الاشكالية المزمنة بين الدين والسياسة (
الحلقه الاولى
في البداية :
لابد من اعلان الحيادية في طرح الاراء التي تؤيد تدخّل الدين وهيمنته على الحياة السياسية في بلداننا العربية والاسلامية , او بين تلك التي تـُبعد الدين ولاتقبل تدخله بأي شكل من الاشكال في الحياة السياسية, أذن نحن امام فريقيين لكل منهما وجهة نظره الخاصة التي لها اسبابها وادلتها المنطقية التي يعتقد كل فريق بصوابها. وحتي نأخذ الفرصه كاملة لابد من معرفه اوليه عن نبذه وجيزه ومختصره في الفضاء والدائره التي يتحرك ويختص بها الدين في الحياة البشريه.
وحتى نستطيع فهم ذلك الفضاء وهذا الاختصاص ينبغي ان نبين ان فهم الدين يعني فهم الظاهره التأريخيه, فالدين من خلال البرهه التاريخيه التي تواجد وانتشر بها بواسطة النبي الاكرم فأنه جاءالى الناس كافه, وهذه اللحظه والبرهه الخاصه نطلق عليها اسم الظاهره التأريخيه وهي نزول القرآن , وظهور النبي ( ص ) , والكتاب المـُنزل, وهذا ايضا يعني ان الدين الاسلامي بكليته ظاهرة تاريخيه نفهمها من خلال ما نمتلك من معلومات في السياق التأريخي, وعلى هذا الاساس انطلق الرعيل الاول من المجتمع المسلم في فهم هذه الظاهره من خلال ادواته وتصوراته في ذلك العصر, فكانت تلك التفسيرات لهذه الظواهر في ذهن المجتمع من المسلمات , أما ماهو الكم من الترسبات عن الديانات السابقه التي اثرت في تشيكل هذه التصورات والمسلمات , فتلك مسأله تحتاج الى بحث ونحن الان لسنا في صدد التعرض اليها في هذا المقال , ومانريد ان نخلص اليه ان المجتمع الذي تلقى الظواهر التاريخيه, القرآن ,النبي والوحى كان ينطوي على تصورّات سابقه للدين ,والا لما تيسر له فهم تلك الظواهر التأريخيه الجديدة عليه, لذلك استمرالتطورفي فهم هذه الظواهر من خلال الادوات والتصورات المختلفه بأختلاف الاجيال المتنميه اليها, الامر الذي جعل لكل جيل منها جديته واجتهاده في تصوراته وتفسيراته من خلال الكم الهائل لتلك التراكمات التي شكلت ولاتزال تـُشكل المفتاح في حل وفهم هذه الظواهر التأريخيه الكبيره.
من هذه المقدمه البسيطه نريد القول : بان الفكر الاسلامي بأعتباره فكرا انسانيأ يتبدل ويتعدل على ضوء ما اشرنا, في فهم الظاهره التأريخيه لذلك نرى ان الفكر الاسلامي مـرَ في عدةحلقات متواصله وفي اتجاهات مختلفه , ابتدا ً من الرعيل الاول وكيفية فهم هذا الرعيل لتلك الظواهر التاريخيه ومروراَ بكثير من الحركات مثل الاشاعره والمعتزله الخ... الذين ابدعوا نظريات فكريه وطرحوا أسئله وأجوبه انبثق من خلالها تفسيرهم الخاص للاسلام , ولهذا كله و على سبيل المثال اوجد المعتزلة الثقافه الخاصه بهم في الحياة الدينيه,نتيجة لفهم المعتزله للظواهر التأريخيه من خلال مقولاتهم ومفاهيمهم الخاصه.
والتي تختلف او تتفق بشكل وبأخر عن الاتجاه الذي تلاهاالا وهوالاتجاه الفلسفي في فهم وطرح المفاهيم الاسلاميه من خلال ما تكـّون من منظومة فكريه خاصه لهذا الاتجاه في فهم وتفسير هذه الظواهر التأريخيه, والفلاسفه ايضا ابدعوا في الاضافات الفكريه العميقه التي استمدوها من تصوراتهم الفلسفيه عن الوجود والخالق والوحي والقرآن. ومن هذا التدرج السريع والبسيط في فهم الظواهر التأريخيه نصل الى نيجه و صياغة السؤال التالي , في الوقت الذي شهد عصرنا مجموع من التحولات الجديده والكبيره ونحن المسلمون جزء من هذه المنظومه البشريه كيف ستكون مساهمتنا وفهمنا لهذه الظواهر التاريخيه. وما تأثير ذلك في فك الاشتباك الذي حصل ولايزال يحصل ان صح التعبير بين السياسي والديني في فهم الدين و امكانية تدخله في كل الشؤون الحياتيه ؟ هذا ما سنتواصل به معكم في الحلقه القادمه انشاء الله.
الحلقة الثانية
فض الاشتباك والتحولات الكبرى ...
تـُمثـل التحولات الكبرى في الحياة بكافة محاورها العلمية والاقتصادية والسياسية التي عاشها ويعيشها العالم المعاصر والحديث نقطة تحول لميل الانسان الى الجدّيه في التعامل في نظرته لتجديد كل ما يمت بصلة في منظومته الثقافية وفكره السياسي وعاداته وتقاليده الموروثة والسائدة. وبطبيعة الحال هذا لايعني باي شكل من الاشكال نفي الماضي والتراث بحيث ان لا تكون هناك قطيعة بينهما وانما الاستفادة والتوظيف من دون ان يتحول هذا الماضي الي قيدٍ يعيـق حركة الانسان-المجتمع من تحولاته الجديدة .
