تجارة الكوكايين، المسألة المهملة في متاهة الساحل الافريقي
نعمة تثري العصابات المسلّحة والسياسيين الفاسدين
في تشرين الأوّل/نوفمبر العام 2009 أقلعت طائرة من نوع بوينغ 727 من فنزويلا لتحطّ في تاركنت، المحلَّة القريبة من غاوو في شمال شرق مالي. كانت تنقل ما بين خمسة وتسعة أطنان من الكوكايين، لم يتمّ قطّ العثور عليها لاحقاً. فبعد تفريغها، ثمّ محاولة إقلاع فاشلة، احترقت الطائرة. وقد تبيَّن في التحقيق أنّ عائلة لبنانية ورجل أعمال موريتانيّ، جنوا ثروتهم من تجارة الماس الكونغوليّ، كانوا بين مدبّري العملية.
فكيف يمكن لطائرة بهذا الحجم، بل حتّى للطائرات الأصغر، ومع هذه الكمية من الكوكايين أن تعبر إلى منطقة، صحراويّة بالطبع، إنّما مأهولة ومحكومة؟ بحسب محلّلٍ سياسيّ فرنسي متخصّص في شؤون الساحل، رغب في التكتّم على اسمه، أنّ وزيراً وبعض أصحاب المناصب الكبيرة في الجيش وجهاز الاستخبارات، من المقرّبين إلى الرئيس السابق أمادو توماني توريه (ATT)، إضافة إلى بعض النواب الآتين من شمال البلاد، متورّطون في الموضوع. ويكشف مخبرنا "أنّ هذا هو الموضوع الحساس. لأنّه يمسّ بصلب الحكم. فمع نهاية نظام أمادو توماني توريه فقد ضبّاط كبار من الجيش المالي ومن الاستخبارات، من الذين ارتبطوا بهذه التجارة، كليّاً شرعيّتهم. وهذا أحد أهم الأسباب التي جعلت رجالاً من الجيش وضبّاط صغار يشاركون في الانقلاب العسكري في آذار/مارس العام 2012. فأصحاب الرتب العالية كانوا يملكون سيّارات ما كان بإمكانهم دفع أثمانها، حتّى وإن اختلسوا كلّ موازنة الجيش".
يشدّد هذا المحترف الذي كثيراً ما يزور الساحل قائلاً: "تحقّق هذه التجارات أرباحاً كبيرة، منها أموال الدعم في الانتخابات، وشراء العقارات عبر تبييض الأموال... والكثير من الشخصيات السياسيّة تتعامل مع المهرّبين. وإن كان أحد العسكريين متحمّساً جدّاً وأوقف الموكب، يتلقى اتّصالاً هاتفيّاً من رئيسه مع أمرٍ بالسماح بالمرور. هذا ما حدث على الحدود مع غينيا، في زمن عثمان كونتي، ابن الرئيس الغينيّ، الذي أوقف بسبب الاتّجار بالمخدرات... تغاضى أمادو توماني توريه عن الموضوع، وترك الأمور تقهقر. وبالتالي كان النظام الماليّ أحد أكثر الأنظمة فساداً في إفريقيا الغربية".
عامل رئيسي من عوامل انعدام الاستقرار
وقد عرض سيمون جوليان [1]، الباحث الفرنسي المتخصّص في شؤون الساحل، بالتفصيل المنافسة التي كانت حاصلة في الشمال الماليّ، قبل العام 2012، بين بعض السكّان الذين كانوا يستقطبون هذا الريع والآخرين الذين كانوا محرومين منها. فقد موّل النظام بسخاء، ومن أرباح المخدرات، الكثير من المجموعات المعارضة للطوارق الإيفوغا، حيث كان يأمل بخنق حركة تمرّد هؤلاء الطوارق. لكنّه أخطأ حساباته. إذ سرّع تدفّق الأسلحة من ليبيا والمقاتلين الإسلاميين تقسيم مالي. ولا يجب الاستخفاف بوزن أموال المخدّرات في زعزعة كلّ هذه المنطقة الواسعة.
