يوهان غوتليب فيختِه
(1762-1814)
يوهان غوتليب فيختِه Johann Gottlieb Fichte فيلسوف ألماني، ولد في قرية رَمِّناو Rammenau في مقاطعة لاوزيتس Lausitz. عمل في صغره راعياً للبقر، وفي أثناء ذلك كان يحضر الدروس الدينية. وقد ظهر نبوغه منذ الصغر، ولفت انتباه الجميع بتوقّد ذكائه وسرعة بديهته. فتبنّاه رجل ثري ذو مكانة اجتماعية؛ هو البارون ميلتز، وتعهّد بالإنفاق على تعليمه. التحق بجامعة يينا Jena طالباً في قسم اللاهوت، وتابع محاضرات في تاريخ الأديان وتأويل الكتاب المقدس وفقه اللغة. ومن ثم التحق بجامعة لايبزيغ Leipzig، تابع دراساته على يد كبار الأساتذة الذين ينتمون إلى مختلف الاتجاهات والتيارات. وفي عام 1784 أنهى دراساته اللاهوتية، ورفض أن يتعيّن أستاذاً في اللاهوت بسبب قناعاته الشخصية بأنه لا يصلح لهذا الدور؛ مما أغضب عائلة البارون ميلتز التي كانت تُنفق على تعليمه، وقامت بإلغاء راتبه الشهري، ولم يجد مخرجاً من هذه الأزمة سوى القيام بالتدريس الخاص، فسافر إلى سويسرا، ومنها إلى لايبزيـغ حـيث درَّس فلسفة كَنْت وقدم شرحـاً لكتاب «نقـد العقل المحض»Kritik der reinen Vernuft عـام (1791) ثم رحـل إلى كونيغزبرغ Königsberg للقاء كَنْت، فازداد تأثّره به، فكتب بحثاً بعنوان «نقد الوحـي»Kritik: aller Offenbarung عام (1792) مغفلاً اسم المؤلّف؛ مما جعل الناس تظن أن هذا الكتاب هو من تأليف كانت، لكن كانت صرح بأنّ مؤلّف هذا الكتاب هو فيخته، وهذا ما أدخله عالم الشهرة وإلى جامعة يينا حيث عُيِّن أستاذاً في عام 1794. من أهمّ مؤلّفاته كتاب «المبادىء الأساسية لنظرية العلم» Grundlag der gesamten Wissenschaftslehre عـام (1794) و«أسس نظريـة الحـق الطبيعي» Grundlag des Naturrechtes عام (1796)، وكتابه «نظريـة الأخـلاق» System der Sittenlchre عام (1798)، ومقالته الشهيرة «أساس إيماننا في العناية الإلهية»Über den Grund unseres Glaubens an eine göttlich Weltordnung عام (1798) التي تردّ الدين إلى الأخلاق. فعدُّ على أثرها محرضاً انقلابياً ضد النظام القائم، وفُصِلَ من الجامعة عام 1799، فرحل إلى برلين حيث نشر كتابه الاقتصادي الأول «الدولة التجارية المغلقة» Der geschlossene Handles staat عام 1800، وفي برلين بدأ نجمه يخبو مقابل صعود نجم شيلنغ[ر] وهيغل[ر]، وفي عام 1804 صدر «خطابات إلى الأمة الألمانية» Reden an die deutsche Nation الذي كتبه متأثراً بالأحداث الجسام التي عصفت بأوربا بأسرها، وإعلان بروسيا الحرب على فرنسا. وفي عام 1809، أُسِّست جامعة برلين، وعُيِّن عميداً لها عام 1810، وأصيب لاحقاً بمرض التيفوس حيث تُوفِّي عن عمر يناهز 52 عاماً.
كانت فلسفة فيخته جماع شخصيته، أو أن شخصيته عكست فلسفته، وكان يقول: إنّ ما يعتنقه المرء من فلسفة ليتوقّف على نوعيّة شخصيّته، فالمذاهب الفلسفية ليست قطعاً من الأثاث الأصمّ، قد يعتنقها المرء أو يستغني عنها كلما تراءى له ذلك، لكنها بمجرد أن يعتنقها تصبح جزءاً من تكوينه.
وتعد نظرية العلم التي أسسها فيخته المنطلق الأساسي لجميع أفكاره ونظرياته الأخرى، إذ يؤكد وجود مذهب كلي متكامل داخل العقل الإنساني، ومن دون هذا المذهب لن تكون هناك معرفة أبداً، فمن خلال المعرفة الكلية يمكن الوصول إلى التفسير الكلي للكون. والفلسفة هي الوحيدة القادرة على الوصول إلى التفسير الكلي للكون. إن العلم هو الكلي، ويقتضي أن يؤسس على مبادئ أساسية يقينية يقوم فيما بينها ارتباط محكم؛ لأن طابع العلم هو اليقين الشامل المنتظم في جميع أجزائه.
