اليمين الجديد في الولايات المتحدة الأمريكي وتأثيره على السياسة العالمية
د.عماد فوزي
الخلفيات الاستراتيجية والفلسفية
لكي نفهم أداء اليمين الجديد في الولايات المتحدة الأمريكية، لا يجب أن نتورط بدمجه في الإدارة الأمريكية بقيادة جورج بوش بصورة إجمالية لا ترى التمايز بين وزنه كتيار منفرد كبقية التيارات اليمينية التي تتألف منها تلك الإدارة ومنها: تيار المسيحيين الأصوليين ومنهم جون أشكروفت وزير العدل، وتيار(التمامية) البروتستانتية الآتي من الولايات الجنوبية، والتي منها يتفرع ما يسمى(الحزام التوراتي) وهو تيار متصاعد النفوذ في صفوف الجمهوريين و أصحابه يرتدون أزياءً مخططة بلون أزرق بترولي ينسجم مع تقاليد المتدينين في الجنوب الأمريكي، وهو التيار الأكثر دعماً لإسرائيل انسجاماً مع أوهام نصوصية تتأرجح حول عدم إمكانية عودة السيد المسيح إلا بتواجد اليهود في فلسطين، و هو التيار الصهيوني غير اليهودي.
إذاً، فالإدارة الأمريكية الحالية تضم ـ فعلياً ـ ثلاثة تيارات متمايزة وهي كلها محافظة:
1. تيار اليمين الجديد.
2. تيار المسيحيين الأصوليين.
3. تيار التمامية البروتستانتية.
في التقييم العربي لهم ، كثيراً ما يتم الخلط بينهم بصورة غير دقيقة بوضع"البيض كله في سلة واحد"، وذلك بسبب ولاءهم المشترك تقريباً لإسرائيل. إلا أن هذا الولاء يتأرجح بين خيارات صهيونية وإيديولوجية مباشرة لدى تيار اليمين الجديد(وبعض رموزه كان على صلة ـ ولا يزال ـ شديدة بالليكود)، وبين خيار إيديولوجي ديني لدى تيار التمامية البروتستانتية، وخيار مصلحي نفعي لأسباب انتخابية، وبتأثير لعبة الانتخابات لدى تيار المسيحيين الأصوليين.
أن يجتمع حول الرئيس الأمريكي جورج بوش هذا العدد المتنوع من التيارات اليمينية، هو الذي يفسر طبيعة الإدارة الأمريكية العدوانية، واللاسياسية أحياناً.
والواقع أن حكم الرئيس جورج بوش هو الحكم الوحيد في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية الذي جمع هذه التيارات معاً، الأمر الذي يكسب إدارته متانة في جلّ التيارات اليمينية المتنوعة.
إلا أن هذه التوليفة لم تكن إعجازاً حقيقياً من جورج بوش، لأنها بالأصل متلاقية على الحدّ الأعلى:
فبين تيار اليمين الجديد وتيار التمامية البروتستانتيّة ثمة قاسم مشترك وهو دعم إسرائيل(كلٌّ لأسبابه)، وبين تيار اليمين الجديد وتيار المسيحيين الأصوليين هنالك إجماع على مسألة ضرورة حقن المجتمع الأمريكي بالقيم المسيحية، وأيضاً كلٌّ لأسبابه؛ إذ بينما يأتي هذا التوجه أصيلاً عند تيار المسيحيين، فإنه يتضح باعتباره براغماتياً(أصيلاً!) لدى اليمين الجديد بالنظر إلى أنهم علمانيون!؛ إلا أن ذريعتهم في ذلك تتمثل في أن الدين هو الوسيلة الوحيدة لملء الفراغ لدى الجمهور الواسع بما يساعد على فرض النظام.
الهدف الأهم هنا هو، حسب العلماني اليهودي ليو شتراوس؛ الذي يمثل الخلفية الفلسفية لتيار اليمين الجديد ـ كما سنرى لاحقاً ـ، أن العصرنة التي حدثت بسرعة، ولا تزال، في الولايات المتحدة الأمريكية تصيب المجتمع ـ ككل مجتمع معاصر ـ برفض للقيم الأخلاقية والفضيلة، مما يفقد النظام السياسي الأمريكي القيم الأساسية التي أرستها أوروبا في نظامها المعاصر والمتمثلة في العقل والحضارة، وبالتالي فهي تفتقد إلى أي مثل أعلى أو(خير أعلى) كمرجعية تضبط البشر وتحقق سواد النظام على أسس غير قهرية من الخارج،! إنما بانضباط شديد يتشكل عبر(الأنا الأعلى الجمعي) الأخلاقي عند هؤلاء البشر.
لهذا يركز التيار اليميني الجديد على أهمية تطبيق أفكار دينية ولكن من خلال المؤسسات وليس من خلال تطبيق أفكار الأباء المؤسسين، وهنا يفترق بشدة عن التيار الديني الأصولي لأن هدفه براغماتي. إذ يقول :" ليست الفضيلة الأخلاقية تطبيقاً عند الرجل الذكي حقاً، أو الفيلسوف. فالفضيلة الأخلاقية ليس لها وجود إلا في الرأي الشعبي حيث يكون هدفها السيطرة على غالبية الناس غير الأذكياء"، ويذكر بانغل أن الفلسفة عند شتراوس أثبتت بطلان العقيدة الدينية. ومع تواصل هذا الجدال العنيف قال بانغل إن شتراوس قد وصف تميز أمريكا بأنها "حديثة" وهذا الوصف عند أتباع شتراوس يعتبر أسوأ كلمات الشتيمة.
وهنا بالذات علينا أن نفهم بأن هذا التيار قد(ابتكر!) مفهوم(الحقيقة) بطريقة براغماتية فلسفية معاً؛ فهي(أي الحقيقة) قد ضاعت بسبب الليبرالية المفرطة وبسبب شيوع ما يدعوه شتراوس التيارين، النسبوي الذي يضيع كل حقيقة، ويحيل الأمور والأحكام إلى مواقف نسبية مائعة، وكذلك التيار التاريخي الذي يرفض الاعتراف بقيمة عليا في التاريخ تاركاً القيم لتُحال إلى ما تتكون به عبر المجتمعات وعبر التاريخ بحد ذاته.
ولهذا إذ أردنا أن نفهم عقلية تيار اليمين الجديد في الولايات المتحدة ، فإن علينا أن نراه باعتباره خياراً ثالثاً بين الليبرالية التي أقامت موقفاً متسامحاً إزاء أفكار الآخرين، وبالتالي إزاء الحقيقة، حيث لكل الناس حقيقته، وبين التاريخية التي تعتبر أن القيم متغيرة بتغير التجربة والتاريخ الخاص لكل المجتمعات.
لكن هذا لا يعني أن فلسفة اليمين الجديد في الولايات المتحدة لا تعطي أهمية قصوى للبعد الليبرالي، ولكن هذه الأهمية تتموضع في التوظيف السياسي له، وليس بالتوظيف الاجتماعي؛ فهم يريدون أن يكون العالم كله ليبرالياً ديموقراطياً في كل المؤسسات والنظم السياسية، لكنهم لا يريدون أية ليبرالية نسبوية في القيم الاجتماعية حيث أن الهدف هو ضبط المجتمعات أو المجموعات البشرية في المآل الأخير عبر منظومة من القيم الدينية التي يعززها(علمانيون!) لاعتبارات براغماتية محض.
