القيم والدراسات السياسية المقارنة
12/07/2007
محمد زاهي بشير المغيربي
مقدمة:
يكشف التمعن في أدبيات علم السياسة بصفة عامة، وحقل السياسة المقارنة بصفة خاصة، وجود ثلاثة مداخل ومدارس فكرية مختلفة في وجهات نظرها حول طبيعة البحث السياسي وغاياته وأهدافه ومناهج بحثه. ويستند كل مدخل من هذه المداخل الثلاثة على تيار فكري وإطار معرفي مختلف. وهذه المداخل الثلاثة هي المدخل التقليدي الذي يستمد جذوره من التيار المحافظ، والمدخل السلوكي الذي تمتد أصوله إلى المدرسة الليبرالية، والمدخل ما بعد السلوكي الذي يستند على الاتجاهات الراديكالية بصفة عامة.
الراهن، إن هذه الخلافات داخل علم السياسة والسياسة المقارنة تعكس صراعا أعمق وأقدم على المستوى الابستمولوجي بين النظريات والاتجاهات المتضاربة حول طبيعة المعرفة الإنسانية بصفة عامة. ولقد أدت الثورة السلوكية في علم السياسة إلى بروز وسيطرة مدخل واتجاه في البحث السياسي ترجع جذوره الابستمولوجية إلى المدرسة الوضعية وإلى المدرسة الإمبيريقية البريطانية الكلاسيكية. ولقد كانت المعارضة الرئيسة للحركة السلوكية خلال الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن العشرين متركزة أساسا بين علماء ومفكري السياسة الذين كانت وجهات نظرهم حول طبيعة المعرفة الإنسانية متفقة بصورة عامة مع التقاليد الابستمولوجية المستمدة من أفلاطون وأرسطو. بيد أنه في أواخر الستينيات وأوائل سبعينيات القرن الماضي برزت اتجاهات جديدة معارضة تمثلت في الثورة ما بعد السلوكية.
تبرز فلسفة العلم كأحد المصادر الرئيسة للآراء والتصورات السائدة في علم السياسة والسياسة المقارنة حول منهاجية البحث السياسي، وأثرت التطورات والصراعات التى شهدتها فلسفة العلم على علم السياسة وعلى التصورات الذهنية لعلماء السياسة. من هذا المنطلق تأتي ضرورة الاهتمام بالأصول الفكرية والابستمولوجية للجدل الدائر في علم السياسة بصفة عامة والسياسة المقارنة بصفة خاصة حول طبيعة البحث السياسي ومنهاجيته. وترجع هذه الأصول إلى المدرسة الوضعية والمدرسة التاريخية.
المدرسة الوضعية
يكّن الفلاسفة الذين ينتمون إلى تقاليد المدرسة الوضعية إعجابا عميقا بالعلوم الإمبيريقية الحديثة، وتعبر نظرياتهم المعرفية عن هذا الإعجاب وذلك عبر تأييدهم لمنهج العلم الحديث وسعيهم لتطبيقه. ويعتبر دافيد هيوم أحد الرواد الأوائل للمدرسة الوضعية، حيث بيّن في كتاباته أن المعرفة المستندة على الخبرة معرفة موضوعية، وأن المقولات والأطروحات تكتسب معناها الحقيقي فقط عندما يتم التحقق منها من خلال الملاحظة الإمبيريقية. وكان تحليل هيوم لطبيعة الفهم الإنساني تطبيقا للمنهج التجريبي وتبريرا ابستمولوجيا له. وارتبطت هذه الأفكار والآراء فيما بعد بالمدرسة الوضعية المنطقية، كما وفرت الأسس الابستمولوجية للمدرسة السلوكية المعاصرة في علم السياسة.
