا فاننا حين ننظر الى تراث عبد الناصر الفكري والعملي كوحدة متكاملة لا يغيب عن بالنا التدرج في صنعه ، ولا الحركة المتطورة المتصاعدة التي حكمت مسار تكوينه . وهذه النظرة تمكن من فهم مواقف وأقوال في التجربة قد تبدو متباينة متناقضة وهي في حقيقتها متطورة.
ان هذه النظرة ترفض محاولة تصور التجربة او تصويرها كما لو كان مسارها الثوري مرسوما منذ البداية في جملته وفي أدق تفاصيله وفق ترتيب محكم سري من القائمين عليها. وهو اتجاه موجود في تفسير " الناصرية " و عرضها . وتؤمن نظرتنا بأن المفاهيم الثورية عند عبدالناصر تطورت في حركة صاعدة منذ 23 يوليو 1952 الى 28 سبتمبر 1970.
ولكن هذه النظرة مع ايمانها بالتطور ترى في الوقت نفسه ان هذا التطور كان منطلقا من مبادىء ونظرات محددة حكمت مسار حركته، وكانت بمثابة مؤشرات له. ونضرب مثلا عليها ما جاء على لسان عبدالناصر في الكلمة السابقة : " لن استطيع ان اقف الا إذا انتهى استغلال الانسان للانسان "، وما وضح عند عبد الناصر منذ البداية من نظرة قومية. أما تفاصيل المسار فهو من صنع التيار التاريخي الذي أوجده تلاحم الشعب بالقائد .
وهذه النظرة تعني بالنسبة لنا انه وان كان واردا تقسيم مسار التجربة العربية الثورية الى مراحل عدة الا انه لا يمكن القول بالفصل الكامل بين طبيعة كل مرحلة. وان مثل هذا التقسيم لا يجب ان يأخذ بالاطلاق لانه يخل حقيقة بتفسير التجربة الناصرية . فنجد مثلا من يرى ان التطور انطوى على ثلاث مراحل هي مرحلة التوجه نحو الاستقلال (1952- 1956) ثم مرحلة تثبيت الاستقلال ( 1956- 1961 ) واخيرا مرحلة التحول الاشتراكي (1961- 1970) . ويحصر هذا التصور نفسه في حدود مصر والثورة المصرية " الاقليمية " . فيقصر هذا التصور وهذا التقسيم عن تفسير التوجه العربي القومي الذي بدأ مع بداية الثورة ، وعن تفسير البعد الاجتماعي الذي بدت تباشيره آنذاك . كما نجد ايضا من يرى ان المسار انطلق من ثورة وطنية الى ثورة قومية الى ثورة قومية تقدمية . فمع قبولنا بالخط العريض لهذا التقسيم نجد ان التجربة تؤكد وجود التوجه القومي والتوجه الاشتراكي منذ البداية وستتجلى هذه الحقيقة في الصفحات القادمة .
وأما بالنسبة لحقيقة أن عبد الناصر كان في التجربة العربية الثورية القائد المفكر والقائد المنفذ ، فهي واضحة تماما طوال المسيرة الناصرية . وقد قدم عبد الناصر في عصره من خلالها أنموذجا للقائد الذي يجمع بين الصفتين ويقرن الفكر بالتطبيق . وتكرر ظهور هذا الانموذج في ثورات العالم الثالث على الخصوص، ولكن بقي انموذج عبد الناصر من أكثرها نضجا ووضوحا.
ولا شك في أن هذا الجمع خلص التجربة العربية الثورية من التباعد او التناقض بين الفكر والتطبيق اللذين يحدثان عادة في حالة الفصل بين الصفتين . كما اكسب نضال عبد الناصر قيمة كبيرة باعتباره نضالا عمليا قائما على وضوح فكري .. وليس مجرد نظريات وأحلام تقرأ في الكتب ولا تجد لها تجسيدا عمليا او اجراءات وتصرفات عشوائية تحمل اسم الثورية ولا تستند على فكر واضح .
ونحن حين ننظر لعبد الناصر المفكر والمنفذ فان في اعتبارنا الأرضية التي وقف عليها في وطنه العربي، وفي اعتبارنا ايضا العصر الذي عاش فيه والعالم الذي احاط به . خصوصا وان عبد الناصر كان حريصا على استشراف آفاق عالمه المعاصر، وعلى توفير الفكر المفتوح على كل التجارب في ثورته. فمن الطبيعي ان يكون قد تأثر وأثر- بشكل او باخر- في صنع التقدم العالمي .
بعد هذه البداية التي تمثل مدخلا لدراستنا ، نستطيع ان نبدأ حديثنا عن " عبد الناصر والثورة العربية " وبنظرة شاملة نافذة في تراث عبدالناصر نجد أن أعظم ما حققه القائد من خلال قيادته الثورة العربية هو:
· تأكيد الانتماء المصري الى الامة العربية. تاريخيا ونضاليا ومصيريا، وتحديد دور مصر العربي وبناء قلعة الثورة فيها.
· وبلورة فكرة القومية العربية وتحديد أهداف النضال العربي .
· والسير الحثيث على طريق التحرر العربي السياسي والاجتماعي وفي طريق الوحدة العربية.
· والمشاركة في بلورة فكرة العالم الثالث الذي يتبنى الحياد الايجابي وعدم الانحياز ويناضل في سبيل السلام القائم على العدل والتعاون الدولي من اجل الرخاء.
وبهذا الذي تحقق حدثت نقلة كبيرة في الوطن العربي وفي العالم الثالث خلال عهد عبد الناصر حتى اصبح أمرا طبيعيا التمييز ما قبل هذا العهد وما بعده فيهما.