النظرة الخاطئة.
لذلك كانت هناك نظرة خاطئة لتصور ٍ مهيمن ٍ قبل هذه التحولات الكبرى مفاده ان اطر الحياة على كافة الصعد الاجتماعية والسياسية لاسبيل في تغيرها ؟ لانها تـُعتبر في تصوراتهم مقدرة لهم من خلال نظام الخلق والتكوين, وليس امامهم الا الخضوع والاذعان لها ولا امكانية لنقدها وتصحيحها بحيث اصبحت هذه النظم ذات طابع قدري في الفكر الاجتماعي والسياسي.
وبعد انهيار هذه المنظومه تبّـين ان النظام الاجتماعي السياسي ليس جزءا ً من النظام المحتوم و قدرا ً منزّلا من نظام الخلق والتكوين , لذلك تجاوز اصحاب الفكر التنويري الكنيسة وتعيّـناتها المفروضة في اطر الحياة الاجتماعية والسياسية في اوربا , بالوقت الذي كان هذا الفكر السياسي يـُـفرض من قبل ارباب الكنيسة الذين كانوا يحيطون اطرهم الاجتماعية والسياسية بهالة من التقديسي والتفخيم , على انها من ضمن نظام الخلق والتكوين, ولكن نتيجة للنمو السريع في مجال العلم والتكنلوجيا تزعزع هذا التفخيم وهذا التقديس و انهارت تلك النظم والاطر الفكرية السياسية التقليدية التي كانت سائدة في المجتمعات الغربية, مما فتح الافاق الواسعة في كل الاتجاهات للفكر الجديد.
موجه قوية وعنيفة .
تعرض العالم اجمع نتيجة لتلك التحولات الى موجة قوية وعنيفة من التغيرات التي كان مداها اهتزاز قواعد التفكير التقليدي والثقافي الموروث , مما خلفه هاجسا ً لدى بعض المعنيين ولاسيما الذين يهتمون بالفكر والشان الاسلامي, وهذا الهاجس يتمثل بصيغة السؤال الاتي, ماهي الكيفيه التي سوف يتعامل بها اصحاب هذا الشأن في تقديم الدين للناس في ظل هذا الفضاء الفكري المفتوح الذي اثر على كل المجتمعات وفي كل الاتجاهات وفي قلب و صميم الاطر الحياتيه المتمثلة بالوضع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.
تياران في الساحة للتصدي ..
وعندئذ لما انبرى للتصدي لهذه التحولات وتأثيرتها تياران احدهما التيار الاول الذي اعتبر هذه التحولات بدعه ولابد من مواجهتها بتهمة الانحراف عن التفكير السليم وان هذه التحولات بلاء عظيم قد اصاب جسم الامة في صميم دينها ومعتقداتها مما يستوجب التصدي لها ومقاومتها , ولان هذا التيار وبكل صراحة لايريد ان يعترف بأن المقولات والمفاهيم الفلسفية الارسطية غير صالح ولانهم يعتقدون بأنه لايمكن الحديث عن موضوع الدين خارج المقولات الارسطيه وفي ظنهم بأن فلاسفة وروّاد النقد المعرفي الحديث امثال كانت وهيوم واخرين هم لا يمثلون الا فكرا سقيما وبطلا ننا مبينا .
أما التيار الثاني من المفكرين الذين وجدوا في هذه التحولات تعبيرا ً عن واقع ظهر في منهج التفكير الانساني ولابد من التعامل معه بجد ّية ومعالجة انعكاسته لاسيما ان هذه الفلسفه تتعرض بالنقد المعرفي للفلسفة الاولى , لذا يرى هذا التيار بعدم حصر مهمة موضوع الدين والحديث عنه في اطار الفلسفة الاولى, وافضل من عبر عن هذا التيار وبوضوح وقوه المرجع السيد محمد باقر الصدر( رض) الذي جعل من موضوع الدين الامكانية والمكانة التي يستحقها في عالم المعرفة في عالمنا المعاصر ولو اتيحت الفرصة لهذا العالم الفذ ان يمتد به العمر, لكان اليوم لنا قولا اخر في عالم المعرفة والفكر النير الذين نستطيع به ان نزيل كل هذا التخبط والارباك الحاصل . لكن اليد الاثيمه واللئيمة عاجلته المنية بحكم الاعدام الجائر في 1980
حالة تعارض وعدم انسجام
اذن هناك حالة تعارض وعدم انسجام بين طرفين او تيارين لهما رؤى مختلف ومتباينه , اي هناك تباين واختلاف بين معطيات الفكر العلمي والفلسفي من جهه ومعطيات و اجتهادات الفكر الديني من الجهة الاخرى , واذا مااقتربنا قليلا من الفكر السياسي الجديد لابد من تحديد مفهومين اساسيين هما العلمانية والعلمنه.