يتطلب فهم الأسس الابستمولوجية للمدرسة الوضعية تحليل تصور أدبيات هذه المدرسة لمفهوم العلم الحديث. تميز الأدبيات الوضعية، بصفة عامة، بين العلوم الإمبيريقية والعلوم غير الإمبيريقية مثل المنطق والرياضيات. وتنشد العلوم الإمبيريقية وضع صياغات عامة حول شروط وأسباب وقوع الأحداث المختلفة في العالم والطبيعة، وبالتالي تصبح هذه الشروط أو المبادئ العامة أساس تفسير هذه الأحداث والتنبؤ بها. ويرى المفكرون الوضعيون أن مفاهيم وقوانين ونظريات العلم الإمبيريقي تختلف عن التصورات الأخرى حول العالم والطبيعة، مثل التصورات الميتافيزيقية، في أن تصورات العلم الإمبيريقي تتطابق مع العالم والطبيعة كما يحس بها الأفراد عبر الملاحظة الإمبيريقية. وينتج عن ذلك أن التعميمات والمقولات العلمية المختلفة يتم اختبارها والتحقق منها بأدلة إمبيريقية، أي من خلال حقائق ووقائع الخبرة. وبالدرجة التي تستند المبادئ العلمية على أسس موضوعية من الخبرة الحسية، تكون مستقلة فعليا عن سياق الزمان والمكان والظروف، مع استمرار إمكانية تعديلها وفقا للخبرات اللاحقة.
تفترض الابستمولوجية الوضعية أن التعميمات حول العالم الخارجي يمكن الوثوق بها فقط إذا تمت صياغتها واختبارها من خلال الخبرة العملية. وعلى هذا الأساس، فإن الوضعيين يرون أن التصورات تجعل الإنسان يدرك بصورة مباشرة الأمور والأشياء الخارجية دون أن يتأثر بأحكامه الخاصة. بالإضافة إلى ذلك، فإن هذه الأمور تعبر عن وقائع العالم الخارجي. يعتقد الوضعيون أن الإنسان يدرك أو يتصور الأشياء قبل أن يشكل حولها مفاهيم أو تعليلات عقلية. بعبارة أخرى، فإن الأفكار والمفاهيم العامة للإنسان يتم استخلاصها وتجريدها من هذه الأمور والمعلومات الأولية غير المتأثرة بمفاهيم أو أحكام مسبقة. وتؤكد هذه النظرة الابستمولوجية أن العقل الإنساني، عندما يعمل بصورة عادية وطبيعية، يتصور نفس الأمور والأشياء بنفس الطريقة بغض النظر عن الزمان والمكان. لهذا السبب، تكتسب المعرفة المستندة على الخبرة موضوعية لا يتمتع بها أي نوع آخر من أنواع المعرفة. بالإضافة إلى ذلك، تكتسب التعميمات والمقولات حول العالم الخارجي معناها وأهميتها فقط بعد اختبارها في ضوء بيانات ومعطيات الخبرة العملية، وذلك نظرا لأن الإنسان لا يستطيع أن يعرف ويدرك ما لا يستطيع أن يراه أو يلمسه أو يسمعه. وهذا ما يتضمنه مبدأ التحقق عند المدرسة الوضعية الذي يستند على أن أي تعميم لا يكون له أي معنى حقيقي أو فعلي ما لم يكن بالإمكان، من حيث المبدأ على الأقل، التدليل عليه عبر الملاحظة الإمبيريقية.
تمثل الملاحظة واللغة الدقيقة ( دقة المفاهيم) والعلاقات المنطقية والقابلية للاختبار الأساس المشترك للتحليل والبحث العلمي. وعلى هذا الأساس، صاغ الوضعيون المنطقيون منهجا علميا يمكن تطبيقه على كل أشكال وأنواع البحث والمعرفة – المنهج الافتراضي الاستنباطي – الذي ينص على أن كل الفرضيات العلمية تعبر عن علاقات منطقية وواضحة بين ظواهر يمكن ملاحظتها، وأن هذه الفرضيات يمكن اختبارها على ارض الواقع، وبعد ذلك يتم قبولها أو تعديلها أو رفضها طبقا لهذا الاختبار.
المدرسة التاريخية
في الوقت الذي نمت فيه المدرسة الوضعية من تقاليد المدرسة الإمبيريقية البريطانية الكلاسيكية، برزت المدرسة التاريخية في إطار الثورة التى شهدها علم الفلسفة التى بدأها كانت وتولى قيادتها في القرن التاسع عشر بعض المفكرين الألمان ومن أهمهم هيجل وماركس ونيتشه. وتختلف المدرسة التاريخية عن المدرسة الوضعية في الأسس التالية :
1 . تنزع المدرسة الوضعية، كما رأينا، إلى افتراض أن البيانات والمعطيات الحسية موجودة في الوعي بصورتها الأصلية والخالصة، وأن هذه البيانات والمعطيات تتطابق بطريقة أو بأخرى مع حقائق ووقائع العالم الخارجي. فالخبرة سابقة للمفاهيم والنظريات، أو، كما يقول هيوم. إن الانطباعات سابقة على الأفكار. تعتبر البيانات والمعطيات الحسية المسلمات التى يتم عن طريقها استخلاص وتجريد المفاهيم، ومنها يتم اختبار النظريات والتعميمات. وهذا يفترض أننا نستطيع الوصول إلى نظرة غير متحيزة عن الطبيعة عبر الالتزام بالخبرة.
