ما بعد القوة الناعمة: السياسة القطرية تجاه دول الثورات العربية
المصدر: السياسة الدولية
بقلم: مروة فكري
أصبحت القوة الناعمة تسهم بشكل كبير في تشكيل وإدارة العلاقات الدولية، سواء علي مستوي الدولة، أو غيرها من الفواعل من غير الدول، علي نحو قد يضعف أو يعزز سياساتها الخارجية، وأوزانها الإقليمية والدولية. ويمكن لمتابع السياسة الخارجية القطرية في السنوات الأخيرة ملاحظة الدور المتزايد والمؤثر الذي تلعبه القوة الناعمة في العلاقات الخارجية لدولة قطر علي المستويين الإقليمي والدولي، وذلك في ظل العولمة وثورة المعلومات والاتصالات. لذا، كانت قناة الجزيرة إحدي أهم- إن لم تكن أهم- أدوات القوة الناعمة التي اعتمدت عليها السياسة الخارجية لقطر في تعزيز مكانتها إقليميا ودوليا.
ومن هنا، يصعب فهم السياسة القطرية دون النظر إلي أداء وتوجهات قناة الجزيرة، نظرا للعلاقة التعاضدية بينهما. فبينما دعمت قطر القناة وأمدتها بالتمويل، عززت الجزيرة دور الدولة القطرية، ومكنتها من اكتساب مكانة إقليمية وعالمية تفوق الوزن السياسي لدولة بحجمها.
ونتيجة الدور الذي لعبته قطر (والجزيرة) في دعم الثورات العربية، تتعرضان لاتهامات علنية بالتدخل في شئون هذه الدول. ولم تقتصر تلك الاتهامات علي المستوي الرسمي فقط، لكن صدرت أيضا من المستوي الشعبي. فقد تظاهر عديد من التونسيين أمام السفارة القطرية في تونس، احتجاجا علي ما وصفوه بالتدخل القطري في شئونهم الداخلية، ومحاولة فرض أجندة سياسية خاصة(1). كما انتقد بعض المسئولين الليبيين الحاليين دور قطر في مرحلة ليبيا ما بعد القذافي. كما تثار في مصر اتهامات حول تمويل قطر للجماعات السلفية، ومن ثم محاولة التأثير في شكل النظام السياسي الجديد. وقد أثيرت من قبل العديد من التساؤلات حول حجم الدور القطري في التأثير في أحداث الربيع العربي، وهو الأمر الذي يستدعي الوقوف علي ملامح وأهداف السياسة الخارجية القطرية، في ظل الثورات العربية، وحدود القوة الناعمة في تفعيل هذه السياسة.
محددات السياسة الخارجية القطرية:
يتطلب فهم السياسة الخارجية لقطر الانتباه إلي محددين أساسيين:
الأول "استراتيجية البقاء"، حيث إن جزءا كبيرا من حقول الغاز الطبيعي الكبيرة لقطر علي السواحل داخل مناطق الحدود المتنازع عليها مع البحرين، وتمتد للحدود البحرية مع إيران. وقد أقنع هذا الوضع قطر بأن تتبني توجها غير صدامي فيما يتعلق بإيران، لكي تضمن التدفق السلس للغاز، حتي أثناء أوقات التوتر بين إيران وجيرانها أو بينها وبين الولايات المتحدة(2). ويتمثل المحدد الثاني في رغبة قطر في تحقيق المكانة الإقليمية والدولية، من خلال الخروج من مدار الهيمنة السعودية علي دول الخليج العربي. وقد انتهجت قطر واحدة من أكثر السياسات الخارجية ابتكارا في المنطقة من خلال الجمع بين متناقضات والمحافظة علي شبكة تحالفات غاية في التعقيد والتضارب في الوقت نفسه. علي سبيل المثال، في الوقت الذي تستضيف فيه قطر أكبر قاعدة عسكرية في المنطقة، وهي قاعدة العديد، فإنها في الوقت نفسه تحتفظ بعلاقات قوية مع إيران وغيرها من أقطاب "محور الممانعة" في العالم العربي.