والواقع أن هذا التعظيم الشديد للبعد الديني لهو تعظيم يجد مرتسمه الأبرز في ذلك التفاؤل الممزوج(بالخلاصية) المسيحية، مطبقة على السياسة؛ إذ أن هؤلاء اليمينيين الجدد يعتبرون أنفسهم مخلصين للبشرية! وأنهم ـ بصورة ضمنية ـ يؤدون رسالة السيد المسيح، ولكن على المستوى السياسي . ورغم علمانيتهم،إلا أنهم يستثمرون هذا البعد الخاص في المسيحية لتبرير نزعتهم للتسلط السياسي على العالم بأسره.
هذا النموذج من استخدام الدين علمانياً ولأسباب براغماتية، يتضمن رأياً يحتقر الشعوب أو المجموعات البشرية، ويرى ضرورة الوصاية عليها عبر قيم تزرع فيهم تساعد على ضبطهم وتهيئهم ـ عملياً ـ لقبول النزعات السياسية الأخرى التي تتحدث عن(خلاص) الناس والشعوب الأخرى ، وبالتالي تحمّل المعاناة عن الشعوب، بدفع الضرائب وتكبد الخسائر في البشر والمعدّات من أجل تنفيذ ما يمكن تسميته(شيوع النظام السياسي الأمريكي)؛ باعتبار أن القيم السياسية الأمريكية هي الأفضل وهي التي يجب أن تتعمم على العالم بأسره.!
وعلى هذا يرى شتراوس، الذي سنفيض في الحديث عن فلسفته وهو مرجع لتيار اليمين الجديد، أن الغالبية العظمى من الرجال والنساء، بعيدون كل البعد عن كونهم يملكون القدرة على مواجهة الحقيقة، فهذه القدرة تخص جنساً آخر غير الجنس البشري. وهؤلاء الناس ممن يسميهم نيتشة "القطيع" ويدعوهم أيضاً " العبيد" وهم بحاجة إلى رجال من لدن الله المهدد بالعقاب، والعقاب في الآخرة وإلى قصص أخلاقية عن الصواب والخطأ. وبدون هذه الأوهام يصاب الناس بالجنون وتعم فيهم حوادث الشغب وينهار النظام الاجتماعي، أي نظام اجتماعي. وحيث أن الطبيعة البشرية لا تتغير كما يقول شتراوس، فهذا الوضع سوف يستمر على حاله.
والرجال المتفوقون / الفلاسفة هم الذين يقدمون للقطيع كل ما يحتاجه من معتقدات دينية وأخلاقية وغيرها رغم أنهم يعرفون في قرارة أنفسهم أن هذه المعتقدات كلها أكاذيب. وكأنه يكرر ما يقوله نيتشة من أن هؤلاء الرجال المتفوقين "كهنة ملحدون" أما شتراوس فيدعي أن أكاذيبهم هي "أكاذيب نبيلة" وبالطبع فهم لا يفعلون ذلك حباً بالخير، ذلك أن نيتشة وشتراوس يهزؤون بالصدقات وحب الخير للجميع ويصفون هذه الأفعال بأنها غير جديرة بالآلهة أو بالرجال أشباه الآلهة. بل إن هؤلاء "الفلاسفة" يستخدمون هذه الأكاذيب ليصنعوا المجتمع وفق مصالح هؤلاء "الفلاسفة" أنفسهم.
والفلاسفة بحاجة لأصناف مختلفة من البشر لتخدمهم، ومنهم " السادة ،حيث يتلقى هؤلاء "السادة" تدريباً عقائدياً في التعليم "الخارجي للجمهور" أو التعليم العام. منهم من يدربون على الإيمان بالدين والأخلاق وحب الوطن والخدمات العامة،وبعضهم يدخلون في الحكومة. لنأخذ مثلاً على ذلك وزير التربية السابق ويليام بينيت وكتابه بعنوان " كتاب الفضائل". وبالطبع فهم يؤمنون،إلى جانب كل تلك الفضائل التقليدية "بالفلاسفة" الذين علموهم كل تلك الأشياء الخيّرة.
وهؤلاء "السادة" الذين يصبحون ساسة ورجال دولة، يستمرون بتلقي النصح من الفلاسفة. وحكم الفلاسفة من خلال رجالهم الذين دخلوا في الحكم هو ما يسميه شتراوس " المملكة السرية" للفلاسفة. والمملكة السرية هي الهدف الذي يسعى كثيرون من تلامذة شتراوس "الداخليين" لتحقيقه في حياتهم.
والرئز هنا هو إصرار شتراوس على وجوب إخفاء الحقيقة، عن الناس ؛لأن الحقيقة إن عرفت قد تدمر المجتمع والفلاسفة على حد سواء،و أفلاطون والفلاسفة القدامى، مثلهم في ذلك مثل شتراوس نفسه، كتبوا بنوع من الرموز لا يتكشف معناها الحقيقي إلاّ للحكماء. وإذا تصادف واطلع الغوغاء على هذه الكتب فلا يجدون فيها إلاّ الخرافات المألوفة حول الثواب للفضيلة والعقاب للرذيلة وما شابه ذلك.
ويقدم شتراوس مثالاً يأخذه من الفارابي وهو شخص آخر من المؤلفين "الذين يتحدثون للفئة القليلة"-حسب تعبيره- فيوضح كيف أن المرء قد يقول الحقيقة بكلمات معينة تكون غايتها الخداع فقط. وفي شروح لهذه الظاهرة تقول الباحثة دروري : إن" الناسك التقي معروف في المدينة لاستقامته وحشمته وورعه، ومعروف أيضاً بتقشفه وتواضعه وكبح الشهوات، لكنه لسبب ما أثار عداوة حاكم المدينة له فأمر باعتقاله، واتخذ كافة الإجراءات الكفيلة بعدم فراره من المدينةـ واستنفر جميع الحراس على أبواب المدينة. ورغم ذلك كله استطاع هذا الناسك أن يهرب من المدينة، فارتدى ملابس السكّيرين وغنى لحناً يتوافق مع الصنوج واقترب من أبواب المدينة ولما سأله الحراس من هو أجاب أنه الناسك المتعبد الذي يبحث عنه كل من في المدينة، لم يصدق الحراس قوله، فسمحوا له بالخروج". [دروري 1988, ص xi-x]. والهدف من هذا ميكيافيلي نُخبوي بالضرورة، ويقوم على خداع الناس لأنهم لا يفهمون ولا يجب أن يفهموا.
"الجانب الثوري"
الجانب المحافظ من ذلك التيار المسمى باليمين الجديد في الولايات المتحدة تمثّل، كما أسلفنا، في الميل إلى ضبط المجتمع بمجموعة من القيم التي يشرف عليها علمانيون، إلا أن صفة اليمين المحافظ تنقلب فجأة إلى ثورية من نوع أقرب إلى الفاشية والفوضوية معاً.
فالمحافظون على قيم المجتمع لا يقبلون كل ما هو محافظ سياسياً، بل ويتمايزون عن طروحات التيارات المحافظة في أوروبا؛ فهم لا يريدون الدفاع عن نظام الأشياء بما هو قائم عليه وسائد، بل يريدون"تغيير العالم"! ليصبح متماهياً مع نموذج الحكم والحياة الديمقراطية في الولايات المتحدة الأمريكية. وهذا ما يفسّر لماذا انطوت الاستراتيجية الأمريكية الجديدة التي أعلنت في20 أيلول/ سبتمبر2002 على نص صريح يقول أن القيم الأمريكية السياسية قد باتت قيماً كونية ولهذا يجب أن تنتقل إلى المجتمعات والأنظمة السياسية.
