عصر صناعة المستقبل استراتيجية للانعتاق من فوضى القرن الحادي والعشرين
سعد سلوم
الحوار المتمدن-العدد: 1345 - 2005 / 10 / 12 - 10:40
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
يشغل الصراع حول المستقبل وامتلاك مفاتيح الولوج اليه الشغل الشاغل للسياسات العالمية في القرن الحادي والعشرين هذا كتاب فوكوياما حول نهاية التاريخ انما يعكس ذلك الغرور الايديولوجي حول الانتصار في معركة الحصول على المستقبل ذلك ان (التاريخ قد انتهى والمستقبل لن يكون الا من صنعنا!) تلك هي الصيغة التي تعكس الظفر بصك المستقبل موقعا على بياض من قبل مجتمعات ما قبل التاريخ او مجتمعات التاريخ التي ما تزال آسيرة صراعها مع تراكمات ماضيها وحاضرها المشحون بانفعالات الماضي أيضا.
وينشغل المهتمون بالسياسة والاستراتيجيا في مواجهة تلك الانماط الهائلة في التغيير والتحولات والتحديات في عصرنا ذلك ان عصرنا اصبح بامتياز عصر صناعة المستقبل والاستعداد له واستقراء ملامحه قبل ان يلج في رحم حاضرنا عبر صياغة الاطر المناسبة للاستعداد لمواجهته وقد يذهب البعض ان هذه النزعة المستقبلية والاستعداد المحموم للمستقبل ما يزال يحبو في خطواته الأولى المتعثرة والتي يعود الفضل فيها أساساً إلى مهارات الإستراتيجيا. فعلى الرغم من شعبية الطروحات والنظريات المستقبلية فإن أياً منها لم يثبت بعد جدارته في القيام بدور المرجعية النظرية الداعمة للإستراتيجيا. فقد شهد العالم صعود طروحات " نهاية التاريخ" و "تحول السلطة" "وصدام الحضارات" وغيرها من الطروحات المستقبلية ولكنها كانت اشبه من حيث شهرتها وشعبيتها بالشائعات التي تلقى الرواج لأن الجمهور يميل إلى تصديقها. ولكنها سرعان ما تخبو بعد خضوعها لتجربة الزمن. فينزل بها حكم المستقبل الذي لا يرحم مثبتا ان المستقبل سيظل عصيا على التوقع وان امتلاكه من قبل الانسان قد يكون اشبه بالطموح الالهي!
هذا المؤرخ الشهير بول كندي صاحب كتابي( صعود وسقوط القوى العظمى ) و(الاستعداد للقرن الحادي والعشرين) يذهب في دراسة له حملت عنوان(التحديات التي تواجه البشرية في القرن الحادي والعشرين) يرى ان افضل طريقة للتفكير في كوكبنا الارضي هي ان ننسحب منه وأن نتصور انفسنا كاعضاء طاقم في مركبة فضائية قادمة من كوكب المريخ بعد دورانها حول الارض لعدة اشهر مستخدمة أجهزة استشعار متطورة لترصد انشطة الارض.ويبدأ برسم صورة لهذا الكوكب مركزا على ثورة المعلومات التي خلقت تحديات كبيرة في مختلف جوانب الحياة وهذه التحديات حسب كندي سوف تتبدى في ثلاث مجموعات :
-تتمثل الاولى في شكل البشرية وحجمها
-تتمثل الثانية في في عالم الثورات التقنية وأثرها في مختلف جوانب الحياة
-تتمثل المجموعة الثالثة في التغيرات الحاصلة في توازن القوى وانتشار الاسلحة والارهاب والجريمة والحروب العرقية والطائفية.
أما الفن توفلر رجل المستقبليات المعروف فهو يؤكد على الرغم من اعتزازه بلقب عالم المستقبليات انه لا يمكن لاحد معرفة المستقبل،هذا اذا كان المقصود بذلك هو اليقين أيا كان نوعه.فالحياة معقدة للغاية وغنية بالمصادفات وعليه فان من الصعب الافتراض بوجود مستقبل يمكن التنبوء به!
وبذلك فهو يخالف ما ذهب اليه المؤرخ بول كندي ذلك انه من الصعب طرح التوقعات المباشرة انطلاقا من الماضي كما لا يعتقد توفلر ان أي شخص يمكنه ان ان يرى ما سيحدث في المستقبل دون ادراك ما وصلنا اليه في الماضي وتوفلر بهذا وحسب تعبيره يؤدي دورا غير الدور الذي قام به افراد طاقم المركبة الفضائية القادمة من المريخ وهو دور المؤرخ الموجود في المستقبل الذي يعود بذاكرته الى التاريخ المعاصر.