وقد رسمت قطر سياستها الخارجية ببراعة علي ضوء هذين المحددين من خلال الاعتماد علي نوعين من الدبلوماسية. أولهما دبلوماسية الوساطة، وقد هدفت من خلالها إلي تدعيم مركزها في الإقليم عبر رسم صورة الوسيط المحايد الذي يمكن الاعتماد عليه، والمهتم بالسلام والاستقرار في المنطقة.
واستخدمت قطر هذه الدبلوماسية لتعظيم مصالحها وتأثيرها في بلدان ومناطق كانت تقع تحت نفوذ منافسيها في السابق، مثل السعودية في حالة لبنان واليمن، ومصر في حالة السودان، لتؤكد خروجها من عباءة الهيمنة والنفوذ للقوي التقليدية في المنطقة. أما النوع الثاني، فهو الدبلوماسية العامة من خلال الإعلام، حيث قدمت الجزيرة نفسها علي أنها صوت الشعوب والمنبر المفتوح لكل من لا صوت له. وقد تكامل هذان النوعان من الدبلوماسية مع بعضهما بعضا. فغالبا ما سلطت الجزيرة الضوء علي النزاعات التي تقوم قطر بالتوسط فيها لإبراز وتضخيم الدور "المهم" الذي تلعبه(3). وليس أدل علي ذلك من أن معظم الصراعات التي تدخلت فيها قطر كان مضمون هذا التدخل يرمي إلي نزع فتيل أزمة، أو تخفيف توتر، وليس بالضرورة حل صراع(4). إلا أن ملامح هذا الدور قد تغيرت مع الربيع العربي، حيث وجدت قطر نفسها مضطرة للتعبير بصورة أكثر وضوحا عن تحيزاتها(5) وقدرت أن ثورات الربيع العربي قد تكون الفرصة المناسبة لجني ثمار ما زرعته من خلال الجزيرة في السنوات السابقة.
وهكذا، حصلت قطر علي شهرة إقليمية وعالمية بما لا يتناسب مع صغر حجمها، ومحدودية قدرتها العسكرية، وذلك بفضل نجاح قناة الجزيرة في إبراز هويتها كقناة عربية تتخطي دولتها المضيفة، وهو ما يشير إلي أن الجزيرة هي التي مكنت الدولة القطرية وليس العكس(6).
تغطية الجزيرة للثورات العربية:
في بداية الثورات العربية، اتسمت تغطية الجزيرة بالحذر في تناول الأحداث، حتي أصبح جليا أن الحركات الاحتجاجية لا رجعة فيها. عندئذ، بدأت الجزيرة في تغطية مكثفة مباشرة للأحداث، مصحوبة بالعديد من التحليلات واللقاءات، وهو ما حدث في كل من ثورات تونس ومصر وليببا واليمن، وأخيرا سوريا. وعندما كان يحدث تضييق من قبل الأجهزة الأمنية علي عمل القناة، كانت تعتمد علي شبكات التواصل الاجتماعي التي تنقل من موقع الحدث بديلا قائما. وهكذا، امتلأت شاشات الجزيرة بمواطنين عرب يعبرون عن مطالبهم في الحرية والديمقراطية للعالم، كما استخدم الثوار الجزيرة للتواصل مع الشارع وتعبئته لمساندتهم(7). كما قامت الجزيرة بتوثيق مصور لأساليب العنف والقهر التي تعرض لها المتظاهرون السلميون، وحرصت علي إعادة بث صور الشهداء والمصابين، والتي كانت القناة تتلقاها عبر شبكات التواصل الاجتماعي، مثل الفيس بوك وتويتر ويوتيوب. ولكن مقابل هذا الدعم المعنوي الذي قدمته القناة للثورات العربية، جاءت تغطيتها لأحداث البحرين في مارس 2011 ضعيفة إلي حد كبير، مما لفت النظر إلي طبيعة العلاقة بين القناة والخطوط الأساسية للسياسة الخارجية لقطر، في ظل حقيقة أن القوات القطرية شاركت في قوات درع الجزيرة التي تدخلت في البحرين لاحتواء- أو قمع- الاحتجاجات(
.