السياسة عند هذا التيار ليست ديبلوماسية، بل إن الديبلوماسية تعطل قدرة السياسة الأمريكية على(تنميط) الآخرين بالقيم الديمقراطية، وبالتالي فهي(أي السياسية) أداة تغيير، الأمر الذي يُكسب هذا التيار الصفة الثورية التي تنتفض على الأوضاع الراهنة وعلى كل سكونية سياسية(ستاتيكو)، ولهذا فهم ،وفي بدايات تبلورهم في السبعينيات، كثيراً ما انتقدوا حالة الاسترخاء الدولي التي عرفتها الحرب الباردة، واعتبروها تكريساً لوضع الاتحاد السوفياتي اللاديمقراطي والتوتاليتاري والقمعي، وأنها قد عززت ـ عملياً ـ انتصاراته في المحافل الدولية، وكثيراً ما وجّهوا انتقادات لاذعة للديبلوماسية الواقعية التي رسمها ونفذّها هنري كسينجر.
السياسة الدولية هي مرتكز انتقاداتهم(الثورية)؛ فهي باعتبارها تستند إلى قواعد وآليات تُدخل في المساومة، تفقد المجتمع الدولي القدرة على المبادرة والاستباق، ولهذا فإن الأمم المتحدة تمارس فعلاً شبيهاً بفعل عصبة الأمم المتحدة عندما تفضل الحوار والمسايرة والاحتواء مع القوى العالمية التي تشكّل خطراً(مستقبلياً!) على السلم والاستقرار، الأمر الذي يستدعي الثورة عليها وعلى قواعدها وشرعتها عندما تصبح أضعف من أن تنتقل إلى(الفعل) المباشر الذي يدرأ عن العالم احتمالات بزوغ ونمو الطُغاة.
ولهذا فإن"سياسة العصا" هي الأسلوب الأساسي الذي يعتمده هذا التيار في العمل السياسي، وقناعتهم تتمثل هنا بأن السلبيات اللا أخلاقية كالطغيان وعصابات الشوارع والمخدرات والانهيارات المجتمعية… سرعان ما تتحول إلى ثقافة، وتسود، وبالتالي لابد من التصدي لها في العالم وفي الولايات المتحدة، وهنا يحدث اللقاء بين الميول الثورية لهذا التيار والميول المحافظةالأخلاقية المبُسترة.
والملاحظ أن هذا التيار قد ضم عدداً من اليساريين السابقين كـ أيرفينغ كريستول ونورمن بودورتنر مؤسسيّ مجلة كومنتري، وفرانسيس فوكوياما صاحب كتاب"نهاية التاريخ" وهو ماركسي هيغلي يجيّر كلّ المفاهيم الأساسية لماركس وهيغل لصالح انتصار نهائي للرأسمالية وقيمها… الديمقراطية!.
وكذلك يمكن القول نفسه عن ألان بلوم المفكر المعروف في جامعة شيكاغو صاحب كتاب"انغلاق العقل الأمريكي" الذي يهاجم تحول اللا قيم إلى ثقافة، بل ويمارس ما يسمى احتقار الثقافة الغربية من داخل الحضارة الغربية نفسها، ويبتدع نظرية"الصحيح السياسي" وفيها ما فيها من الميل الشديد نحو فرض قيم، يدعوها صحيحة، على العالم بأسره وعلى السياسة بوجه خاص، وهو ما تبلور في السبعينيات كتيار ورثه في الثمانينيات مجموعة من الشبان المهووسين بهذه الأفكار كوليام كريستول وريتشارد بيرل ودوغلاس فيث وولفيتز واليوت ابراهامز… والذين سارعوا لتشكيل مراكز أبحاث مثل(أمريكان انترابرايزأنستيتيوت) و(هيودسون انستيتيوت) و(هريتاج فوندايشن) و هي ما شكلت( مجموعات التفكير) التي سيطرت على عدد من الدوريات ومراكز النشر كـ (ويكلي ماغازين) ومنشورات(ناشيونال ريفيو)و(كومنتاري) و(نيوريبابليك) ومجموعة موردوك المالكة لشبكة التلفزيون (فوكس) وبعض صفحات من(الوول ستريت جورنال) التي استطاعت عبر دخول اللعبة السياسية والاستثمارية في الولايات المتحدة الأمريكية أن تفرض إيقاعاً آخر للسياسية، بدأت نُذره الأولى مع عهد ريغان واستمرت في عهد بوش الأب وهي الآن تقطف ثمارها في عهد جورج بوش الابن.
هذا الميل الثوري في السياسية الخارجية يخرج الولايات المتحدة عن مفهوم العزلة السياسية الخارجية وسياسة عدم التدخل المباشر، وبالتالي فإن أول ما يطاله هو مبدأ ترومان في الردع والاحتواء، وهو يتناغم بشكل كبير مع سياسة التدخل الانتقائي التي طورها ريغان وسار عليها بوش وأيضاً كلينتون، لكنها تجد تبلورها الأكبر مع جورج بوش الابن وهذا ما يفسر إطلاق رونالد ريغان لمبادرة الدفاع الاستراتيجي(حرب النجوم)، والذهاب إلى إلغاء معاهدة الحد من الصواريخ المضادة للقذائف الباليستية من طرف واحد أو البحث عن تعديلها والانسحاب من معاهدة كيوتو ورفض المصادقة على معاهدة لإنشاء محكمة جرائم حرب دائمة.
وهو يميل كتيار إلى الدعوة إلى(العالمية) ولدور أكبر للولايات المتحدة في الكرة الأرضية، مطيحين بالسياسة الواقعية التي لا تكترث بطبيعة الأنظمة السياسية في البلدان التي لها علاقة بالولايات المتحدة الأمريكية أو تتحالف معها الأخيرة لحماية مصالحها، وهذا ما ساعدت عليه أحداث الـ11 من أيلول/ سبتمبر إذ أنها أكدت مصداقية وصوابية رؤيتهم أمام الحزب الجمهوري وتياراته الأقل تطرفاً في هذا الاتجاه والأكثر ميلاً للسياسة؛ إذ أُتيحت الفرصة لهذا التيار أن يقول كلمته مؤكداً على أن طبيعة الأنظمة المحافظة والإسلامية وغير ديمقراطية والتي يحكمها طغاة تشكل خطراً على المصالح الأمريكية وهي التي تنتج ظواهر مماثلة لما حدث في ال11 من أيلول وأيضاً لطبيعة العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية وصدام حسين التي تمثلت بدعمٍ له ضد إيران لتجد نفسها أمام تهديد حقيقي لمصالحها عبره.
وعلى هذا فإن الرؤساء من أمثال ولسن وجيمي كارتر وبيل كلينتون ليسوا أكثر من سذج يتمتعون بـ"ملائكية" تصل بهم إلى الحد الذي يتوهمون فيه إمكانية الاعتماد على المنظمات الدولية لنشر الديمقراطية، في وقت لا يرى فيه هذا التيار أي إمكانية لنشر الديمقراطية إلا بالقوة؛ معتبرين أن الديمقراطية هي التي ستغير طبيعة الأنظمة وطبيعة المجتمعات بالتالي؛ أي أن تغير ثقافات المجتمعات الأخرى التي باتت تهدد الولايات المتحدة الأمريكية يأتي من"فوق" من خلال الديمقراطية التي وحدها تستطيع أن تفسح في المجال أمام التغيرات الاجتماعية بدلاً من أن تجد الولايات المتحدة الأمريكية نفسها أمام أعداء ينبتون من رحم التحالف معها نفسها.