أما المدرسة التاريخية، على العكس من ذلك، فقد تأثرت بتفسيرات كانت حول التصورات الحسية. ويرى كانت أن البيانات والمعطيات الحسية لا تصل إلى الوعي في صورتها الطبيعية والخالصة، ولكننا نفهم هذه البيانات والمعطيات من خلال توحيدها وتصنيفها باستعمال مبادئ وفئات تصنيفيه موجودة مسبقا في العقل. وتتفق المدرسة التاريخية مع كانت في أن العقل عامل نشط وخلاق في عملية الإدراك والفهم وليس مجرد مستقبل ومسجل سلبي للأحاسيس، والخبرة التي ندركها قد تم اختيارها وتشكيلها مسبقا عن طريق العقل ذاته .
2 . من خلال الاعتقاد بأن تصوراتنا تكون معروفة لدينا فقط عندما يتم تحويلها عن طريق العقل ، فإن التاريخيين يؤيدون وجهة نظر كانت ويعارضون الموقف الإمبيريقي. لكن كانت اتفق مع هيوم في أن مبادئ وأسس الفهم طبيعية، بمعنى أنها ثابتة من حقبة إلى أخرى ومن مجتمع إلى آخر. أما المدرسة التاريخية فتتبع خطي هيجل في التأكيد على أن المبادئ المنظمة للعقل وتصنيفاته تتغير وتتبدل مع تعاقب الحقب التاريخية والثقافات. ويكشف البحث التاريخي أنه لا توجد وجهة نظر وحيدة عن العالم الموضوعي، ولكن بدلا من ذلك توجد منظورات ووجهات نظر متعددة ومختلفة حول العالم. وينزع التاريخيون إلى تفسير ذلك ضمن سياق تكيف الأفراد والجماعات مع الحياة في ظل ظروف تاريخية واجتماعية مختلفة. وتقوم كل حقبة تاريخية أو ثقافة معينة بتطوير نظرة خاصة عن العالم في مجمله، وسوف توجد اختلافات جوهرية في الافتراضات والقيم والتصنيفات التى يستند عليها الإدراك من حقبة إلى أخرى ومن ثقافة إلى أخرى. ويتفق التاريخيون في أن المعرفة تعبر عن منظورات متمايزة، وفي أنها تنشأ من خلال عمليات الخلق الاجتماعي والفردي، وليس عبر اكتشاف الخاصية الحقيقية للطبيعة.
3 . يتصور الوضعيون البحث العلمي والفلسفي على أنه بحث عن الحقيقة من أجل الوصول إلى تصور نهائي ومحدد حول طبيعة الكل يعتبر الإنسان جزءا منه، أو على الأقل حول طبيعة الإنسان ذاته. بيد أن التاريخيين، وعبر إصرارهم على الخاصية التاريخية للعقل الإنساني، يشككون في إمكانية الوصول إلى المعرفة الحقيقية والموضوعية، أي فهم الطبيعة كما هي بالفعل. ومهما كان معنى الحقيقة لدى التاريخيين، فإنها بالقطع لا تعنى تطابق الأفكار مع الأشياء. ويرى التاريخيون أنه إذا كانت الخبرة التى نفسر عبرها العالم وأنفسنا لا تدخل الوعي إلا بعد تحويرها وتغييرها عن طريق افتراضات مسبقة وتصنيفات فكرية متغيرة تحكمية في جوهرها، فإن كل مزاعم المعرفة المطلقة لا أساس لها من حيث المبدأ.
يتضح مما سبق أن المدرسة التاريخية تتحدى بصورة مباشرة مقولات المدرسة الوضعية حول العلم الحديث، إلا أن هذا التحدي لم يبرز في صورته الكاملة إلا حديثا. فلقد كانت المدرسة التاريخية الألمانية في بداياتها تقر، رغم معارضتها الشديدة لمحاولات المدرسة الوضعية فرض منهج العلم الطبيعي على الدراسات الإنسانية، بأن المنهج العلمي مناسب وفعال في دارسة الظواهر الطبيعية.
