التدخل في النزاعات الداخلية من منظور الدراسات التكميمية
عـادل زقاغ
تهدف الدراسات التكميمية إلى وضع مؤشرات كمية دقيقة لقياس مستويات العنف وذلك للحصول على معايير يسهل من خلالها تأهيل حالات تنازعية معينة إلى نزاعات مسلحة، وهو ما يمكن من وضع حدود للمجتمع المسحي في فترة معينة. وبالإضافة إلى ذلك فإن المسح يشمل قياس المتغيرات التي تتحكم في تفجر النزاعات، مدتها (عمرها) ونهايتها، والحصول على مثل هذه المعطيات يتيح للباحثين إجراء مقارنات بين مختلف النتائج التي يتم الحصول عليها بواسطة دراسات مختلفة، مثل تلك التي تتناول تأثير متغيرات معينة (كالفقر أو التنوع الإثني أو الدَّمقرطة) في مسار النزاع نحو التصعيد أو التهدئة، أو الدراسات التي ترتكز على دور الطرف الثالث في إدارة النزاعات الإثنية.
1- تدخل الطرف الثالث من منظور كمي
ما هو دور الطرف الثالث في النزاعات الداخلية من منظور كمي؟ تتحدد وظيفة التدخل، حسب Regan في تعظيم المكاسب المحتملة للأطراف من وراء التسوية الآنية عوض الاستمرار في القتال بهدف تحقيق نصر متوقع، وبتعبير آخر فإن النزاع يعكس وضعية حيث يتم الحصول على المعلومات عبر الحركات المتتابعة لطرفي أو أطراف النزاع، وهدف التدخل الخارجي هو التأثير في نقل هذه المعلومات وفي محتواها أيضا.(1)
ويمكن تلخيص هذه الوضعية في المعادلة التالية:
م م = تإ ق + مع ق × ط*
ومعنى ذلك أن المكاسب المتوقعة (م م) لأطراف النزاع من وراء التسوية الآنية تتوقف على تكاليف الاستمرار في القتال (تإق)، والمكاسب المتوقعة حالة عدم الاستمرار في القتال (مع ق)، إضافة إلى توقعات كل من الفاعلين حول الخطوات التي يفكر فيها أو يقدم عليها الطرف الثالث ومما سبق يتبين أن دور الطرف الثالث يكمن في جعل كل من تكاليف الاستمرار في القتال وفوائد التسوية مرتفعين، وهذا يتوقف على قدرته في التحكم في ط*، والتي تقوم بدورها على مدى فعالية الاستراتيجية المتبعة في تحويل المعلومات لأطراف النزاع حول خياراته ومقاصده.(2)
وفي حالة تبني الطرف الثالث لخيارات تدخلية معينة، فإن احتمالات نجاحه في وقف العنف يتوقف على المعادلة التالية، وهي تعبر عن الفترة الزمنية المطلوبة لجر الأطراف نحو التسوية:(3)
مجنز م مزف1 = إح (تزتس + مزتس) – (1 – إح) (تزنإن + مزنإن)
إذا كانت مجنز م مزف1 < 0
أي مجموع المكاسب المتوقعة لفاعل (ف1) خلال زمن (ز) ذات محصلة إيجابية، فإنه يمكن للطرف الثالث جر هذا الفاعل نحو التسوية، على أن المدة المطلوبة لتحقيق ذلك تتوقف على قيمة (ن). بينما يعتمد حساب هذه المحصلة على احتمالات (إح) الحصول على تنازلات آنية في مائدة التفاوض مرفوقة بالتكاليف (تزتس) والمكاسب (مزتس) المتوقعة من وراء التسوية الآنية (تس في ز)، أما الطرف الثاني للمعادلة فيعبر عن مدى تدني احتمالات الحصول على تنازلات تفاوضية بل وانعدامها مرفوقة بالتكاليف (تزنإن) والمكاسب (مزنإن) المتوقعة من وراء الاستمرار في القتال حتى النصر وذلك في مدة زمنية (زن). تظهر المعادلة السابقة أن أحد المؤشرات التي تعيق عمل الطرف الثالث هي أن: مزتس > مزنإن أي أن الفاعلين غالبا يفترضون أن المكاسب التي يمكنهم الحصول عليها من خلال تسوية تفاوضية أقل من تلك المتوقعة حالة الانتصار في الحرب، لكن ومن حسن حظ الطرف الثالث فإنه يوجد مؤشر موازن للمعادلة يتمثل في: تز > تزن أي أن التكاليف ترتفع دوما بمرور الوقت.(4)
لكن كيف يمكن الاستناد لعامل الاحتمالية (إح) للتأثير في مسار النزاع؟ يقول Regan أن توازن القوى في تقديرات المتقاتلين لاحتمالات النصر في زمن معين (ز) وفي فترة زمنية مستقبلية (زن). وبهذا فإن توازن القوى هو العامل الحاسم في تحديد إرادة كل طرف في التسوية الآنية وهذا مقابل الاستمرار في القتال حتى النصر.(5) ولتحقيق ذلك، فإن الطرف الثالث يتبنى ثلاثة خيارات تدخلية: التدخل العسكري، التدخل الاقتصادي، والتدخل الدبلوماسي.