" العلمانية نظرية او حركة نشأت وتطورت في السياق التأريخي بين الكنيسة والدولة القومية في اوربا لفصل الدين عن الدوله وحياة المجتمع من جهة , وبين مفاهيم الكنيسة والمفاهيم العلمية عن الكون والحياة والمجتمع من الجهة الاخرى . اما العلمنه, فهي التطبيق العملي لتلك النظريه في الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والميل للتصرف بمعزل واستقلال عن الدين والديني كما يقول الباحث الانكليزي شادويك Chadwick "
فصل الدين عن الدولة
اول تحرك في اتجاه فصل الدين عن الدولة قام به محمد علي في مصر , عندما عزل الازهر رسميا ً وبالتدريج عن مجالات الحياة والمجتمع وقد حاصر الازهر بشبكة من المدارس العلمانية الحديثة وترك الازهر يواجه مصيره, إن تطور نجا , وإن بقى على جموده هلك . لذا نستطيع القول بأن وجود النظام السياسي ضرورة حضارية , لان الحياة في المجتمع الانساني لا تستقيم بدون وجود سلطة حاكمة, واطار قانوني يوضح العلاقة بين القوتين الحاكمة والمحكومة , وهو الدستور. وكما هو معلوم بأن هذا الدستور صادر عن العقل البشري وليس عن التشريع الاسلامي فهل يصح لنا التسائل , الى اين نتجه اذن في تحقيق النـُظم السياسية والاجتماعة وهل هناك منهجاً محدد نتبعه,بل دعنا نصيغ السؤال بشكل اكثر دقه اي منهجاً نتبع, دولة الفتوى ام دولة القانون ؟ وهل هناك امكانية للتلاقي بينهما لوضع حد ٍ لهذا الارباك؟ ام ان هناك اكثر من راي في هذا الجانب ...........؟
الحلقة الثالثة
دولة الفتوى ام دولة القانون.
المنطق الارسطي وكما هو معروف أداة البحث الوحيدة في العصور القديمة , والذي لايزال يدرس في اغلب الحوزات العلمية, مع انه تعرض للنقد الشديد مع بداية القرن الخامس عشر من قبل مفكرين أوربيين تنوريين, وكما تعلمون ان المنطق الارسطي منهج جدلي استقصائي قائم علىالقياس ,يستننتج من الحقائق المعروفة اكثر من البحث عن حقائق جديدة. وكان فرنسيس بيكون من اوائل الذين اكتشفوا عقم وعدم جدوى هذا المنطق بعد اتصاله بالعلم العربي التجريبي عن طريق الترجمات في بلاد الاندلس , وكان هدف العلم عند بيكون إخضاع الطبيعة لخدمة الانسان من اجل رفاهية الانسانية وتطورها,وبعد بيكون رينيه ديكارت وثم المنهج النيوتوني هذا المنهج الذي يقوم على تحليل الحقائق المشاهدة بغية التوصل منها الى مبدأ أساسي , ثم استخراج النتائج الرياضية لهذا المبدأ والتحقيق منها تجريبيا, وبعد ذلك جاء باركلي وهيوم ثم بنتام وجون ستيوارت ميل وجون لوك الذي كان وراء فكرة مؤسسات المجتمع المدني والذي اقام نظرية الجديدة في الدولة التي تدحض الحق الالهي للملوك وتدعوا الى مبدا فصل السلطات,وبعد كل هذا جاء فلاسفة عصر التنوير الذين اكدوا على قيمة العلم وفضيلة الحرية ومحاربتهم الى الاتجاهات الميتافزيقية , ونشر الفكر الواقعي, وهذا أدى الى ظهور فكرة التقدم اي التطور من البسيط الى المعقد ومن الادنى الى الارقى , وكان لهذه الفكرة دورا ً هاما ً في العلم والثقافة, ومن ثم توالت الاكتشافات والنظريات مما ادى الى خطوات كبيرة باتجاه الفصل التام بين الدولة والكنيسة, وكان البرلمان الفرنسي سباقا ًفي هذا المجال عندما صادق في عام 1905 على قانون الفصل بين الدولة والكنيسة , ومع بداية القرن العشرين اخترعت السيارة والطائرة والكهرباء الى نهاية وبداية القرن الواحد والعشرين اصبح العالم قرية كونية بفضل غزو الفضاء . وهنا لابد من ذكرالشعب الياباني الذي شارك بفعالية في هذه المنجزات والتحولات دون ان تقف تقاليده العريقة ومعتقداته الدينية حائلا بينه وبين التطور العلمي . هذه كانت بأختصار العوامل التى ادت الى ولادة المجتمع الجديد الذي تبنى دولة القانون, ودولة القانون تلك التي تقوم على اساس المؤسسات والتي تحتكم الى دستور البلاد,الذي يضمن فصل السلطات الثلاث ويحترم حقوق الانسان , وتوفر بشكل فعلي ظروف المشاركة في ادارة المجتمع والدولة.