من خلال مقارنة العلوم الطبيعية والدراسات الإنسانية، توصل التاريخيون الأوائل إلى أن اكتشافات العلم الطبيعي تتطور وتنمو تراكميا وتكتسب صحة ومصداقية غير مقيدة بالزمان أو المكان لأنها تتعامل فقط مع الأمور والأشياء الخارجية. لا يؤثر الموقف أو الوضع التاريخي للعالم الطبيعي وطموحاته وقيمه على أحكامه، ولكن فهم وتصور معنى التعبيرات الإنسانية يتطلب تأويلا وفهما من جانب الباحث يتأثران ويتشكلان، بالضرورة، بوجهات نظره وقيمه. يتجلى المنظور التاريخي للباحث في التصنيفات والمعاني التى يستعملها وفي مبادئ وأسس الاختيار وفي تقييماته. إن طبيعة وروح العصر الذي يعيش فيه تشكل كيفية تأويله للأمور الإنسانية. ونظرا لأنه لا يمكن لأية وجهة نظر أن تزعم الصدق أو الصحة المطلقة، فإن تأويله يكون بالضرورة وقتيا ونسبيا.
ميز التاريخيون الأوائل بين العلوم الطبيعية والدراسات الإنسانية عند حديثهم عن نسبية المعرفة. ولكن من الممكن القول، استنادا على مبادئ المدرسة التاريخية، بأن أي تطبيق للمنهج العلمي، حتى في مجال العلوم الطبيعية نسبي ومتأثر بمنظور الباحث ووجهة نظره. ولذا من الممكن الاستنتاج بأن حتى نظريات وتفسيرات العلوم الطبيعية تستند على افتراضات مسبقة حول الإنسان والعالم، وهي افتراضات متغيرة وتحكمية وغير عقلانية. ولقد بدأ هذا التأويل الجديد للعلوم الطبيعية في إطار فلسفة وتاريخ العلم منذ أوائل ستينيات القرن العشرين، وبالذات عبر كتابات كون عن تاريخ العلم.
يرى كون أن التصور الشائع عن العلم أصبح مثار شك وتساؤل في الدراسات الحديثة في تاريخ العلم، وأنه يهدف إلى توضيح التحولات الجوهرية التى أبرزتها هذه الدراسات، يرتبط هذا التصور الشائع عن العلم بموقف المدرسة الوضعية. ويرى هذا التصور أن التطور العلمي يحدث بصورة جزئية وتراكمية في مجتمع مفتوح. ومع تراكم المعرفة يتم دمجها في نظريات أكثر شمولا، والتي يتم قبولها أو رفضها حسب قدرتها على اجتياز الاختبار الإمبيريقي. تسير عملية التطور التراكمي – كما يرى الوضعيون – بشكل ثابت نحو الهدف النهائي، أي الفهم الحقيقي والموضوعي للطبيعة. على العكس من ذلك، فإن كون يصف تطور العلم بنفس الطريقة التى يصف بها أنصار المدرسة التاريخية العملية التاريخية، أي أنها مجرد حقب متعاقبة، كل حقبة منها بوجهة نظرها المتميزة، ولا تستطيع أية حقبة منها أن تزعم أنها أكثر اقترابا من الحقيقة من أية وجهة نظر أخرى.
وفقا لكون، فإن الجماعة العلمية يحكمها إطار فكري مسيطر " بارادايم "، وهذا الإطار الفكري يعني المنظور التاريخي للجماعة العلمية وطريقة رؤيتها للعالم، ومجموعة معتقداتها والتزاماتها الشاملة – المفاهيمية والنظرية والذرائعية والمنهاجية. ويقود الإطار الفكري ويحدد اختيار المشاكل وتقييم البيانات وقبول الفرضيات والنظريات. ويتساءل كون: هل من الممكن تخيل وجود تصور كامل وحقيقي وموضوعي للطبيعة؟ وهل يكون المقياس المناسب للإنجاز العلمي مدى اقترابه من هذا الهدف النهائي؟ يتشكك كون في إمكانية الإجابة على هذا السؤال بالإيجاب لأسباب واضحة. فمثلما كان التاريخيون الأوائل لا يعتقدون بإمكانية فهم حقيقة الطبيعة أو التاريخ خارج إطار وجهة نظر معينة، فإن كون لا يعتقد أيضا بوجود موقف أو وجهة نظر خارج نطاق إطار فكري معين، بمعنى أنه لا يوجد أساس، خارج سياق الإطار الفكري، لتقييم مصداقية وصحة الأطر الفكرية المتنافسة أو لفهم الطبيعة كما هي. بعبارة أخرى، فإن الافتراضات المسبقة التى توجه البحث العلمي متغيرة ومختلفة من إطار فكري لآخر ومن بيئة إلى أخرى، وأنها تحكمية، بمعنى أنه لا يوجد أساس مطلق من العقل أو الخبرة تستند عليه.
