د. محمود خليل
مقدمة
أثرت المتغيرات التي صاحبت العولمة على مفهوم السيادة الوطنية ونطاق تطبيقه في المجالين الداخلي والخارجي على حد سواء. وقد أثارت تلك المتغيرات تحديات طالت كل أنماط الدول، وطرحت نفسها بأشكال مختلفة على تلك الأنماط. وكان لتلك التحديات مصادرها الداخلية والخارجية، التي أثارت بدورها الحاجة إلى رصدها وتحليل مدى تأثيرها على مفهوم السيادة.
وبشكل عام، يمكن القول أن هناك علاقة طـردية محتملة بين المتغيرات التي صاحبت العولمة وتقلص السيادة الوطنية، وأن هناك علاقة طردية محتملة بين تأثر سيادة الدولة بمتغيرات العولمة والتغير في مضمون الوظائف التي تقوم بها الدولة. كما يمكن القول أيضا أن هناك علاقة عكسية محتملة بين تقدم الدولة ومدى تأثرها بمتغيرات العولمة.
وفي هذا الإطار، تعالج الدراسة إشكالية العلاقة بين العولمة وسيادة الدولة من خلال أربعة أقسام. يحاول القسم الأول تقديم تعريف لمفهومي العولمة والسيادة، بينما يتضمن القسم الثاني عرضا لمجموعة المتغيرات التي صاحبت العولمة، والتي أدت إلى الربط بين مفهومي العولمة والسيادة الوطنية. ويعرض القسم الثالث للتأثيرات السلبية والإيجابية للعولمة على سيادة الدولة. وأخيرا، يقدم القسم الرابع رؤية مستقبلية لمفهوم السيادة الوطنية في ظل ظاهرة العولمة.
أولا- تعريف مفهومي العولمة والسيادة وتطورهما
1- العولمة :
تبدو صياغة تعريف دقيق للعولمة مسألة شاقة، نظرا لتعدد تعريفاتها، وتأثر تلك التعريفات بالانحيازات الأيديولوجية للباحثين واتجاهاتهم إزاء العولمة رفضا أو قبولا. إلا أن هناك اتجاها عاما يعرف العولمة باعتبارها مجموعة من العمليات التي تغطى أغلب الكوكب أو التي تشيع على مستوى العالم. كما تتضمن العولمة من ناحية أخرى تعميقا في مستويات التفاعل والاعتماد المتبادل بين الدول والمجتمعات التي تشكل المجتمع العالمي. وهكذا تتضمن العولمة بعدين رئيسيين، الأول هو الامتداد إلى كل أنحاء العالم، والثاني هو تعمق العمليات الكونية(1). غير أن أهم ما يتضمنه مفهوم العولمة هو عولمة الإنتاج والتبادل والتحديث في ظل تنامي الابتكارات التكنولوجية والمنافسة بين القوى العظمى(2).
وقد برز مفهوم العولمة في البداية في مجال الاقتصاد، وكنتاج للثورة العلمية والتكنولوجية التي مثلت نقلة جديدة لتطور الرأسمالية العالمية في مرحلة ما بعد الثورة الصناعية التي ميزت القرنين السابقين. فالثورة الصناعية بشكلها التقليدي ظهرت في منتصف القرن الثامن عشر في إنجلترا ومنها إلى القارة الأوروبية، حيث أدى التطور في استخدام الطاقة (البخار والكهرباء) إلى تغير جذري في أسلوب وقوى وعلاقات الإنتاج. وأدت هذه التغيرات المتلاحقة إلى الخروج من عصر الإقطاع وبداية مراحل التطور والتوسع الاقتصادي التي استلزمت بدورها الحصول على الموارد الطبيعية وفتح الأسواق العالمية، فارتبط بتلك المرحلة ظاهرة الحروب الأوروبية والاستعمار الخارجي بهدف توفير احتياجات الرأسمالية الصاعدة . وإذا كانت هذه الظواهر قد ارتبطت تاريخيا بمراحل التطور المختلفة للرأسمالية العالمية، فإن استمرار التطور التكنولوجي، وثورة المعلومات والاتصالات التي صاحبته، والتي شكلت فتحا جديدا في نمط الإنتاج وطبيعته، حققت بدورها تغييرا في شكل التفاعلات والتعاملات الدولية، حيث ظهرت الحاجة إلى توحيد أسواق الدول الصناعية في سوق عالمية واحدة، وتوفير إمكانيات الارتقاء بأداء الدول الصناعية بما يقتضيه ذلك من إعادة بناء شكل الرأسمالية. وكان ذلك يعنى ضرورة تجاوز الحدود القومية وإزالة الأوضاع الاحتكارية وإعادة توزيع الدخل، والعمل على رفع مستوى المعيشة حتى يمكن توسيع الأسواق الخارجية للدول الصناعية لاستيعاب المنتجات الحديثة، وهى المرحلة التي عرفت بمجتمع الاستهلاك الكبير، بعد أن كانت قيمة الادخار هي القيمة الأساسية التي اتسمت بها الرأسمالية منذ نشأتها وحتى الحرب العالمية الثانية(3).
وشكلت هذه السمات بذور التحول من نمط الرأسمالية القومية إلى الرأسمالية العابرة للقوميات، التي ارتبط بها ظهور مفهوم العولمة الذي عبر عن ظاهرة اتساع مجال الإنتاج والتجارة ليشمل السوق العالمية بأجمعها، بحيث لم يعد الاقتصاد محكوما بمنطق الدولة القومية وحدها، وإنما ظهر فاعلون اقتصاديون من نوع جديد. أي أن أهم ما ميز العولمة هو أن الفاعلية الاقتصادية لم تعد قاصرة على مالكي رؤوس الأموال من تجار وصناعيين ومدراء كان نشاطهم محكوما في السابق بحدود الدولة القومية التي ينتمون إليها وإنما أصبحت تلك الفاعلية مرتبطة بالمجموعات المالية والصناعية الحرة عبر الشركات والمؤسسات متعددة الجنسيات. وبعبارة أخرى، لم تعد الدولة القومية هي الفاعل أو المحدد الرئيسي للفاعلية الاقتصادية على المستوى العالمي، وإنما أصبح للقطاع الخاص الدور الأول في مجال الإنتاج والتسويق والمنافسة العالمية. كما أصبحت الشركات متعددة الجنسيات تلعب دورا محوريا في هذا المجال(4).