وقد اتضحت هذه العلاقة بدرجة أكبر خلال الأزمة الليبية، حيث ألغت القناة برامجها المعتادة، وأصبحت بمثابة ورشة عمل علي مدي الساعة للتغطية وبث الصور الحية، بالإضافة لإدارة المناقشات والمقابلات، حتي إن شعار القناة تحول من "الرأي والرأي الآخر" إلي "التغطية مستمرة"(9). كما بدأت الجزيرة بعد أسبوع من اندلاع الاحتجاجات ضد نظام القذافي في استخدام العلم الليبي القديم الذي اختاره الثوار بديلا عن العلم الليبي الأخضر، مما يعد خروجا صريحا علي التغطية المتوازنة. ثم ازداد هذا الحشد الإعلامي مع مشاركة قطر في عمليات الناتو في ليبيا، وأصبحت تغطية القناة أكثر تحيزا حتي من حيث المفردات المستخدمة، مثل إطلاق لفظ "كتائب القذافي" علي ذلك الجزء من الجيش الليبي الذي ظل يقاتل بجانب القذافي (علي العكس من الحالة السورية حيث يستخدم تعبير"الجيش" السوري).
فيما يتعلق بالأزمة السورية ذاتها، التزمت الجزيرة نسبيا الصمت خلال المرحلة الأولي من الثورة السورية، تماشيا مع الموقف القطري الملتزم الحذر آنذاك. ولكن تزايدت حدة تغطية الجزيرة للأحداث بالتزامن مع تزايد تدهور العلاقات بين البلدين، لدرجة أن قطر كانت أول دولة تغلق سفارتها في دمشق. ورغم تأكيد العاملين في القناة استقلالية سياستها التحريرية، فإن تكليف أحد أعضاء الأسرة الحاكمة برئاسة القناة أخيرا أوحي بزيادة التدخل الحكومي القطري في تغطيتها للأحداث الجارية(10).
الدور القطري في الربيع العربي:
جاء قرار قطر بالمشاركة في التدخل الدولي من خلال الناتو في ليبيا- وأحيانا من وراء الستار- بمثابة تحول في السياسة القطرية التي كثيرا ما اعتمدت علي دبلوماسية الوساطة ومحاولة الظهور بمظهر الوسيط المحايد بين أطراف النزاعات المختلفة(11). فقد قدمت قطر للثوار دعما ماديا ومعنويا كبيرا، من خلال إمدادات السلاح والتدريب، وإغداق الأموال، وتغطية قناة الجزيرة التي سلطت الضوء علي الممارسات الوحشية لنظام القذافي. كما كانت قطر من أولي الدول التي اعترفت بالمجلس الانتقالي الوطني، واستضافت أول مؤتمر دولي لإعادة إعمار ليبيا بعد مقتل القذافي.
وجاء أشد الانتقادات الموجهة لقطر وأكثرها صراحة علي لسان عبد الرحمن شلقم، مندوب ليبيا في الأمم المتحدة، عندما اتهم الدوحة بالتدخل في الشأن الليبي، وإعاقة جهود إعادة الاستقرار، وعدم الوقوف علي مسافة واحدة من كل الثوار الليبيين. واتهم قطر بالوقوف بتدعيم ساسة محسوبين علي التيار الإسلامي، مثل علي الصلابي، القيادي الإسلامي وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وعبد الحكيم بلحاج، رئيس المجلس العسكري للثوار الليبيين في طرابلس، بما في ذلك الإمداد بالسلاح(12).