والحقيقة، أن البيرت ولستيتر(Albert Wohlstetter)الاستراتيجي الذي توفي عام1997 والذي كان من أبرز ومؤسسي مؤسسة"راند كوربوريشن" يشكل المرجع الأساس على المستوى الاستراتجي والأب الروحي لاستراتيجية اليمين الجديد التي نراها حالياً، وهو معروف كأستاذ في الرياضيات تخصص بالاستراتيجية العسكرية. وقد شغل مستشاراً في البنتاغون لفترة طويلة.
وقد كان ولستيتر أحد أباء ما يسمى بالقانون النووي الأمريكي قد وضع في قفص الاتهام وفي مواجهة النقد القانون النووي المعروف بمبدأ الردع أو"التدمير المتبادل الأكيد" والذي يقوم على ترك العالم يسير بطريقة نحو التسلح النووي دون تدخل جدي على أساس أن توافر الردع لدى كل الأطرف يمنع الاشتباك. وبناءً على نظريته الجديدة فإن هذه المعادلة غير أخلاقية بسبب ما تهدد به من دمار للسكان المدنيين وهي غير فاعلة لأنها تؤدي إلى تحييد متبادل للترسانات النووية لكنها تكدس في العالم الكثير من الأسلحة الخطيرة على المستوى البشري مما يهدد البشرية.
لكن ولستيتر في المقابل لا يطالب بنزعٍ كامل لأسلحة الدمار الشامل من العالم لأنه يعتبر أن وجود هذا السلاح ضمانة للديمقراطيات!. ويقترح ما يسمى"الردع التدريجي" الذي يتم من خلاله القيام بحروبٍ محددة يستخدم فيها السلاح النووي التكتيكي والأسلحة الذكية ذات الدقة العالية والقادرة على إصابة الأهداف العسكرية بشكل مباشر، وهو قد انتقد بالتالي سياسة مراقبة التسلح النووي في العالم التي جرت بالتناغم مع موسكو لأنها تعطل القدرة التكنولوجية المتقدمة للغاية لدى الأمريكيين في محاولة لبناء على مستوى متوازٍ مصطنع مبالغ به مع الاتحاد السوفياتي وهذا ما يفسر الدعوات التي يتبناها البنتاغون لإلغاء المعاهدات التي وقعت مع الاتحاد السوفياتي سابقاً.
هذه المرجعية الاستراتيجية لأستاذ رياضيات بات مرجعاً في الاستراتيجيات العسكرية تشكل ـ عملياً ـ محاولةً لرسم سياسة تتجاوز مبدأ التدخل الانتقائي وتبدو أكثر فأكثر اتصالاً بما يمكن تسميته"استعادةً متأخرة لعصر الإيديولوجيا"؛ فهي تجربةً للأدلجة في عصر يقال أنه قد طوى عصر الإيديولوجيات في دولة لا تحتمل كثيراً بسبب تركيبتها التي تقوم على لعبة اقتصاد السوق والاستثمارات المفتوحة مثل هذا النمو الأيديولوجي.
وبتقديرنا فإن هذه النزعة ستصطدم مع ميراث السياسة المؤسساتية في الولايات المتحدة الأمريكية ومع مأزق الديمقراطية الداخلية لأنها ستواجه بمحاولة كشف وتعرية مخاطرها من قبل تيار آخر في الحزب الجمهوري وأيضاً من قبل الحزب الديمقراطي. فضلاً عن أنها ستواجه ـ عملياً ـ بحقيقة تتمثل في أنها إذا ما نقلت الديمقراطيات فعلاً إلى كثير من دول العالم بالقوة فإن هذه الديمقراطيات ستنتج بدورها"ديمقراطياً أكبر ظاهرة عداء رسمي وشعبي للولايات المتحدة الأمريكية في التاريخ".
لقد بات واضحاً أن سياسة هـؤلاء تهدف إلـى إحـداث تـحويل دائـم للـولايات المتـحدة مـن جمهوريـة دستــورية تكـرس جهـودها للـرفاه العـام وخلق مجتمع مبادئ وتعيـش وسـط دول ذات سيـادة تـامة، إلـى دولـة بهيميـة تكـون شبيهة بالإمبراطورية الـرومانية و تهـتم بـالمغامرات الإمبريالية خـارج حـدودها كمـا تكـون فـي الوقـت ذاتـه دولـة بـوليسية قمعيـة داخـل حدودهـا، حسبما يقول جيفري شتاينبرغ .
• الخلفية الفلسفية
يبدو أن هذا التيار يعيش على أفكار الموتى؛ إذ بعد أن رسم البرت ولستيتر(توفي عام1997) البعد الاستراتيجي الذي يعيش عليه الجيل الحالي من اليمين الجديد، كان لفلسفة ليو شتراوس أن رسمت الأساس النظري له[1]، وهو قد قضى قبل ولستيتر بزمن: (1899 – 1973).
ليو شتراوس الملهم الفلسفي لهذا التيار لم يكن سياسياً قط، ولم يكتب ـ كما بات معروفاً ـ مقالاً في السياسة أو العلاقات الدولية، لكنه يشبه أولئك الفلاسفة الذين تسيّست أفكارهم بعد وفاتهم نظراً لبريقها الذي يمكن أن يمضي من جيل إلى جيل ومن حقل معرفي إلى آخر تطبيقي.
ليوشتراوس بدأت كتاباته في العشرينيات من القرن الماضي تستهلم من أب الوجودية «مارتن هيدجير الذي يُعتبر تلميذ فيلسوف العدمية وموت الإنسان» فريديك نيتشه. فمن نيتشة وحتى ليو شتراوس لم يتغير شيء سوى الأسماء، فما كان يسميه نيتشه " الرجل المتفوق" أو"الرجل التالي" يدعوه شتراوس "الفيلسوف".وهذا (الفيلسوف/ الرجل المتفوق) هو ذلك الرجل الذي يندر مثيله بين الرجال و يستطيع أن يواجه الحقيقة. فالله –عنده وبالتالي عند أتباعه- غير موجود، والكون لا يهتم البتة بالرجال أو الجنس البشري،أو أن تاريخ البشرية كله ليس أكثر من مجرد نقطة تافهة في هذا الكون الواسع والتي ما أن تبدأ بالظهور حتى تتلاشى أبداً دون أن تترك أثراً.وبالتالي فلا توجد أخلاق . لا يوجد خير وشر. وبالطبع لا يوجد شيء اسمه الحياة الآخرة فهذه مجرد قصة من قصص العجائز.