ومن ناحية أخرى، أدى تنافس الدول الرأسمالية القوية في ظل العولمة إلى تهميش دور دول العالم الثالث غير القادرة على المنافسة. ولعل هذا الواقع هو ما قاد إلى الاعتقاد في استناد العولمة إلى الداروينية وقانون البقاء للأصلح، حيث رأى بعض المفكرين أن القوى الرأسمالية الكبرى والمتدثرة بغطاء العولمة قد وجدت في هذا المبدأ أساسا نظريا صالحا لإسباغ الشرعية على تجليات العولمة وتداعياتها(5). بل اعتقد بعضهم أن العولمة هي ما بعد الاستعمار، باعتبار أن الـ ما بعد في مثل هذه التعبيرات لا يعنى القطعية مع الـ ما قبل بقدر ما يعني الاستمرار بصورة جديدة كما نقول ما بعد الحداثة(6).
كما اعتبر المعارضون للعولمة أن القاعدة الاقتصادية التي تحكم اقتصاد العولمة هي إنتاج أكثر ما يمكن من السلع والسلع المصنعة بأقل ما يمكن من العمل، وبالتالي تبدو الخصخصة والمبادرة الحرة والمنافسة.. الخ على حقيقتها كإيديولوجيا للإقصاء والتهميش وتسريح العمال بمبدأ كثير من الربح .. قليل من المأجورين(7).
ولكن العولمة ليست نظاما اقتصاديا وحسب، وإنما تمتد إلى مجالات الحياة المختلفة سواء في السياسة أو الإعلام أو الثقافة بوجه عام. فالنمو الاقتصادي الرأسمالي كما يستلزم وجود أسواق حرة، يستلزم أيضا وجود أنظمة سياسية وشكلا معينا من أشكال الحكم، فتعدد مراكز القوة الاقتصادية استلزم بدوره تعددا في مراكز القوة السياسية، وخلق بدائل وتعددية في القوى على مستوى السلطة ومنع تركيز القوة السياسية، ومنع تركيز الثروة في يد الدولة, وتحقيق درجة هامة من اللامركزية. ولذلك لم تكن مصادفة أن كانت الصيغة الديمقراطية الليبرالية في الحكم هي الصيغة التي ارتبطت بالمجتمعات الرأسمالية وتطورت معها، أي مع الرأسمالية ذاتها، وأكدت نفسها بانتصارها على كل الصيغ والأشكال الأخرى، بدءا من النازية والفاشية إلى البلشفية. وقد كان انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط النظم الشمولية في أوروبا الشرقية والتحولات المتلاحقة نحو أشكال الحكم الديمقراطي أبرز مظاهر الارتباط بين التطور الرأسمالي والتطور الديمقراطي. ومن هنا اعتبر البعض أن الديمقراطية الليبرالية وقرينتها الرأسمالية هي نهاية التاريخ الإنساني، وأن النموذج الأمريكي هو خلاصة وقمة التطور البشرى(
.
ومع أن هناك فاعليات اقتصادية متعددة، تنتمي لثقافات وبلاد مختلفة، تؤثر معا في مسار وتطور الظاهرة المعروفة بالعولمة، إلا أن كون الغلبة بين هذه الفعاليات تعود إلى مؤسسات أمريكية، بالإضافة إلى الارتباط بين بروز العولمة واحتلال الولايات المتحدة لمكانة الدولة العظمى الوحيدة، جعل البعض يعتقدون أن العولمة تعنى الدعوة إلى تبنى النموذج الأمريكي في الاقتصاد والسياسة، وفى طريقة الحياة بشكل عام. ومن هنا اعتبر البعض أن العولمة مرادف للأمركة، وأنها مجرد إفراز من إفرازات الدولة القومية عند لحظة من لحظات تضخم قوتها ومحاولتها فرض هيمنتها على العالم على نحو ما تنتهجه الولايات المتحدة الأمريكية من فرض لمنظومتها القيمية في ظل نظام العولمة(9).
ويرى الباحث أنه لا يمكن القول بأن العولمة مرادف للأمركة، وإلا فإن حدوث أي تراجع في الأداء الاقتصادي للولايات المتحدة الأمريكية سيعنى اختفاء العولمة، فالواضح أن للعولمة أدوات ومؤسسات وقيما وفاعلين لو اختفى أي عنصر منها، لا يعنى ذلك أن العناصر الأخرى ستختفي. فعلى الجانب الاقتصادي هناك ثلاث مؤسسات دولية كبرى تقوم بإرساء قواعد وبنيات هيكل العولمة، وتشرف على تكوين البنية التحتية الأساسية لها، وهى: منظمة التجارة العالمية، والتي تعد أخطر المؤسسات المتعلقة بالعولمة من خلال الدور الذي تقوم به في تكريس تلك الظاهرة، وتحويل الاقتصاديات المحلية المغلقة على ذاتها إلى اقتصاديات مفتوحة مدمجة فعليا في الاقتصاد العالمي؛ وصندوق النقد الدولي، والذي يسهم في دعم اتجاهات العولمة وتحقيق مزيد من الدافع والحافز لدى الدول على التعولم، والانخراط في تيار عولمة الاقتصاد العالمي من خلال وظائفه الرئيسية المتمثلة في تصحيح الاختلالات في موازين المدفوعات للدول الأعضاء واستعادة توازنها وتحقيق استقرار سعر صرف عملاتها، وتحرير المدفوعات الجارية، وإقامة نظام متعدد الأطراف للمدفوعات الدولية. وأخيرا، البنك الدولي، والذي تطورت وتوسعت أنشطته إلى الدرجة التي أصبح ينظر معها إليه كمجموعة تضم ثلاث مؤسسات رئيسية يطلق عليها مجموعة البنك وهى: البنك الدولي للإنشاء والتعمير، والرابطة الدولية للتنمية، ومؤسسة التمويل الدولية. وتعمل هذه المؤسسات معا على تحقيق العولمة من خلال إحداث تغيرات أهمها زيادة الاعتماد المتبادل داخليا وخارجيا، وزيادة انفتاح المشروعات على الأسواق العالمية، وزيادة استقطاب المشروعات للرؤى الابتكارية(10).