عموما فان توفلر يتعرض في رؤيته المستقبلية لتحول الثقافات لموجات التغيير التي تعرضت لها الثقافات:
فقد انتجت الموجة الاولى الثورة الزراعية التي بدأت قمنذ عشرة الاف عام وتحول فيها المجتمع من الحياة البدائيةغير المستقرة المعتمدة على الصيد وجمع الغذاء الى حياة الاستقرار والزراعة وانتجت الموجة الثانية التي بدأت شرارتها مع الثورة الصناعية قبل300 عام حضارة جديدة تتمحور حول التصنيع . اما الموجة الثالثة فتقوم في جانب منها على احلال القوة الذهنية محل القوة العضلية في الاقتصاد وهو ما يتضح في الثورة التقنية الحالية وما يصاحب ذلك من عدم استقرار سياسيس واجتماعي وثقافي واخلاقي ومؤسسي ملموس وبتجاوز الاقتصادات نطاق الزراعة والصناعة فان مفهوم المماثلة والمطابقة الذي اتسم به نمو هذا الجانب من الحياة سيتغير مما يعني ان مستقبل الحضارة سيتعرض الى تنوع ثقافي هائل بعيد عما الفه الناس في الموجتين الاوليين .
الاتجاهات الرئيسة في الدراسات المستقبلية
ومن الاهمية بمكان ان نوضح الاتجاهات الرئيسة والحديثة في دراسات علم السياسة المستقبلية لكي نربطها بالطروحات المستقبلية لمفكري عصرنا وبهذا الصدد يمكن تقسيمها الى ثلاث اتجاهات سوف نلخصها بالاعتماد على دراسة الدكتور جمال زهران عن الاتجاهات الحديثة في الدراسات المستقبلية:
الاتجاه الاول(الاتجاه الراديكالي): حيث ينطلق هذا الاتجاه في دراسة المستقبليات على اسس الفكر الماركسي الذي يقوم في هذا الاتجاه بنقد ما يعرف لديهم ب( علم المستقبل البرجوازي) وتفترض كلا من المثالية الهيجلية والمادية الماركسية ان التقدم البشري سنة من سنن الكون وان المستقبل يكون افضل من الماضي لامحالة أي ان البشرية مكتوب عليها التدرج من دوما وابدا نحو عالم افضل في ميادين الاقتصاد والعلم والاجتماع والسياسة والعلاقات البشرية اما قوانين هذا التقدم فيردها كل من الهيجليين والماركسيين الى المنطق الجدلي الذي يتحكم في الفكر البشري من جهة والى الاحداث الكونية والاجتماعية من جهة اخرى وباعتبار ان هذا المنطق أزلي فكان لا بد من ان يستمر التطور او التقدم وفقا له واللى ما لا نهاية
ومن ثم فأن اصحاب الاتجاه الراديكالي يبنون نظرتهم للمستقبل على اساس من فكرة التقدم التي كرست الفلسفات المادية لا سيما الجدلية التي قدمها كل من ماركس وهيجل للتعامل مع التقدم كديانة كما انهم يؤسسون نظرتهم على الايمان بالتقدم كحتمية وبالتالي ظهور تكنولوجيا جديدة فعالة او تنظيم اجتماعي جديد او مختلف عن التظيم الاجتماعي الموجود في الوقت الحاضر يكون من شأنه احداث تغير نوعي من شأنه الا يصبح المستقبل مجرد امتداد للحاضر بل يمثل نقيضا له ، وهم يبنون تنبؤاتهم للمستقبل على اساس التحليل الابداعي فأي شيء يمكن للعقل تصوره يمكن تحقيقه ما دام لا يخالف القوانين الطيبعية وهم يعتمدون على اساليب بحث تتفق مع هذه النظرة بحيث تطلق العنان لخيال الباحثين ولقدراتهم الحدسية والابداعية مثل الاسلوب المعروف باسلوب دلفي وأسلوب السيناريو ويرفضون الاساليب التي يتبعها الليبراليون مثل تحليل النظم وبناء النماذج والاسلوب الاستقرائي والمعياري وفي هذا السياق كانت هناك جهود سوفيتية ركزت على عمليات التنبؤ المرتكزة على النظرة الماركسية اللينينية وتطورت الدراسات المستقبلية في الاتحاد السوفيتي من حيث الربط بين الاخذ بالتخطيط المتوسط والطويل المدى في الدول الاشتراكية وبين تطور المستقبليات فيها.وقد طبق السوفيات ذلك في منتصف الخمسينات واسفرت الدراسات عن وضع برنامج شامل للتقدم العلمي والتكنولوجيي تم توزيعه على ثلاث فترات زمنية_الاولى حتى عام 1990 والثانية حتى عام 2000 والثالثة تمتد حتى عام 2005) باشراف لجنة مؤقتة تابعة لاكاديمية العلوم السوفيتية.