أما دولة الفتوى . ويقصد بها من الناحية السياسية الامامة " والامامة العظمى وامارة المسلمين هي رياسة الحكومة الاسلامية الجامعة لمصالح الدين والدنيا " . وهنا لابد من مرور تأريخي سريع على بعض محطات الخلافة فحين سعى المسلمون الاوائل الي نشر العدل الاجتماعي والمساوة والتحرر من نير الفقر والعبودية , وكان هذا كله قد شكل رؤية جديدة للعالم في شتى جوانب الحياة , ولكن بعد وفاة النبي الاكرم تصدعت وحدة المسلمين وتوزعوا الى فرق ومذاهب مختلفة منذ بدأت مسالة الخلافة تتفاعل فيما بينهم بالعنف وتتحول الى صراع دام ٍ , حتى وصل الامر بالمسلمين ان تفككت وحدتهم السياسية وتفرقوا الى دويلات متناحرة متقاتلة فيما بينها واصبحت السلطة السياسية بيد الامراء الذين ابتعدوا عن فكرة التشريع الجامع الموحد وبهذا الامر فارقت السياسة الاسلام ...؟
أمكانية الحل مع بداية القرن الواحد والعشرين ؟
قد يغلب الظن على البعض ان في كثيرمن هذه التساؤلات التي وردة في طيات هذا البحث قد تجد لها أجابات في البحوث التي قـُدمت ولاتزال تـُقدم في حلقات الدرس و البحث, لكنني أقول أجوبة لا تصل بنا الىعمق مستويات المشكلة ولا تـُعّد أجوبة شافية ووافية لانها بعيدة كل البعد عن الواقع الراهن في مجتمعاتنا العربية والاسلامية , بل أقول و بصيغة اخرى ان المشكلة المزمنة التي نعاني من مضاعفاتها في مجتمعاتنا, اساسها الاشتباك الحاصل بين الديني والسياسي ,و تبقى تلك الاجابات معلقة ومفتوحة, لان اغلب هذه الاجابات تمثل ردود فعل لاترتقي ان تكون حلا ً للمشكلة القائمة بين الدين والسياسة في واقعنا الراهن بالرغم مما حملته من عناوين براقة كانت على شكل لوائح وحقوق ومن امثلتها حقوق الانسان, وحقوق المرآة, وحقوق العامل, .. وحقوق.. وحقوق....الخ
ونحن الان في بداية القرن الواحد والعشرين , والمجتمع العربي والاسلامي مازال يراوح ويترنح في مكانه, والارباك والتخبط باديا ً عليه من خلال عناوين بارزة في صفحات ازماته واحباطاته المريرة على كافة الصعد. ومع ذلك مازال هذا المجتمع يسعى لدولته الوطنية التي تحقق له الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والرفاهية الاقتصادية والاستقلال ولكنها لم تتحقق بعد , في الوقت الذي مازال فيه تفكير هذا المجتمع اسيرا ً لطروحات واسئلة منذ بداية عصر النهضة والى يومنا هذا ولم يفلح في ان يجد أجوبة حاسمة عليها ولاسيما في اشكالية العلاقة بين الدين والسياسة ولايزال الانسان العربي والمسلم يعيش وضعاً شاذا ً وغريبا من بين كل ابناء شعوب هذه المعمورة.
كيف نتخطى المحضور...؟؟
لان هذا الانسان مازال محضور عليه التفكير الحر في الدين والدنيا رغم مانعيشه الان من تحولات كبيرة و ثورة عارمة في العلوم المستقبلية. ولو استحضرنا التأريخ ليكون شاهدا ًعلى شدة ذلك الصراع بين تياريين كبيرين سعى كل منها للانتصار على الاخر, فكانت نتجية ذلك الصراع محنة ابن رشد في اتهامه بالزندقة وحرق كتبه في الساحات العامة, والقائمة تطول في مثل هذا الباب للاتهام بالزندقة مفتوح على مصراعيه لحد الان , لكنني اقول , اتجه بنظرك نحو المغرب العربي وبالتحديد الى الجزائر ستشاهد مثالا مؤلما ًوحيا ً على مانقوله في تجسيد ذلك الصراع المرير بسيل من الدماء سببه المباشر وغير المباشرصراع المؤسسة الدينية مع المؤسسة المدنية, اللتان لا تعترفان ببعضهما البعض,لانهما لم يحددا سلطة كل منهما مع الاخر منذ البداية, وهذا يدل على ان هناك خلل بنيوي في الفكرالذي صاغ المؤسستين, ونكتفي بهذه الاشارة وسأحاول التفصيل عنهما بالتحليل الاجتماعي والتأريخي في طيات هذه البحث, عندما أستعرض بعض الاراء والتصورات الدينية و السياسة للمشكلة.
العلمانيون اللبراليون وأكثر من مئة عام في الحكم والسلطة ....
...ماذا كانت النتيجة ؟
هذا الموجز القصير والسريع الذي قدّمته لحركة الصراع بين الجانبين الديني والعلماني في امثلته القديمة الجديدة يدلنا على ان العلمانيين اللبراليين أتيحت لهم ايضا فرصة الحكم والسلطة طيلة قرن كامل من الزمان , ولم يستطيعوا ان يـّـكون مرجعية ثابتة تؤصّـل للانسان العربي والمسلم نظرته الى الدولة والمجتمع والحياة والمستقبل, والامثلة عديدة على ذلك, وبالامكان ملاحظتها بعدة بلدان عربية واسلامية ولانريد الدخول في تفاصيل تلك الانظمة الحاكمة وفشل تجاربها والتي حاولت في اغلبها ان يكون حل الاشكالية من خلال تثوير الفكر الديني ووضعه في خدمة الانسان وقضايا المجتمع السياسية والاجتماعية , لكن سقوط هذه التجارب لأسباب عدة وعلى رأس قائمة هذه الاسباب استغلال الدين والمتاجرة به من طرفي المعادله بشكل كبير, مما أدى الى خلل في فهم الذات و فهم الاخر, وكذلك أدى هذا الخلل لتكون هناك قطيعة بين تراثنا الابداعي من جهة وبين منجزات الحداثة والنهضة من جهة اخرى, ونتائج هذه القطيعة أدت بنا الى فقداننا اية بنية تحتية على مستوى العصر. وحتى نبدء بتلمس اطراف الحل للمشكلة لابد من المرور السريع على بعض التعريفات المهمة التي نحتاجها في البحث.
بعض الرؤى في و ظيفة كل من الدين والسياسة
..و حتى تكون بعض الرؤى واضحة لابد من تعريف الدين والسياسة, الدين هوالتزام كامل وتام با لتعاليم السماوية لتكامل الحياةالانسانية للانسان. أما تعريف السياسة فهي فن الممكن,او تعريف اخر للسياسة في المفهوم الغربي، يرتبط بمفاهيم الشعب والقانون والسلطة والمصلحة العامة والدولة، ويستبطن قيم الصراع والتكييف والحلول الوسط وتحكيم الواقع.