وعلى الجانب المعلوماتي الاتصالي، وهو جانب شديد الأهمية بالغ الأثر تتدافع وتتزاحم من خلاله تيارات العولمة واتجاهاتها المختلفة، نجد أن هناك فواعل وعوامل رئيسية ذات قوة تأثيرية هائلة تدعم العولمة، وأهمها :
- شبكة الإنترنت، والتي تمارس دورها الرئيسي في توحيد العالم، وزيادة ترابطه واتصاله.
- التجارة الإليكترونية، والتي يبلغ حجمها السنوي حاليا ما يزيد عن 101.9 مليار دولا(11)، واستطاعت جذب مئات الملايين إليها، حيث وجد كل منهم فيها مآربه وأهدافه ووسيلته للتعايش، وإشباع احتياجاته ورغباته.
- المنظمات الجماهيرية غير الحكومية، والتي أصبح لها دورها المهم في إعادة تشكيل التوجه الاجتماعي العام وخلق رأى عام مستنيرا تجاه القضايا العالمية.
- التغطية الإعلامية الكونية، فالمتابع للشبكات الإعلامية الإخبارية وما تحققه من وظيفة اتصالية، ونقل فوري للأخبار إلي أي مكان في العالم، وجعل المشاهد لها يعايشها معايشة العين والإحساس و الرأي، يكتشف بما لا يدع مجالا للشك أن العولمة الإعلامية قد أصبحت واقعا ملموسا و معاشا.
- شبكة الاتصالات العالمية، فقد أتاح التطور المتصاعد في تقنية الاتصالات وتطور أنظمة الشبكات والدوائر الفائقة التقدم واستخدام أنظمة الهواتف النقالة والاتصالات الخلوية بالأقمار الصناعية مباشرة، قدرة هائلة علي جعل سكان العالم باختلاف أماكنهم مرتبطين ببعضهم البعض، بما أزال العزلة وحواجز المكان وفواصل الزمان.
وعلي نحو ما هو متوقع، فقد شغل تأثير العولمة علي مفهوم السيادة ووضعية الدولة القومية حيزا لا يستهان به من شواغل المحللين السياسيين في رؤيتهم للعولمة التي تهدف إلي جعل الشيء علي مستوي عالمي، أي نقله من المحدود المراقب إلي اللا محدود الذي ينأى عن كل مراقبة. والمحدود طبقا لهذا التعريف يؤكد علي دور الدولة القومية التي تتمتع بسيادة وطنية كاملة تستطيع من خلالها توفير الحماية الداخلية والخاصة، أما اللا محدود فهو النطاق العالمي، حيث تسعي العولمة إلي إلغاء حدود الدولة القومية في المجالات الاقتصادية والمالية والتجارية وتعميم نمط معين من الأفكار ليشمل الجميع.
2- السيادة :
كان مبدأ السيادة - ولا يزال- أحد المقومات المهمة التي تنهض عليها نظرية الدولة في الفكر السياسي والقانوني التقليدي. والدولة - بوصفها الشخص الرئيسي والمتميز من أشخاص القانون الدولي - تتكون من عناصر ثلاثة هي: الإقليم، والسكان، والسلطة السياسية المنظمة (الحكومة) التي تقوم علي تنظيم السلطات والمرافق العامة وإدارتها في الداخل والخارج. ووجود هذه العناصر هو الذي يحدد للدولة اختصاصات واسعة في النطاق القانوني الدولي، وبدون ممارسة تلك الاختصاصات لا تتصف الدولة بالشخصية القانونية الدولية في نظر القانون الدولي العام، ولا تظهر كصاحبة سيادة ذات اتصال مباشر بالحياة الدولية، لأن مبدأ السيادة لا يعطي مضمونا واقعيا ما لم تجسده مباشرة هذه الاختصاصات.
وقد نشأ مبدأ السيادة مع استئثار الملوك بالسلطة في الدولة الحديثة في أوروبا ومقاومة العباءة الكنسية للسلطة البابوية والإمبراطور وتصفية الإقطاع، فأصبحت الدولة هي السلطة التي لا تعلوها أي سلطة أخرى والتي تخضع لسيطرتها جميع الهيئات الأخرى من المنظمات الاجتماعية كالطوائف مثلا (12).
ويعد المفكر الفرنسي جان بودان هو أول من حاول بلورة نظرية متكاملة للسيادة من خلال مؤلفه الشهير الكتب الستة عن الجمهورية، الصادر عام 1576م، إلا أن بودان وضع سيادة الدولة في صورة مجردة لكونها سلطة عليا لا تخضع للقوانين، أي سلطة مطلقة. ولا شك أن ذلك لا يتلاءم مع البيئة المعقدة التي يتعين علي الدول الحديثة أن تعمل في إطارها والتي تحتوي علي أبعاد ذات تأثير سلبي علي مفهوم السيادة بمعناه التقليدي، وعلي رأس تلك الأبعاد الدور المتنامي للقانون الدولي والمنظمات الدولية (13).
وقد أدرك المنظرون ذوو المعتقدات الإيديولوجية المتباينة انخفاض حجم وفعالية الوظائف التي تقوم بها الدولة، وظهور قضايا وعلاقات ومؤسسات تعمل علي إزالة الحدود الفاصلة بين الشئون المحلية والشئون الدولية. كما ظهرت مفاهيم جديدة متعددة من بينها: التجمع، الاعتماد المتبادل، المجتمع العالمي، النظام العالمي، الاقتصاد العالمي. وقد تم تقديم هذه المفاهيم كوسيلة لفتح نافذة علي عولمة الشئون الإنسانية وإعادة تقييم معني ووظيفة السيادة (14).