فقد جاء في دراسة تحليلية كتبتها شاديا دروري " لا شيء يترك أثراً في شتراوس أكبر من ذاك الذي يتركه أسلوب هايديغر في دراسة النص . فلقد أعجب كثيراً بأسلوب هايديغر في تحليل كتاب أرسطو " الميتافيزيقا" ويعتقد أن طريقة هايديغر تعرّي الخيوط الثقافية في النص، وهذا أمر يختلف عن كل ما رآه وسمعه. وليس رد فعل شتراوس بالأمر غير العادي. فقد عرف عن أسلوب هايديغر التعليمي أن له تأثيراً ساحراً. اتهم ببعض " تهجم باطني على الضعيف" لكن الهدف لم يكن مهماً بقدر ما كان مبادرة لعقيدة باطنية. وهذا هو السبب الذي تضمنته رسالة كارل ياسبر إلى الهيئة المختصة بالتخلص من النازية تنصح ضد عودة هايديغر إلى التعليم بعد الحرب. فالفكرة الأساسية في رسالة ياسبر تقول إن أسلوب هايديغر غير حر وأن الطلاب غير أقوياء بما فيه الكفاية ليتحملوا سحره. والشباب يكونون في وضع غير آمن مع هايديغر حتى يشبوا عن الطوق وتكون لهم أفكارهم الخاصة وهايديغر ليس بذي عون في هذا المجال. وعلى نطاق أضيق من هذا، ينطبق هذا القول على شتراوس ( دروري 1997، ص 77).
ومـع أن شتراوس يهـودي نشـط داخـل الـدوائر الصهـيونية التـصحيحية بقيـادة فـلاديمير جـابوتنسكي (Jabotinsky) فـي ألمـانيا فـي العشرينات إلاّ أنـه كـان في الوقـت ذاتـه الـربيب والمتـحمس لأفكـار مفكـرين قيـاديين فـي الحـزب النـازي والحقوقي النـازي كارل شميت (Karl Schmitt) الـذي صاغ الآراء القـانونية المسوغة لانقلاب أدولف هتـلر الـدكتاتوري فـي أعقـاب حريق الـرايخستاغ (مبنى البرلمان) فـي شباط / آذار عام 1933و الذي نظر وبرّر الاستبداد الهتلري. وهذا القانوني النازي هو الذي أوفد ليوشتراوس لمواصلة دراسته العليا في لندن وباريس ثم في الولايات المتحدة فـي بعثـة زمـالة مـن مؤسـسة روكفلر (Rockefeller Foundation) ليتـابع دراستـه فـي لندن وبـاريس حيث أصبح أستاذا في المدرسة الجديدة للبحوث الاجتماعية بنيويورك وبعدها في جامعة شيكاغو.
في ألمانيا في العشرينات والثلاثينات كان هناك من اليهود من هم نازيون، لكنهم، كما هي حال شتراوس لـم يكـن أمـامهم فـرصة للارتقـاء في صفـوف الحـزب بسبـب معـاداة السـامية عنـد هـتلر، وهـؤلاء مـن أمثـال (تيودور أدورنو Adorno وماكس هوركهايمر Horkheimer وليو لوينثال Lowenthal وهيربرت ماركوزه Markuse، وآخرين)، ولـذلك اخـتاروا إن يـرحلوا مـن ألمـانيا، وينـشروا الأفكـار والسيـاسات الفاشيـة الأكثـر "عالمية" خصوصاً فـي الولايـات المتـحدة وبريطـانيا.
ولد ليو شتراوس في كير شهاين في منطقة هيس الألمانية، التي غادرها منتصف الثلاثينيات من القرن العشرين مع قدوم هتلر إلى السلطة، ليتنقل بين فرنسا وإنكلترا ويهاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية للتدريس في معهد نيويورك للأبحاث الاجتماعية ثم انتقل إلى شيكاغو، التي يبدو أن مناخها(العصاباتي) قد وجد مرتسمه في عناصر النقد الشديد والتحامل(النوعي) في فكره إزاء (الضياع) الذي تعرفه الأوضاع الاجتماعية في الولايات المتحدة الأمريكية التي أمضى فيها ما تبقى من حياته حتى وفاته في مدينة أنابوليس بولاية ماريلاند عام 1973.
ولهذا أسس شتراوس في شيكاغو"رابطة الفكر الاجتماعي" التي مثلت البذرة ـ النواة لنمط التفكير الاجتماعي ـ الفلسفي لدى هذا التيار الذي ككل التجمعات في الولايات المتحدة الأمريكية لا يعتمد مرجعاً واحداً هو شتراوس، إذ أن هنالك مصادر أخرى لمذهب اليمين الجديد هي مساحة النظريات الاجتماعية المعاصرة في الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن شتراوس يشكل ـ عملياً ـ متن اللوحة، فيما تشكل بقية التيارات الرافدة مجرد(تفاصيل) في تلك اللوحة الفلسفية.
ألّف شتراوس ما لا يقل عن ستة عشر كتاباً، معظمها من الكتب الطويلة وتحمل عناوين لا تثير الاهتمام مثل "المدينة والإنسان" أو " الحق الطبيعي والتاريخ"...
النقاط الرئيسة التي ينهل منها المحافظون الجدد من شتراوس تتركزفي:
أولاً: حول رؤيته بأن الديمقراطية يجب أن تكون قوية بصورة كافية حتى تستطيع أن تقف في وجه(الطغيان) الذي يشكل الخطر الأمثل على البشرية. وفي هذه النقطة بالذات تظهر مقولة(أن ليس ثمة من فلسفة بريئة) بشكل واضح للغاية، ففلسفة شتراوس هي رد فعل عنيف على النازية التي عرفها في شبابه والتي هرب منها إلى الولايات المتحدة، وهذا ما يفسر تنظيره حول أهمية اتخاذ القوة في نقل الديمقراطية إلى العالم؛ وهذا هو شعار هذا التيار في البنتاغون في عهد جورج بوش الابن.
ولعل شتراوس كان يريد أن يدرأ (نظرياً) عن العالم شرور الضياع الذي عرفته جمهورية فايمار بين مطرقة النازية وسندان الشيوعية، وهو يحمل الغرب مسؤولية عدم التدخل المبكر لإنقاذها من براثن النازية، وإنقاذ العالم من مساويء (التماهي) بالنظام الشمولي التوتاليتاري السوفياتي، وهذا ما يتضح بقوة ووضوح من خلال كتابة"نقد الدين عند سبينوزا" عندما أدان العدالة التي لا تتمتع بالقوة اللازمة لتنفيذ محتواها(العدالي).
ولعل في هذا ما يفسر البعد الإيديولوجي عند هذا التيار ـ أقله لدى الذين يقتنعون به ولا يستثمرونه لاعتبارات أخرى! ـ وهو البعد الإيديولوجي المفرط في تداول نظرية(القوة لأجل) أو(القوة لغاية)، وهي التي على أساسها يتم نقد الأمم المتحدة ومجلس الأمن لعدم قدرتهما على ردع(الخطر) الاحتمالي، تماماً كما فعلت عصبة الأمم المتحدة مع ألمانيا، عندما اعتمدت المسايرة والاحتواء والحوار مع نظام قمعي نازي خطير على الديمقراطية، وهذا ما نظَّّر له ريتشارد بيرل(أمير الظلام) كثيراً قبل الحرب على العراق.
العنصر الثاني الذي يعتمده تيار اليمين الجديد من فلسفة شتراوس يتصل اتصالاً وثيقاً بالعنصر الأول وهو مخاطر العنصرية على الدول بدون ديمقراطية.