وفي الجناح الاخر من التيار الراديكالي تظهر الصين بالتزامها بأسس الفكر الماركسي وتطبيق نهج صيني خالص بوصفها ذات اهتمام بالغ بالدراسات المستقبلية ايضا كالسوفييت ففي عام 1982 شكلت الصين الشعبية لجنة لا صدار تقرير عن الصين سنة 2000 وظهرت العديد من الدراسات عن علم اجتماع المستقبل وعن المجتمع ما بعد الصناعي واآثار الاجتماعية للتقدم الامثل في مجال الهندسة الوراثية وثورة الاتصالات والمعلومات وقد وجهت كثير من الانتقادات لهذا التيار ابرزها ما قام به كارل بوبر في كتابه(عقم المذهب التاريخي) ومن المفارقات ان التغيرات في الكتلة الشرقية ومجيء غورباتشوف قلب الامور رأسا على عقب اذ اصبح مستقبل الاشتراكية خارج دائرة اليقين وانتشرت موجة من اليأس بعد التفاؤل المفرط الذي تدعو اليه الراديكالية وسبب احتفاء الاتحاد السوفيتي اختفاء وموت نظم بحث الدراسات المستقبلية السوفيتية.
الاتجاه الثاني(الاتجاه الليبرالي)
بدأ هذا الاتجاه في امريكا وفرنسا والمانيا وبريطانيا ثم تتابع في بقية دول اوربا الغربية في أتون الحرب العالمية الثانية وما بعدها وبدأت دراساته المستقبلية لاغراض عسكرية وكان استخدام السلاح النووي في ضرب اليابان 1945 بداية لخلق المؤسسات المهتمة بهذا المجال فنشأ مركز الاستطلاع التكنولوجي البعيد المدى للجيش 1947 ثم تلاها انشاء مؤسسة راند لخدمة المصالح الامريكية وأمنها عام 1948 ثم معهد المستقبل لدراسة المشكلات المدنية 1966 بولاية كونكتكت ثم انشاء معهد هدسون في نيويورك من قبل هرمان كاهان صاحب اسلوب السيناريوهات والمستقبل البديل ومؤلف الكتاب الشهير(عام2000 اطار التفكير في السنوات الثلاث والثلاثين القادمة) ثم توالى انشاء هذه المؤسسات حتى وصلت الى 600 مؤسسة حتى عام 1967 ومن بينها جمعية المستقبل العالمي التي أسست عام 1966 ثم انتشرت في اوربا.
وينطلق مستقبليو هذا الاتجاه من منطلق يعزز الفكر الرأسمالي الحر وبصورة مغايرة للاتجاه الراديكالي فعالم الغد في نظرهم امتداد لعالم اليوم الذي هو بدوره امتداد لعالم الامس واختلاف المستقبل عن الحاضر هو اختلاف في الدرجة لا في النوع فالتغير الذي سوف يحدث في المستقبل هة تغير كمي لا نوعي
ولهذا الاتجاه الذي يسمى ايضا الاتجاه الرأسمالي او المحافظ او الاتجاه الجديد يعمه ايمان بأن دراسة المستقبل سوف تأتي في اطار التداعيات الشاملة للتطور التكنولوجي سواء اكانت اقتصادية ام سياسية ام اجتماعية لدرجة ان هناك من يميز بين مستويين من المناهج المستقبلية:
-المنهج الصعب:ويغطي تنبؤات الاقتصاد والتكنولوجيا والتعليم والصناعة والسكان
-المنهج البسيط ويغطي التنبؤات السياسية والثقافية
الاتجاه الثالث(الاتجاه الليبرالي الجديد)
وهو اتجاه نجم عن الصراع بين الاتجاهين السابقين المحكومين بالنزعة الايديولوجية المتناحرة لذا كان لا بد من خروج اتجاه جديد له سمات مختلفة متحررة من فكرة الصراع مع الاخر في ضوء الصراع بين الشرق والغرب كما انه يدعو الى افكار جديدة في اطار ليبرالي ويمكن النتظر اليه في سياق التداخل بين الفكرة القومية والعالمية التي درج الكثير على تسميتها بالعولمة .
ومن اهم مفكري هذا الاتجاه:فوكوياما لا سيما في كتابه نهاية التاريخ وبهجت قرني في مقاله الذي يرد فيه على فوكوياما مؤكدا على استمرارية التاريخ والفن توفلر المهتم بقضايا المستقبل وبول كندي لا سيما في كتابه الاستعداد للقرن الحادي والعشرين ولستر ثرو في كتابه مستقبل الرأسمالية وزبغنيو بريجنسكي في كتابه رقعة الشطرنج الكبرى .