وعلي ضوء تلك المتغيرات والمفاهيم الجديدة ، أصبح من غير الممكن تصور الدولة الحديثة ذات العلاقات المتشابكة مع الدول الأخرى في صورة الجزيرة المعزولة، فالقانون الدولي الحديث يضع واقعا عمليا جديدا للسيادة والمساواة بين الدول يشترط تكيف الدولة وتقيدها بالالتزامات الدولية، ويجعل اختصاصات الدولة ذات السيادة تتسع أو تضيق بدرجة ملاءمتها للاختصاصات الممــاثلة لدي الدول الأخرى علي ضوء قواعد القانون الدولي العام (15).
وعلي الرغم من تعدد التعريفات التي يوردها الباحثون لمفهوم السيادة الوطنية، إلا أن بينها قاسما مشتركا يتمثل في النظر إلي السيادة باعتبارها السلطة العليا للدولة في إدارة شئونها سواء كان ذلك داخل إقليمها أو في إطار علاقاتها الدولية. وبالتالي فإن السيادة تشير إلي معنيين أحدهما إيجابي ينصرف إلي قدرة الدولة ـ كوحدة سياسية مستقلة ـ على التصرف بحرية كاملة ودون أية قيود تفرض عليها فيما عدا تلك التي ترتضيها هذه الدولة ذاتها، والآخر سلبي يفيد عدم إمكان خضوع الدولة لأية سلطة غير سلطتها هي. وبالتالي يكون لمبدأ السيادة وجه داخلي يقتصر نطاق تطبيقه علي علاقة الدولة بمواطنيها داخل إقليمها بحدوده السياسية المعلومة، ووجه خارجي ينصرف نطاق تطبيقه علي علاقة الدولة بغيرها من الدول، والتي تقوم علي وجوب احترام الاستقلال الوطني والسلامة الإقليمية لكل دولة وعدم جواز التدخل في شئونها الداخلية (16). وهناك خصائص معينة للسيادة وفقا لمعناها العام السابق، وهي (17):
أ ـ أنها مستمرة طالما بقيت الدولة متمتعة بشخصيتها القانونية، وبالتالي فإن السيادة تزول في حالة واحدة هي فقدان الدولة لشخصيتها القانونية الدولية لأي سبب كالاندماج في دولة أخرى أو التجزئة إلي عدة وحدات سياسية يكون لكل منها سيادته الوطنية الخاصة. وقد شهد التاريخ الحديث حالات تعرضت فيها دول إلي عوارض جمدت من قدرتها علي مباشرة مظاهر سيادتها علي إقليمها وفي نطاق علاقاتها المتبادلة مع غيرها من الوحدات والكيانات السياسية الدولية الأخرى، كأن توضع الدولة تحت حماية دولة أخري، أو أن يخضع إقليمها لاحتلال دولة من الدول، أو أن يتفق في معاهدة دولية علي وضع هذه الدولة في حالة حياد قانوني دائم.
ب- أنها تمثل ـ كمبدأ عام ـ كلا واحدا لا يقبل الانقسام أو التجزئة، وبالتالي فإن عدم وجود رابطة خضوع قانونية من أي نوع تربط دولة ما بدولة أخري هو وحده الذي ينهض دليلا قاطعا علي انتقاص سيادتها إذا ما ثبت خضوعها لسلطان هذه الدولة أو الدول الأخرى. وهناك حالات نادرة تم فيها تجزئة السيادة علي إقليم معين بين دولتين أو أكثر، ومن ذلك مثلا حالة السيادة السعودية الكويتية المشتركة علي المنطقة المحايدة بينهما. كما قادت التطورات المستحدثة في النظام الدولي إلي بروز فكرة السيادة المشتركة للدول كافة علي البحار في المناطق التي تخرج عن نطاق الولاية الإقليمية لهذه الدول فرادى.
ج- ترتبط السيادة ارتباطا وثيقا بدرجة وحدود الاستقلال السياسي للدولة، فالاستقلال هو الذي يتيح لها إعمال مظاهر هذه السيادة سواء داخل إقليمها أو في إطار علاقاتها المتبادلة مع غيرها من الدول وأشخاص القانون الدولي الآخرين. والواقع أن تفاوت الدول من حيث الموارد والإمكانيات جعل بعض الباحثين يميزون بين السيادة كمفهوم قانوني بمعني وحدة الخطاب القانوني وعمومية القاعدة القانونية الدولية بالنسبة لجميع المخاطبين بها وبدون أدني تمييز، والسيادة كمفهوم سياسي بمعني القدرة الفعلية أو الحقيقية للدولة علي رفض الخضوع لأية سلطة أخرى غير سلطتها هي. فالدولة قد تكون مستقلة قانونا ولكنها عاجزة عن إشباع احتياجات مواطنيها مما يعرضها لضغوط وتأثيرات بعض الدول الأخرى، الأمر الذي يجعل استقلالها منقوصا، وبالتالي تعجز عن مباشرة بعض مظاهر سيادتها (18).
ثانيا ـ المتغيرات التي أدت إلي الربط بين مفهومي العولمة والسيادة
يوضح العرض السابق وجود رابطة بين العولمة والسيادة بمعناهما السابقين، فالعولمة تطرح ضمنا حدود سيادة الدولة ودورها علي المستويين الداخلي والخارجي ومستقبلها. ففي ظل العولمة تخضع الحياة الاقتصادية والسياسية أكثر فأكثر لتأثير قوى السوق، وهذه بدورها تخضع لتأثير مصالح الشركات المحلية والدولية أكثر مما تخضع لأوامر الدولة. ويري البعض أن من بين أهم ملامح العولمة انحسار قوة الدولة، وعلي الأخص في البلاد الأقل نموا. فكما أخذ مبدأ سيادة المستهلك في الانحسار تاركا مكانه لتعاظم تأثير المنتجين في أنماط الاستهلاك وفي أذواق المستهلكين، فإن سيادة الدولة الوطنية هي أيضا آخذة في الانحسار تاركة مكانها أكثر فأكثر لسيطرة منتجي السلع والخدمات. كما انحسرت قدرة الدولة علي التأثير في مستوى وأنماط الاستهلاك، بما في ذلك استهلاك السلع والخدمات الضرورية (19).