فالطغيان والتوتاليتارية، كلاهما عند شتراوس نتاج لنمو ترافق مع رفض القيم الأخلاقية والفضيلة. وهذا نتاج ـ كما أسلفنا ـ للتاريخية الفلسفية عند ماركس وهيغل والتي أنتجت رفضاً لأي قيمة عليا، ولليبرالية النسبوية التي اعتبرت أن كل المواقف الأخلاقية نسبية في المآل الأخير، مما أفقد المجتمعات الصناعية والمعصرنة في كل من الاتحاد السوفياتي وحتى الولايات المتحدة أهمية الاعتراف بمرجعية عُليا أخلاقية تكون مقياساً للخير دون الشر.
وعلى هذا فإن الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأمريكية يتساويان عند شتراوس خُلقياً الأمر الذي يستدعي لديه ولدى من سيأتي بعده (ثورة) على السياسة؛ التي تحرّم القيمة الأخلاقية التي تعتبرها(مضافة) إلى العمل السياسي، وهنا يضفي شتراوس كغيره من الفلاسفة مجموعة من الحمولات الأخلاقية على السياسة، في وقت تصّر فيه السياسة على أن تكون(فناً للممكن) بينما يبقى تعريف الأخلاق(ما يجب أن يكون)، وهذا ما لا يريد أن يفهمه شتراوس.
يرى شتراوس أنه لا يجوز للسياسة أن تحرّم استصدار أحكام بالقيم الخيّرة، وأن من واجب الأنظمة الخيرة أن تدافع عن نفسها في مواجهة الأنظمة الفاسدة. وهذه الرؤية ستحكم عقلية اليمين الجديد التي ترى في نظامها السياسي ذروة الخير وأنظمة الآخرين ذروة الشر، رغم أن شتراوس نفسه لم يكن يعتبر النظام السياسي في الولايات المتحدة كأكثر من(أقل الأنظمة سوءاً)، إلا أن تلامذته من أمثال ألان بلوم وبول وبول ولفيتز ووليام كريستول قد(فرّخوا) من يعتبر بأن نظام الولايات المتحدة الأمريكية هو مثال الخير الذي يجب أن يستعمل كل وسائل القوة لفعل ذلك الخير إلى الآخرين!؛ ومن أمثال هؤلاء ريتشارد بيرل ودوغلاس فيث وابراهامز… الذين استطاعوا أن يستثمروا لحظة"الغباء في التاريخ"؛ أعني الخطأ القاتل الذي ارتكبته منظمة القاعدة، كي يستولوا على القرار السياسي للحرب وعلى جزء مهم من القرار والممارسة الديبلوماسية بتغييبها لصالح استعمال"القوة".
وهؤلاء الذين يشرعنون استعمال القوة ينهلون أيضاً من تلامذة شتراوس من أمثال والتر بيرنز وهارفي مانسفيلد وهاري جافا الذين اعتبروا أن مؤسسات الولايات المتحدة الديمقراطية هي المرجعية التي يجب اعتمادها في العالم كمثال… للخير!.
ومن هنا يسير ريتشارد بيرل وصحبه على قاعدة أن طبيعة الأنظمة هي الأهم في التعاملات الدولية؛ فإذا لم تكن ديمقراطية فإن ليس لأحد من الأنظمة الديمقراطية أن تتعامل معها، بل يجب أن تقوضّها وتحرص على ألا تقوم المنظمات الدولية تحت عنوان وذريعة"حفظ السلام الدولي" بتهيئة الظروف لاستمرارها، وهنا بالذات إذا ما فعلت تلك المنظمات ذلك، فإن الضغط يجب أن يكون عليها أيضاً ولا مانع من إضعافها… وتخطيّها.
كـانت الكـذبة الـدنيئة حسبما يقول جيفري شتاينبرغ – أو الإعـلام الكـاذب – عند ليوشتراوس وتلامـذته – المفتـاح للـوصول إلـى السلطـة السيـاسية والمـحافظة عليـها، والسـلطة السيـاسية الفجة بالنسبـة إليـهم هـي الهـدف النهـائي عند شتراوس وأتبـاعه حيث لا تـوجد مبادئ عـامة ولا يـوجد قـانون طبيـعي ولا فضيـلة ولا يـوجد " حب إلهي" ولا فكـرة للإنسـان فـي صورة الله .
ويليـام كـريستول (William Kristol)، الذي يعتبر مـن أتبـاع شتراوس الرائدين فـي واشنـطن ،ورئيـس الدعـاية العـامة لحـزب الحـرب فـي إدارة جورج دبليو بوش، تحـدث عـن هـذه الفكـرة بفظـاظة خـلال مقـابلة أجـرتها معـه نينـا إيسـتون (Nina Easton) الـتي ألفـت كتـاب " عصـابة الخمسـة" (Gang of Five) مـن منشـورات ( New York : Simon& Schuster2000) الـذي ضمنـته وصفـاً مطـولاً لكبـار القـادة فـي حركـة التـمرد اليمينـية التـي حصلـت فـي عقـد التسعيـنيات. فقـد قـال كريستول فـي هـذه المقـابلة:
إن واحـداً مـن التـعاليم الـرئيسة [ لشتراوس] أن السيـاسة بمجمـلها محـدودة وليـس فيـها شيء يستـند إلـى الحقيقـة لذلـك تـوجد نـزعة فلسفـية معيـنة يستطيع المـرء مـن خـلالها أن يحتـفظ لنفسـه أو قضاياه بمسـافة معيـنة عـن هـذه المعـارك السـياسية .... والمـرء لا يحمل نفسـه أو قضاياه علـى محمـل الجـد إذا كـان يعتقـد أن هـذا الأمـر هـو حقيقـة كـاملة مـائة بـالمائة. والحـركات السيـاسية دومـاً مليئـة بـأشخاص يقـاتلون مـن أجـل آرائـهم. لـكن هـذا الأمـر مختـلف عـن "الحقيـقة".
ومـن موقعـه كرئيـس تحـرير لمجـلة "ويكلي ستاندرد" (Weekly Standard) التـي يمـولها روبرت مردوك (Rupert Murdoch) التـي صدرت لأول مرة عـام 1995، عمـل كريـستول علـى إتقـان فـن الخـداع السـياسي و"الكذبـة الكبـرى" التـي تحـدث عنهـا غوبلـز (وزير الإعلام النازي) ، حسب شتياينيرغ. فكريـستول هـذا هـو ابـن اثنـين مـن أبنـاء الجيـل الأول لأبوين مـن المحـافظين الجـدد في فترة ما بعـد الحـرب همـا ايرفنغ كريسـتول (Irving Kristol) وغيرترود هيملفارب (Gertrude Himmelfarb) . وتلـقى علومه منـذ عيـد ميـلاده الثـامن عشـر فـي هـارفارد علـى يـد واحـد مـن أهـم أتـباع شتراوس هـو هارفي مانسفيلد الابـن (Harvey Mansfield, Jr.). و مـن زمـلاء كريستول فـي جـامعة هارفارد وصديـقه الـذي شـاركه غـرفة واحـدة وهو أيضـاً مـن أتـباع شتراوس، ألان كيس (Alan Keyes) الـذي تولى منصـباً فـي وزارة الخـارجية فـي عهـد ريغان، والـذي رشـح نفسـه لمجلـس الشـيوخ ولم ينـجح عـن ولايـة مـاريلاند (و كريستول هـو الـذي قـاد حملـه كيس عـام 1988 ضـد المـرشح الـديمقراطي بول ساربانز)، ومـن زمـلائه الجـامعيين أيـضاً فرنسيس فوكوياما (Francis Fukuyama) الـذي أخـذ يـروج فيـما بعـد لفـكرة نيتشة الـتي تحـدثت عـن "نهـاية التـاريخ". فقـد جـاء فوكوياما إلـى جـامعة هارفارد بعـد أن أتـم مـرحلة دراستـه الجـامعية الأولـى فـي جـامعة كورنيل، وفـي هارفارد تلقـى علومه علـى يدي ألان بلوم (ِAllan Bloom) وهو مـن أعضاء الـدائرة المصغرة لأتـباع شتراوس فـي جامعـة شيكاغو- وقـد ألـف زميلـه مـن جامعـة شيكاغو شاؤول بيللو (Saul Bellow) روايـة مطابقة للواقـع تحـدث فيـها عـن حيـاة بلوم.