مستقبل النظام العالمي الجديد :
يرى المفكر الاستراتيجي العالمي زبغنيو بريجنسكي صاحب كتابي( رقعة الشطرنج الكبرى) و(الفوضى) والذي صدر له مؤخرا كتاب( الاختيار) انه على اثر انهيار الاتحاد السوفيتي برز مفهوم جديد للنظام العالمي اخذ يتعزز بالانجازات التقنية الهائلة ولذلك يرى بريجنسكي في دراسته عن(محددات النظام العالمي الجديد في القرن الحادي والعشرين)ا ن النظام العالمي الجديد عبارة عن شعار وهدف يتضمن العديد من المعاني ولكي يصبح هذا الشعار واقعا ملموسا في المرحلة القادمة فلا بد من ترجمة القوة المستقرة الى شرعية وكان من الضروري حفظ الاستقرار على المستوى العالمي وتحقيق الحد الادنى من الاجماع على القيم المشتركة ونشرها عالميا .
ونلاحظ بصدد الادبيات السياسية التي تتناول النظام العالمي طغيان نوع من الموضة تناول مستقبل الولايات المتحدة من حيث الصعود والانهيار ولعل من أهم هذه الدراسات المستقبلية واحدة اشترك في تأليفها ألفن وهايدي توفلر وصدرت تحت عنوان : "نحو بناء حضارة جديدة – سياسات الموجة الثالثة.
سبقت هذا الكتاب كما هو معروف اربع كتب صدرت في فترات متفاوتة-استمرت عقدا من الزمن- بدأت بكتاب (صدمة المستقبل) وتبعه كتاب (حضارة الموجة الثالثة) ثم كتاب (تحول السلطة)..ثم كتاب (الحرب والحرب المضادة).وشكلت أبحاث كتبه مدرسة منهجية جديدة ومغايرة للعلوم الاجتماعية والسياسية، حيث ربط المؤلف في هذه الأبحاث بين النقد لما هو مطروح من نظريات، واستشفافاً لتطور هذه النظريات في المستقبل.
ومفهوم الموجات طرحه توفلر لاول مرة لتحقيب تاريخي توفلري يقسم التاريخ الى ثلاث موجات حيث حاول الكاتب من خلال نظريته التي تمحورت الكتب الاربعة حولها أن يثبت أن المجتمعات الحالية تنقسم في حقيقة الأمر إلى ثلاثة مجتمعات أو ثلاث حضارات هي مجتمع الموجة الأولى (أي الحضارة الزراعية والرعوية) ومجتمع الموجة الثانية (أي المجتمع الصناعي الحديث) ومجتمع الموجة الثالثة (أي مجتمع المعلوماتية والتقانية)
.. ويبرر توفلر استخدامه لهذا المصطلح "الموجة" الى أن التغييرات الكثيفة لا تحدث عادة بدون صراعات. فالموجات متحرّكة-دينامية، وإذا ما اصطدمت ببعضها البعض فإنها تنتج التيارات المتعارضة القوية. وهذا يجعلنا أقدر على فهم ما يبدو فوضوياً وعشوائياً. في عالم اليوم، إذا أهملنا كونه نتيجة لصراعات بين هذه الموجات. وهذا التفسير (الصراعي – الاهتزازي) ينطوي ضمناً على رفض تفسيرات الصراع الأساسية، كمثل الصراع بين الإسلام (مضافاً إليه الكونفوشيوسية لاحقاً) وبين الغرب أو بين الغرب والعالم الأفقر، أو أن هذا الصراع هو إعلان عن بداية نهاية سطوة الولايات المتحدة أو تعبير عن نهاية التاريخ.وقد ظهر كتاب "توفلر" في العام 1994 ويتعارض مع الرؤى المستقبلية لصموئيل هانتغنتون التي لم تشترط امتلاك التقنية المعلوماتية من قبل الإسلام والكونفوشيوسية ليلعبا دوراً محورياً في المرحلة المقبلة. فصدام الحضارات قد لا يكون تكنولوجياً بالضرورة كما يرى "توفلر"؟
وفي رأي توفلر فان تنبؤاته قد تحققت لا سيما ما عرضه في كتابه "صدمة المستقبل" ويؤكد على ان "الدراسات المستقبلية باتت هي الحل ويستشهد بإنشاء الكونغرس "للجنة الدراسات المستقبلية". المستقبلية للمعلوماتية، وإن كانا يعودان بملاحظاتهما إلى العام 1955.