وقد أصبحت العلاقات في ظل العولمة تتشكل حول محورين رئيسين، هما: الاعتماد المتبادل بين الدول القوية بهدف تحقيق المصلحة المشتركة لتلك الدول خاصة في المجال الاقتصادي؛ وتبعية الدول النامية للدول القوية بسبب عدم قدرة الدول النامية على إشباع الاحتياجات الأساسية لمواطنيها. كما أصبحت الوسيلة الأكثر فاعلية في تحقيق انتقال السلع ورأس المال والمعلومات والأفكار هي الشركات متعددة الجنسيات والمنظمات الدولية غير الحكومية التي تتخذ العالم كله مسرحاً لعملياتها. ويعنى ذلك إعادة توزيع وتغيير الأوزان النسبية للفاعلين في النظام الدولي لصالح مؤسسـات المجتمع المدني الدولي على حسـاب الـدول والمنظمات الدولية الحكومية.
والواقع أن الشركات متعددة الجنسيات لم تكتف بقدرتها على الالتفاف على الدولة والتملص مما يمكن أن تفرضه عليها من قيود، بل سعت إلى احتواء الدولة وتسخيرها لخدمتها. وجعلت الدولة، علي حـد تعبير أحد الباحثين تقتنع بدور مديرة المنزل house keeper، حيث أصبحت حكومات الدول النامية تتعرض لضغط مضاعف. فمن ناحية، هي مطالبة مثل الحكومات في الدول المتقدمة بأن تقوم بوظيفة تدبير المنزل وفق ما تمليه إرادة الشركات متعددة الجنسيات وما يخدمها من مؤسسات دولية، ومن ناحية أخرى، فإنها لا تعتبر شريكا في الاستفادة من الشركات متعددة الجنسيات لأن هذه الاستفادة مقصورة علي الدول المتقدمة التي تقع فيها مراكز تلك الشركات (20).
ومن بين التطورات الدولية التي صاحبت العولمة تغير هيكل النظام الدولي من نظام ثنائي القطبية تسيطر عليه قوتان عظميان هما الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي إلي نظام أحادي القطبية تنفرد الولايات المتحدة الأمريكية بالسيطرة عليه. ومن هنا أثيرت تساؤلات حول أفضل نظام يمكن من خلاله ضمان أمن سيادة الدولة. وذهب البعض إلي أن النظام أحادي القطبية يؤدي إلي انتهاك سيادات الدول، وعلي سبيل المثال لم يكن من الممكن أن يحدث لسيادة العراق ما يحدث لها الآن من انتهاكات لو استمر النظام الدولي ثنائي القطبية. ويري آخرون أن العولمة ستؤدي حتما إلي قيام نظام دولي جديد متعدد الأقطاب، وأن هـذا النظـام هو الذي سيحفظ سيادات الدول بقدر أكبر من النظامين أحادي وثنائي القطبية (21).
ومن المتغيرات الأخرى المصاحبة للعولمة والتي أدت إلي انتهاك سيادة الدولة الثورة الهائلة في وسائل الاتصال، فقد ترتب عليها تقريب غير معهود للمسافات بين مختلف مناطق العالم، وأدي ذلك إلي أن أي حدث يقع في أية منطقة من العالم يكون له صداه في غيره من المناطق دونما اعتبار للحدود السياسية أو لمبدأ السيادة الإقليمية(22). كما أدت الثورة الاتصالية إلي الارتفاع الكبير في نسبة السكان، داخل كل مجتمع أو أمة، التي تتفاعل مع العالم الخارجي وتتأثر به في نمط حياتها وتفكيرها (23).
كما أدت متغيرات العولمة إلي إعادة تشكيل خريطة وموازين القوة في النظام الدولي بما يرجح أوزان القوة الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية علي حساب القوة العسكرية والديموغرافية، ولكن دون أن تفقد هذه الأخيرة مجمل ثقلها بالطبع .كما أعيد ترتيب الأولويات علي جدول أعمال النظام الدولي فتراجعت القضايا التقليدية التي كانت تحتل مرتبة الصدارة في مرحلة الحرب الباردة مثل قضايا الصراع بين الشرق والغرب أو حتى بين الشمال والجنوب، وتقديم قضايا جديدة متعددة باتت تواجهها الجماعة الدولية ككل مثل مشكلات الطاقة، والتلوث البيئي والتصحر والتضخم والإرهاب وحقوق الإنسان وأسلحة الدمار الشامل، وهي القضايا التي تتطلب جهدا دوليا جماعيا لمواجهتها، مما يتطلب بدوره التعامل مع مفهوم السيادة من منظور جديد (24). كما أدت العولمة إلي تكامل الاقتصاد العالمي من خلال الزيادة الكبيرة في درجة تنوع السلع والخدمات المتبادلة بين الأمم، وتنوع مجالات الاستثمار التي تتجه إليها رؤوس الأموال من بلد إلي آخر، بالإضافة إلي النمو الكبير في تبادل المعلومات والأفكار بين الدول.
وهكذا، فإن العولمة هي نظام يقفز علي الدولة والأمة والوطن ويسعى إلي إنشاء كيانات كبيرة كالشركات متعددة الجنسيات. إلا أنه في المقابل يعمل علي التفتيت والتشتيت، حيث إن إضعاف سلطة الدولة والتخفيف من حضورها لصالح العولمة يؤديان حتما إلي استيقاظ أطر للانتماء سابقة علي الدولة كالقبيلة والجهة والتعصب والمذهب، والنتيجة هي تفتيت المجتمع وتشتيته (25).
ثالثا ـ التأثيرات السلبية والإيجابية للعولمة علي سيادة الدولة
سارت غالبية المتغيرات التي صاحبت العولمة في اتجاه تقليص نطاق تطبيق مبدأ السيادة الوطنية، إلا أن بعضها كان له تأثيرات ايجابية أدت إلي تدعيم قدرة الدولة وسلطتها في مجال مباشرتها لمظاهر سيادتها. وفيما يلي توضيح لأهم تلك التــأثيرات.