القيم وموضوعية وحياد الدراسات السياسية
أثرت التطورات التى حدثت في فلسفة العلم على علم السياسة والسياسة المقارنة، وانعكس هذا التأثير في بروز المدارس والاتجاهات الفكرية المختلفة في إطار حقل السياسة المقارنة. ولقد اختلف علماء السياسة في مواقفهم تجاه مقولات ومسلمات المدرسة التاريخية. فلقد احتضن بعضهم فكرة النسبية بالكامل وبصورة مطلقة، بينما عارض البعض الآخر فكرة أن المعرفة الحقيقية أو النهائية أمر مستحيل.
يكشف لنا تحليل وجهة نظر المدرسة السلوكية في علم السياسة أن هذه المدرسة قد استشهدت، بصفة عامة، بمسلمات ومبادئ فلسفة العلم لتبرير مفهومها وتصورها للعلم ومدى ملاءمته لدارسة السياسة. وافترض أنصار المدرسة السلوكية، وساد الاعتقاد بين جيل كامل من علماء السياسة، بوجود اتفاق عام في فلسفة العلم حول تصور ومفهوم المدرسة الوضعية للبحث العلمي. ولكن، وكما أتضح فيما سلف، يوجد صراع وجدل أساسي حول طبيعة العلم داخل فلسفة العلم ذاتها نتيجة للصراع الأوسع والأعمق على المستوى الابستمولوجي حول طبيعة المعرفة الإنسانية. وفي واقع الأمر، فإن الاتجاه المضاد للمدرسة الوضعية بدأ يبرز في فلسفة العلم في نفس الوقت تقريبا الذي تبنى علماء السياسة السلوكيون النموذج الوضعي للبحث لعلمي كأساس للثورة السلوكية في علم السياسة. وهكذا، وفي الوقت الذي هيمنت فيه الحركة السلوكية على علم السياسة، كان الوضع في فلسفة العلم يتعرض لتغيرات جوهرية وأساسية. ولكن، وعلى الرغم من ذلك، فإن أدبيات علم السياسة استمرت في الاعتقاد بأن النموذج الوضعي النموذج المسيطر بين فلاسفة العلم. وفي الواقع، فإن هذه الأدبيات كانت تستشهد بكتابات كون، على سبيل المثال، لتأييد وجهة النظر السلوكية الوضعية، غير مدركة بأن آراء ووجهات نظر كون تتناقض مع أسس الحركة السلوكية والوضعية.
هل من الممكن أن تكون دراسة السياسة موضوعية ومحايدة؟
يثير هذا التساؤل جدلا عميقا بين علماء السياسة. وعلى الرغم من تعدد وتباين الإجابات على هذا التساؤل، فإنه يمكن التمييز بين موقفين أساسيين متعارضين، يرتبط الموقف الأول بالمدرسة السلوكية، بينما يرتبط الموقف الثاني بالمدرسة ما بعد السلوكية. يعتقد أنصار المدرسة السلوكية بأن جانبا مهما من الحياة السياسة يتعلق بأمور وعمليات في العالم الإمبيريقي، وبالتالي يمكن تحليلها، على الأقل من حيث المبدأ، بطريقة محايدة وموضوعية، ويؤمن السلوكيون الإمبيريقيون بإمكانية أن يكون علم السياسة علماً إمبيريقيا. من ناحية أخرى، فإن مؤيدي المدرسة ما بعد السلوكية لا يعتقدون بإمكانية التوصل إلى أي شئ ذي أهمية من الدراسة العلمية الخالصة للسياسة. بيد أنه على الرغم من الاختلاف الواضح بين الموقفين ، فإنه يمكن القول إنهما يتفقان حول مجموعة من الافتراضات:
1 . تؤثر قيم ومصالح الباحث على اختياره للمشاكل التى يدرسها – ما يعتقد أنه مثير للاهتمام ويستحق الدراسة. ويصدق هذا على العلوم الطبيعية كما يصدق على العلوم الاجتماعية.
