تفكيك العولمة باستخدام نظريتي النظم العالمية والتبادل اللامتكافئ
أظهر الاقتصاد الدولي سيادة واضحة لنمط الإنتاج الرأسمالي منذ بداية عقد التسعينيات، وحتى يومنا هذا، فقد عُمم ذلك النمط على أغلب النظم الاقتصادية الدولية، وإن بدرجات متفاوتة. وشهد العالم خلال العقدين المنصرمين تقسيمات جيوبوليتيكية وجيومعلوماتية جديدة، ترافقت مع تحولات اقتصادية جوهرية وعميقة،
بدءاً من ولادة وتطور اقتصادات فردية، يتوقع لها أن تصبح من اللاعبين الاقتصاديين الدوليين الكبار في العقود القادمة (الصين، الهند)، مروراً بظهور واحد من أهم التكتلات الاقتصادية الدولية ذات الأثر الفاعل في مجرى العلاقات الدولية (الاتحاد الأوروبي)، يضاف إلى ذلك، أن العالم قد شهد توقيع أكبر اتفاق تجاري في العصر الحديث ألا وهو اتفاق منظمة التجارة العالمية (wto)، أحد أهم أركان ومحركات التغيرات الاقتصادية الدولية الراهنة والمستقبلية، كما بدأ العالم يعرف ويتعامل مع نموذج اقتصادي جديد له مكوناته ونظرياته وأفكاره الخاصة به هو نموذج اقتصاد المعرفة، الذي أثر إلى حد كبير في المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية، وأعاد صياغة بعضها بطريقة جديدة.
وبالفعل، فقد شهد التاريخ الراهن بروز نظريات ومقولات ومفاهيم خاصة، تخدم مرحلة الصراع الفكري والسياسي والاقتصادي بين القوى الاقتصادية فيما بينها، وبين تلك القوى والآخرين في بقية أنحاء العالم، منها مقولة نهاية التاريخ، وصدام الحضارات، والحرب المقدسة، والحرب على الإرهاب، والتشديد على النيوليبرالية كمذهب اقتصادي عالمي، وتحرير حركة التجارة الخارجية ورأس المال من أي قيود، وظهور المدّ الفكري لنظريات المابعديات مثل ما بعد الحداثة، ما بعد العولمة، وما بعد الإمبراطورية، وما بعد عصر المعلومات، ونظريات النهايات مثل نهاية الثقافة، ونهاية الآيديولوجيا، ونهاية التاريخ، ونهاية الجغرافيا، ونظريات "المنفيّات بلا" مثل مصانع بلا عمال، مجتمع بلا نقود، تعليم بلا معلمين(*) وكل هذه الأشياء أثبتت في النهاية أنها موجودة فقط لتبرر وتخدم نظام العولمة المتوسع باستمرار ضمن منطق الرأسمالية التوسعي ذاته.
من ناحية مقابلة، شهد العالم ولادة تيارات وحركات من نوع مغاير لما هو موجود سابقاً، جاءت لتطرح نفسها كمشروع اجتماعي جديد بكل أبعاده مقابل مشروع العولمة ذاته، كان منها المنتدى الاجتماعي العالمي، وحركات مناهضة العولمة، والعولمة البديلة، وأحزاب الخضر، وحركات المجتمع المدني، وتجمعات حقوق الإنسان، وكلها قدمت ذاتها بصيغة مشروع عالمي مثلما قدمت العولمة ذاتها تاريخياً بالصيغة نفسها أيضاً، والنتيجة أن العالم قد وقع في فخ الفوضى المعرفية والضياع الفكري النظري بسبب عدم تبلور نظريات اجتماعية متماسكة تفسر ما يحصل بمنطق متكامل.
وأمام ذلك الاختلال والاختلاف الفكري في تفسير العولمة، كان لا بد من الاعتماد على نظريات علمية تفسر هذه الظاهرة، وتكشف أصول تطورها، بالوقت الذي تكشف فيه اتجاهات سيرها، وشكل مستقبلها، أي أن العولمة كحالة تاريخية عالمية جديدة ما زالت بحاجة إلى "تعليل سيرورتها" علمياً، ومازالت بحاجة إلى تفكيكها بنيوياً لمعرفة القوى الفاعلة فيها، والمتحكمة بها، وبالتالي فإن هذا التفكيك البنيوي، يستلزم أدوات معرفية عميقة تكون صالحة لتحليل بنية الاقتصاد الدولي ذاته، والذي يشكل المناخ الخصب لنمو العولمة.
تفتقد العولمة كظاهرة على المستوى الدولي، وكظاهرة تؤثر في بنى الاقتصادات المحلية والإقليمية، إلى تحليل نظري يستند إلى نماذج فكرية اقتصادية واضحة ومحددة، بل إن كل ما يحيط بالعولمة حتى الآن لا يعدو أكثر من تعريفات ومفاهيم نظرية، ولا يتجاوز أكثر من تعداد لأشكالها وأنواعها، وتحليل لآثارها تبعاً للأيدولوجيا التي ينبت منها ذلك التحليل، وذلك على الرغم من أن العولمة ذات جذور تاريخية اقتصادية واجتماعية وسياسية تراكمت وتفاعلت عبر الزمن حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن.
وتكمن أهمية هذا الكتاب، في محاولته تحليل العولمة، وقراءة مستقبلها بطريقة علمية تستند إلى بعض نظريات الاقتصاد الدولي، وتحديداً نظريتي التبادل اللامتكافئ، ونظرية النظم العالمية، وذلك بواسطة استخدام الأدوات والمصطلحات الفكرية لكلتا النظريتين كي يتسنى للبحث الوصول إلى نتائج علمية وموضوعية عن ظاهرة العولمة.
وبالتالي فإن الهدف الأساسي من وراء هذا الكتاب إنما هو الكشف عن الاتجاهات والمسببات والعوامل التاريخية التي ساهمت في نشأة وتطور ظاهرة العولمة، كما يهدف إلى تفكيك هذه الظاهرة من وجهة نظر الاقتصاد السياسي الدولي، ومن وجهة نظر التطورات الاقتصادية العالمية التي حصلت تاريخياً والتي تحصل الآن، وذلك انطلاقاً من الفرضيتين التاليتين:
*- توفر كلٌ من نظريتي التبادل اللامتكافئ، والنظم العالمية، أدوات اقتصادية تحليلية مناسبة لتفكيك ظاهرة العولمة، ودراستها.
*- العولمة مجرد حالة تاريخية يمكن تجاوزها عبر تطوير بدائل اقتصادية دولية، وهي ليست النظام الوحيد والنهائي الذي يحكم العلاقات الاقتصادية الدولية.
"مقدمة الكتاب"
لقراءة الدراسة كاملة، الرجاء انقر هنا