في الحالة السورية، ورغم أن الدوحة كانت من أقرب حلفاء الأسد، فإنها كانت من أولي الدول التي انقلبت عليه(13). فبعد فترة قصيرة من التردد(14)، انتهجت قطر دبلوماسية نشطة في إطار جامعة الدول العربية، من خلال رئاستها للجنة الوزارية العربية المكلفة بالتعامل مع الأزمة. وجاءت المبادرة العربية لتعكس إلي حد كبير الرؤية القطرية التي لا ترغب في تجاوز الخطوط الحمراء التي حددتها إيران- الحليف الأقوي للأسد- خاصة في ظل تهديد الأخيرة بأن قطر ستكون أول من يواجه الرد في حالة التدخل في سوريا. ولذلك، فإن الغموض الذي أحاط بما يمكن أن تسفر عنه هذه المبادرة ربما كان مقصودا من قبل قطر ليعطيها قدرا من المناورة بين الأطراف المختلفة. ومن ثم، لم تكن المبادرة العربية تستهدف إنقاذ أو إبقاء النظام، وإنما تأمين خروجه سلميا، والظهور بمظهر الطرف ذي المصداقية الذي يمكن أن تتعاون معه إيران في صياغة مقبولة لسوريا ما بعد الأسد.
وفي هذا الإطار، ترددت شائعات حول عرض قطر التوسط بين إيران والإخوان المسلمين في سوريا(15). كما عملت الدوحة علي خلق إجماع- أو شبه إجماع- عربي علي ممارسة الكثير من الضغط علي النظام السوري، وهو الجهد الذي تكلل بتعليق عضوية سوريا في الجامعة العربية، بالإضافة إلي حزمة من العقوبات الاقتصادية(16). كما تصاعدت حدة الخطاب السياسي الرسمي القطري ضد نظام الأسد، مثال ذلك مقولة "إن رفض دمشق التعاون مع خطة السلام العربية هو الذي سيؤدي إلي حل دولي للأزمة"(17).
السؤال .. هل يؤذن ذلك التطور في الدور القطري بمسار جديد للدبلوماسية القطرية؟
هناك عدة تفسيرات لهذا التحول في السياسة القطرية، يستند أولها إلي الحسابات المادية المتمثلة- كما في الحالة الليبية- في الحصول علي دور في تطوير موارد الغاز الطبيعي الليبي(18). لكن مثل هذا التفسير لا يستقيم مع حقيقة ثراء هذه الدولة الخليجية الأعلي عالميا من حيث متوسط دخل الفرد. كما لا يستقيم في الحالة السورية، حيث توجد استثمارات كبيرة لقطر بعد العزلة التي فرضت علي دمشق في 2005، علي ضوء اتهامها بالتورط في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري. إذ يعني ذلك أن المصلحة المادية لقطر تتطلب في الحالتين الحفاظ علي الوضع القائم.
أما التفسير الثاني، فينطلق من الداخل القطري من حيث الرغبة في اكتساب المزيد من الشعبية لتبقي رياح الربيع العربي بعيدة عن الدوحة. ولا يستقيم هذا التفسير بدوره مع حقيقة التجانس الإثني الموجود في قطر، ومستوي الرفاهة الذي توفره الحكومة لمواطنيها(19). كما يدحض هذا التفسير أيضا ما جاء في أحد الاستطلاعات الأخيرة التي قام بها أحد مراكز الأبحاث التابعة لجامعة قطر من أن القطريين أقل اهتماما بالديمقراطية والمشاركة السياسية، عما كان عليه الوضع قبل موجات الربيع العربي(20).