2 . سواء كانت تدرس الإنسان أو الظواهر الطبيعية، فإن جميع العلوم الإمبيريقية تستند منطقيا على افتراضات لا يمكن التدليل عليها بمناهج العلوم الإمبيريقية. فالعلم يسلم بوجود قوانين تحكم الظواهر الطبيعية والاجتماعية، ويستلزم اكتشافها استخدام أدوات التحليل الإمبيريقي. بيد أن هذه المسلمة مسلمة فلسفية لا تستند على أي أساس إمبيريقي.
3 . قد تؤثر تحيزات الباحث على قراءاته وتحليله للملاحظات والأدلة الإمبيريقية.
4 . إن تحقيق الموضوعية والحياد يستلزم توفر شروط اجتماعية وسياسية معينة أهمها درجة التسامح والحرية الاجتماعية والسياسية التى يوفرها النظام السياسي ومدى قبوله لنتائج البحث العلمي .
على الرغم من اتفاق السلوكيين وما بعد السلوكيين حول هذه الافتراضات العامة، فإنهم يختلفون في جانبين رئيسين:
أولا : يعتقد معظم السلوكيين الإمبيريقيين بأنه يمكن، ضمن الحدود المذكورة فيما سلف، عزل واختبار الجوانب الإمبيريقية في معتقداتنا حول السياسة، وأن مدى صحة أو بطلان الافتراضات الإمبيريقية أمر مستقل عن قيمنا. فعلى سبيل المثال، فإن تحديد ما إذا كان الافتراض بأن الخصائص الفردية تكتسب وراثيا صحيحا أو باطلا أمر مستقل منطقيا عن أية معتقدات حول ما ينبغي أن يكون.
لذلك، فيما يجادل الإمبيريقيون، لا تعتمد صحة أو بطلان افتراضاتنا الإمبيريقية حول السياسة، منطقيا، على ما ينبغي أن يكون، بل على الواقع الفعلي. إن الإجابة على الافتراضات الإمبيريقية حول الحياة والعلاقات السياسية لا تعتمد على ما هو صائب أو خيّر أو أفضل أو مفضل.
ثانياً: يقر بعض أنصار المدرسة ما بعد السلوكية بأن الحقائق والقيم مختلفة منطقيا، وأن معرفة ما هو كائن يختلف جوهريا عن معرفة ما ينبغي أن يكون. بيد أن معظمهم يجادلون بأنه مهما كان الوضع في العلوم الطبيعية، فإن الحقائق والقيم متشابكة في الدراسات السياسية بحيث لا يمكن الفصل بينها إلا في الحالات الثانوية والهامشية. فالفرد يقوم دائما، وعلى الرغم مما قد يزعم، بإصدار أحكام قيمية. ورغم ادعاء الحياد والموضوعية، يقوم الباحث الإمبيريقي بإدخال قيمه وتحيزاته. فلغة السياسة ذاتها مشحونة بالقيم، وأية نظرية شاملة حول السياسة يجب أن تحتوي، حتميا، على تقويمات، ليس فقط حول الصحة الإمبيريقية للمقولات الواقعية في النظرية، بل أيضا حول القيمة الأخلاقية للأحداث أو العمليات أو النظم السياسية الموصوفة في النظرية. ولذلك من الوهم الاعتقاد بإمكانية صياغة نظرية موضوعية بالكامل حول السياسة.
هل يعني هذا أن علماء السياسة لا يستطيعون ضمان الحياد والموضوعية على الإطلاق في تحليلاتهم الإمبيريقية؟ في الواقع، فإن معظم أنصار ما بعد السلوكية لا يتخذون هذا الموقف المتطرف. هل يوجد، إذن، أي خلاف حقيقي بين السلوكيين الإمبيريقيين وبين ما بعد السلوكيين حول أهمية التمييز بين التحليل الإمبيريقي لما هو كائن وبين التحليل الأخلاقي لما ينبغي أن يكون؟ الراهن، إن معظم الجدل لا يدور حول السؤال المنطقي ما إذا كان من الممكن. التمييز بين معرفة ما هو كائن في السياسة وبين معرفة ما ينبغي أن يكون، وذلك لأن الطرفين يتفقان بأنه من الممكن منطقيا التمييز بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون. ولكن يبدو أن الخلاف لم يعد يتعلق بمدى إمكانية الفصل بين الحقائق والقيم، بل أصبح يتمحور حول ما إذا كان ينبغي الفصل بينهما في التحليل السياسي.