والفصل الثاني من الكتاب يحمل عنوان "صدام الحضارات" ويبدأ بفرضية بداية النهاية بالنسبة لعصر الصناعة. بل يفترض أن التراجع كان قد بدأ بالفعل منذ العام 1970 عندما تحدث عن الأزمة العامة للعصر الصناعي في كتابه"صدمة المستقبل". هذه الأزمة التي تستدعي روافدها وقوع المزيد من الحروب وإن كانت حروباً ذات مواصفات مختلفة لأنها مسخرة للحفاظ على مكتسبات أصحاب المصالح من الموجة الثانية..
و العالم اليوم في رأي توفلر أمام مفترق طرق، فإما أن يحصل تفاهم دولي يحفظ الثقافات الوطنية من الذوبان ويسهل التعايش في عالم يتنافس فيه الفأس (الزراعة) وخط التجميع (الصناعة) والكومبيوتر (المعلوماتية) بصورة مخففة فيأتي انتصار الكومبيوتر بعد زمن كنتيجة منطقية، وإما أن تستمر محاولات فرض ما يسمى ب "الثقافة العالمية" وفي هذه الحالة فإن دولة عظمى ما (معلوماتياً) عليها أن تتولى قيادة صراع سيطرتها. وبهذا يخرج المؤلفان الدول التي لا تملك تكنولوجيا المعلومات من المسرح العالمي. مما يهيئ الأجواء للاستعمار بالكومبيوتر ومن غير حروب. وبهذا يمكن أن تنشب حروب تراق فيها الدماء غزيرة خلال السنوات القليلة المقبلة.
وهكذا فإن هذا الاقتصاد شديد الرمزية سيؤدي إلى تغيير مفاهيم العمل والبطالة وإعداد العاملين وتأهيلهم.
ومن اهم فصول الكتاب الفصل التاسع والأخير والذي يحمل عنوان : "ديمقراطية القرن الواحد والعشرين" حيث يتعرض فيه الى مستقبل الولايات المتحدة "قائمة ويشدد على خمسة مبادئ أساسية يعتبرها ضرورية لبقاء الولايات المتحدة ضمن الموجة الثالثة. هذه المبادئ هي :
- سلطة الأقلية : أي أن الأقلية العارفة والمالكة للمعلومات يجب ألاّ تنصاع لرأي الأغلبية غير المالكة للمعلومات.
- الديمقراطية المباشرة : بمعنى التقليل من الاعتماد على النواب والممثلين الشعبيين واستفتاء الشعب مباشرة عن طريق وسائل الاتصال المتطورة.
- تقسيم القرار : بحيث يتحول القرار من القمة إلى مالكي المعلومات.
- مبدأ النخبة الموسعة : بحيث تتوزع أعباء القرار على الكثير من الخبراء في المجالات المختلفة. بل وعلى الشعب نفسه.
- التصدي للقدر : على الجيل الراهن أن يقبل التحدي وأن يضع الأسس لديمقراطية القرن الحادي والعشرين.
حروب المستقبل ومستقبل السلام :
من الحزين جدا التفكير في ان الحروب لن تختفي في المستقبل هذا توفلر في كتابه (الحرب والحرب المضادة) يقرر انه اقدم على كتابة كتابه من أجل الطفل البوسني الذي مزق الانفجار نصف وجهه، ومن أجل أمه التي ترقب بعين معشية ما تبقّى من منزلها.إنه من اجل ابرياء الغد الذين سيقتلون ويموتون لاسباب لن يفهموها.. انه كتاب عن السلام.. وهذا يعني انه كتاب عن الحرب في الظروف الجديدة والغريبة التي نحن بصدد صنعها في سباقنا نحو مستقبل مجهول..
ويرى توفلر إننا نغرق في عصور وسطى جديدة تملؤها الكراهيات العصبوية ويعم خرابها أنحاء المعمورة وتتالى فيها الحروب.. والطريقة التي سنتبعها في مواجهة هذا العنف المتفجر ستحدد إلى حد كبير كيف سيعيش اطفالنا، وربما، كيف سيموتون
ومن هنا تبرز اهمية التفكير بمستقبل السلام ولكن ذلك لا يمكن الاحاطة به دونما المام بمستقبل ظاهرة الحرب .
ويرى إيرل تيلفور في دراسة بعنوان( الحرب في القرن الحادي والعشرين) الى ان التقدم التقني قد ادى الى تغيير نمط الحرب في المستقبل اذ ستحل ساحة المعركة الثلاثية الابعاد محل ميدان المعركة الحالي وستمتد الى الغلاف الجوي وصولا الى الفضاء وسوف تغطي مساحتها الاف الكيلو مترات وسيكون سير المعركة اكثر سرعة مما عرف حتى امد قريب وتتميز بنسبة تدمير هائلة بسبب انتشار التقنيات المستخدمة في معدات واسلحة الدمار الشامل الموجهة بصورة دقيقة جدا وحينئذ سيرتبط مفتاح النصر في الحروب القادمة بعامل المعرفة والسرعة والدقة في اثناء الاشتباك .