في لاغوس العاصمة الاقتصادية لنيجيريا، تمّ تفكيك أوّل مختبر غير شرعيّ لصنيع الأنفيتامين والميتانفيتامين في حزبران/يونيو العام 2011. وفي الرأس الأخضر، في تشرين الأول/أكتوبر من السنة نفسها، ضبط 1,5 طن من الكوكايين على شاطئ جزيرة سانتياغو. وفي حزيران/يونيو العام 2010، تمّ اكتشاف طنّان من المسحوق الأبيض في مستودعٍ لصيد القريدس في غامبيا. وفي نيسان/إبريل العام 2011، تمّت في كوتونو مصادرة 202 كيلوغرام من الهيرويين في مستوعبٍ بحريّ آتياً من الباكستان، وعلى ما يبدو كانت وجهته نيجيريا. وإذا كانت زهرة الخشخاش، وهي نبتة التخدير الوحيدة غير القانونية التي تنتج في المكان، تبقى المخدّر الأكثر انتشاراً، فهي مخصّصة فقط للاستهلاك الداخليّ. أمّا المخدرات المصنّعة، مثل الكوكايين والهيرويين، فهي تتوجّه إلى أسواقٍ أبعد، إلى أوروبا واليابان، بل حتّى إلى الصين.
منذ العام 2004 أصبحت إفريقيا الغربية قاعدة مهمّة لتجارة الكوكايين وتخزينه وتوزيعه. وهي تؤمّن للسوق الأوروبية ما بين ثمن وربع استهلاكها، ما معدّله 21 طنّاً من أصل 129 طنّاً في العام 2009، بحسب مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة (ONUDC). فمع القرب الجغرافي ما بين بلاد الإنتاج والمتلقّين النهائيين، ورخص الكلف اللوجستية واليد العاملة، وضعف أعمال الرقابة في الجهازين الردعي والتشريعي، والفساد المستشري الضئيل الكلفة، والافلات المعمَّم من العقاب: يوفّر هذا كله لتجار المخدّرات الدوليين مروحةً من المنافع في إفريقيا الغربيّة تتحدّى المقارنة مع كل أشكل المنافسة.
هذا "المستودع" الجديد الواقع في منتصف الطريق ما بين أميركا الجنوبية وأوروبا، يستقبل المنتجات من الدول الأولى في العالم من حيث زراعة ثم تصنيع الكوكايين، وهي كولومبيا والبيرو وبوليفيا. وهو يسمح بتموين أوروبا ثاني سوق إستهلاكية للكوكايين في العالم، والتي قدّرت بـ33 مليار دولار في العام 2012، أي أقلّ بـ4 مليارات فقط عن السوق الأكثر ربحاً، أي أميركا الشمالية. وقد فرض الكوكايين نفسه المخدّر الثاني الأكثر استهلاكاً في أوروبا وراء حشيشة الكيف، إذ أضحى عدد متعاطيه 4,1 مليون شخص في العام 2008، أي أقلّ من واحد في المئة من الأوروبيين.
تعتبر الكثير من المنظمات الدوليّة، مثل الـONUDC والهيئة الدوليّة للرقابة على المخدّرات OICS، أن هذه التجارة المزدهرة هي عامل رئيسي في زعزعة الاستقرار في إفريقيا الغربية. وقد فاقمت الأزمة الاقتصادية، إضافةً إلى السياسات التي فرضها صندوق النقد الدولي، من لاشرعية غالبية السلطات. إذ كان المال فيها يشتري كلّ شيء، مسبقاً وقبل أن يلوح فيها شبح أوّل طنّ من الكوكاين. إلاّ أنّ تمركز مجرمين يعملون على المستوى الدولي، ويحرّكون مبالغ هائلة، قد زاد الأوضاع تدهوراً.
ويوضح السيد بيار لاباك، مدير مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة لمنطقة غرب إفريقيا أنّ "للجريمة المنظّمة العابرة للدول مقاربة تجارية، إذ تسعى إلى الأكثر مردوديّة بأقلّ درجة من المخاطر. ويفتش التجّار دوماً عن الطرق الفضلى، أي تلك التي تسمح لهم فيها لعبة نفوذهم، من التهديد بالقتل إلى الجريمة مع الفساد، بالتنقّل بحرّية". وتجارة الكوكايين، في مقارنة قيميّة مع تجارة النفط والسلاح، هي من الأكثر تأميناً للأرباح. ففي العام 2012 كان لها وزنها الضاغط في المنطقة، حيث حقّقت أرباحاً بقيمة 900 مليون يورو، منها 400 جرى تبييضها وإنفاقها في مكانها... في ما خصّ حوالى ثلاثين طنّاً من الكوكايين فقط، بحسب مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة في داكار (السنغال). وللمقارنة، فإنّ موازنة غينيا بيساو نقطة العبور المهمّة، لم تتجاوز في السنة الماضية 177 مليون يورو.