ثمة تفسير ثالث يري أن السياسة القطرية تنطلق من منطلق عقائدي يتعلق بتعزيز مصالح الإسلام السني. ويدلل أصحاب هذا الرأي علي ذلك بصمت الجزيرة علي الاضطرابات التي حدثت في الجزء الشرقي من السعودية (ذات التركيز الشيعي) وتغطيتها الهزيلة لتوترات البحرين، بينما سلطت الضوء علي الانتفاضة ضد النظام السوري العلوي، وكذلك ما يثار حول تمويلها لجماعات الإسلام السياسي في مصر(21). صحيح أن جزءا كبيرا من شرعية الدول الخليجية يستند إلي الدين، ولكن مثل هذا التفسير لا يتسق مع تحالف قطر السابق مع سوريا، وعدم اتخاذها مواقف تصعيدية، حتي تأكدت من قوة الدفع الثوري هناك(22).
بناء علي ما سبق، يمكن القول إن السياسة القطرية ليست ذات مرجعية أيديولوجية، لكن الدوحة تري في الإسلاميين القوة الجديدة في العالم العربي(23)، ومن ثم، فإن هذا التحالف معهم سيزيد من نفوذها في المنطقة. وفيما يخص إسلاميي ليبيا تحديدا، هناك سهولة في التواصل معهم، نظرا لوجود علاقات سابقة، نتيجة إقامة بعضهم داخل قطر لسنوات عديدة(24).
إذن، فإن قطر تحلم بدور لها في المنطقة لا يتناسب بالضرورة مع إمكاناتها كدولة، ومن هنا جاء الربيع العربي بمثابة فرصة ذهبية أمامها لبلورة وصقل هذا الدور، مستفيدة في ذلك من غياب دور القوي التقليدية في المنطقة المنشغلة بأوضاعها الداخلية، أو تخشي زعزعة النظام الإقليمي الهش. وقد تمكنت الدوحة، نتيجة لصغر حجمها وهيكل اتخاذ القرار، من التعامل بسرعة وجرأة مع الأحداث المتلاحقة، وهو ما يعطيها ميزة نسبية وفرصة لتخطي القوي الكبري(25). إن ما تريده قطر هو أن تظل في قلب أحداث المنطقة، وأن تقوم بدور الوسيط بين المنطقة والعالم الغربي. وهذا بدوره يفسر حرص قطر علي الحفاظ علي علاقات مع مختلف الأطراف السياسية في المنطقة، خاصة المعادية للغرب، أو التي يتوجس الغرب منها ويجد صعوبة في التواصل معها، مثل القوي الإسلامية(26). كما أنه أصبح واضحا لقطر من خلال خبرتها في التوسط في النزاعات أنها تفتقر إلي العمق والثقل التاريخيين، وكذلك الوجود علي أرض الصراع من خلال علاقات قوية بالقوي السياسية المؤثرة في مجريات الأمور، وهو الأمر الذي تحاول قطر بناءه من خلال الرهان علي التيارات الإسلامية الصاعدة. كما أن مجرد تصدرها للرأي العام العربي، كمدافعة عن الثوار الراغبين في الحرية والديمقراطية، هو في حد ذاته فرصة لا تعوض لتسويق الدور القطري دوليا.
حدود القوة الناعمة:
وهنا، يأتي السؤال: هل ستستمر قطر في مرحلة ما بعد القوة الناعمة؟ تتطلب الإجابة علي هذا التساؤل فهم طبيعة الحالة الليبية مقارنة بحالات الثورات العربية الأخري. لم تكن ليبيا حليفا لطرف محدد فيما يتعلق بتوازنات القوة في المنطقة، ولم تكن تمثل مصلحة استراتيجية سوي للأوروبيين الذين تحالفت معهم قطر. بالتالي، فقد قامت قطر بملء فراغ في ليبيا(27).