وفي كتابه (حروب المستقبل) يرى هارفوت ويسن باخر: إن حروب المستقبل، ، لا تشارك فيها جيوش ضد جيوش أخرى، بل جيوش ضد عصابات مسلحة، وقوات بوليسية ضد إرهابيين، وعصابات مسلحة ضد أخرى داخل الأقاليم والمدن، في الوقت الذي ستتلاشى فيه ترسانات الأسلحة الضخمة والحديثة وتندثر وتنقرض، أشبه بحيوان الديناصور الذي حكم كرتنا الأرضية في يوم ما، كل ذلك في إطار نظرية "تحول الحروب" التي يتنبأ بها.
وعلى هذا الأساس يرفض المؤلف نظريات انتهاء الحروب بدون رجعة مؤكداً بأن الظروف الراهنة قد ولدت شكلاً جديداً آخر من الحروب التي تشارك بها الدول والشعوب وتوجهها الحكومات ويمولها الشعب وتنفذها القوات المسلحة، وهي الحروب التي وضع القائد العسكري والمحلل السياسي البروسي المعروف "كارل فون كلاوسيفتز" القواعد الرئيسية التي تقوم عليها مطلقاً بذلك نظريته المعروفة والمعترف بها حتى الآن وهي: "إن الحرب هي وسيلة أخرى لتحقيق الأهداف السياسية" بحيث ربط بين الأسس السياسية للدول والأنظمة من جهة والحروب التي تقوم بها أو تحركها من جهة أخرى.
وقائع موت معلن :
) مستقبل العرب في القرن الحادي والعشرين)
على الصعيدين الاقليمى والمحلى ما زالت الدراسات المستقبلية ومؤسساتها والمهتمون بها فى مراحلها الأولى تواجه الصعوبات نفسها التى يواجهها البحث العلمى. وتزداد الحاجة فى بلداننا العربية إلى مراكز متخصصة فى الدراسات المستقبلية تنبع الحاجة اليها من الأهداف التى يتطلع دولنا الى تحقيقها فى القرن الحادى والعشرين ومن الدور الذى يمكن أن يؤديه هذا المركز فى صياغة السياسات وتقويمها وتوقع آثارها المستقبلية وغيرها من القضايا والاهتمام بالدراسات المستقبلية يسير للغاية لدينا , ولذلك مازالت مساهمة هذه الدراسات في عمليات التخطيط وصناعة القرارات ضعيفة, إن لم تكن غائبة كلية .ومن هنا أهمية توسيع دائرة العلم بهذا النوع من الدراسات في بلادنا, وبما تهدف إلي تحقيقه من أغراض, وبما تتبعه من منهجيات وأساليب للبحث في المستقبل, وبصلتها بعمليات التنمية والتخطيط وصناعة القرارات في سياق السعي للخروج من التخلف وتحقيق التنمية.
لا يقل احتياج دولنا العربية النامية إلى الدراسات المستقبلية عن احتياج الدول المتقدمة إلى هذه الدراسات ، بل وقد يزيد عليها والسبب الذي يدعم هذه الحاجة هو ان غيرنا من القوى الكبرى هو من يخطط مستقبلنا وفي عالم يتحكم فيه الاخرون بمستقبلك لن تقوى على الخروج من براثن الاوضاع المتردية لحاضرك وسيجد ابناءنا انفسهم في عالم محطم كنا نحن اشد المساهمين في دماره
ويعكس التفاوت االهائل والمتسارع بين الشمال والجنوب والشرق والغرب في ظل الاوضاع العولمية التي غياب الديمقراطية الدولية مما يجعل من دولنا محض دمى تحركها خيوط تتحكم بها عواصم دولية وانه لامر محزن ان نعي اننا في غرفنا الداخلية مجرد ارقام احصائية لحكومة عالمية تدير اقدارنا ومستقبل اجيالنا ومن ثم فان مصطلح التبعية ان لم اقل العبودية يأخذ زخما جديدا ويتضح تحت ضوء ساطع لاستسلامات عجزنا عن رؤية المستقبل . وهكذا نصبح نحن موضوعا لفاعلية هذه القوى ووحدات منفعلة وليست فاعلة في ظل عالم يتشكل ويتحول عبر الصراع حول المستقبل الذي يحتفظ لنا بمكان الحظيرة الخلفية .
