الحكم بلا دولة: التحولات في مفهوم الدولة من السيادة الكاملة إلى "المقيدة "
توماس ريس
عرض : د. مروة نظير - مدرس العلوم السياسية، المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية
Thomas Risse (Editor) Governance Without a State : Policies and Politics in Areas of Limited Statehood,(Columbia: Columbia University Press, 2011)
لعقود طويلة، عدت "الدولة ذات السيادة" من الأركان الأساسية في علم وممارسات السياسة والعلاقات الدولية والقانون الدولي، حيث تشكل هذه الدولة الوحدة الرئيسية للتفاعل في المجتمع الدولي. وقد ظهرت العديد من الدعوات لإعادة النظر في مفهوم سيادة الدولة على مستوى العلاقات الدولية، لاسيما مع بروز العولمة وما تشمله من تماه للحدود بين الداخلي والخارجي.
وفي إطار مراجعات مفهوم الدولة ذات السيادة، يأتي كتاب " الحكم بلا دولة: السياسات والسياسة في مجالات إقامة دولة مقيدة" ليناقش الفرضيات المستقرة بشأن سيادة الدولة، فيما يخص ممارسات عملية الحكم، والتي تعد الدور الأساسي للدولة على الصعيد الداخلي. وقد أسهم في إعداد الكتاب مجموعة من علماء السياسة، والقانون، والتاريخ، والاجتماع، وقام بتحريره توماس ريس، مدير مركز العلاقات الدولية والسياسات الخارجية والأمنية في معهد أوتو سوهر للعلوم السياسية في جامعة فري ببرلين.
ماهية الدولة المحدودة/المقيدة:
من أهم نقاط القوة في هذا الكتاب التأصيل النظري لمجموعة من المفاهيم، أبرزها "الحكم بدون الدولة" "-” وإنشاء دولة محدود/مقيدة " ، ويعني بذلك الحالات التي تفتقر فيها الدولة للقدرة على تطبيق أو تنفيذ القانون، أو الحالات التي تفتقر فيها الدولة لاحتكار الأدوات المشروعة لاستخدام العنف. ويرى الكتاب أن مفهوم "الحكم" يعني "أنماطا مؤسسية من التنسيق الاجتماعي تهدف لإنتاج وتطبيق القواعد الملزمة بشكل جماعي، أو بهدف إنتاج السلع الجماعية". بهذا المعني، يفترض الكتاب أن الحكم قد يتم من خلال الدولة، أو عن طريق الشبكات التفاعلية بين مجموعة من الفاعلين.
يحاول الكتاب إيجاد إجابة لسؤال. من يتولي الحكم بالنيابة عمن؟ وكيف تتم عملية الحكم في الدول الضعيفة؟. وفي معرض السعي للإجابة، ينطلق الكتاب من فرضيتين، الأولي تتضمن عملية الحكم في الدول الضعيفة فاعلين غير حكوميين، وأنماطا غير تراتبية لتسيير الأمور كالمساومة والمنافسة. الثانية: يتميز الحكم في الدول المحدودة/المقيدة بأنه متعدد المستويات، حيث تتوزع السيادة بين الفاعلين الحكوميين وغير الحكوميين العاملين على المستويات المحلية، والقومية، والإقليمية، والعالمية.
الدولة المقيدة/ المحدودة: إرث تاريخي:
يؤكد الكتاب أن مفهوم "الدولة القومية"، وهو أحد المفاهيم الرئيسية للعلوم الاجتماعية الحديثة، لا ينطبق على ثلثي وحدات المجتمع الدولي، حيث تفتقد بشكل أو آخر بعض مقومات هذا المفهوم، وهو ما يطرح العديد من التحديات النظرية والسياسية، التي قد يجد الكتاب حلا لها في القناعة التي يقوم عليها بشأن الطبيعة المحدودة لدور الدولة، وذلك على العكس تماما من الأنماط التقليدية للتحليل. ويشير الكتاب إلى أن الدولة المحدودة/المقيدة ليست مصادفة تاريخية، وهي ليست مقصورة على دول العالم النامي، بل هي موجودة، ولكنها لم تحظ بالدراسة الكافية.
وفي هذا السياق، يركز الفصل الثاني من الكتاب على عملية الحكم في ظل الاستعمار، مؤكدا أنه من الناحية التاريخية، تقدم الدول التي عانت من الاستعمار أبرز صور الدول المقيدة/المحدودة، إذ افتقرت إلى القدرة على اتخاذ وفرض القرارات، كما أنها لم تتمكن من احتكار استخدام القوة. وينتهي إلى تأكيد أن الدولة القومية بشكلها الحديث هي الاستثناء وليست القاعدة، إذ نجد أمثلة الدولة المحدودة في البلدان التي تمر بمراحل انتقالية، والدول النامية، والدول الرخوة، والدول الفاشلة .. وغيرها.