وتبرز الكوكايين بين المنتجات الأكثر إدراراً للقيمة المضافة: ففي حين يتراوح ثمن شراء الكيلوغرام الواحد منه في مناطق إنتاجه ما بين 2000 و3000 يورو، فهو يساوي 10 آلاف في المدن الواقعة على واجهة الأطلسي، و12 ألفاً في عواصم الساحل الإفريقي، و18 إلى 20 ألفاً في مدن شما إفريقيا، وما بين 30 و45 ألفاً في الحواضر الأوروبية، بحسب الأخصّائي الفرنسي في شؤون الساحل المذكور أعلاه. وهذه الأسعار هي أسعار الجملة، خاصّة بمنتَج تتناقص درجة نقاوته على طول الدورة التي يقوم بها.
الأزمة في مالي تضرّ بالأعمال
في نظر الشرطة ورجال الجمارك والقضاة في غرب إفريقيا، إنّ مكافحة هذه التجارة هي من المستحيلات؛ فالهوّة ما بين الإمكانات التي تملكها هذه المؤسسات وإمكانات شبكات التجار تبدو عميقة جدّاً. ولا تملك الشرطة في غينيا بيساو أحياناً حتّى ما تملأ به خزانات الوقود في سيارات الدورية القليلة عندها... وفي ذلك ما يحبط الأكثر حماساً من الإرادات. أضِف أنّ الجمعيات الإجرامية تعتمد على شبكات إتنية أو ثقافيّة، وعلى جماعات المهاجرين القويّة (النيجيريون مثلاً)، وعلى روابط اللغة أو المصالح على الأقلّ. وفي أغلب الأحيان يجتمع عشرات الأفراد للقيام بــ"ضربة" أو اثنتين أو ثلاث، ثم يفترقون أو يلتقون مجدّداً... أو يتقاتلون فيما بينهم.
تمتدّ طويلاً طرق المخدرات، وهي متغيّرة ومتعدّدة بتعدّد المصدّرين والمستوردين والوسطاء والعملاء الجمركيين "والمتعاملين". وكلّ المسارات وكل ّالأنماط التشغيلية تعمل؛ فهي تتراكب وتتلاحق للمزيد من الفاعليّة والمردوديّة. إنها شبكة. ومن أميركا الجنوبية إلى أوروبا عبر إفريقيا، الكميّة نفسها من الكوكايين يمكن تسفيرها بالطائرة والسيارة والسفينة. وبما أنّ النقل البحري هو الأكثر اعتماداً في العالم، فهو يُستعمَل على نطاقٍ واسع في نقل الكوكايين بين أميركا اللاتينية وإفريقيا. ومن التفاصيل التي يرويها السيّد لاباك أنّه "في السنوات الاثنتين أو الثلاث الأخيرة، كان هناك المزيد من الطائرات بمحرّكين التي تهبط في إفريقيا الغربية على مدارج مهجورة، أو أنّها تقوم بعمليات إسقاط عن علوٍّ منخفض. ثم تُجمَع الحمولات فيما بعد من قبل فرق على الأرض. إلاّ أنّ التجارة البحرية أو على "البغال" [2] لم تتوقّف. وبين العامين 2006 و2008، اعتمدت أكثر قوارب الصيد. وحالياً تُعتمد المستوعبات".
والطريق الأقصر الذي يربط أميركا الجنوبية بإفريقيا عبر الأطلسي يتبع خط العرض العاشر الموازي لخط الاستواء، وهو عبارة عن "شريطٍ" على المحيط تسلكه يومياً آلاف سفن شحن البضائع أو الصيد، والقوارب الشراعيّة أو المراكب السياحيّة. قوات الأمن الأوروبيّة والأميركية التي ضبطت عليه كميّات كبيرة من المخدّرات تسميه "الطريق السريع 10".