هل ينبغي أن تكون الدراسات السياسية، محايدة وموضوعية؟
إضافة إلى التشكك فيما إذا كان من الممكن عمليا إيجاد علم سياسة محايد وموضوعي، يجادل ما بعد السلوكيين بأنه من غير المرغوب إيجاد علم سياسة محايد وموضوعي. إننا لا ندرس السياسة للمتعة أو لمجرد التأمل. إننا ندرس السياسة من أجل التصرف بطريقة صحيحة واختيار الأفضل واتخاذ قرارات حول أفضل الطرق للحياة مع أخوننا البشر، وبالتالي يجب علينا أن تقوم بتقييم العمليات والنظم السياسية. فلم يقم المفكرون السياسيون العظام في الماضي بمجرد وصف السياسة والعمليات السياسية، بل حاولوا توجيه البشر إلى الحياة الخيّرة.
يوجه ما بعد السلوكيين أربعة اتهامات ضد السلوكيين.
1 . لا يمتلك السلوكيون معيارا للأهمية والدلالة، لأن هذا لا يمكن استنباطه من المعرفة الإمبيريقية. وبالتالي فإن السلوكيين ينزعون لتحليل ودراسة المسائل الثانوية والهامشية من الحياة السياسة.
2 . يقوم السلوكيون، عبر سعيهم للحياد والموضوعية، باختراع لغة اصطلاحية معقدة وغير مفهومة.
3 . يرفض السلوكيون، في محاولة لتجنب القيم، جميع أسس التقويم، ويعاملون جميع القيم بوصفها متساوية.
4 . في الوقت الذي يزعم السلوكيون الحياد، فإن السلوكيين، في معظمهم، متحيزون للديمقراطية الليبرالية، وتحاول نظرياتهم " المحايدة" في الغالب عقلنة قيم وممارسات الديمقراطية الليبرالية.
ردا على هذه الاتهامات، يقر السلوكيون فإنه يلزم إدخال معايير الأهمية والدلالة إذا أردنا تجنب الأبحاث الهامشية والثانوية، ولكنهم يزعمون بأنهم استعملوا، في الواقع، هذه المعايير، وأنهم يهتمون بنفس الأسئلة التى دفعت المنظرين السياسيين منذ البداية: أنواع النظم السياسية، مشاكل الاستقرار، التغيير والثورة، شروط الديمقراطية والدكتاتورية، الحرب والسلام، المساواة وعدم المساواة، الحرية العبودية، وغيرها.
بالنسبة للتهمة الثانية، يجادل السلوكيون بأن اللغة العادية للسياسة تسبب مشاكل كثيرة، لأن العديد من المصطلحات السياسية لها معاني متعددة في الاستعمال العادي – حتى بين علماء السياسة. ولقد تعمد بعض السلوكيين، أمثال لأزويل، تطوير مصطلحات دقيقة بقدر الإمكان، واستعاروا في سبيل ذلك مصطلحات من العلوم الاجتماعية الأخرى وأعادوا تعريف بعض المصطلحات القديمة. من ناحية أخرى، يتهم السلوكيون أنصار المدرسة ما بعد السلوكية باستخدامهم لغة معقدة وغير مفهومة أيضا.
يرفض السلوكيون التهمة الثالثة بوصفها باطلة كليا، وأنها تستند على قراءة خاطئة لكتاباتهم وافتراضاتهم. يستند أساس هذه التهمة على أن السلوكيين أيدوا الوضعية المنطقية التى كانت تعتبر أن المقولات القيمية لا معنى لها. ولكن من المشكوك أن العديد من السلوكيين في علم السياسة يؤيدون هذه النظرة المتطرفة، والتي أصبحت غير مقبولة حتى بين الوضعيين المنطقيين. على أي حال، لا يوجد ارتباط ضروري بين النظرية الإمبيريقية وبين الوضعية المنطقية. ليس بالضرورة أن يؤمن الفرد بالوضعية المنطقية لكي يكون منظرا إمبيريقيا. في الواقع، فإن العديد من الاتجاهات الفلسفية المختلفة تتسق مع النظرية الإمبيريقية.