الفاعلون في الدولة المحدودة:
وفق الكتاب، تقوم عملية الحكم على محورين هما: الفاعلون القائمون بعملية الحكم، وأنماط التنسيق أو التفاعل الاجتماعي فيما بين هؤلاء الفاعلين. حيث توجد توليفات متعددة من العلاقات تشتمل على المستوى الدولي الحكومات الوطنية، والمنظمات الدولية المعنية، والشركات متعددة الجنسيات، والمنظمات غير الحكومية الدولية. أما على المستوى المحلي، فيشمل الفاعلون الشركات المحلية، والمنظمات غير الحكومية، بل وحتي أمراء الحرب والميليشيات المسلحة.
يركز الكتاب من خلال فصله الثالث على القانون في غياب الدولة، حيث يستعرض أنماطا جديدة للتفاعل بين الدولة والفاعلين غير الحكوميين في عملية وضع القواعد القانونية. فيما يستعرض الفصل الرابع آليات جديدة لتحقيق الأمن في الدول المقيدة التي مزقتها الحروب.
ويركز الكتاب في هذا الإطار على الأبعاد الاقتصادية، حيث يتناول الفصل الخامس الشراكات الدولية بين القطاعين العام والخاص في توفير السلع والخدمات الجماعية في البلدان النامية. في حين يسهب الفصل السادس في تناول أنماط المنافسة بين الشركات في بعض مجالات الحكم. ويقدم الفصل السابع تحليلا للتفاعلات بين الدائنين والمدينين، وتأثيرات ذلك في عملية الحكم في أزمات الديون السيادية.
الحكم الرشيد ودور الأطراف الخارجية:
يشير الكتاب إلى أن غالبية الوكالات الدولية والبرامج الدولية، التي تدعم التحول الديمقراطي وبناء الدول، مثل البنك الدولي، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، تري أن الدولة القومية الحديثة -بشكلها الغربي- هي النموذج الأمثل للحكم الرشيد. ومن ثم، فهي تنطلق من نظريات الحداثة التي تري أن الحكم الرشيد يتكون من مجموعة من القيم، تشمل حكومة فعالة، وحكم القانون، وحقوق الإنسان، والديمقراطية، واقتصاد السوق، وضمانا معينا من الرفاهية الاجتماعية. ومن ثم، تعد عملية بناء الدولة من أهم مكونات هذه المعايير أو القيم التي يقدمها المجتمع الدولي إلى الدول الفاشلة أو الرخوة.
وفي هذا السياق، يستعرض الفصل الثامن من الكتاب المعايير الدولية القانونية والأخلاقية للحكم الرشيد في الدول الهشة. فيما يركز الفصل التاسع على آثار التدخل الدولي على عملية الحكم في الدولة المحدودة/المقيدة. في حين يتناول الفصل العاشر الآثار المترتبة على السياسة الخارجية والأمن الدولي.
ختاما، يمكن القول إن التحليل الوارد في الكتاب يعكس صعوبة جمع وتحليل المعلومات المتعلقة بعملية الحكم التي يتولاها فاعلون غير الدولة، وهو ما يرتبط بالغموض الذي يكتنف هذه العملية. كما أن الكتاب لا يوضح أي الفاعلين يجب التركيز عليهم عند تناول شبكة الحكم في غياب الدولة.
أما أهم نقاط قوة الكتاب، فتتمثل في الإسهام المفاهيمي، والتعريفات التي يقدمها، والتي سبقت الإشارة إليها، فضلا عن التأكيد على فكرة أن الدولة المقيدة أو المحدودة ليست ظاهرة غير طبيعية أو مكروهة، بل على العكس قد تكون أكثر شيوعا من الدولة "الكاملة"، وأكثر قدرة على تلبية الحاجات الفعلية للشعوب في عصر العولمة. كما يلفت الانتباه إلى التداخل في الأدوار بين الفاعلين المتعددين الذين يشتركون في تلبية الاحتياجات الأساسية للمجتمع، ووضع القواعد القانونية، أي في القيام بعملية الحكم.
تعريف الكاتب:
مدير مركز العلاقات الدولية في معهد أوتو سوهر للعلوم السياسية في جامعة فري ببرلين