1- التأثيرات السلبية
تسببت التطورات الراهنة في النظام الدولي في أزمة طالت كل أنماط الدول، وطرحت نفسها بأشكال مختلفة علي تلك الأنماط. فإذا كانت أزمة الدولة الماركسية اللينينية هي أزمة انهيار النموذج الشيوعي، فإن أزمة الدولة الديمقراطية الليبرالية تتجسد في أزمة الحزب السياسي الذي هو عماد تعدديتها، كما أن أزمة الدولة البيروقراطية تتمحور حول ضعف الفعالية والعجز عن بناء قطاع عام قادر وكفؤ. ولأزمة الدولة، بأنماطها المختلفة وعلي تنوع درجة تطورها السياسي ومستوي نموها الاقتصادي، مصادرها الداخلية والخارجية نعرضها فيما يلي(26):
المصادر الداخلية :
1ـ أنتجت سياسات التحرير الاقتصادي ارتخاء في قبضة الدولة علي أصولها، فلم تعد علاقتها بها علاقة المالك بما يملك، بل علاقة المنظم بوحدات تتبع إدارته.
2ـ أفرزت ثورة الجماعات السلالية وصحوة الولاءات الإثنية تعطيلا لسيادة الدولة علي أجزاء من إقليمها تضيق أو تتسع حسب مقتضى الحال.
3ـ أدي نمو المجتمع المدني إلي تهميش دور الدولة من خلال سحب بعض الوظائف منها وإبلائها لفاعلين بازغين. وقد بدأت تلك الظاهرة في مجالات الصحة والتعليم والثقافة والنقل والمواصلات والبريد، ثم امتدت إلي إدارة السـجون وخدمات الأمن الخاصة (27).
4- أدت العولمة إلي تهديد الثقافة والحضارة المحلية الوطنية من خلال الاتجاه إلى نشر ثقافة كونية ونمط معين من الأفكار ليشمل الجميع، مما أدى إلى إيجاد حالة من الاغتراب بين الفرد وتاريخه الوطني وموروثاته الثقافية والحضارية. كما أدت إلي الضغط على الهوية والشخصية الوطنية المحلية وإعادة صهرها وتشكيلها في إطار هوية وشخصية عالمية (28).
المصادر الخارجية :
1ـ أسفرت ظاهرة تشكيل التكتلات الإقليمية عن نقل جزء من سلطات الدولة إلي هياكل الكيانات غير القومية.
2ـ أنهت الثورة الاتصالية احتكار الدولة للمعلومة التي أصبح من السهل الحصول عليها من مصادر متعددة.
3ـ فرضت شروط التعاون الدولي صياغات محددة لقواعد اللعبة السياسية الداخلية، وقرنت مؤسسات التمويل الدولية منح مساعداتها أو منعها بالتنشئة الديمقراطية والتنشئة علي ثقافة حقوق الإنسان.
4ـ لم تعد هناك خطوط فاصلة بين الشأنين الداخلي والخارجي (أو بين مسئولية الدولة ومسئولية المجتمع الدولي)، ففكرة السيادة المطلقة لم تعد مقبولة كما سبق توضيحه. ولم يعد إطلاق يد الأنظمة الحاكمة في تحديد نطاق الشأن الداخلي أمرا مسلما به كما كان في الماضي، بل أصبح تدخل المجتمع الدولي في بعض الأمور التي كانت في الماضي شأنا داخليا أمرا مقبولا ويراه البعض ضروريا وواجبا(29). ومن هنا أعيد إحياء حق التدخل الإنساني لكن في قالب جديد، وهو ما يعد أخطر تطورات ما بعد الحرب الباردة عموما من حيث تأثيره على سيادة الدول بسبب الطبيعة غير المنضبطة وغير المقننة التي يتم بها ممارسة هذا الحق، ولأنه يعكس اختلال التوازن الدولي لصالح الولايات المتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي(30).
5ـ نجحت بعض الشعوب بعد كفاح طويل من أجل الحرية أن تنشيء حكومات ومؤسسات قابلة للمساءلة من الشعب، ولكن العولمة بتحويلها السلطة من الدول إلي الشركات سمحت للبيروقراطيات الدولية بتقويض هذه المساءلة، فهي لا تخضع للمساءلة ولا تتسم بالشفافية، وبالتالي فهناك عجز ديمقراطي ليس فقط في أوروبا، وإنما أيضا في الولايات المتحدة واليابان وجميع اقتصاديات العالم المتأثرة بالعولمة (31).
6- أصبحت الدولة مسئولة مسئولية دولية مباشرة ليس فقط عن أفعالها غير المشروعة التي يترتب عليها حدوث ضرر مادي للدول الأخرى أو لمواطني هذه الدول، وإنما تساءل أيضا عن أفعالها المشروعة ـ التي تصدر عنها إعمالا لمبدأ السيادة وفي نطاقها الإقليمي ـ التي يترتب عليها حدوث ضرر للغير. وعلي سبيل المثال، فإن قيام دولة ما بإزالة الغابات من مساحات شاسعة داخل إقليمها يجعل هذه الدولة مسئولة دوليا في مواجهة الدولة أو الدول التي قد يتسبب هذا التصرف في إحداث خلل ظاهر للتوازن البيئي داخل إقليمها، ويحق للدولة المتضررة في الحالة أن تطالب باقتضاء التعويض المناسب (32).
