الإيكولوجيا والحضارة٭
http://maaber.50megs.com/issue_march13/deep_ecology1.htm
معين رومية
ذكرنا سابًق أن الأزمة البيئية نشأت في سياق الحضارة الحديثة والمعاصرة والنظرة إلى العالم التي تقبع في نواتها، فهل ثمة منظور إيكولوجي للحضارة عمومًا؟ والسؤال الذي نطرحه هنا هو كيف ننظر إلى الحضارة إيكولوجيًا، وهل يزودنا الوعي الإيكولوجي بفهم جديد لسيرورة نشوء أو أفول الحضارات؟
يصعب حصر مصطلح الحضارة في تعريف محدد لكن البحث في الحضارة ككل يتناول الإنجازات التي حققها الإنسان عبر تاريخه، ومنها التطورات التي لحقت بالإنسان نفسه سواء على صعيد الجسم أو على صعيد وعي الإنسان لنفسه والعالم الذي يعيش فيه[1]. لكن يمكن إجمال التعاريف المقدمة للحضارة تحت إحدى مقولتين:
- الأولى تقول بوجود ثقافات قومية متعددة وحضارة إنسانية واحدة؛ فكثرة العناصر وتنوعها ضمن الوحدة، تلك هي الثقافات. أما عملية اندماجها المتنوع وانصهارها في القالب الواحد فتلك هي الحضارة.
- والثانية تقول بوجود عدة حضارات إنسانية، فلقد عدد توينبي Toynbee ما يقرب من عشرين حضارة إنسانية. والحضارة في هذه الحالة هي ثقافة مجتمع كبير تدوم لمدة طويلة من الزمن. ويعتبر هذا الموقف أن المراحل الحضارية الرئيسية أو المحطات الحضارية الكبرى حضارات متميزة.[2]
إن وجود مراحل حضارية وتعاقبها يعني أن الحضارات تنشأ وتندثر. مما يعني أيضًا أن العوامل قد تتضافر لتراكم الإنجازات والمكتسبات وبالتالي لنشوء حضارة معينة، كما أنها قد تتضافر لتبديد هذه الإنجازات وبالتالي أفول هذه الحضارة.[3]
ينظر غريغوري باتيسون Gregory Bateson إلى الحضارة من وجهة نظر منظوماتية إيكولوجية، أي باعتبار أن البيئة الطبيعية والحضارة البشرية تشكلان منظومة واحدة. وعلى هذا الأساس يحدد مفهوم السلامة الإيكولوجية ecological healthy لهذه المنظومة اعتمادًا على مرونة flexibility الحضارة ومدى انسجامها مع مرونة البيئة الطبيعية، فيقول:
إن المنظومة المركبة من البيئة والحضارة البشرية والتي يكون فيها انسجام بين مرونة الحضارة ومرونة البيئة بحيث يتواصل إبداع وخلق منظومة معقدة ومفتوحة على التغير البطيء نحو خصائص أساسية أو مخطط لها، سوف تكون هذه المنظومة سليمة إيكولوجيًا.[4]
يتطلب فهم السلامة الإيكولوجية بوضوح تحديد معنى المرونة. ولكن قبل ذلك لنرى كيف يُنظر إلى نشوء أو أفول الحضارة بما هي منظومة.
يذهب باتيسون إلى أن الحضارة تنشأ عندما يتوفر اختراع أو تكنولوجيا جديدة لاستغلال الطبيعة والانتفاع بها أو طريقة جديدة لاستغلال فئة من البشر لفئة أو فئات أخرى. وبهذا يتأمَّن المورد الذي يغذي استمرار الحضارة. لكن، عندما تصل الحضارة إلى الحدود القصوى لما يمكن أن تستغله وتنتفع به، وهو الأساس الذي قامت عليه، فإنها تنهار. فما يكون جديدا ومبتكرا لدى قيام الحضارة يؤمن لها المرونة للاستمرار، لكن استنفاذ هذه المرونة يؤدي إلى الزوال.[5]
فما هو معنى المرونة؟
إن أية منظومة، سواء كانت منظومة إيكولوجية أو الحضارة البشرية أو المنظومة المركبة منهما، تتكون من مجموعة عوامل مترابطة، وكل عامل منها له عتبتان، عليا ودنيا، تخصان طاقة أو استطاعة التحمل العائدة له. أي إن كلاً من هذه العوامل يتحرك ضمن مجال تحدده العتبتان، سواء كان التحرك نحو الأعلى أو الأسفل، وبذلك يتكيف العامل مع المتغيرات أو التحولات التي تحصل في المنظومة أو تؤثر فيها. فالمرونة هي قدرة على التكيف من خلال الحركة بين عتبتين. وعندما يتم تجاوز إحدى العتبتين، نتيجة الضغط أو تراكم المؤثرات، يفتقد العامل مرونته وتبدأ المنظومة أيضًا في خسران مرونتها. ولكن كيف لعامل واحد من بين عوامل كثيرة أن يؤدي إلى انهيار المنظومة؟ السبب في ذلك أن طريقة ترابط العوامل ضمن المنظومة تجعل أي وضع حرج في أحد العوامل، وبالتالي افتقاد المرونة فيه، ينتقل إلى المتغيرات الأخرى ويدفعها نحو وضع حرج أيضًا وبالتالي ينتشر خسران المرونة في المنظومة بأكملها وتؤول إلى الزوال.[6]
يمكن أن نعطي ثلاثة أمثلة على حضارات تدهورت بفعل افتقاد مرونتها كنتيجة للتدهور البيئي وهي: الحضارة السومرية وحضارة المايا ومجتمع حضاري في جزيرة إيستر في جنوب المحيط الهادي.