من خلال هذه التعريفات يرى اصحاب فكرة الفصل بين الدين والسياسة بأن الدين والسياسة ينفصلان عن بعضهما البعض ولكل منهما وظيفته الخاصة ولاتستطيع السياسة اداء وظيفة الدين ولايستطيع الدين القيام بوظيفة السياسة, لان الدين في رأي هؤلاء يدعوا الانسان الى الارتباط بالله, وان هذه العلاقة وحيدة من حيث ان الانسان فيها ينمو ويترعرع ويموت وحيدا ً , اما السياسة فانها تدعو الى الجمع فلا وحدة فيها,والدين سلوك وصراط فردي , بينما السياسة سعي على صراط جماعي , ويقول هؤلاء ايضا ان ازدواجية الدين والسياسة تستدعي ازدواجية القانون , وفي هذه الحالة نكون امام قانون ديني يريد للانسان السمو والتكامل في شخصيته الانسانية, وقانون مدني يريد سعادة ورفاه المجتمع , ويقولون ايضا يجب ان لاتكون القوانيين
الدينية مهما كانت عظيمة اساس القوانيين المدنية ,ومونتسكيو في كتابه روح القوانيين يقول
"القوانيين الوضعية لاتحتاج الى النصيحة والموعظة,وانما تحتاج الى المقررات لانها وضعت للافراد .اما القوانيين الدينية التي وضعت لقلوب الناس فأنها يجب ان تركز اهتمامها على الموعظة والنصيحة وتأتي المقررات في المرتبة الثانية" , وحسب مقارنة هؤلاء فالدين يعني عندهم حبل ممدود من السماء لأنقاذ المؤمنين من عبادة الالهة وعبادة الاصنام ,أما السياسة فانها حبل يمثل طرف منه كثرة من المنتخـِبين المحكومين والطرف الاخر منه قلة من المنتخـَبين الحاكمين, وبهذه الطريقة يتعلم الطرفان الحاكم والمحكوم بأن الاخذ من الافكار والرؤى المختلفة ومداراة اصحاب الرؤى الجديدة تؤدي كلها الىتحسين ظروف الحياة. ولكن الدين حسب ما يقول هؤلاء يرفض ويقف حاجز في وجه كل هذه التصورات , وعليه فأن الافكار المتناقضة والعلاقات الاجتماعية المتداخلة وضرورةالتسامح مع النظريات الجديدة ونبذ التعصب الفكري, وهذا كله يمنع الدين من التدخل في كثير من شؤون الحياة .هذه اذن الاراء التي طرحها اصحاب الفصل بين الدين والسياسة ومبررات الحاجة لهذه الفصل.
اراء فريق ثان ٍ
نأتي هنا الى ما قاله فريق اخر على ان الدين استخدمه السياسيون لخداع الشعوب وتبرير المظالم وغصب الحقوق, بحيث اصبح الدين في خدمة السياسة والسياسيين من خلال دعوة الناس لقبول الظلم والصبروالهدوء والسكينه بناءا على امل في تحسن الاوضاع والتخفيف عن الالام والمحن, وفي زعم هؤلاء ان الدين في ذلك يفتح نافدة نحو عالم الخيال بعد الموت ويمنع الناس من السعي لتحسين اوضاعهم الحياتية من خلال الجنة التي بها يوعدون .
أراء الفريق الثالث
يعتقد هذا الفريق ان السياسة تقوم على مبادئ واصول انسانية محورها الدين, وان السياسة التي تخضع لارادة الدين لايكون الحكم هدفا بعينه وانما وسيلة لتحقيق غايات كبرى وسامية لانها تسعى لمجتمع متكامل , كما ان الحكم فيه يقوم على اساس تكريم الانسان , ويتعامل الناس ضمن هذه السياسة على اساس المعايير الانسانية.
والان طرحنا بعض من هذه الاراء التي تفصل الدين عن السياسة وتلك التي تقبل الدين وتـُخضع السياسة له,
وهذا كله سيوصلنا الى الدراسة المهمة للجوانب المختلفة للتيارين, وكيف ان التيارين مقبولان ومنطقيان في جوانب ومرفوضان وغير منطقيين في جوانب اخرى ..
الحلقة الرابعة
ما وراء الواضح
من كل ما ذكرناه وسطرناه في الحلقات الثلاثة السابقة, عن الإشكالية المزمنة يدل على إن هناك هوة فاصلة, تفرض ذاتها بين الدين والسياسية, والتي يترتب عليها أو ينتج منها, عملا نقديا يتبين من خلاله الكيفية والإمكانية التي تباعد فيها كل من الدين والسياسة عن بعضهم البعض , لذا يكون النقد عملية إجرائية بنائية متكررة لفض الاشتباك الحاصل بينهما.