7- ظهور مؤسسات أمنية ذات مجال حركة عالمي، أبرزها حلف الناتو الذي أصبح مؤسسة أمنية ذات صبغة عالمية. ففي قمة الحلف الخمسينية التي عقدت في واشنطن في أبريل سنة 1999 أقر قادة دول الحلف ـ بضغط من الولايات المتحدة الأمريكية ـ مفهوما استراتيجيا معدلا يتيح لقوات الناتو الحق في العمل في أي مكان في العالم بخلاف ما أقرته الفقرة الخامسة من ميثاق الحلف عام 1949 المتعلقة بتقييد التحرك داخل نطاق منطقة اليورو ـ أطلنطي. وصار للحلف أن يتحرك دون تفويض من الأمم المتحدة حسبما شاء. ويهدف الحلف في الوقت الراهن إلي فرض التزامات بعض الاتفاقيات الدولية الخاصة بمناهضة أسلحة الدمار الشامل تلقائيا علي الدول غير الموقعة عليها مثل الاتفاقية الخاصة بمكافحة الأسلحة الكيماوية. وهناك آليات مقترحة لتنفيذ تلك الالتزامات منها مراقبة التسلح والإنذار المبكر وشفافية التدريبات والميزانيات والخطط العسكرية. ولاشك أن في ذلك انتهاكا لسيادة الدول التي تفرض عليها تلك الالتزامات (33).
8- أدت العولمة إلي إيجاد مصادر قانونية منافسة لسلطة الدولة في مجال التقنين، فالمعروف أن قدرة الدولة علي تقنين سلوكيات الأفراد تعد أحد مظاهر السيادة التي تمارسها علي جميع القائمين علي إقليمها. لذا فإن فكرة التقنين ظلت ترتبط بالدولة في المقام الأول وذلك لما تملكه من مقومات مادية قادرة علي وضع القاعدة القانونية موضع التطبيق. ولكن مع ظاهرة العولمة ظهر أشخاص جديدة قادرون علي إيجاد القواعد التي يرونها. ومن هنا كانت الأصوات التي نادت بإيجاد قانون مستقل لتنظيم حركة التجارة الدولية تقف من ورائه الشركات متعددة الجنسيات، فالعولمة جاءت لتؤكد أن حق تنظيم السلوك وضبط حركة تعاملات الأفراد لم يعد حكرا علي الدولة وحدها. كما ساعد علي نشأة هذا القانون تأكيد دور القضاء الخاص (التحكيم) في الفصل في منازعات التجارة الدولية بعيدا عن القضاء الوطني. ولذا انتشرت مؤسسات التحكيم سواء الإقليمية أو الدولية والتي تعطي للمحكم القدرة علي إيجاد القواعد التي تفصل في منازعات التجارة الدولية بعيدا عن القوانين الوطنية (34).
9- ظهرت في ظل العولمة قوانين عابرة للحدود. وإذا كان الفكر القانوني التقليدي يرى في فكرة التشريع مظهرا من مظاهر سيادة الدولة، فإنه قد حصر قوة التشريع تلك بالحدود الجغرافية التي تمتلكها الدولة، بمعني أن مجال تطبيق هذه القوانين يكون محدودا بحدود الدولة صاحبة التشريع فقط. ولكن في ظل فكرة العولمة ظهرت القوانين الاقتصادية العابرة للحدود، ففي الولايات المتحدة الأمريكية توجد قوانين تراقب المنتجات الاستراتيجية وتمنعها من الوصول إلي أيدي الدول المناوئة لها. فعلي سبيل المثال وفي مجال المعلوماتية، تعطي الولايات المتحدة الأمريكية للقوانين التي تراقب حركة المعلوماتية، مثل برامج الحاسب الآلي، أثرا غير إقليمي بحيث تمتد هذه القوانين إلي جميع العقود التي ترد علي المعلوماتية الموجهة إلي بعض البلاد التي تضعها الولايات المتحدة الأمريكية علي القائمة السوداء، سواء كانت هذه المنتجات أمريكية أم لا، وسواء كانت هي (الولايات المتحدة) من أطراف العقد أم لا. ولا شك أن هذا الأثر المتعدي لتلك القوانين يمثل إحدى آليات تذويب فكرة السيادة. ومن أجل إضفاء نوع من المشروعية لمثل هذه التشريعات المتعدية، نجدها تقوم بالربط بين فكرة حقوق الإنسان وعمليات التجارة الدولية(35). وهكذا، يتضح لنا وجود علاقة طردية بين المتغيرات التي صاحبت العولمة وتقلص السيادة الوطنية. إلا أن التأثيرات السلبية للعولمة علي سيادة الدولة ليست بدرجة متساوية علي جميع الدول، فالدول النامية عرضة للتأثر بدرجة أكبر من الدول المتقدمة خاصة في المجالين الاقتصادي والثقافي. فقد أصبحت الدول النامية محاصرة من الداخل بانتفاضات سلالية، وبمجتمع مدني يتمتع بدعم عالمي، وبعجز متزايد للدولة عن الوفاء بالاحتياجات الأساسية لمواطنيها، ومحاصرة خارجيا بصندوق النقد الدولي والجات وسياسات الدول الكبرى مما يثير تساؤلات بشأن حدود السيادة والأدوار المتصـورة للدولة في ظل هذا الوضع (36).
وفى الوقت الذي عانت فيه كثير من الدول النامية من التهميش الاقتصادي لعدم قدرتها علي المنافسة وتذويب ثقافتها الوطنية في الثقافة الكونية التي تسعي العولمة إلي نشرها، نجد أن هناك شعوبا وثقافات أخرى شتي في العالم لا تخشى العولمة. فاليابانيون مثلا لا يخافونها، بل يتفاعلون معها، كما أن تجربتهم تستحق التأمل، فهم لم يتأثروا في خصائصهم الثقافية وسماتهم القومية الأساسية بالغرب رغم أنهم تعرضوا لمؤثرات غربية مباشرة بل وموجهة ومقصودة لفترة طويلة عقب الحرب العالمية الثانية، كما عاشوا وما زالوا تحت حماية أمريكية صريحة. وبالتأكيد فإن إنجازهم الاقتصادي يساعد علي توليد الثقة، لكن ثقتهم كانت قائمة قبل أن يصير اقتصادهم عملاقا، وهو لم يصبح كذلك إلا عندما اكتسب طابعا عالميا. والمهم هو أن الثقة الوطنية في الثقافة والهوية سبقت الإنجاز الاقتصادي وساعدت عليه (37).