فالحضارة السومرية من حيث نشأتها اعتمدت على اختراع وتصميم نظام للري اعتمادًا على أفكار هندسية معقدة أتاحت استغلال نهري الفرات ودجلة والوصول إلى زراعة عالية الإنتاجية ساعدت على توفُّر فائض غذائي دعم تكوين المدن الأولى. وقد تواصلت هذه الحضارة مع تواصل الإنتاجية الزراعية العالية. لكن انخفاض الإنتاجية الزراعية أدى في المآل إلى انهيار اقتصادها الزراعي وبالتالي تلاشي هذه الحضارة. وقد كان وراء ذلك خطأ بيئي في تصميم نظام الري ناجم عن عدم وجود نظام لتصريف المياه المتسربة إلى الأرض. فالمياه التي كانت تحوَّل من خلف السدود لري الأراضي لم تكن تسقي المحاصيل فحسب بل كان قسم منها يتبخر والقسم الأخر يتسرب إلى باطن الأرض. ومع مرور الزمن بدأ منسوب المياه الجوفية في داخل الأرض بالارتفاع حتى وصل إلى السطح ثم تجاوزه وترافق ذلك مع تقييد نمو المحاصيل الزراعية. وعندما تجاوز الماء السطح بدأ يتبخر ويخلف الأملاح وراءه في التربة الزراعية وأدى تراكم الأملاح إلى خفض الإنتاجية وانكماش محصول الغذاء ومن ثم انهيار الأساس الاقتصادي لهذه الحضارة.[7]
ونشأت حضارة المايا في أمريكا الوسطى عندما قام شعب المايا في تلك الأرجاء بالتخلص من الغابات والنباتات الكثيفة النمو وتجهيز مساحات مفتوحة للزراعة باعتبار أن الأرض خصبة والماء وفير وبالتالي يمكن تأمين الموارد الغذائية من الزراعة. هكذا ازدهرت حضارة المايا وكان من علامات ذلك أعمال الفخار وإنشاء البيوت وتهذيب الحجر للبناء أو زخرفته وعرفوا كذلك أنواعًا من النسيج وتمكنوا من استئناس بعض الحيوانات. ثم وقفت حضارتهم عند هذا المستوى زمنًا طويلاً. ويفسِّر حسين مؤنس ذلك بأن المَلَكة الخالقة أو المبدعة كانت قليلة أو لم تجد من يحركها. أما لماذا كانت، أو بالحري، أصبحت قليلة، فلا يخبرنا.[8]
لقد حدث مع حضارة المايا ذلك الذي حصل مع الحضارة السومرية. أي انهيار العامل أو الأساس الذي قامت عليه وهو الزراعة، ولسبب بيئي أيضًا. صحيح أن إزالة الغابات وفرت أراضي ممهدة للزراعة لكن ذلك أدى مع الزمن إلى تآكل التربة الزراعية التي لا يوجد ما يحميها من الانجراف مع الأمطار الغزيرة الهاطلة في ذلك الإقليم. وهذا العامل أدى إلى ندرة الغذاء وإشعال النزاع الداخلي بين مدن المايا المختلفة.[9] ولعل النزاع هو الذي استنفد الملكة المبدعة التي تحدث عنها مؤنس.