هذا مشروع الشرق الاوسط الكبير الذي فصلنا الحديث فيه في مقالنا عن (الموجة الرابعة للديمقراطية) مثال جيد على مشروعات مستقبل معد لنا تقوم فيه قوى كبير بتشكيل صورة هذا المستقبل.وبعد احتلال العراق وتغيير مسار مستقبل هذا البلد العريق بات واضحا ان المستقبل حقا لم يعد من صنعنا ولاجل استعادة الامساك بزمام مصيرنا لا بد من ان نضع عينا على المستقبل بادراك حدود وامكانيات وتحديات عالمنا وصياغة الاطر المناسبة للتفاعل معه فعلى سبيل المثال اغفالنا عن جوانب التحولات في الاقتصاد العالمي وتراجعنا عن التفاعل البناء مع هياكله جعل منا مفعولا به لا عنصرا فاعلا في ازمنتنا العولمية التي شكلت نقطة انطلاق كبيرة لزيادة حركة انتقال السلع والمعلومات ورأس المال وقد ادى ذلك الى خلق منافسة في الاقتصاد العالمي الجديد والاهتمام بالمناخ الاقتصادي والسياسي المتقلب وضرورة الاهتمام بتقدير وادراك اخطار الازمة الاقتصادية والسياسية وبمعدلات النمو الاقتصادي السابقة حتى لا تحدث مفاجأت في المستقبل كما حدث في الازمة الاسيوية على حد تصور الاقتصادي العالمي(بول كروجمان)في بحثه عن المنافسة في النظام الاقتصادي العالمي الجديد
وهو ما يتطلب حسب رؤية الاقتصادي العالمي(فرد بيرجستن) السعي الى ايجاد سياسات نقدية دولية جديدة من اجل حماية الاقتصادات النامية(منها اقتصاداتنا العربية) ويقترح بيرجستن في مساهمته المعنونة(السياسات النقدية الدولية وأثرها على الاقتصادات النامية) ضرورة اجراء اربعة تغييرات رئيسة:
احداث اصلاحات جوهرية في الانظمة المالية وانظمة الصرافة الوطنية بما يتفق والمعايير الدولية
ابداء مرونة اكبر في اسعار صرف العملات حتى لا تكون هدفا سهلا للمضاربين
فرض قيود على تدفق رأس المال لفترة قصيرة لتجنب تراكم الديون السائلة
اتخاذ تدابير لزيادة استقرار تبادل العملات بين الدول المتقدمة بهدف تحسين الناخ المالي العالمي للدول النامية والحد من الاخطار التي تواجهها. واحداث تغيير في هذه المجالات حسب بيرجستن سيساهم في الحد من الاخطار التي تنجم عن ازمات في الاقتصادات النامية في المستقبل.
صياغة المستقبل العراقي :
على الرغم من الظروف القاسية التي يمر بها بلدنا والتي ترجع جذورها الى اغفال انظمتنا المتعاقبة عن التفكير بمستقبلنا وانشغالها بتحقيق مكاسب حاضرة او تبرير سياساتها الايديولوجية او الدفاع القبيح عن وجودها غير المبرر شرعيا و غير الفاعل واقعيا يجب ان يعاد صياغة مستقبلنا على نحو تعمل فيه الارادة الوطنية الفاعلة عن طريق توفير إطار زمنى طويل المدى لما قد نتخذه من قرارات اليوم لها اثر على القادم وفق نظرة طويلة المدى وبافق زمني طويل نسبيا . بدلا من الانغماس في المطالب التجزيئية التي تعامل مستقبل كل فئة او قومية عراقية على انها منفصلة عن الاخرى ومن ثم فان مستقبلها ليس واحدا بالضرورة وبدلا من التحجج بالمؤقت(اللي يمشي الحال!) والحاجة الحالية والضرورات الآنية ومتطلبات المرحلة ..الخ من الشعارات المكررة والممقوتة لا بد من التأكيد على جوهر الوحدة الوطنية والتفاعل والتعايش المقرون بالتخطيط للمستقبل وعلى حد ما جاء في المشروع المصري الطموح عن(الدراسات المستقبلية ومشروع مصر2020)- الذي نتمنى من نخبنا السياسية الاطلاع عليه ونتمنى من نخبنا الاكاديمية صياغة مشروع مماثل له -فإن ما تتيحه الدراسات المستقبلية من إضفاء طابع مستقبلى طويل المدى على تفكيرنا ، إنما هو علامة مهمة من علامات النضج العقلى والرشادة فى اتخاذ القرارات . واننا بحاجة لتحقيق هذه الغية الى الدراسات الاستشرافية للمستقبل تساعدنا على صنع مستقبل أفضل ، وذلك بفضل ما تؤمنه من منافع متعددة ، من أهمها ما يلى :
اكتشاف المشكلات قبل وقوعها ، ومن ثم التهيؤ لمواجهتها أو حتى لقطع الطريق عليها والحيلولة دون وقوعها.وبذلك تؤدى الدراسات المستقبلية وظائف الإنذار المبكر ، والاستعداد المبكر للمستقبل ، والتأهل للتحكم فيه ، أو على الأقل للمشاركة فى صنعه .