وهكذا، فإن هناك علاقة عكسية بين تقدم الدولة ومدى تأثرها بمتغيرات العولمة، وبعبارة أخري فإن هناك أوزانا نسبية لتأثيرات العولمة علي سيادات الدول، ولابد من التمييز بين الدول في مستوى وأبعاد هذا التأثر الذي طال المجتمعات المتقدمة والنامية علي حد سواء. فهناك أكثر من مليار فرد يعيشون بأقل من دولار واحد يوميا، ولئن كانت العولمة، من حيث المبدأ، ينبغي أن تنعش التنمية علي الخريطة العالمية، فالثابت أنه لا توجد عولمة حقيقية للتنمية الاقتصادية طالما أنه لا توجد عولمة لعوامل الإنتاج (رؤوس الأموال والمعارف والأيدي العاملة المدربة). وإذا كانت العولمة قد نشطت بقوة في الثمانينيات إلا أن العالم لا يزال في مراحلها الأولية، وبدأت آليات التهميش تضرب كل المجتمعات الغنية والفقيرة، واتسعت دوائر الفئات الاجتماعية المهمشة في الدول الغنية. وبحسب برنامج الأمم المتحدة للتنمية في عام 1998، فإن مؤشر الفقر في الدول الصناعية يرصد نحو 100 مليون شخص علي الأقل، وفي الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا يعيش 15% من السكان تحت خط الفقر، كما تكرست في الدول الفقيرة طبقة مرفهة، ففي الهند يعيش نحو 200 مليون فرد ـ من أصل مليار ـ حياة ملائمة (38).
وقد أوضح تقرير لمعهد بحوث الأمم المتحدة للتنمية الاجتماعية بعنوان: حالات فوضي.. الآثار الاجتماعية للعولمة، صدر في عام 1997 أن الاتجاهات الرئيسية للعولمة التي برزت في السنوات الأخيرة وتسير بوتيرة متسارعة هي: انتشار الديمقراطية الليبرالية، وسيطرة قوي السوق، وتكامل الاقتصاد العالمي، وتحول نظم الإنتاج وأسواق العمل، وسرعة التغير التكنولوجي، والثورة في وسائل الإعلام، والنزعة الاستهلاكية. وهذه العمليات المذكورة ليست ظواهر طبيعية وإنما هي عمليات مدعمة تدفعها إلي الأمام مجموعة من المصالح القومية والدولية التي تري أن التحرير السريع للاقتصاديات والنظم السياسية سوف يؤدي إلي نمو اقتصادي متجدد، وأن الرفاه الاجتماعي سيتبع ذلك بحكم الضرورة. وقد تم نقل هذا النهج الإيديولوجي إلي الدول النامية، وبصورة أساسية من خلال برامج التصحيح الهيكلي لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
وناقش الفصل الثاني من التقرير المذكور بعنوان التصحيح المؤلم مختلف العواقب الاجتماعية والمؤسساتية لتلك البرامج كالفقر المطلق، وسوء التغذية، وانتشار الأمراض، وتدهور البيئة، وزيادة عمليات تهريب المخدرات وتعاطيها. وبحث هذا الفصل استراتيجيات المواجهة الجديدة التي طورتها الشعوب كي تؤمن أسس بقائها. وأمام وابل من الانتقادات ردت المؤسسات المالية الدولية بتمويل شبكات أمن اجتماعي، لكن هذه البرامج لم تقدم سوي الحد الأدنى من الدعم (39).
2- التأثيرات الإيجابية
علي الرغم من التأثيرات السلبية المتعددة للعولمة علي سيادة الدولة كما سبق توضيحه، فقد كان لها بعض التأثيرات الايجابية التي قادت في مجملها إلي تدعيم قدرة الدولة وسلطتها في مجال مباشرتها للمظاهر المختلفة، الداخلية والخارجية، علي حد سواء لسيادتها الوطنية، كان أبرز مظاهرها ما يلي:
1ـ فتحت التطورات الراهنة الباب واسعا أمام زيادة قدرة الدولة علي مباشرة، أو التوسع في مباشرة المعني الايجابي للسيادة والمتمثل في سلطة إبرام التصرفات القانونية تنظيما لعلاقاتها مع الدول الأخرى ومع غيرها من أشخاص القانون الدولي.
2ـ تتيح التطورات الدولية الراهنة للدول النامية فرصا افضل لتفاعل أكثف وأسرع، وتسمح لصوتها بأن يبلغ العالم المتقدم من خلال الاستفادة من ثمار الثورة الثقافية والاتصـالية، والتسلح بمنطق الشرعية الدولية واحترام القانون في الدفاع عن قضاياها (40).
3ـ هناك تأثيرات ذات طبيعة ايجابية وسلبية في آن واحد، فالنظام الجديد للمسئولية الدولية الذي من شأنه أن يجعل الدولة مسئولة دوليا في مواجهة دول أخرى لمجرد حدوث ضرر أو حتى مجرد مخالفة التزام دولي معين مما يعتبر تضييقا لنطاق السيادة الوطنية، له أيضا مظهره الايجابي المتمثل في تعزيز هذه السيادة، حيث يسوغ للدولة المتضررة من جراء فعل معين منسوب إلي دولة أخرى المطالبة بإصلاح هذا الضرر طالما تحققت له شروطه الموجبة. وبعبارة أخرى، إذا كان من شأن هذا النظام أنه يؤدي في الظاهر إلي الانتقاص من سيادة دولة ما، إلا أنه يقود في المقابل إلي تعزيز سيادة دولة أخرى.
4- التطور الذي لحق بسلطات الدول الشاطئية بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار عام 1982 التي أضافت إلى مسافة الـ 12 ميلا التي مثلت أقصى عرض مسموح به قانونا للمياه الإقليمية لكل دولة شاطئية مسافة أخرى تمتد إلى 200 ميلا بحريا تباشر الدولة عليها وفى نطاقها سلطاتها. وقد جاء هذا التطور نتيجة التقدم التكنولوجي الهائل الذي شهده العالم خلال العقود الأخيرة، وما ترتب عليه من زيادة قدرات الدول في مجال استخراج الثروات من البحار واستغلالها بكفاءة أكبر(41).