وفي جزيرة إيستر نشأت حضارة بدأت عام 400 ميلادية وازدهرت عدة قرون. قامت هذه الحضارة على جزيرة بركانية ذات تربة غنية تنمو الأشجار عليها إلى ارتفاع 25 مترًا ويبلغ قطر الجذع متران. وكان العامل الأساسي في نشوء مجتمع هذه الجزيرة وحضارتها تقنية صيد الحيوانات البحرية وخصوصًا الدرافيل، وهو حيوان ثديي لا يمكن صيده إلا باستخدام الحربة ذات الخطاف التي تُطْلَق من قوارب بحرية كبيرة مصنوعة من الأخشاب. لكن، مع تزايد عدد السكان زاد قطع الأشجار، لتأمين القوارب بعدد أكبر، وتجاوز قدرة الغابات على التجدد، أي برزت مشكلة بيئية، وفي النهاية اختفت الأشجار الكبيرة اللازمة لصنع الزوارق المتينة مما حرم سكان الجزيرة من الوصول إلى الدرافيل وبذلك انكمش مورد الرزق البحري على نحو ملحوظ. وانهار مجتمع وحضارة الجزيرة حتى أن سجلات الآثار تبين أنه في وقت ما اختلطت عظام الإنسان مع عظام الدرافيل مما يبعث على الظن بأن اليأس وصل إلى درجة أكل لحوم البشر.[10]
توضح الأمثلة الثلاثة السابقة كيف يؤدي عامل إيكولوجي معين إلى نشوء وانهيار حضارة معينة، وذلك وفق رؤية باتيسون لهذه المسألة. فهل يمكن تطبيق التحليل ذاته على الحضارة الغربية الحديثة والمعاصرة؟ لننظر في الأمر.
من العوامل الرئيسية في نشوء الحضارة الحديثة النهضة العلمية والتكنولوجية والاختراعات والابتكارات التي رافقتها وأتاحت استغلال، لا مورد واحد، بل ربما معظم الموارد والطاقات الطبيعية كنتيجة للتطور العلمي الذي كشف قوانين الطبيعة وسخر هذه المعرفة في استغلال الموارد. والعامل الرئيسي الثاني كان في استغلال البرجوازية والرأسمالية للطبقة العاملة وتشكل فائض القيمة الذي أتاح تراكم الثروة. وقد تحول هذا العامل في سياق الطور الإمبريالي وما بعده إلى استغلال الدول الغنية المتطورة للبلدان الأقل تطورًا عبر الاستعمار أولاً ومن ثم عبر علاقات الهيمنة وعدم التكافؤ بين المركز المتطور والأطراف المتخلفة عنه أو النامية.
لنلاحظ أن العامل الرئيسي الثاني في نشوء الحضارة الحديثة لا يمثل "خطرًا حضاريًا" لأن هذا الاستغلال مازال متواصلاً والمحاولة التي قامت للقضاء عليه من خلال المنظومة الشيوعية لم يكتب لها النجاح. لننظر إذن في العامل الأول.
نلاحظ أن المنظومة المركبة من البيئة الطبيعية والحضارة الحديثة والمعاصرة تختلف عن المنظومات الحضارية الأخرى التي كانت ذات طابع محلي (جزيرة إيستر) أو إقليمي (الحضارة السومرية، حضارة المايا) ولم تبلغ أي من هذه الحضارات المستوى الكوكبي، وبالتالي كان العامل الإيكولوجي الذي يتجاوز عتبة معينة ويؤدي إلى انهيار الحضارة لا يمنع قيام حضارة أخرى أو ربما لا يؤثر في حضارة أخرى وذلك لسببين: أولاً لأن التدهور البيئي المرتبط به لا يتعدى النطاق المحلي نتيجة كون التأثير أو الضغط الذي تخضع له البيئة لا يتجاوز الإقليم الخاص المحلي. وثانيًا، لم تكن سبل التآثر والاعتماد المتبادل بين الحضارات المتجاورة على درجة كبيرة من الحجم بحيث يكون انهيار حضارة مؤديًا إلى انهيار الأخرى.