ولطالما هناك بعض الخلل في تراكمات الوعي الإسلامي, والذي خلق واقعا تاريخيا منحازا باتجاه كل منهما, وبما إن الدين هو الحقيقة الكاملة التي ابلغها الله إلى أنبيائه ثم أبلغوها بدورهم إلى الناس . وإن هذا الدين أيضا يُعبر عنه بواسطة فهم الناس إليه , وهذا الفهم لا يتيسر إلا عن طريق البحث والتحليل والنقد الدائم , فتصبح العملية على شكل حوار بين الإنسان والله جل وعلا , لتكون المحصلة النهائية صياغة التعبير الإنساني من كلام الله سبحانه وتعالى , ومن هنا تأتي عملية نقد العقلية التي أفرزت هذا الفهم الإسلامي أو ذاك , والتي نفترض وجود بدائل فيها عن تلك النظم والمؤسسات الدينية الموجودة , بدائل نستطيع تصحيح أو تغير ما نجده من أخطاء , لان النقد هو قناعة بوجود البديل , ولأننا نؤمن بأن الإرادة الإنسانية تمارس دورا أساسيا في صياغة تلك المؤسسات والتنظيمات,والتي من الممكن أن تكون شيئا أخر .
لذلك يكون لدينا طروحات وأسئلة تدور حول ما هو كائن , والتي ننطلق فيها من الفعالية التاريخية لكل من الدين والسياسة. باعتبار إن كثيرين ممن أسسوا و تطلعوا إلى أقامة الدولة الإسلامية , فإنهم اصطدموا بالإشكالية المزمنة أو تجاوزوها بطريقة لوي عنق الحقيقة في بناء السلطة السياسية الدينية لهذه الدولة أو تلك , بالرغم من الإشكالات الكبيرة التي أحاطت في تأصيل تلك الموقف , إذن لابد من الذهاب إلى ما وراء الواضح والى جوهر الأشياء بغية كشف الطابع الحقيقي لطبيعة هذه الإشكالية في تشكيل السؤال المهم, هل السلطة السياسية, سلطة دينية أم سلطة مدنية؟
الاقتراب نحو الحل
ولطالما ساد هذا الفهم من خلال سؤالنا السابق, ولفترات طويلة بتوحيد السلطتين, والذي روج له الخلفاء والأمراء والسلاطين وتجار الدين , والذين استبدّوا بالمسلمين , وحرّموا عليهم النظر في علوم السياسة , وضيقوا على عقول الناس , فأماتوا عندهم ملكة التفكير والبحث العلمي , حتى صاروا هؤلاء لا يرون غير الدين مرجعا حتى في مسائل الإدارة وفنونها والسياسية وألاعيبها .
وبما إن الإسلام ليس فيه سلطة تيوقراطية أو سلطان الهي , واختيار الحاكم وعزله خاضعان لإرادة الأمة , والفكرة الشائعة باقتران وامتزاج السلطتين خطأ محض على الإسلام , لان هذه الفكرة في الأصل فكرة كاثوليكية , تعود إلى أصولها وجذورها المسيحية, فمن هذا المنطلق أصبحنا نقترب قليلا في حل الإشكالية المزمنة في شكلها العام وفي جوهرها على ضوء النظرة العامة إلى السلطتين المدنية والدينية باعتبارها الأساس المفترض لقيام تلك الدولة , ولنأخذ مثالا تاريخيا على ذلك, الفتوحات الإسلامية التي لا تمثل إلا أعمالا سياسية حربية سلطوية ,لا تمت بصلة بالفكرة القائل إنها حروب دينية , وكذلك لدينا مثال أخر ينطبق أيضا على الحروب التي وقعت بين أطراف وفرق إسلامية , لم تكن أسبابها دينية وإنما أسبابها سياسية , وفي اغلب دوافعها الأساسية الاختلاف في الآراء التنظيرية والتطبيقية لطريقة الحكم , ولم تكن أسباب تلك الحروب من اجل نصرة العقيدة وإنما أسبابها الواضحة والجلية من اجل تغير آلية الحكم , وهذا دليل واضح و صريح لنظرة الإسلام في التفريق بين السلطتين.
توافق الطرفان في الحل
فكلما ظهرت قوة أيديولوجية الدين, كثر الحديث من قبل اللبراليين والقوميين والماركسيين عن تحديث المجتمع وقراءة التراث بعلمية وواقعية حتى يتسنى على حد زعمهم تفسير الإسلام تفسيرا تقدميا وحضاريا , وهذا يعني رغبة متزايدة في التحديث والتجديد, مما يؤشر ويدل على إن الأجيال وكأنها تتوارث هذا السجال الفكري المتكرر بين الطرفيين , وبما إن الإسلاميين يقبلون الحداثة والتجديد ولكن ضمن ضوابط وثوابت الإسلام وآلا سيكون القبول بكل شيء من التجديد والتحديث استلابا وتغريبا . ومع صعود التيار الإسلامي إلى الحكم في بعض البلدان ولاسيما في العراق من خلال الحركات والتنظيمات الإسلامية , إلا إنهم كنخبة سياسية كانوا يختلفون مع الديكتاتورية في العراق في انعدام المشاركة الشعبية , وعلاقة الحاكم مع المحكوم , وحقوق الأقليات , وطريقة المشاركة السياسية, لكن اختلافهم هذا لم يبرز حين استلامهم للسلطة في العراق من خلال تحكيم الدين كما كانوا يزعمون , وإنما برز من خلال الديمقراطية التي أتت مع الاحتلال الأمريكي العسكري للعراق ,أي بمعنى أخر فهم لا يختلفون عن الدكتاتورية إلا في إلية الحكم , أي هم فصلوا بين الدين والسياسة بشكلا عملي ؟
وهذا الاستنتاج يقودنا إلى القول أن لافرق بين الإسلامي والعلماني في تحقيق الأهداف السياسية , سوى إن الإسلامي ينظر إلى الإسلام من خلال عقيدته بان الإسلام يقود الحياة من خلال مسيرته , والعلماني يريد الدين فقط علاقة فردية بين الخالق والمخلوق ..