ويعتقد فيخته بوجود منهجين ممكنين في الفلسفة، هما القطعية التي تستنبط الفكرة من الشيء، والمثالية التي تستنبط الشيء من الفكرة، وأن المرء يختار أي المنهجين تبعاً لغلبة الشعور بالانفعالية أو الفعالية عليه، وأنه هو نفسه يؤثر المثالية؛ لأنه يؤمن بالإرادة وبالحرية وبالضمير وبالجهاد لتحقيق الغايات الكبرى، وبأن الفكر لا يدرك الطبيعة، لكنه يدرك تصوراته منها، وبأن مهمة نظرية المعرفة جلاء كيفية صدور صور الأشياء عن الفكر، وأنه لذلك يعتقد بوجود «أنا» أكبر من «الأنا» المدرك المتناهي قادر على إحداث الأشياء وهو علّتها، ويسميه فيخته «الأنا اللامتناهي» Ich-Tathanlung أو «الأنا الخالص» أو «الأنا المطلق»؛ وعليه تقوم نظرية العلم.
ويفهم فيخته هذا «الأنا» بمعنى ديناميكي، أي بأنّه فعل العقل؛ مستوحياً هذه الفكرة من مبدئه الأول من القانون الأخلاقي، حيث يرى أن الالتزام الأخلاقي هو القضية الأساسية التي يمكن بها إثبات الوجود «إن عليَّ واجباً، فأنا إذن موجود»، وبهذا تصبح نقطة انطلاق فيخته، ليست من نظرية العلم، بل من نظرية الأخلاق. وعموماً فقد اقتفى فيخته الخطى الكانتية؛ ليصل إلى مذهبه الأخلاقي؛ لأنه أدرك أهمية العقل العملي في إثبات العقائد الدينية، فكان عليه أن يطبق نتاج الفلسفة النقدية على علم اللاهوت وعلى الوحي الديني. أما فلسفة فيخته الأخلاقية فكانت رداً على المذهب الجبري الذي يعدُّ أن نشاط الإرادة محدد بتصورات سابقة على الإرادة ووجود معطيات سابقة على النشاط، هي التي تحتم النشاط، وتحدّد الخيار حوله، وهذا يعني تبعيّة عملنا وإرادتنا لتصورات سابقة تحدد هذا العمل أو ذاك، وهذه الإرادة أو تلك. الإرادة، في مفهوم الفلسفة الجديدة، هي سابقة لكل تمثل وتصوّر بوصفها أساساً لإمكانهما؛ وما التمثل والتصور إلا تعبيراً عنها. ولم تعد الطبيعة والعالم الخارجي، عند فيخته، عائقاً للحرية؛ لأن الحرية لا تعارض الطبيعة، بل أصبحت الطبيعة، بما فيها طبيعة الجسد، أداة أو وسيلة تكفل للأنا حريتها بوصفها شرطاً لها، فالإنسان لا يؤدي واجباته بوساطة أحلام، بل بوساطة أفعال منجزة في المجتمع ولحساب المجتمع؛ لذلك جاءت أفكار فيخته السياسية ضمن نطاق هذه المنظومة العلمية الأخلاقية، فهو يضع الحق الإنساني شرطاً للدولة المتمدنة. وانتقد الكنيسة؛ لأنها تخالف حقوق الإنسان عندما تقاضي الإنسان الذي لا يؤمن بها.
وقد مثّلت مساهمات فيخته في الثورة تبريراً قانونياً لها باسم مبادئ العقل، وأداته الحكم الملكي المطلق باسم حرية الفكر، ودعت فلسفته السياسية لإنكار جميع الامتيازات «الكهنة - الإقطاع - النبلاء»؛ باسم العدالة الاجتماعية، فالمصير الإنساني عند فيخته ليس مسألة فردية، إنما هي مسألة مجتمعية حيث يكمن مصير الإنسان في علاقته مع النوع الإنساني كله، فقدر الإنسان هو العيش في مجتمع. بالعلم وحده يمكن تأسيس المجتمع الإنساني، ومعرفة المبادئ الأساسية وهدف الحياة وحاجات الناس مما يساعد على تقدم النوع الإنساني، وبالعلم وحده يمكن أيضاً تأسيس نظام سياسي ملائم للأخلاق المؤسسة على الدين.