ولا ينطبق هذا الوضع علي الثورات العربية الأخري. إذ لكل من اليمن وسوريا والبحرين أهميتها الخاصة في سياق توازنات القوي الإقليمية. فهناك عوامل تحول دون لعب قطر دورا أكبر، خاصة فيما يتعلق بالتمويل والتسليح، من بينها الدور السعودي في اليمن، وذلك الإيراني في سوريا، وحساسيات وضع البحرين من حيث أغلبيته الشيعية ونظامه السني. وفي الحالة السورية، سيصعب علي قطر القيام بأي دور مستقل، حيث لا يوجد إجماع دولي علي التدخل المباشر في سوريا، كما أن القوات السورية أكثر تدريبا وتنظيما، وبالتالي سوف تمثل تحديا أقوي كثيرا من نظيرتها الليبية. كما أن الطبيعة الجغرافية لسوريا تختلف عن ليبيا، فضلا عن عدم استحواذ ثوار سوريا علي أي جزء من أراضيها حتي الآن(28). وبالتالي، فإن أي تحرك قد تحاول قطر القيام به سيكون علي الأرجح من خلال إطار مؤسسي جماعي، وهو بالفعل ما قامت وتقوم به من خلال الجامعة العربية. أما بالنسبة للبحرين، فقد كانت قطر ذاتها جزءا من قوات درع الجزيرة التي تدخلت لاحتواء الوضع هناك، بالإضافة إلي ما تمثله البحرين من مصلحة استراتيجية مهمة لكل من الولايات المتحدة والسعودية اللتين يتوقع أن تكونا قد حذرتا قطر من التدخل في هذه الحالة.
هذا ما يدفع للاعتقاد بأن ليبيا ستظل الاستثناء فيما يتعلق بالتدخل القطري الأحادي المباشر، فقطر لا تزال- وستظل- دولة صغيرة وسط إقليم هش، وهي لا تملك الرصيد الكافي أو القوة اللازمة لتتدخل منفردة في أي صراع. وبالتالي، من الأرجح أن تلعب قطر دورا دافعا، وربما قياديا، داخل مؤسسات العمل الجماعي، بالتوازي مع توظيف القوة الناعمة.
وإن كان الربيع العربي سيفرض عليها تحديات من نوع جديد في توظيف هذه الأداة. فمن ناحية، سيفرض الربيع العربي علي قطر أن تكون أكثر وضوحا في تحيزاتها، وفي التعبير عن الأطراف التي تساندها، بما قد يؤثر في تغطية الجزيرة. ومن ناحية أخري، ستتعرض الجزيرة إلي منافسة من جانب القنوات المحلية الوليدة بعد الثورات العربية(29). وإذا لم تتعامل قطر بحذر مع هذه المعطيات الجديدة، فستفقد الجزيرة مصداقيتها، وبالتالي ستفقد قطر إحدي أهم أدوات قوتها الناعمة، بل واحدة من أهم أدوات سياستها الخارجية.الهوامش:
(1) جاءت تلك التظاهرات علي خلفية زيارة الغنوشي لقطر كأول دولة يزورها بعد فوز حزب النهضة في الانتخابات.
See: http://www.middle-east-online.com/id=980021
(2) Olivier Da Lage. .5002 زThe Politics of Al Jazeera or the Diplomacy of Dohaس, in Mohamed Zayani ed. Al- Jazeera Phenomenon: Critical Perspectives on New Arab Media. London: Pluto Press, p. 05.
(3) طارق الشيخان الشمري، الجزيرة: قناة أم حزب أم دولة .. دور قناة الجزيرة الإعلامي والشعبي والسياسي في العالم العربي والإسلامي والغربي، القاهرة: دار الكتاب الحديث، 2007.
(4) Mehran Kamrava. .1102 زMediation and Qatari Foreign Policyس. Middle East Journal 56 (4), p. 2.
(5) Lee Smith. .1102 زThe Little Emirate that Could: Qatar versus Qaddafiس. The Weekly Standard 61 (74). Available at: http://www.middle-east-online.com/id=980021 (Retrieved: 1102/11/02).
(6) نشرت إحدي وثائق ويكيليكس أن قطر في بعض الأحيان كانت تلوح بالتغطية الإعلامية للجزيرة كورقة تفاوضية.