و مـن أتـباع شتراوس الآخـرين الـذين يعـدون حـالياً جـزءاً مـن حـركة التـمرد للمحـافظين الجـدد المسـتمرة: جون بودهوريتز (John Podhoretz)، محـرر صفحـة الـرأي فـي الصحـيفة الصفراء "نيويورك بوست" (New York Post) الـتي يملكهـا مردوك والمـحرر السـابق لمجـلة "ذا ويكلي ستاندرد" وهـو أيـضاً سليـل الجيـل الأول مـن المحـافظين الجـدد نورمان بودهوريتز (Norman Podhoretz) وميدج دكتر (Midge Decter)، ومنـهم أيـضاً قـاضي المحـكمة العلـيا كلارنس توماس (Clarence Thomas)، ووزير العدل جون أشكروفت (John Ashcroft) وإ.لويس (سكوتر) ليبي (I. Lewis "Scooter" Libby) رئيـس الأركـان وكبـير مستـشاري الأمـن القـومي لـدى نائـب الرئيـس تشيني الـذي دخـل إلـى عـالم ليو شتراوس عـن طريـق أستـاذه فـي جـامعة ييل بول وولفويتز. ومنـهم أيـضاً مسؤول الإعـلام الكـاذب في البنتاغون أبرام شولسكي (Abram Shulsky)، وكـذلك غاري شميت (Gary Schmitt) المـدير التنفيذي لـ "مشـروع القرن الأمـريكي الجديد" بقيادة كريستول، ودافيد بروك (David Brook) وهـو محـرر أيـضاً فـي مجلـة ويكلي ستاندرد، وفيرنر دانهاوسر (Werner Dannhauser)، أحـد تلامـذة شتراوس وكـان ممـن تـرك العمـل فـي الجـامعة ليضطلع بمسـؤولية رئاسـة تـحرير إحـدى المجـلات التـابعة للمحـافظين الجـدد تدعى "كومينتاري" (Commentary) بعد أن أحيـل نورمان بودهويتز إلـى التقاعد, وكـذلك روبرت كاغان (Robert Kagan) الـذي يعمل أيـضاً فـي مجـلة "ذا ويكلي ستاندرد" وهـو ابن دونالد كاغان (Donald Kagan) الأستاذ الجـامعي فـي جـامعة ييل ومـن أتـباع شتراوس.
هـذه العصبة مـن تلامذة شتراوس إلـى جـانب مجموعة صغيرة أيضاَ مـن المحافظين الجدد المتحالفين وزملاء لهـم مـن الليكوديين قـد عملت بما يشبه الشبـكة السريـة داخـل الحكومة الأمريكية وحولها خلال السنوات الثلاثين الماضية – في انتظار لحظة تحين فيها فرصة للانقـلاب الـذي لـم يكـن علـى مثل هـذه السريـة. وكـان تاريـخ 11 أيلول 2001 الفرصة التـي لا تأتـي إلاّ مـرة واحـدة [2].
تيار ما بعد شتراوس :
" الطاغية والفيلسوف متحدان معاً في إحساسهما بعدم الاكتمال الراديكالي وفي توقهما للكليانية في عواطفهما، وفي فرادة الرأي عند كل منهما. هؤلاء هم الرجال المتفانون حقاً."آلان بلوم
شكلت كتابات ألان بلوم[3] تتمات لمدرسة ليو شتراوس ، حيث يصفها طوني بابرت على النحو التالي :" قرأنا قبل عقد كتاب ألان بلوم بعنوان " انغلاق العقل الأمريكي"[4] وقد أعجبنا كثيراً والسبب في ذلك أن معارضته للثقافة المضادة بدت وكأنها صادرة من القلب. فمثلاً يصف لنا كيف كان يصطحب معه عندما كان أستاذاً في الجامعة أشرطة التسجيل إلى مهاجع نوم الطلاب ليجبرهم على إقفال ما يستمعون إليه من موسيقى الروك ويشاركونه في الاستماع إلى موسيقى موزارت. وقد أدان بلوم وبكل قوة ما كان يقال عن الجامعات بأنها لا تعلّم شيئاً. وكذلك الأمر بالنسبة لي . وكما يذكر كل من قرأ كتاب " انغلاق العقل الأمريكي" فإنه يترك دوماً انطباعاً خاصاً بالذهن بعد القراءة, ولا يهم أين يتصادف إغلاق الكتاب. ومن وسط مواد أخرى يمرر بلوم بعض العبارات التأكيدية وغير المتوقعة، وفي ظاهرها لا تمت للموضوع بصلة, ولا يتابع الحديث عنها، لكنها تبقى في ذهنك لعدة أيام بعد القراءة، لهذا السبب وحده.
ما زلت أذكر اثنين منها. فقد جاء فيما كتبه بلوم أن بعض الرجال كانوا حاضرين عند محاكمة سقراط وكانوا يريدون تبرئة ساحته، وكانوا حقاً "سادة". فماذا يعني بقوله " سادة". لم يسبق لي أن سمعت أحداً يستخدم هذه الكلمة في مثل هذا السياق من قبل. لكن بلوم أسقط من حديثه هذه الكلمة بعد جملة واحدة، ولم يعد للحديث عنها ثانية. وفي موضع آخر من الكتاب ليس بعيداً عن سابقه ذكر أن سقراط كان متهماً بعدم الإيمان بآلهة المدينة وأنه اخترع آلهة أخرى. يقول بلوم: لاحظ أنه لم ينكر التهمة، لكنني تذكرت حسب ظني، أنه فعلاً أنكر التهمة. ودفعتني حيرتي إزاء ما قاله بلوم للبحث، ووجدت الكلمات التي بها أنكر سقراط التهمة في كتاب أفلاطون " دفاعاً عن سقراط"."
وهذا السرد يعكس المكانة التي حققها التيار الشتراوسي وتلامذته في وعي الجيل الجديد فلسفياً وسياسياً في الولايات المتحدة الأمريكية.
ولعله من المفيد التأكيد على أهمية هذا التيار من خلال التنويه إلى المكانة التي كانت له في الجامعات التي درس فيها شتراوس وبلوم وحتى أنه يُذكر أن الخمسينيات قد شهدت ترؤس صديق شتراوس جاكوب كلاين كلية سانت جون في أنابوليس ولعدة سنوات. أما شتراوس نفسه فقد تقاعد عن العمل في جامعة شيكاغو عام 1967 وقضى عاماً واحداً في كلية سانت كليرمونت بكاليفورنيا، ومن عام 1969 حتى وفاته في عام 1973 كان أستاذاً مقيماً في كلية سانت جون في أنابوليس.