2- تكميم التدخلات – رصد الأشكال المختلفة للتدخل:
حسب معايير Regan، فقد شهد العالم 1043 تدخلا في 101 نزاعا داخليا في الفترة من 1945 – 1999.(6) وبالاعتماد على معايير Gurr حدد Regan نسبة النزاعات الإثنية بـ 52 % من مجتمعه المسحـي، بينـما حـدد نسبـة النزاعـات الإيديولوجية – التوجه بـ 12 %.(7)
وإضافة للنتائج السابقة فقد توصل Regan إلى أنه ومن بين 1043 تدخلا، فإن 608 منها كانت منحازة للحكومة، بينما انحازت 378 تدخلا لصالح المعارضة أو الحركات الانفصالية، وفقط 57 من هذه التدخلات كانت محايدة، أما من حيث الفعالية فقد وجد أن 69% من التدخلات ساهمت في إطالة بدل تقصير عمر النزاع، في حين ساهمت أغلب التدخلات غير المنحازة في إنهاء النزاع.(
وفيما يلي أهم النتائج الأخرى التي توصل إليها Regan:
1 – التدخل الذي ينحاز للحكومة يقلص المدة المتوقعة للنزاع، بينما تساهم التدخلات التي تنحاز للمعارضة في إطالة عمر النزاع.(9)
2 – التدخلات الخاطفة تقلص من مدة النزاع.(10)
3 – التدخلات التي تستميل تدخلات مضادة تطيل عمر النزاع.
4 – التدخلات غير المنحازة تعتبر الأكثر فعالية.
5 – 107 من مجموع التدخلات قادتها 7 منظمات دولية، ما يمثل % 10,2 من تدخلات الأطراف الثالثة.
6 – معدل عمر النزاعات الداخلية هو 102 شهرا أي حوالي 9 سنوات، وقد كان النزاع في بورما أطول هذه النزاعات بـ 616 شهرا يليه نزاع قواتيمالا بـ 422 شهرا، ويصل عدد النزاعات التي استمرت 300 شهرا، 5 نزاعات. فيما لم يدم 15 نزاعا لأكثر من 13 شهرا.(11)
وفيما يلي توزيع التدخلات السابقة بحسب شكلها:
ترتيب Regan لأشكال التدخل حسب حدتها أهم الأشكال الواردة في المسح عدد التدخلات
375
55 تدخل استخدمت فيه القوة
160 تدخلا
160 تدخلا 90 منها تضمن ضربات جوية.
- - إرسال قوات عسكرية
- - إسناد بحري
- - إسناد استخباراتي/استشارة
- - إسناد جوي
التدخلات العسكرية
131
70 % من التدخلات الاقتصادية
16 % من التدخلات الاقتصادية
- - هبات
- - قروض
- - تجهيزات/خبرة
- - عمليات إنقـاذ تتجـاوز المستويات العادية
- - العقوبات الاقتصادية
التدخلات الاقتصادية
560
/
/
التدخلات الدبلوماسية
وما يلاحظ على مسح Regan هو تبنيه لعمر النزاع (الشهر كوحدة قياس) لفحص مدى فعالية الطرف الثالث. وباعتماده على متغير التحكم في توازن القدرات للتأثير في مسار النزاع، فإن دراسته أظهرت الطرف الثالث كفاعل يلعب دورا سلبيا في إدارة النزاع (%96 من الحالات). ويعود ذلك إلى حصره لمجال النزاع في مجال يمتد فقط من فترة تسجيل عدد من القتلى يؤهله كنزاع مسلح إلى غاية تدني مستويات القتل بشكل يسمح باستبعاد الحالة المعنية.