- See:http://www.telegraph.co.uk/news/worldnews/wikileaks/5113818/WikiLeaks-al-Jazeera-used-as-bargaining-tool-by-Qatar.html.
(7) Khaled Hroub.. .1102 زHow Al-Jazeera's Arab Spring Advanced Qatar's Foreign Policyس. Europe's World. Available at: http://www.europesworld.org/NewEnglish/Home_old/Article/tabid/191/ArticleType/ArticleView/ArticleID/77812/HowAlJazeerasArabspringadvancedQatarsforeignpolicies.aspx. (Retrieved: 1102/11/12).
(
Aryn Baker. .1102 زBahrain's Voiceless: How al-Jazeera's Coverage of the Arab Spring is Unevenس. Time. Available at: http://globalspin.blogs.time.com/42/50/1102/bahrains-voiceless-how-al-jazeeras-coverage-of-the-arab-spring-is-uneven/ (Retrieved: 1102/11/22). Jonathan Gomall. .1102 زArab Spring Brings Al Jazeera to Full Bloomس. The National. Available at: http://www.thenational.ae/news/worldwide/middle-east/arab-spring-brings-al-jazeera-to-full-bloom. (Retrieved: 1102/11/02).
(9) Robert Fisk. .1102 زHow Al Jazeera Helped the Arab Spring to Blossomس. The Independent. Available at: http://www.independent.ie/opinion/analysis/robert-fisk how-al-jazeera-helped-the-arab-spring-to-blossom-.3033292html (Retrieved: 1102/11/30).
(10) Hugh Eakin. .1102 زThe Strange Power of Qatarس. The New York Review of Books. Oct. .72 Available at: http://www.nybooks.com/articles/archives/1102/oct/72/strange-power-qatar/ (Retrieved: 1102/21/90).
(11) David Roberts. .1102 زBehind Qatar's Intervention in Libya: Why Was Doha Such a Strong Supporter of the Rebelsس. Foreign Affairs 09 (5). Available at: http://www.foreignaffairs.com/articles/20386/david-roberts/behind-qatars-intervention-in-libyapage=show (Retrieved: 1102/11/52).
(12) Ahmed Souaiaia. .1102 زQatar, Al-Jazeera and the Arab Springس. Monthly Review. Nov.71. Available at: http://mrzine.monthlyreview.org/1102/souaiaia.111171html (Retrieved: 1102/11/32).
(13) Roula Khalaf. .1102 زQatar Steps in to Fill Regional Voidس. Financial Times. Nov. .03 Available at: http://www.ft.com/intl/cms/s/0946/0c2ae-1b46-11e1-8b11-44100feabdc.0html#axzz1gdGWdgXj (Retrieved 1102/21/41).
(14) يفسر البعض هذا التحول في الموقف القطري بأن الدوحة أدركت فقدان دمشق الكثير من نفوذها في الملف الفلسطيني تحت وطأة موجة الاحتجاجات الشعبية والضغوط الدولية. بالإضافة إلي أن سقوط الرئيس المصري وفتح معبر رفح الذي خفف القيود علي قطاع غزة، وكذلك المصالحة الفلسطينية التي تمت في القاهرة، كل ذلك يجعل قطر قادرة علي تجاوز الوسيط السوري في تعاطيها مع الملف الفلسطيني.
انظر: "القطيعة بين قطر وسوريا .. طلاق مدروس بحكمة"، فرانس، 42، 62 أغسطس 2011.
- Available at:http://www.france.42com/ar/02701102-syria-qatar-relations-diplomacy-protests-embassy-interests conflict-violence (Retrieved: 1102/11/02)
(15) Tony Badran. .1102 زQatar's Diplomatic Dynamismس. Foundation for Defense of Democracies. Nov.3.Available at: http://www.defenddemocracy.org/media-hit/qatars-diplomatic-dynamism/ (Retrieved: 1102/21/10).