الحلقة الأخيرة
فلسفة الأهداف السياسية :
متابعة ً لما ذكرناه في الحلقة الرابعة وثبتنا فيها بعض التأصيل , أن لا فرق بين الإسلامي والعلماني من حيث تحقيق الأهداف السياسية , إلا في الاختلاف بالـنظرة , فالأول ينظر من خلال عقيدته والثاني ينظر على إن الدين علاقة فردية . الاثنان يعتقدان أن الغاية والأهداف الجيدة تـُبرر لهم استخدام الوسائل السيئة للوصول إلى ( الحكم) وهذا لا يعني أن الغاية أصبحت سيئة , بالرغم من إن تحقيقها يتطلب وسائل سيئة حتى ولو كانت تلك الوسيلة لاحتلال , مادامت الغاية والأهداف تتحرك وتعمل مع حركة التاريخ وتنتـقـل بالمجتمع من صعيد إلى صعيد تاريخي جديد أي من نظام ديكتاتوري مستبد إلى نظام تعددي ديمقراطي , شريطة أن لا تتحول هذه الوسيلة ( الحكم والسلطة) إلى غاية فتضمحل وتسقط عنها الشرعية الأخلاقية .
سياسة قارب النجاة:
وعلى ضوء هذا النظرية والسلوك المتبع نقول إن الإسلامي والعلماني في قارب نجاة واحد مع اختلاف لون المجداف الذي أبحرا فيه, ولكن يبقى الشرط قائما ً في توجيه البوصلة بيدي الشركة الناقلة. وأفضل مثل لتقريب الصورة ( السلطة العراقية الحالية) . فطبيعة الصراع الدولي والإقليمي والمصالح المتفاعلة لكل هذه الأطراف دفعت وأغرت النخبة السياسية الحاكمة في العراق , العلمانية والإسلامية منها علي حدا ٍ سواء , أن تتخذ من قارب النجاة وسيلة نقل سهلة ومجانية للفوز بالسلطة , ولكن شعبنا العراقي هو من دفع ولا يزال يدفع ثمن الفاتورة للذين اعتقدوا مجانية النقل بحسن نيةٍ أو بخبثٍ سياسي, وهؤلاء لم يكترث للدماء العراقية البريئة , وليس في ذهنهم إلا المحاصصة والاستحواذ على السلطة بأية طريقة كانت , والتي من خلالها استطاعوا الخلط والمزج بين السلطتين الدينية والسياسية ً بنموذج ٍ جديد ٍ ( ناجح ) بحسب ظنهم. وهذا(النجاح ُ)أتى بفضل ديمقراطية الفوضى الخلاقة وديمقراطية القتل والدمار للشعب العراقي , والتي للأول مرة يتعرف الشعب العراقي على نموذج الخليط والتمازج بين هاتين السلطتين الدينية والسياسية في زمن الاحتلال الأمريكي للعراق في نيسان / عام ( 2003 ) بعد أن كانت هذه الأحزاب الإسلامية والحركات الحاكمة ذاتها ترفض رفضا ً قاطعا ً أي مشروع للحكم المشترك مع بعضها البعض!!! وكأني بلسان حال تلك الأحزاب يقول .. وداعا ً أيتها المبادئ !!
مصدر السلطة الدينية والسياسية :
ولنتفحص المرجعيات والحركات والأحزاب الإسلامية من حيث المصدر الذي تعتمد عليه في تشخيص هاتين السلطتين الدينية والسياسية, ولنبدأ أولا بالحديث عن مصدر السلطة الدينية. فكما هو معروف فأن مصدر هذه السلطة هو الله جل جلاله , والسلطة الدينية كما تطرح نفسها ممثلة و متصلة في الغيب من جهة المصدر والغاية . وكذلك يعتقد أصحاب هذا الرأي بان السلطة الدينية تتأرجح في التنافس والتنازع بين الحركات والأحزاب الإسلامية من جهة وبين المرجعيات الدينية من جهة أخرى كما نراه حاصل في الوقت الراهن. وقد تجلت هذه الصورة بشكلها الفاعل والقوي في الانتخابات العامة العراقية لسنة (2005) والتي في حينها أُقحمت المرجعيات الدينية بشكل فاعل ومهيمن في كسب وتجاذب أصوات المقترعين , والتي امتدت تأثيراتها الدعائية إلى إلزام المقترعين بالتصويت لقائمة معينة دون غيرها , والا فأن مصير مَنْ لا يشاركوا ولا ينتخبوا تلك القائمة الويل والثبور في الدنيا والآخرة .
المرجعيات الدينية ولاية الفقيه:
المثل الأخر الواضح قد تجسد عند الجارة الشرقية للعراق , الجمهورية الإسلامية الإيرانية , فان مرجعياتها الدينية طرحت مشروعها في الحكم على انه الممثل الشرعي لهذا المصدر الغيبي على الأرض وحسمت أمرها باتخاذ منهج ولاية الفقيه في الحكم والسلطة, لذلك كان الاندماج كاملا وطبيعيا ً بين السلطتين الدينية والسياسية في آلية نظام الحكم , وهذا ما أفرزته بالفعل التجربة الإيرانية على مدى أكثر من عقدين من الزمان والى يومنا هذا . فإيران دولة إسلامية ومضمون الحكم والسلطة فيها ديني وتعتبر إن الدين أساسا شاملا لجميع ميادين الحياة , وتكون السلطة الدينية فيها مستوعبة للسلطة السياسية . أما في العراق على ما يبدو ليس هناك من عامل ٍ حاسم ونهائي لحل الإشكالية المزمنة, وذلك لعدة أسباب منها طبيعة الحوزات الدينية في العراق ,
والتي يتراوح اعتقادها وعملها بين التصدي الفعلي والكامل لمشروع السلطة وتحكيم الإسلام وحل الإشكالية ضمن هذا التصور , وكان رائد هذا التوجه الإسلامي الشهيد المرجع آية الله السيد محمد باقر الصدر( رض ), والتحق به بنفس المنهج والخط والريادة الشهيد المرجع آية الله السيد محمد محمد صادق الصد( رض ) .