بالتأكيد، ليس من الضرورة أن يكون المنظّر الذي يحاول تطوير تفسيرات إمبيريقية محايدة وموضوعية للسياسة لا مبالي تجاه القيم. يجادل معظم السلوكيين بأن المعرفة الإمبيريقية شرط ضروري للاختيارات الأخلاقية الحكيمة. قد يكون لدى الفرد معايير للصواب والخطأ. بيد أنه لكي يستطيع تطبيقها على البدائل السياسية يجب أن يعرف أولا النتائج المحتملة لاختيار بديل دون غيره. إننا لا نطبق أخلاقياتنا في فراغ، بل نطبق معاييرنا الأخلاقية على عالم الواقع وأحداثه. لذلك من المهم، بقدر الإمكان، أن نفهم بطريقة صحيحة ما يجري في العالم من أمور وأحداث. إننا لا نستطيع تقييم النظم السياسية ما لم نعرف كيف تعمل. كيف يمكننا القول إن الحكومة الديمقراطية أفضل من الحكومة الدكتاتورية ما لم نكن قادرين على التنبؤ بثقة بعواقب هذين البديلين؟ إن معرفة الواقع ليست بديلاً عن الأحكام الأخلاقية، بيد أنها شرط مسبق لها.
أما بالنسبة لتهمة إدخال قيمهم في نظرياتهم وأن هذه القيم متحيزة للديمقراطية الليبرالية، يرد السلوكيون بأنه من المحتمل أنهم يؤيدون الديمقراطية والبحث المفتوح لأن الحكومة الديمقراطية تضمن الحرية الضرورية للبحث العلمي الإمبيريقي. كذلك، فإن البحث الإمبيريقي يمكن القيام به بسهولة في النظم السياسية التعددية أكثر من غيرها. فضلا عن أن جوانب معينة من النظم الديمقراطية، مثل تحليل الانتخابات والتصويت والرأي العام، يمكن إخضاعها للدراسة الدقيقة باستخدام المناهج الحديثة.
الراهن، إنه بالمدى الذي تؤثر قيم الباحث الإمبيريقي على اختياره للمشاكل، وتوفر له معايير مهمة وذات علاقة، وتمنحه مقياسا لتقييم السياسات والنظم البديلة، وتسمح له باتخاذ موقف تجاه المسائل الخلافية، فإنه لن يختلف عن الباحث غير الإمبيريقي. بيد أنه عندما تؤثر قيمه على نتائجه الإمبيريقية، وعندما يشوه التزامه بما ينبغي أن يكون وجهة نظره حول ما هو كائن، فإنه يفقد موضوعيته وحياده. إذا حدث هذا، فإنه يعني أن الباحث الإمبيريقي قد أخفق في التقيد بالمعايير التى استنها لنفسه، ولكن لا ينبغي أن يكون ذلك مبررا للتخلي عن هذه المعايير والمقاييس، في الواقع، ينبغي أن يكون الإخفاق في الالتزام بالموضوعية والحياد في دراسة الجوانب الإمبيريقية للسياسة حافزا لمحاولة تطوير نظريات إمبيريقية محايدة وموضوعية وليس التخلي عنها.
_________________
المراجع الأساسية:
أ. مراجع عربية
1. أمزيان، محمد محمد، منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية، الطبعة الثالثة. وجدة، المغرب: بيت الحكمة للترجمة والنشر، 1996.
2. قنصوة، صلاح، الموضوعية في العلوم الإنسانية، القاهرة: دار الثقافة للطباعة والنشر، 1980.
3. المغيربي، محمد زاهي، قراءات في السياسة المقارنة، الطبعة الثانية، بنغازي: منشورات جامعة قاريونس، 1998
مراجع أجنبية
1. Hay, Colin, Political Analysis, New York: Palgrave, 2002.
2. Marsh, David & Stoker, Gerry( eds.), Theory and Methods in Political Science, Second Edition, New York: Palgrave, 2002.
3. White, Stephen K. & Moon, J. Donald, What is Political Theory? London: Sage Publications, 2004