(16) جعل هذا الموقف قطر هدفا للنقد والغضب من قبل النظام في سوريا، حيث اتهمها بتنفيذ أجندة أمريكية وإسرائيلية، وقررت دمشق مقاطعة دورة الألعاب العربية التي أقيمت في الدوحة في ديسمبر 2011.
- See: Anthony Shadid. .1102 زTiny Qatar Emerges as Giant in Arab Worldس. The Seattle Times. Nov.41. Available at: http://seattletimes.nwsource.com/html/nationworld/1759676102_qatar.51html (Retrieved: 11102/21/20)
(17) Roula Khalaf, op. cit.,
(18) Lee Smith. زLittle Emirate that Couldس, op. cit.
(19) David Roberts, "Behind Qatarصs Intervention," op. cit.,
(20) وعلي الرغم من تلك التوجهات لدي القاعدة العامة من القطريين، فإن أمير قطر أعلن عن إجراء انتخابات لمجلس الشوري في 2013. وهو الأمر الذي يفسره البعض بأنه محاولة لرفع الحرج عن النظام القطري الذي يساند تطلعات الشعوب إلي الديمقراطية في وقت يفتقر إليها داخليا.
- See: Bart Hasseling. .1102 "Qatarصs Trailblazing Diplomacy". Arabsthink.com. Nov. .12 Available at: http://arabsthink.com/12/11/1102/qatars-trailblazing-diplomacy/ (Retrieved: 1102/21/01).
(21) نشرت جريدة الأخبار في عددها الصادر في 51 ديسمبر 1102 تقرير لجنة تقصي الحقائق حول التمويل الأجنبي للجمعيات والمنظمات غير الحكومية. ويتضح من التقرير أن جمعية أنصار السنة المحمدية قد تلقت نحو 181 مليون جنيه من قطر. وتبين أن جمعية أنصار السنة المحمدية خصصت من هذا المبلغ 03 مليون جنيه فقط لكفالة اليتيم ورعاية الفقراء، بينما تم توجيه مبلغ 331 مليون جنيه للصرف علي ما تمت تسميته بقضايا تنموية مختلفة.
Available at: http://www.akhbarelyom.org.eg/issuse/detailze.aspmag&field=news&id=36855#.TunvLzR1IJK.facebook (Retrieved: 1102/21/51)
(22) "القطيعة بين قطر وسوريا"، مرجع سابق.
(23) وقد جاء ذلك علي لسان وزير خارجية قطر ورئيس الوزراء، الشيخ حمد بن جاسم الثاني، في حديثه مع الفاينانشيال تايمز، والذي دعا فيه الغرب إلي التعامل مع الإسلاميين المعتدلين، لأنهم يمكن أن يساعدوا في التصدي للأفكار المتطرفة.
- See: Roula Khalaf, op. cit.,
(24) David Roberts. .1102 "The Grumbles about Qatarصs Role in Libya Grow". Mideastposts.com. Available at: http://mideastposts.com/52/01/1102/the-grumbles-about-qatars-role-in-libya-grow/ (Retrieved: 1102/11/02).
(25) Bart Hasseling, op. cit.,
(26) David Roberts."Behind Qatar"s Interventionس, op. cit.,
(27) Lee Smith."The Little Emirateس, op. cit.
(28) Justin Dargem. .1102 "Qatar Trades Support of Libyan Revolution for Oil and Gas". In the New, Harvard University, Belfer Center for Science and International Affairs.
(29) Philip Seib. .1102 "The Resignation of Wadah Khanfar and the Future of Al Jazeera: Why the Arab Spring Was the Best- And Worst- Thing to Happen to the Network". Foreign Affairs 09 (5). Available at:"http://globalpublicsquare.blogs.cnn.com/72/90/1102/why-the-arab-spring-was-the-best-and-worst-thing-to-happen-to-al-jazeera/ (Retrieved: 1102/11/22