أما التصور والاعتقاد الأخر لبعض المرجعيات التي تفضل الانكماش والابتعاد عن السلطة بكل مفرداتها والاكتفاء بالشكل النظري للإسلام عن طريق النصح والإرشاد تارة والسكوت تارة أخرى . وهذا يدلنا على إن الطرفين قد تلمسا الشكل الواضح لمصدر السلطة بكامل أبعاده , بالرغم من الاختلاف في الطريقة والمنهج عند بعضهم البعض الأخر, و كذلك الاختلاف عند معظم الاتجاهات والديانات الأخرى , و يبقى السؤال المهم والعالق , هل هناك من اتفاق على مرجعية دينية واحدة بين كل هذه الاتجاهات والديانات على من يتولى هذه السلطة من بني الإنسان ؟ وما هي تلك المعايير والمواصفات لذلك الإنسان الممثل لهذه السلطة على الأرض, وماهية هذه السلطة ؟ و ما هي الطريقة والكيفية التي تنتقل بها السلطة إلى الإنسان ؟ وما هي الفترة الزمنية التي يحق للإنسان فيها الاستمرار بالسلطة ؟ وهناك أسئلة وتفاصيل تطول وتطول في هذا الخصوص وتمتد إلى مالا نهاية , وهذا مما لا غرض لنا في بحثه الآن.
فلسفة ومصدر السلطة عند اللاديني :
أما الفريق الثاني اللاديني العلماني فمصدر السلطة السياسية عنده يتحدد في عالم الإنسان من دون النظر إلى ما فوق هذا الإنسان . وهذا الإنسان لا يحتاج بالضرورة إلى بحث ميتافيزيقي خارج عالمه . لان السلطة السياسية كما يقول أصحاب هذا الرأي سلطة دنيوية من ألفها إلى يائها, إذ إن مصدرها لا يتعدى طبيعة الوجود الاجتماعي , وغايتها لا تتعدى الشرط الاجتماعي لسعادة الإنسان في الدنيا . وبهذه النظرة الفلسفية استطاع الإنسان أن يخترق التصور المهيمن على نطاق الأطر الحياتية على الصعيد السياسي والتي كان يعتقد الإنسان حينها ,إنها مقدرة له من قبل نظام الخلق والتكوين , وكان الطابع القدري المحتوم هو المسيطر على عقلية صناعة الفكر السياسي للسلطة , وبعد انهيار النظام الكنسي في عصر التنوير بدأت التحولات الجديدة في الغرب و بدء التحرر من القيود والأغلال الفكرية القديمة و بناء المنظومة السياسية الجديدة بعيدا ً عن الميتافيزيقية للفكر الكنسي وبعيدا ً عن أرباب الكنيسة وثيابها المقدسة . و إن هذا الفريق وهذه الفلسفة جعلت من الإنسان مركزا ً للخليقة ومصدرا ً للتشريع وغاية ً للتطور.
الـنــتيـجـــة :
لقد هدفنا من خلال هذا البحث , طرح اغلب السبل المؤدية إلى فهم الإشكالية بطبيعتها المعقدة والشائكة , وحاولنا بكل جهد أن نفكك هذه الظاهرة لإعادة تركيبها , والقينا نظرة فاحصة حول أهم المقومات والمبررات لوجود السلطة السياسية في الفكر الإسلامي, اخذين بنظر الاعتبار الخصائص العامة للدين كظاهرة تاريخية , وكذلك التداخل بين الدين والسياسة ضمن التركيبية الاجتماعية والثقافية لكل مجتمع . وبعبارة أخرى إن فض الاشتباك الحاصل بين الدين والسياسة , من خلال التطور المنطقي في فهم التحولات الكبرى بكافة محاور الحياة العلمية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية .
وتعرضنا بالشرح والتفصيل لتيارين تجاذبا التصدي بين القبول والرفض للدين في بناء السلطة السياسية بين دولة القانون ودولة الفتوى . ثم بعد ذلك مررنا بشيء من التفصيل على بعض الرؤى في وظيفة كل من الدين والسياسة , والكيفية والطريقة التي يفترق فيها الدين عن السياسية لاعتقاد وظن هذا الفريق بان الدين استخدمه السياسيون لخداع الشعوب وتبرير المظالم وغصب الحقوق , وبين الفريق الأخر الذي يعتقد إن السياسة تقوم على مبادئ وأصول إنسانية محورها الدين, وان السياسة التي تخضع لإرادة الدين لا يكون الحكم هدفا بعينه وإنما وسيلة لتحقيق غايات كبرى وسامية لأنها تسعى لمجتمع متكامل . وتابعنا الحديث عن التلازم بين وجود الدولة ودعوة الإسلام لتطبيق شرع الله بحيث لا يمكن الفصل بينهما في التصور الإسلامي . وختام البحث كان التعرض بشيء من التفصيل لمصدر السلطة عند الطرفيين .
المصدر:
http://www.annabaa.org/nbanews/67/469.htm