وفي واقع الأمر فإن دور الطرف الثالث أو مجال تدخله يبدأ من مباشرته لمساعي تدخلية استباقية لمنع تصعيد حدة التوتر (الانتشار الوقائي في مقدونيا)، وما بعد التوصل إلى وقف لإطلاق النار (مثل عمليات حفظ السلام)، حتى فترة ما بعد توقيع اتفاقية تفاوضية (عمليات صناعة وبناء السلام)، وغيرها من المراحل التدخلية والمبادرات التي تمنع تجدد العنف. وهكذا فإنه لو شمل الفحص مختلف مراحل وجوانب إدارة النزاع، فإنه سيتم التوصل دون شك إلى نتائج إيجابية أكثر بخصوص دور الطرف الثالث.
أما الشيء الثاني الذي يؤخذ على عمل Regan فيتمثل في عدم إيلاء أهمية كبيرة في ترميز (Coding) المبادرات الدبلوماسية، رغم أنها تشكل أكثر من %50 من تدخلات الطرف الثالث، ورغم تنويهه بعمل Mark Mullenbach الذي يعمل على إعداد مسح بالإشارات الدبلوماسية Signals التي تحاول تغيير مسار النزاع،(12) إلا أنه يستبعد التركيز عليها في أعماله معللا ذلك بأنه لو كانت الدبلوماسية فعالة لتمكن الوسطاء من الحؤول دون انفجار العنف، أضف إلى ذلك أن المبادرات الدبلوماسية، في العادة، تستبق تصاعد حدة العنف بينما يعتمد Regan في مسوحه على تاريخ بدء النزاع كمرجعية لإدراج الحالة.
وفي الواقع فإنه من الصعب تكميم المبادرات (التدخلات) الدبلوماسية، ذلك أن مسار النزاع خطي، بحيث يمثل المنحنى عمر النزاع والذي توجهه تدخلات الأطراف الثالثة بحسب فعاليتها وهدفها، ومن هنا فإن تركيز Regan على التدخلات العسكرية والاقتصادية، حيث يساهم الطرف الثالث بشكل ملموس في توازن القدرات بين الأطراف، يعتبر جدُّ عمليا نظرا لسهولة قياس تأثيرها، مقارنة بالدبلوماسية التي تأخذ مسارا غير خطي. فمثلا يمكن قياس التدخل العسكري اعتمادا على عدد القوات الموفدة ومدى تأهيلها، أو بالنظر إلى الفعالية الميدانية للتجهيزات المقدمة لأحد الأطراف، وبالمثل يمكن قياس التدخل الاقتصادي بالنظر إلى مبلغ الهبات أو القروض المقدمة. بينما لا يمكن إدماج الإشارات الدبلوماسية ضمن المنحنى كما لا يمكن تحديد معامل لها في المعادلة السابقة الخاصة بالتدخل، فأطراف النزاع قد تتحول عن العنف إثر مساعي حميدة لطرف ثالث لم يستعمل الرافعة، وهذا بالرغم من تدني نسبي للمكاسب المتوقعة من وراء التسوية.
مسار النزاع
3- تكميم التدخلات عبر البرامج الكومبيوترية – قيرنر و شرودت وحل مشكلة تكميم المبادرات الدبلوماسية:
ومع ذلك فإن أعمال Gerner وSchrodt تظهر وجود إمكانية لترميز التدخلات الدبلوماسية وتبرهن على أهمية التركيز على الدبلوماسية بالنظر إلى الاعتبارات الأخلاقية التي يمكن التثبت منها من خلال ذلك، وذلك مقابل الدراسات التي تستبعد ترميز المساعي الدبلوماسية. فإحدى النتائج الواردة في عمل Regan تؤكد أهمية التدخل لصالح الحكومة في تقليص عمر النزاع (وهو يعني ضمنيا مساعدة الحكومة على تحقيق حسم عسكري) إلا أن التسوية التفاوضية المرتكزة على القنوات الدبلوماسية سوف تكون أكثر استقرارا واستيفاء للإعتبارات الأخلاقية، وخطورة هذه المفارقة بين العملية تظهر في التوصيات العملية فـ Gerner و Schrodt وعكس Regan يدعوان إلى تدخل لموازنة القوى بدل دعم الإختلال القائم لصالح الحكومة.(13)