يختلف الأمر بالنسبة للحضارة الحديثة والمعاصرة. فالتدهور البيئي له طابع كوكبي يخص النطاق الإيكولوجي بأكمله لأن حجم الضغوط الناجم عن النشاطات البشرية هائل. ومن جهة أخرى، إن الاعتماد المتبادل على الصعيد الكوكبي كبير جدًا وحجم الترابطات الدولية هائل. هذا يعني أن اقتراب الأزمة البيئية، من خلال المشكلات الرئيسية التي تعبر عنها، أي استنزاف الموارد والتلوث وعدد السكان من عتبات عليا سوف يؤدي إلى بدء خسران المرونة في النطاق الإيكولوجي وانتشار هذا الخسران في أرجاء المنظومة الحضارية حتى إذا تجاوزت الأزمة ومشكلاتها هذه العتبات فإن النطاق الإيكولوجي سوف ينهار. ولما كان النطاق الإيكولوجي بأكمله هو المورد الذي قامت الحضارة على أساس استغلاله، فإن ذلك سيتبعه انهيار لهذه الحضارة. وهذا الانهيار، وكنتيجة للاعتماد المتبادل الشامل، سوف يلحق بالمجتمع البشري ككل. إذن، ما العمل؟
يطرح ليستر براون بصدد الأمثلة الثلاثة التي ذكرناها سؤالاً، وإن كان ليس ثمة جواب عليه كما يقول، وفحوى السؤال ما يلي: هل كانت هذه الحضارات على علم بأسباب تدهورها؟ هل كان السومريون، مثلاً، على وعي بأن تملح التربة هو الذي أدى إلى خفض محصول القمح؟ وإن كانوا على وعي بذلك، فهل لم يكونوا قادرين على عكس سيرورة التدهور لأنهم لم يحصلوا على الدعم اللازم لخفض طبقات المياه، بنفس القدر الذي نكافح فيه حاليًا لخفض انبعاثات الكربون، مثلاً، في أيامنا وبدون نجاح؟[11]
السؤال مهم جدًا في رأينا لأنه يطرح مسألة الوعي ودوره في الحفاظ على الحضارة. فهل ثمة دور؟ ثم ما مدى الحدود التي يمكن أن يصل إليها تأثيره؟
لنضع الحقائق التالية أولاً في الحسبان:
إن لدينا وعي، دعوناه الوعي الإيكولوجي، بالأخطار البيئية التي تهدد منظومة الحضارة، ولدينا أيضًا برنامج عمل لتحقيق هذا الوعي.
وفقًا لما تذهب إليه نظرية المنظومات ونظرية التعقيد إن أي منظومة تصل إلى حالة حرجة وتدخل مرحلة الشواش أو مرحلة التحول الطوري، وذلك من خلال تجاوز عتبات محددة، تصبح في وضع غير قابل للتنبؤ ولا يمكن عكس سيرورة تحولها، فإما أن تتلاشى أو تعيد تنظيم ذاتها، دون أن نعرف مسبقاً ما هو شكل هذا التنظيم الجديد.
بناء على ما تقدم نقول: إذا لم تكن الأزمة البيئية قد وصلت إلى مستويات غير قابلة للتراجع، فإن الوعي الإيكولوجي يستطيع أن يقوم بدور في إنقاذ الحضارة. وهو في هذه الحالة سوف يكون في سباق مع سيرورة تفاقم الأزمة البيئية، وإن نجح في هذا السباق، أي إذا سادت النظرة الإيكولوجية إلى العالم فهذا يعني أن حضارة جديدة، ربما ندعوها حضارة إيكولوجية، سوف تنشأ على مستوى الكوكب وتكون حقبة جديدة في سياق التاريخ. وعدا ذلك، إذا لم تتح الفرصة للوعي الإيكولوجي كي يفوز في السباق، أو إذا كانت الأزمة البيئية تمضي مع المنظومة الحضارية إلى مرحلة الشواش، فهذا يعني التلاشي سواء كان بمعنى الانقراض إذا ما أصبحت الأرض مكانًا غير صالح للحياة، على الأقل بالنسبة للجنس البشري، أو التنظيم الذاتي في طور جديد وهو ربما لن يتحقق بوجود البشر أو الأحياء الأخرى، لأنه سوف يحصل بعد انهيار النطاق الإيكولوجي وإن إعادة تنظيمه ربما لن تتم بحيث يكون مكانًا صالحًا للحياة.
*** *** ***
horizontal rule
٭ من كتاب: من البيئة إلى الفلسفة، تأليف معين رومية، معابر للنشر، دمشق، 2011.
[1] معن زيادة، حضارة، الموسوعة الفلسفية العربية، مرجع سابق، ص 368.
[2] زيادة، المرجع نفسه، ص 374.
[3] المرجع نفسه، ص 373.
[4] Bateson, Gregory, Steps to an Ecology of Mind, The University of Chicago Press, Chicago, 2000, p. 502.
[5] Bateson, op. cit., p. 503.
[6] Ibid., pp. 504, 505.
[7] براون، اقتصاد البيئة، مرجع سابق، ص 3 – 4.
[8] حسين مؤنس، الحضارة، سلسلة عالم المعرفة، العدد 237، ط 2، الكويت، 1998، ص 91.
[9] براون، مرجع سابق، ص 15.
[10] المرجع نفسه، ص 16.
[11] براون، مرجع سابق، ص 17.