تفرّغ المستوعبات التي تخبّئ الكوكايين على الأخصّ في المرافئ الدوليّة التجارية في لاغوس أو لومي، في توغو. أمّا مراكب الصيد، فهي تنقل بضائعها على مراكبٍ سريعة go fast أو مراكب بطيئة بحريّة go slow وقوارب آليّة، ومراكب جذعيّة hors-bord وشراعية تقترب من شطآن غير مأهولة كثيراً بين شجر المنغروف، على السواحل المتقطعة عن الواجهة الأطلسية في غرب إفريقيا.
أمّا "البغال"، وهي الطريقة العملية المفضّلة لدى المهرّبين النيجيريّين، فهم ينقلون المخدّرات في الحقائب أو تحت ثيابهم أو في شعورهم المستعارة... أو حتّى في معدتهم، في مغلّفات صغيرة أو عبوات المساحيق. وهم ينزلون بشكلٍ عام في مطارات دوليّة في المنطقة، في داكار أو في العاصمة الماليّة باماكو. في حين تحطّ الطائرات ذات المحرّكين على مدارج مرتجلة أو مهملة، كما حدث في شمال مالي وفي غينيا بيساو، وحتّى على أراضٍ رسميّة.
الكوكايين الصافية، المقطّعة، على شكل خبزة أو حبّات الحلوى أو مسحوق، أو سائل، موضوعة على الأرضيّة في حقائب رياضية، حاضرة للتحميل، أو مدسوسة في السمك المجلّد: هكذا تتغير طريقة تخبئتها ووعائها وشكلها بحسب طبيعة الرحلة.
المسحوق المسلَّم في إفريقيا الغربية، الذي غالباً ما يخزَّن ويعاد توضيبه، يسلك بعدها وجهة الأسواق الأوروبية، على الأخصّ عن الطريق العابرة للساحل وللصحراء الإفريقية، من موريتانيا إلى مالي، فالنيجر، فالتشاد، نحو ليبيا ومصر. حتّى الحشيش المغربي يسلك هذا الطريق العتيق. وذلك لدرجة أنّ بعض شباب التوبو - وهم مرتزقة من هذه الإتنية البدويّة نصف الرحّالة في الساحل الشرقيّ، عادوا من ليبيا بالأسلحة والمال - لا يتردّدون في تفتيش سيارات الدفع الرباعي البالغة التجهيز التي تخترق الصحراء. وعندما تنجح عملية السلب هذه، يتقاسمون البضاعة والأرباح إذ عندهم دوائرهم الخاصة لإعادة بيع المخدّرات. هكذا يروي رجل سياسة نيجيريّ طلب عدم ذكر اسمه: "ينال كلّ واحد حصّة بحسب مساهمته. شخص وحده يحقّ له بحصة؛ وشخصٌ مع بندقية يكسب حصتين، والسيارة تساوي عشرة أشخاص، أي عشر حصص وهكذا دواليك. وللسلاح الثقيل نسبته أيضاً من الحصص" [3].
انقلاب عسكريّ في غينيا-بيساو
وما كانت نتائج تمركز بعض المجموعات في شمال مالي، مثل حركة التوحيد والجهاد في إفريقيا الغربية (Mujao) وتنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي (AQMI) او أنصار الدين؟ تنظيم القاعدة وحركة التوحيد والجهاد [4] يشاركان في هذه التجارة، وهما يقتطعان نسبة العشر من مواكب الكوكايين التي تجتاز الأراضي التي يهيمنان عليها، ومقابل المال، يؤمنان حمايتها [5]. وإذا كان تنظيم القاعدة لا يستفيد من مداخيل المخدرات كثيراً - إذ إنّ تجارة الرهائن تعطيه أكثر - فلا ينطبق هذا على حركة التوحيد والجهاد. لكن للمفارقة، لم يسهّل تقسيم البلاد الأعمال. وهذا ما يحلّله أخصائينا في شؤون الساحل الافريقي: "إذا كان للمهرّبين مصلحة في وجود دولة ضعيفة، فإنّ انعدام التنظيم كلّياً يصبح خطراً. فمن دون دعم موثوق داخل الجيش والشرطة، أو من قبل رجال السياسة المحلّيين وعلى المستوى الوطني، لا يمكن ضمن سلامة حصص الكوكايين. وحتى لو تمّ عقد اتفاقات مع جميع المجموعات الجهاديّة والحركة الوطنية لتحرير أزواد في الشمال، فأنت معرّض للنهب". ولهذه الأسباب، قرّر المهربون أن يقيموا في النيجر المجاورة: "هكذا تتشكّل الشبكات في أرليت أو أغاديز. وبات هناك عدد متزايد من المهرّبين الذين ينتقلون من مالي إلى النيجر"، بحسب ما صرّحت الشخصية الرسمية النيجيرية المذكورة أعلاه.