وفي الواقع فإن أعمال Gerner وSchrodt لم تكتف بطرح استفهامات حول استنتاجات Regan، بل وتمكنت من دحض الحجج التي ترى باستحالة تكميم التدخلات الدبلوماسية، إذ بالعودة إلى الأعمال الرائدة لكل من McClelland وYoung (1969) وGodlstein (1993) قام Gerner وSchrodt بتصميم برنامج يعمل على الكمبيوتر ويقوم على رصد الإشارات اللغوية الواردة في تغطية وكالات الأنباء العالمية الرئيسية، ثم يصنف هذه الإشارات إلى إحدى الفئات العشر التعاونية (يقترح، يطلب، يوافق،...)، أو إحدى الفئات العشر التنازعية (يحذر، يهدد، يتهم، ...). على أنه يتم بعد ذلك إعطاء قيمة معينة لهذه الإشارات وفق مقياس Goldstein. فمثلا، جملة "يعرض مقترحات" والتي ترد ضمن فئة "يقترح" تنقط 1,5 درجة على السلم. وبالحصول على معطيات تغطي فترة زمنية معينة فإنه يمكن إنجاز نموذج ديناميكي يوضح التفاعل بين مبادرات الطرف الثالث والمتغيرات السياقية، وعلاقتها بتوجيه مسار النزاع.(14)
ميزة مثل هذه النماذج هو محاولتها للتحكم في حقلٍ ظلَّ محتكرا من طرف الاتجاهات التي تتبنى التحاليل الكيفية. وتكمن قوتها في أنها تعطينا معطيات واستنتاجات أكثر علمية لأن اعتماد الكمبيوتر يقلل من هوامش التشويه في نقل الإشارات الدبلوماسية وتوظيفها في البحث. لكن وإذا أثبتت فعاليتها في دراسة التدخلات الدبلوماسية في منطقة معينة ودراسة حالات تتمتع بالتغطية الإعلامية، فإنها لا تتمتع بنفس القوة التفسيرية عندما تكون إزاء مناطق سيئة التغطية، وبهذا فهي بعيدة جدا عن هدفها النهائي المتمثل في رصد الإشارات الدبلوماسية الواردة من كل مناطق النزاع في العالم، وذلك للقيام بمقارنات والخروج بتماثلات نظمية. وإذا أضيفت لها مهمة تغطية النزاعات السابقة، فإن عمل القائمين على هذه النماذج يشبه جهود القائمين على تفكيك الشفرة الوراثية لـ DNA البشري.
إعداد قوائم المعطيات والمسوح – إشكالية معيار تحديد عتبة التأهيل:
وعموما فإن التحديات التي تواجه الدراسات التكميمية تفوق بكثير الصعوبات التي تصادف النماذج الديناميكية للوساطة الدبلوماسية، فإذا كانت هذه الدراسات تهدف إلى تحديد معايير صارمة في دراسة أي من جوانب التدخل في النزاعات، فهي لم تتمكن لحد الآن، حتى من الوصول إلى اتفاق واسع بخصوص أوليات تأهيل الحالات التنازعية. فمشروع COW متمسك برقم 1000 قتيل/سنة حتى بالنسبة للنزاعات الداخلية، بينما اختار Regan عتبة 300 قتيل/سنة. في حين حدد مشروع جامعة Uppsala عتبة تأهيل الحالات التنازعية إلى نزاعات مسلحة بـ 25 قتيل معركة/سنة،(15) ويبرر ذلك بأن نزاع أيرلندا الشمالية تفجر منذ 1969 إلا أنه لم يصل أبدا عتبة 1000 قتيل معركة/سنة، مما جعله يستبعد من أغلب المسوح السابقة بالرغم من حساسيته واستمالته للعديد من تدخلات الأطراف الثالثة.
وتكمن أهمية عمل Gleditsch زيادة على إدماج العديد من الحالات المقصية، في وضعه معايير أخرى تمكن من تصنيف النزاعات حسب مستويات حدتها، وهو ما يمكن من فحص تأثير الطرف الثالث في تحويل مسار النزاع إلى مستويات معينة من التصعيد، وذلك بناء على عتبة تمثل عدد القتلى:(16)
- - نزاع مسلح محدود: ويجب أن يتجاوز عتبة 25 قتيل معركة في العام على ألا يتجاوز عدد القتلى 1000 خلال مسار النزاع.
- - نزاع مسلح متوسط: 25 قتيل معركة في العام، في حين يصل العدد الكلي منذ تفجر النزاع 1000 قتيل على ألا يتجاوز 1000 في عام واحد.
- - الحرب: وتتميز بسقوط ما لا يقل عن 1000 قتيل معركة/سنة.
ومع ذلك فإن المعطيات التي يوفرها مشروع Uppsala والتي تغطي الفترة من 1954 – 1999 لن تكون جاهزة كليا لتوظيفها في الأبحاث قبل سنوات عديدة، حيث سنشهد اكتمال المعطيات حول مختلف جوانب النزاعات الداخلية (الإثنية، الدينية، الأيديولوجية)، إضافة إلى اكتمال تصميم نماذج متكاملة لفحص أداء الطرف الثالث، باستعمال برامج تفاعلية أكثر تعقيدا.