إعادة اكتشاف أنفسنا ومواردنا وطاقاتنا ، وبخاصة ما هو كامن منها ، والذى يمكن أن يتحول بفضل العلم إلى موارد وطاقات فعلية . وهذا بدوره يساعد على اكتشاف مسارات جديدة يمكن أن تحقق لنا ما نصبوا إليه من تنمية شاملة سريعة ومتواصلة . ومن خلال عمليات الاكتشافات وإعادة الاكتشاف هذه ، تسترد الأمة الساعية للتنمية الثقة بنفسها ، وتستجمع قواها وتعبئ طاقاتها لمواجهة تحديات المستقبل .
بلورة الاختيارات الممكنة والمتاحة وترشيد عملية المفاضلة بينها . وذلك بإخضاع كل اختيار منها للدرس والفحص ، بقصد استطلاع ما يمكن أن يؤدى إليه من تداعيات ، وما يمكن أن يسفر عنه من نتائج . ويترتب على ذلك المساعدة فى توفير قاعدة معرفية يمكن للناس أن يحددوا اختياراتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية فى ضوئها ، وذلك بدلاً من الاكتفاء - كما هو حاصل حالياً - بالمجادلات الأيديولوجية والمنازعات السياسية التى تختلط فيها الأسباب بالنتائج ، ويصعب فيها تمييز ما هو موضوعى من ما هو ذاتى .
وهكذا بالنسبة لهذا المشروع الذي نتمنى ان يصبح هاديا لنا ايضا ، فإن الدراسات المستقبلية تسهم فى ترشيد عمليات التخطيط واتخاذ القرارات من بابين :
الباب الأول هو باب توفير قاعدة معلومات مستقبلية للمخطط وصانع القرار ، أى توفير معلومات حول البدائل الممكنة وتداعيات كل منها عبر الزمن ، ونتائج كل منها عند نقطة زمنية محددة فى المستقبل .
والباب الثانى هو باب ترشيد ما يجب أن يسبق عملية اتخاذ القرارات بشأن الخطط والسياسات من حوار وطنى على مستوى النخب وعلى مستوى الجماهير بقصد بلورة القضايا وبيان الاختيارات الممكنة ، وما ينطوى عليه كل اختيار من مزايا أو منافع ومن أعباء أو تضحيات . إذ تؤمن التنبؤات المشروطة التى تقدمها الدراسات المستقبلية فرصاً أوسع للاتفاق أو للاختلاف على أسس واضحة . كما أنها تمكن من المساعدة فى حسم بعض أوجه الخلاف من خلال إعادة صياغة " الشروط الابتدائية " لبعض أو كل البدائل محل النقاش ، وإعادة التحليل والحسابات فى ضوء الشروط المعدلة ، ومن ثم الدخول فى دورات نقاش متتابعة لتقريب وجهات النظر والتراضى على اختيار محدد . ومثل هذا الأسلوب في( نظر المشروع ) فى اتخاذ القرارات بمشاركة شعبية واسعة يمثل نقلة نوعية كبرى فى طبيعة الحوارات الوطنية التى كثيراً ما تفتقر إلى " الحوار " حقيقة ، وغالباً ما تكون مقصورة على تسجيل المواقف أو تبادل الاتهامات . ولو سمح للدراسات المستقبلية بأن تؤدى مثل هذا الدور فى " تنوير " و" تفعيل " المناقشات حول القرارات الوطنية ، فإن الحوار الوطنى سوف يكتسب حينئذ الكثير من السمات الحميدة للنقاش العلمى الذى عادة ما تكون مصادر الخلاف فيه واضحة ، والذى يمكن فيه التوصل إلى حلول عملية من خلال دورات متعددة للتصحيح المتتابع أو الاقتراب التدريجى من الحل الامثل لصياغة المستقبل .
حسنا، الى اين تمضي بنا الحياة؟ لو كنت اعلم ذلك لا صبحت نبيا ولو سئلني احد ما هذا السؤال فساترك وصيتي لتفتح في نهاية هذا القرن لتقول جواب إشعيا برلين فيلسوف السياسة الشهير, ومؤرخ تاريخ الأفكار حين سوئل عن المستقبل في القرن الحادي والعشرين حيث أجاب: (لا تسألني إلا عن القرن العشرين الذي كاد ينقضي, فلست نبيا حتي أتنبأ لك بما سيحدث في القرن الحادي والعشرين!)