وهناك بلد، لا يعمل على طرد تجار المخدّرات، بالرغم من الخضّات التي تحصل فيه: وهو غينيا-بيساو. إذ أنّ هذا البلد، الذي يحتل المرتبة الخامسة عشرة بين الدول الفاشلة، تماماً وراء نيجيريا، بحسب مؤشر Failed States Index 2012، يعتبر أحد أهم مراكز تجارة الكوكاين في إفريقيا الغربيّة. ففي العام 2007، قدّرت وكالة مكافحة المخدّرات الأمريكيّة Drug Enforcement Administration (DEA) أنّ كميّة تتراوح بين 880 و1000 كيلوغرام من الكوكايين تدخل أراضيه في كلّ ليلة عن طريق الجو. وقد جرى تأجير المهرّبين بعض المنشآت المرفئيّة الجويّة أو البحريّة، وحتى بعض الجزر، وذلك بعلمٍ من الحكومة التي تحيل المسؤولية على الجيش.
ويروي أخصائي فرنسي في شؤون هذه البلاد أنّه "في كلّ القضايا التي حدثت تقريباً في العامين 2006 و2007، عند ضبط طنّ أو اثنين من الكوكايين، لم تجرِ أيّ ملاحقة. وحتى عندما يحدث ذلك، لا تصدر أيّ إدانة. ففي غينيا-بيساو تقوم التجارة نتيجة مفاوضات بين الجيش والسلطة المدنيّة. فيقول العسكر: "المدنيّون ببذّاتهم الرسمية وربطات العنق في سياراتهم من الدفع الرباعي الضخمة، يأكلون أموال صندوق النقد الدولي والمؤسّسات الدولية. ونحن حصّتنا هي تجارة المخدرات!". وإذا كانت الأرباح المتحقّقة للجيش تؤمّن له نوعاً من الاستقلالية عن السلطات الرسميّة، فإنّ المخدرات هي بالنسبة إليه موردٌ من موارد أخرى: "فهناك أيضاً السيطرة على رخص الصيد مثلاً، والقوارب الجذعية الكبيرة إلى جانب سفن الشركات الدولية. وذلك ما بين النهب وفرض الخوّة"، بحسب حكم أحد الباحثين.
وبعد فترة هدوء دامت منذ العام 2008، لاحظ ضبّاط من دوائر مكافحة المخدرات الأوروبية في مطلع العام 2012 وصول عدّة أطنان من الكوكايين، دوماً بالتواطؤ مع العسكريين، ومنهم رئيس الأركان، السيد أنطونيو إندجاي، وقائد سلاح الجو، السيد إبراهيما بابا كامارا. وهناك مدارج للهبوط في قلب غينيا-بيساو، وأحياناً طرقات تستعمل كمهابط. ويؤكّد المصدر نفسه قائلاً: "يؤمّن الجيش الحاجات اللوجستية وحماية الطائرات، مثل المهابط والمحروقات وأمكنة التخزين، إلخ. وهو في ذلك مثل شركة النقل السريع DHL [6]! لا يشارك لا في تنظيم تجارة المخدّرات، ولا في إعادة بيعها، هو فقط مقدِّم خدمات".