شتراوس خرّج مائة من حملة درجة الدكتوراه. كما خرّج بلوم عدداً كبيراً من هؤلاء وهؤلاء أيضاً خرّجوا الآخرين. والآن تخرّج الجيل الرابع. ولكل واحد منهم دور يقوم به سواء كانوا من المتحدثين مع القلة أم من المتحدثين مع العامة ، " فلاسفة" أو "سادة" أو منشقين مهما كانت التسمية. ونذكر أيضاً أن وظيفة في الجامعة تتطلب ما يقرب من عشر إلى عشرين توصية إيجابية غير متحفظة يقدمها آخرون ممن لهم ذات المراكز العلمية. وهذا شيء يفعله دوماً أتباع شتراوس لصالح بعضهم بعضاً بغض النظر عن وجود اختلاف في الرأي. وهذا التنظيم الجامعي يمتد إلى الحكومة من خلال تزايد انتشار "خزانات الفكر" التي تنصب جسوراً بينهم، وهذا هو الجسر الذي عبره وولفويتز وغيره من أتباع شتراوس.
وعلى عكس ما يطالب به العرب أحياناً من ضرورة كتابة الكتب السهلة المباشرة ، فلقد اتبع شتراوس ومدرسته أسلوباً خبيثاً وهو كتابة الكتب الصعبة المملة في البداية كي يفرزوا من يجب أن يكون في مجموعتهم ممن تدفعهم تلك الكتب للتمحيص ، وبالتالي للانخراط في المشروع بقوة . إذ يؤكد الذين عاصروا هذا التيار أن ليس مصادفة أن كتب شتراوس وبخاصة مؤلفاته المتأخرة لا يمكن قراءتها؟ ، فقد تبين لهم لاحقاً أن هذا عمل مقصود. فالغاية من ذلك أن يضمنوا أن الغالبية الكبرى من القراء سوف "يملون" بعد أن لا يجدوا شيئاً فيها سوى بعض المواعظ المألوفة مثل نصائح بأن يكون المرء أخلاقياً ومحباً للوطن ويخشى الله. وبهذه الطريقة قرأ معظم الناس كتاب بلوم بعنوان " انغلاق العقل الأمريكي" خلال الأسابيع العشرة التي كان فيها الكتاب على قائمة الكتب الأكثر مبيعاً، كي لا يجدون فيها سوى المواعظ. والغالبية العظمى من الناس لم يجدوا فيها سوى بعض التفاهات. أما القلة القليلة من "الشباب الأذكياء" – وهو دوماً يذكر " الرجال" و"الشباب" ولا يذكر على الإطلاق "النساء" أو "الناس"- أي تلك القلة من الشباب الأذكياء، سوف تخدعهم تلك الملاحظات غير الملزمة، أو تلك التعليقات المتفرقة التي لا تمت للموضوع بصلة- وسوف يقولون: عليّنا أن نتعمق بقراءته، عليّنا أن نفهم". وبعدئذ يؤخذون جانباً،من قبل التيار نفسه، ويدرّسون بصور إفرادية، دروساً خصوصية. ![5] ، حيث يبدو المشهد وكأنه مشهد من مشاهد التنظيمات السرية الباطنية أو كمشهد من مشاهد حياة المافيا.
• احتمالات استمرارية الشتراوسية في السياسة الأمريكي:
لا يجوز تضخيم دور ليو شتراوس الفلسفي والإيديولوجي كثيراً في تكوين المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية. فهذا التيار، كما قلنا ما تورطت"الصاندي تايمز" في11 أيار2003 عندما عنونت مقالة بـ:"كشفناه: معلم طبقة المحاربين في الولايات المتحدة"، وهي بهذا تكاد أن تكرر مقولة أرخميدس:"وجدتها".
والحقيقة أن تيار اليمين الجديد في البنتاغون وأغلبية الإدارة الحالية، قد نهل معرفياً من ليو شترواس، وقد تخرج على يديه كل من نائب وزير الدفاع بول وولفيتز وابراهام شولسكي مسؤول وزارة الدفاع(للخطط الخاصة)، وريتشارد بيرل الرئيس السابق والعضو لاحقاً في المجلس الاستشاري للبنتاغون، وإليوت ابراهامز المسؤول عن ملف الشرق الأوسط في البنتاغون، والكاتبان روبرت كيفن ووليام كريستول. لكن الأبرز هنا أن وولوفيتز وشولسكي قد درسا رسالة الدكتوراه على يديه وبإشرافه.
فبول وولفويتز واحـد مـن أوائـل أتـباع شتراوس وبلوم الذين جاؤوا إلى واشنطن. ومـن خـلال بلوم وبينـما كـان لا يـزال يتـابع دراســته فـي جـامعة شيكاغو تعـرف علـى مؤسس شـركة راند RAND ألبرت وولستتر (Albert Wohlstetter) كما تعرف أيضاً إلـى بول نيتز (Paul Nitze) الخبـير الـرائد فـي مـراقبة الأسلحـة الذي تسلـم منـاصب عليـا فـي معظـم حكـومات ما بعد الحـرب العالمـية الثانـية. ومـع حلـول عقد السبعينيـات كـان وولفويتز شـق طريقـه عبـر بيـروقراطية مـراقبة التسـلح، وقـوى علاقـاته مـع غيـره مـن أتـباع شتراوس الـذين وجـدوا مواقـع لهـم فـي العـديد من لجـان مجلـس الشيـوخ .وقد مـع وولفويتز خـلال هـذه الفتــرة رتشارد بيرل (Richard Perle) وستيفن براين (Steven Bryen) وأليوت أبرامز (Elliot Abrams) الـذي عمل عضـواً فـي هيئـة الموظفـين في مجلـس الشـيوخ لدى السناتور هنري "سكوب" جاكسون ( ديمقراطـي عـن ولايـة واشنطن) ثـم لـدى كليـفورد كيـس ( جمهـوري عـن ولايـة نيوجيرسي) وبعـده لـدى دانييل باتريك موينيهان ( ديمقراطـي عـن ولايـة نيويورك) علـى التـوالي. ويقول بيرل بأنـه تـعرف علـى وولفويتز لأول مـرة عـام 1969 عنـدما أوفـد وولستتر الاثنين معـاً للقـيام ببعـض البحـوث لصـالح السناتور جاكسون.
ومع قناعتنا بأن هذا التيار الإيديولوجي لا يستطيع أن يستمر طويلاً في مجتمع ديمقراطي ليبرالي، ومع تذكر الهزيمة الساحقة لباري غولد ووتر اليميني الجمهوري منتصف الستينيات أمام الديمقراطي المعتدل جونسون، ومع إدراكنا أن الظروف قد تغيرت مع إحساس جزء كبير من الأمريكيين من التفوق على المستوى العالمي والذي غذته الحربان على العراق وقبل ذلك على أفغانستان، إلا أننا على يقين بأن هذا التيار لا يستطيع أن يستمر طويلاً بالنظر إلى نزعة التغيير في المجتمع الأمريكي من ناحية، والرغبة العميقة لدى أطراف في الحزب الجمهوري في عدم الذهاب بعيداً إلى الإيديولوجيا في عصر كان المفكرون يتنبؤون فيه بنهايتها دفعةً واحدة.
ولعل المفارقة الأكثر أهمية هنا هي تلك الأخيرة!؛ إذ أن نهاية عصر الإيديولوجيا التي نظر لها طويلاً بأنه من المتوقع أنها ستفضي إلى المزيد من الإيديولوجي