البناء المعرفي في ظل عولمة القيم

البناء المعرفي في ظل عولمة القيم : ماليزيا كحالة دراسة

د.أمحند برقوق،

قسم العلوم السياسية و العلاقات الدولية (جامعة الجزائر)


تشكل المعرفة احد الأبعاد التاسيسة التي تهدف العولمة لتحقيقيها و تفعيليها ليس فقط كمنتوج إنساني قائم على البحث و التطوير و الاختراع و الابتكار و الإبداع و لكن أيضا سلعة استراتيججية تقوم عليها المقدرات التكوينية للأمم .

فبناء المعرفة يقتضي في الأساس الاستثمار في الإنسان و حاجاته و تطلعاته بما يتوافق و قدرات الدولة و رؤيتها الذاتية لمستقبلها في عالم يعرف تسارع في الاندماج التنافسي للأسواق و التي تقتضي موارد بشرية ذات كفاءات عالية قادرة ليس فقط على مسايرة هذه التطورات التكنولوجية و المعلوماتية و المادية، و لكن أيضا لتحكم في إمكانات التغيير للاستفادة من الفرص المتاحة لمجابهة التحديات المحتملة أو الممكنة .... انه عالم يقوم على منطق تراكمي مادي و إن كان يتميز بانعدام الخطية بل في كثير من الأحيان بالطفرات ....مثل الطفرة التي أحدثتها الثورة التي وقعت في مجال الإعلام و الاتصال و المعلوماتية خاصة من خلال تسارع ارتباط العالم بشبكة الانترنت سواء عبر الأقمار الصناعية أو عن طريق الآلياف البصرية ... انه عالم المعرفة الآلية Knowbotics التي سوف تخلف ثورات وطفرات مستقبلية ليس فقط على مستوى البيولوجيا باكتشاف الخارطة الجينية للإنسان Human Genetic map أو بالتعديل الجيني للغذاء Genetically Modified Organs أو بالاستنساخ Clonning. و لكن أيضا على مستوى التكنولوجيا النونية nano-technologies و أيضا على مستوى الهندسة السياسية Political engineering و الهادفة لإستنساخ أنظمة صالحة لكل البيئات مهما اختلفت طبيعتها أو ثقافتها أو مجتمعها أو اقتصادها .... أو مستواها التنموي .
• ماليزيا و تحدي التنمية :

تعرف ماليزيا منذ أكثر من 20 سنة حركية تنموية شديدة حولتها من دولة زراعية ( المطاط وزيت النخيل ) أو طاقوية ( الغاز و النفط ) إلى احد اكبر الاقتصاديات التصنيعية في جنوب شرق آسيا خاصة في مجالات الصناعات الميكانيكية و الالكترونية و المعلوماتية و التحويلية. فلقد أصبحت قبلة للمستثمرين بحيث بلغ حجم الاستثمار الأجنبي المباشر في جوان 1997 حوالي 65 مليار دولار أمريكي .
يرجع اغلب من يعرفون عن قرب ماليزيا، و أنا شخصيا عشت و اشتغلت في هذا البلد مدة أكثر من ثلاثة سنوات و نصف، إلى وجود إرادة سياسية و إجماع وطني على ضرورة بناء تنمية متوازنة و متعددة الاختصاصات تفاديا للتبعية و التي كانت وراء كسر المأزق المالوي The Malay Dilemma كما عرفها ماهاتير محمد في بداية السبعينيات من القرن الماضي (مما ادخله السجن ) .

لقد تبنت القيادة الجديدة التي حكمت ماليزيا منذ ،1981 (ماهاتير محمد كوزير أول و أنور إبراهيم كنائبه لغاية 1998) باسم الجبهة الوطنية Barisan Nacional و التي تشمل على كل الأحزاب العرفية الأساسية بالنسبة للمالويين UMNO بالنسبة للصينيين MCA و بالنسبة للهنود MIC ، إستراتيجية بعيدة المدى للتنمية و التطوير أطلقها ماهاتير محمد في فيفري 1991 تحت اسم ماليزيا في منظور 2020WAWASAN و التي تهدف لجعل ماليزيا في 30سنة من اكبر الاقتصاديات في العالم مع جعل كل المخططات الخماسية قائمة على هذا المنظور المستقبلي .

من اجل تحقيق هذا المنظو ر قامت الإدارة الماليزية بالتأكيد على مجموعة من المبادئ الأساسية و منها:

1- التأكيد على الطبيعة التعددية للمجتمع الماليزي (مسلمين، صينيين و هنود ...و سكان أصليينOrang Asli مع التشجيع على عملية بناء التجانس الوطني في ظل عدم التجانس و الخصوصية الاجتماعية .
2- التركيز على مركزية القيم الوطنية من تنوع ديني و ثقافي و عرقي مع جعل الإسلام دينا للدولة و اللغة المالوية Bahasa Malaysaa لغة رسمية للبلد
3- التأكيد على التمييز الايجابي ( اقتصاديا و اجتماعيا و تعليميا) للمالويين حسب سياسة Bumiputra مع الاحتفاظ بالعهد الوطني الذي تلى اضطرابات 1969 حول تقاسم المناصب و السلطة
4- بناء نظام سياسي ديمقراطي توافقي يمكن كل المجموعات الماليزية من التمثيل في البرلمان .
5- الاعتراف بالخصوصية في التعامل القضائي مع الأحوال الشخصية
6- بناء نظام اقتصاد سوق حر مع إحتفاظ الدولة بدورها التنظيمي و الرقابي خاصة ما تعلق بشروط العمل و الضمان الاجتماعي و الصحة و التعليم .
7- بناء نظام رعاية اجتماعية وطنية مع ضمان الدولة للمسكن و الغذاء ( دعم الدولة لعدد من المواد الأساسية بما في ذلك الدجاج )
8- ترقية فلسفة التعليم الوطني لإلغاء الأمية إذ تعد ماليزيا من الدول القليلة التي تقل فيها نسبة الأمية عن 10 ℅
9- الاستثمار في الموارد البشرية

و لقد استطاعت ماليزيا إن تفعل هذه الإستراتيجية بقيمها التاسيسة بشكل خلق مناعة سياسية و اقتصادية و اجتماعية مكنها من تخطي الأزمة المالية و السياسية التي عصفتها في 1997- 1998 مع رفضها لاقتراحات صندوق النقد الدولي ... و جعل منها نموذجا في الفعالية التسييرية و الاقتصادية في المنطقة .

• المعرفة وإستراتيجية التنمية في ماليزيا

تشمل هذه الإستراتيجية التنموية المستقبلية على محتوى معرفي أساسي و ذلك من خلال الاستثمار في مجالات البحث و التطوير إنشاء مراكز تصنيعية في الإلكترونيك الدقيق و المعلوماتية (تنتج الشركة الأمريكية Intel اغلب شرائحها micro-processors في ماليزيا ). و كذلك في التشجيع على الاستثمار الأجنبي في القطاعات الأخرى غير تلك المرتبطة بالصناعات التحويلية أو البتروكيمياوية .

كما أحتوت هذه الإستراتيجية الطموحة على مجموعة من الأبعاد

1- تحويل ماليزيا إلى نقطة جامعة للشبكات المعلوماتية الجهوية regional Information hub و من ثم العالمية لإنتاج المعرفة عبر المجاليه قائمة السلعنة Commodification لإنتاج ثروة متمحورة حول الإنسان و هادفة لترقية التفاعلات الاقتصادية الداخلية بشكل ينتج معها حركيات تنويع إنتاجي خادم للأهداف الكلية لمنظور .2020
2- تطوير سياسية إدارية قائمة على التفاعل، المشاركة، الشفافية و الفاعلية باستخدام الأنظمة المعلوماتية ..... تحت اسم الحكومة بدون ورق Paperless Government ربحا للوقت و اقتصادا للمال العام ... و خدمة للصالح العام.
3- تطوير إستراتيجية تعليمية حديثة تجمع بين الأصالة و العصرنة و ذلك بإدراج القيم الوطنية المشتركة في البرنامج، مع تخصيص الأبعاد الدينية الخاصة بكل مجموعة ثقافية أو دينية خدمة للتجانس الوطني.
4- توجيه عمليات بناء منظومة تعليم عالي متوافقة مع توجه ماليزيا لأن تكون قطبا تكنولوجيا و معرفيا في عالم تنافسي و ما بعد حداثي، و ذلك بتبني مجموعة من المبادرات و منها:

- إصلاح نظام التعليم العالي (1996) بشكل يجعل البرامج متوافقة مع ما يدرس في العالم الانجلوسكسوني مع توفير المادة العلمية باللغة المالوية عن طريق تطوير سياسة ترجمة تعد من أنشطة و أحسن الأمثلة عالميا من خلال ديوان النشر و الترجمة Diwan Buka dan Pustaka
- إنشاء جامعات متخصصة تمولها الشركات العمومية الكبرى مثل جامعة الاتصالات التي تمولها Telekom Malaysia و جامعة الطاقة التي تمولها شركة Tenaga Nacional أو جامعة النفط التي تمولها Petronas الخ .
- إنشاء جامعات متخصصة مثل الجامعة الزراعية ‘Universiti Putra أو جامعة العلوم Universiti Sains
- إنشاء عدد من الجامعات الخاصة التي تقدم برامج متوافقة من الأولويات الوطنية مع تاطير دولي
- إنشاء فروع لجامعات أجنبية خاصة انج وسكسونية ... أول جامعة فتحت كانت موناش Monash University الاسترالية

تماشيا مع فكرة ترقية صورة ماليزيا و تلمعيها دوليا State Branding أنشات الحكومة الماليزية بتمويل من منظمة المؤتمر الإسلامي الجامعة الإسلامية العالمية –ماليزيا سنة 1983 و بتأطير من 43 جنسية (2000 -2001) و طلبة من 91 دولة (200-2001) بشكل يجعلها في مصف الجامعات الجهوية من حيث التوجه العالمي ...خاصة و أن ماليزيا تصبو لأن يكون لها أكثر من 100الف طالب أجنبي في مؤسساتها الجامعية (في أفاق 2010) ...كمصدر إضافي لتمويل الإصلاح الجامعي
_ تبني فلسفة التسيير بالجودة و الأهداف خدمة للصالح العام و ربحا للمال العام
و من ثم يمكن القول أن ماليزيا استطاعت أن تتحول كدولة و كمجتمع من وضعية تخلف إلى نمر آسيوي بفعل الاستثمار في التكنولوجيا و في الإنسان من منظور استراتيجي مستقبلي .