بالنسبة إلى هذه العمليات، عقد مهرّبو الكوكايين الدوليّون، وخصوصاً الأميركيون الجنوبيّون، والقادة المدنيّون والعسكريون في غينيا بيساو تحالفاً على أعلى المستويات. فالسيد كارلوس غوميز الصغير (كادوغو Cadogo)، رئيس الحكومة السابق في غينيا-بيساو، الذي اعتقل بعد الانقلاب العسكري في نيسان/إبريل العام 2012، قد اشتُبِه به على أنّه كان يغطّي هذه التجارة ويستفيد منها. ويقول المحلّل متذكّراً: "تعود الشكوك في غوميز إلى العام 2008 عندما اختفت سفينة مع حمولتها. فاتُّهِم بأنّه كان وراء الحادث، الذي لم يتابع لاحقاً". وماذا عن الانقلاب العسكريّ الأخير؟ يقول السيد لاباك شارحاً: "لم يكن كلّ شيء مرتبطاً بتجارة المخدرات، لكن هذا عنصرٌ يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار. فكلّ من يعوّق حسن سير الأعمال يتمّ استبعاده". في العام 2011 أزاح إندجاي منافسه، العميد البحري خوسيه أميريكو بوبو نا تشوتو، قائد سلاح البحرية آنذاك، مصادراً بذلك السلطة على المرافئ. وإ كان اسم "بوبو" مدرجاً آنذاك على اللائحة السوداء للأشخاص الذين تعتبرهم الولايات المتحدة مرتبطين بتجارة المخدرات على الصعيد الدولي، فقد أطلق سراحه في الانقلاب العسكري العام 2012، لكن يبدو أنّه خارج الدائرة حاليّاً. ويبدو أنّ رئيس هيئة الأركان في الجيش، المقرّب من السيد غوميز الصغير (جونيور)، قد التحق بالانقلاب في اللحظات الأخيرة، مدركاً أنّه من الأفضل له أن يكون مع جماعته، العكسريين، في نوعٍ من تجمّح مراكز قوى يسمّي الرئيس بنفسه.
وانقلاب العام 2012، الذي جرى بتشجيع من معارضي "كادوغو"، مدعوماً من القاعدة في الجيش، له أسبابٌ أخرى غير تجارة الكوكايين، منها التهم بتزوير الانتخابات، والتوتّرات التاريخية بين الجناحين المدني والعسكري في الحكم، ةمطالب جماعات البالانت، وهم الإتنية ذات الغالبيّة في الجيش، والمطالبة بالمزيد من الاعتراف من جانب بيساو، العاصمة المستقلّة. وكان هناك تأثير كبير خاصّ للخشية من إصلاح القطاع الأمنيّ (RSS) الذي كان ينوي السيد غوميز القيام به، وهو إصلاح ما كان العسكريون يريدونه لأنّه يحيلهم حكماً على التقاعد ويوقعهم حتّى في البطالة مع ضمانات ضئيلة (علاوات زهيدة وعروض لإيجاد وظائف أخرى غير مقنعة كثيراً). وبعد انقلاب نيسان/إبريل العام 2012، بدا أنّ تجارة الكوكايين قد تباطأت قليلاً بفعل حالة الفوضى التي سادت، وهي نزعة تظهر عند كلّ حالة اضطراب جدّية. وفي ذلك سبب إضافيّ كي لا يعزى الانقلاب العسكري في غينيا بيساو إلى تجارة المخدّرات وحسب.
تهريب النفط في نيجيريا
وإذا كان ممّا لا ريب فيه أن الكوكايين قد أصبحت مصدر الربح الجديد لبعض النخب الإفريقية الغربية الحاكمة، كما تمثّل زراعة حشيش القنّب تجارة بديلة للمزارعين في القارةّ، إلاّ أنّه يجب التخفيف من حجم تأثيرها على النزاعات ذات الحجم الوطني. أموال الكوكايين تغذّيها، لكن لا يبدو أنّها تشكّل فيها الرهان الرئيس. بالتأكيد إنّ السيطرة على تجارة المخدرات والأراضي التي تمرّ فيها هي في قلب التنافس وتسوية الحسابات بين السيد إندجاي و"بوبو" في غينيا-بيساو، أو بين الطوارق وسائر السكّان في شمال مالي قبل العام 2012. إلاّ أنّ العسكريين والمدنيين في غينيا-بيساو، كما الفريق الجديد القائم في باماكو، يستخدمونها بنوعٍ خاص كأداة لتحقيق أهداف سياسية.
لا تتعلّق الاختلاسات في قمّة سلطة دول إفريقيا الغربيّة فقط بتجارة الكوكايين. فالمخدّرات، التي تصوَّب عليها الأنظار من جرّاء انعكاساتها الصحية وتأثيرها على المجتمعات الأوروبية، تسفسح مثلاً المجال لكي تحال إلى الدرجة الثانية المساهمة في عدم الاستقرار الناتجة عن تهريب النفط المقبول اجتماعياً أكثر في غرب نيجيريا. كما أنّها تساعد الدول على تبرير سياساتها القمعيّة إزاء تجّار الشارع ومروّجي هذه المواد السامة، مع إبداء حالة جمود كلّي في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية.