نص فقهاء الحنفية على حرمة الشروط في القرض، قال ابن عابدين: وفي الخلاصة: القرض بالشرط حرام والشرط لغو (60) .
ويستفاد من كلام فقهاء المالكية في المسألة كراهية القرض مع هذا الشرط (61) .
ونص فقهاء الحنابلة على عدم جواز ذلك، وعلى فساد هذا الشرط مع بقاء العقد صحيحاً؛ لعدم تأثير الشرط الفاسد على صحة العقد (62) .
الصورة الثالثة:
إذا شرط في عقد القرض أن يبيعه شيئاً، أو يشتري منه، أو يؤجره، أو يستأجر منه، ونحو ذلك فقد نص جمهور الفقهاء، المالكية والشافعية والحنابلة: على عدم جواز هذا الاشتراط (63) .
واستدلوا على ذلك، بما ورد عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لاَ يَحِل سَلَفٌ وبَيْعٌ، وَلا شَرْطَانِ فِي بَيْع، ولاَ ربْحٌ مَا لَمْ يُضْمَنُ، وَلا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ" (64) .
ولأنه شرط عقداً في عقد فلم يجز، كما لو باعه داره بشرط أن يبيعه الآخر دار، وإن شرط أن يؤجره داره بأقل من أجرتها، أو على أن يستأجر دار المقرض بأكثر من أجرتها كان أبلغ في التحريم (65) .
ولأن القرض ليس من عقود المعاوضة، وإنما هو من عقود البر والمكارمة، فلا يصح أن يكون له عرض، فإن قارن القرض عقد معاوضة كان له حصة من العوض، فخرج عن مقتضاه، فبطل ما قارنه من عقود المعاوضة (66) .
وقد ذكر في فقهاء الحنفية في هذا المقام مسألة تتعلق بهذه الصورة، وهي شراء المقترض الشيء اليسير من المقرض بثمن غالٍ لحاجته للقرض، وقالوا: يجوز ويكره (67) .
وفي الندوة الفقهية الخامسة لبيت التمويل الكويتي، جاء في أحد قراراتها حول موضوع: اجتماع العقود المتعددة في عقد واحد ما يأتي: (يجوز اجتماع العقود المتعددة في عقد واحد، سواء أكانت هذه العقود متفقة الأحكام طالما استوفى كل عقد منها أركانه وشرائطه الشرعية، وسواء أكانت هذه العقود من العقود الجائزة أم من العقود اللازمة، أمن منهما معاً، وذلك بشرط ألا يكون الشرع قد نهى هذا الاجتماع، وألا يترتب على اجتماعها توسلٌ إلى ما هو محرَّم شرعاً) (68) .
الثامن: اشتراط الجعل على الاقتراض بالجاه:
اختلف الفقهاء فيمن استقرض لغيره بجاهه، هل يجوز له أن يشترط عليه جعلاً ثمناً لجاهه أم لا؟.
قال فقهاء الشافعية والحنابلة: لو قال لغيره اقترض لي مئة ولك علَّ عشرة فهو جعالة (69) .
وقال الإمام أحمد: ما أحب أن يقترض بجاهه لإخوانه، يعني إذا كلن مَن يقترض له غير معروف بالوفاء، لكونه تعزيزاً بمال المقرض وإضراراً به، أما إذا كان معروفاً بالوفاء فلا يكره؛ لكونه إعانة له وتفريحاً لكربته، قال ابن قدامة: لو قال: اقترض لي من فلان مئة، ولك عشرة، فلا بأس، ولو قال: اكفَل عني ولك ألف لم يجز، وذلك لأن قوله: اقترض لي ولك عشرة جعالة على فعل مباح، فجازت، كما لو قال: ابن لي هذا الحائط ولك عشرة، وأما الكفالة؛ فإن الكفيل يلزمه الدَّين، فإذا أدَّاه واجب له على المكفول مثله، فصار كالقرض، فإذا أخذ عوضاً صار القرض جارَّاً للمنفعة، فلم يجز (70) .
وفي قول فقهاء المالكية: اختلف في ثمن الجاه، فمن قائل بالتحريم مطلقاً (71) ، ومن قائل بالكراهية بإطلاق، ومن مفصِّل بين أن يكون ذو الجاه يحتاج إلى نفقة وتعب وسفر، فأخذ مثل أجره، فذلك جائز، وإلا حرم، ولعل هذا هو الحق (72) .
موقف لشريعة من فوائد التأخير:
لقد تفشَّت مشكلة مماطلة المدين في الوفاء بما عليه، وكثُرَ السؤال: ألا يستحق الدائنُ تعويضاً عن ضرره من المدين المماطل؟ وهل في الشرع الإسلامي ما ينافي ذلك؟، وهل يجوز اشتراط الزيادة في الديون؟.
إنَّ المتتبع لأقوال الفقهاء سابقاً لن يجد جواباً على هذا السؤال، فهم لم يعالجوا مثل هذه الحالة، وإنَّ كُلَّ ما ذكروه، هو: أنَّ الزيادة على أصل الدَّين هي من ربا النسيئة الذي وَرَدَ تحريمه بالقرآن والسنة والإجماع، فالمسألة جديدة وبخاصة في صورتها الحالية، سرعة الأداء في المعاملات وكثرة الصفقات التجارية، وارتباط الصفقات في أداء قيمتها لإسلام قيمة صفقة سابقة، ومحاولات المماطلة في أداء المستحقات.
وفيما يأتي بيان وعرض بعض النصوص الشرعية التي نصب في ألفاظها، أو مدلولاتها على التعامل التجاري وضرورة الالتزام بالعقود، واحترام المواثيق، والمحافظة على المواعيد، وفرض العقوبات على المخالفين.
ففي القرآن الكريم (73) :
وفي السنة النبوية (74) :
وقد اتفق الفقهاء على وجوب تعويض من وقع عليه الضرر على حساب من سبب الضرر وأحدثه، لأنه مسؤول عنه، وقد استمد الفقهاء قاعدة من هذا الحديث وهي: (الضرر يزال) (75) ، وقاعدة: (الضرر البين يزال ولو قديماً) (76) ، وقاعدة: (الضرر الأشد يزال بالأخف) (77) .
وفي خصوصيات مسألة المدين المماطل، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خطبته عام حجة الوداع: "الْعَاريَةُ مُؤَدَّاةٌ، وَالْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ، وَالدَّيْنُ مَقْضِي وَالزَّعِيمُ غَارمٌ" (78) .
وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَطْلُ الْغَنِيِّ ظلْمٌ" (79) .
والمَطْل: (منع قضاء ما استَحِقَّ عليه قضاؤه) (80) ، والغني هنا: مَن كان قادراً على الوفاء بما عليه من الدَّين، ولا عبرة بمقدار الغنِي ودرجته.
ومن العدل: الوفاء بالدَّين في موعده، ما دام المدين مليئاً موسراً، إبراءً للذمة، وأداءً للحق، والتزاماً بالعقد، ووفاءً بالعهد، فإذا أخَّر الدفعَ وهو قادرٌ، فهو ظالم يستحق عقوبة الظالمين في الدنيا والآخرة.
يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لي الْوَاجِدِ يُحِل عِرْضَهُ وَعُقوبَتَهُ" (81) ، و (اللي) بتشديد الياء، مصدرٌ لفعل (لوى يلوي) بمعنى: ما طل في الوفاء بالحقوق، وأخّر دفع الحق المترتب عليه، و (الواجد) هو الذي يجد ما يفي به، أي المدين القادر على الدفع ووفاء الدَّين، ومعنى (بُحِلُّ عرضه) : أي يُجيْزُ للقاضي التشهيرَ به، كما يجوز للناس أن يذكروه بسوء معاملته، وأما (عقوبته) ،فهي محل النظر والاختلاف في المسألة كما يأتي بيانه بعد قليل.
وفي مقاصد الشريعة:
تَقَرَّرَ العدلُ والإنصاف، وعدم المساواة بين الأمين والخائن، وبين المطيع والعاصي، وبين المنصف والجائز، وبين مَن يؤدي الحقوق إلى أصحابها في مواقيتها، وبين مَن يجحدها أو يمنعها أو يؤخرها.
ولا شَكَّ أن تأخير الحق عن صاحبه عمداً، دون عذر شرعي هو ظلمٌ وجَوْرٌ بشهادة الأدلة السابقة، كما أن في تأخير الحق ضرراً لصاحب الحق بحرمانه من منافع ماله، خلال مدة التأخير التي قد تطول أو تقصر.
فهذا المدين الظالم بالتأخير، والمماطل في الوفاء، رغم قدرته، إذا لم يُلْزَم بتعويض صاحبِ الحق عن ضرره من هذا التأخير، كانت النتيجة أن يتساوى الظالم العاصي مع الأمين العادل الذي لا يؤخر حقاً عليه (82) .
والنتيجة: إنه بالنظر إلى الأدلة الشرعية من القرآن والسنة ومقاصد الشريعة،لا بُدَّ من التفصيل في بيان حكم أخذ الزيادة في القروض والديون بعد حلول أجلها، وهذا التفصيل يستند إلى أسباب تعثر المديونية وكيفية معالجتها.
وبالاستقراء، يمكن إرجاع أسباب تعثر المدين عن دفع ما وجب عليه، إلى خمسة أسباب، وفيما يأتي بيانها مع ذكر الحلِّ المناسب لها.
1. الإعسار (83) :
وهو اللغة (84) : مصدر أعسر بمعنى افتقر، وهو ضد اليسار، وأصل العسر يدُّلُ على الصعوبة والدة والضيق، والعسرة: قلة ذاتِ اليد، أو تَعَسُّرُ وجود المال أو الإقلال منه، وفي القرآن العظيم: (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) (الطلاق:65/7) ، وقوله تعالى: (وَإنْ كَانَ ذو عُسْرَةٍ فنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ) (البقرة: 2/280) .
وفي الاصطلاح: (عدم القدرة في الحال على أداء ما ترتب في الذمة من حقوق مالية) (85) .
فإذا كان تأخير أداء الدَّين بسبب الإعسار، وثبت الإعسار فالحكم الشرعي يُؤْخَذُ في القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَإنْ كَانَ ذو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٍ إلى مَيْسَرَةٍ) (البقرة:2/28) ، حيث يُؤمَر الدائن ويُطلبُ إليه إنظارُ المدين المعسر.
2. الإفلاس:
وهو في اللغة (86) : مصدر أفلس، أي صار ذا فلوس بعد أن كان ذا ذهب وفضة، أو صار إلى حال ليس له فلوس.
وحقيقته: الانتقال من حالة اليسر على حالة العسر.
وهو في الاصطلاح:
عند فقهاء الحنفية: (حكم الحاكم بتفليسه) (87) ، أي قضاء القاضي بجعل شخص استغرقت ديونُه -كل ما عنده- كٌلَّ أمواله تحت تصرف القاضي والغرماء.
وعند فقهاء المالكية: الإفلاس: (أن يستغرق الدَّين مال المدين فلا يكون في ماله وفاءُ بدَينه) (88) .
وعند فقهاء الشافعية: منع الحاكم له - أي للمفلس - من التصرفات المالية، لتعلُّق الدَّين بها (89) .
وعند فقهاء الحنابلة: المفلس: من كان دينه أكثر من ماله الموجود، وخَرْجُه أكثر من دخله (90) .
فإذا كان تأخير أداء الدَّين بسبب الإفلاس، أحاط الدَّين بمال المدين، وطلب الغرماء الحجر عليه، وجب على القاضي إعلان إفلاس هذا المدين، ويكون توزيع أموال المدين المفلس على الدائنين من صلاحيات القاضي (91) ، دليل ذلك: " أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حَجَر على معاذ بن جبل رضي الله عنه ماله، وباعه في دَينٍ كَان عليه" (92) .
3. تغير قيمة النقود:
قد يطول أجَلُ الديون وقد يقصر، وأثناء ذلك تتعرض قيمة الديون لتقلبات الأسعار، وتَغَيُّر قيم النقود الورقية، وانخفاض قوتها الشرائية -غالباً-، مما يؤدي إلى تأخر أداء الديون عن مواعيدها، فما الوسائل المقترحَة لحل هذه المشكلة؟.
لقد ظهرت عدة وسائل لعلاج هذه الظاهرة، منها:
جعل سعر الفائدة المصرفية تعويضاً عن التضخم السائد: لكنَّ هذه الوسيلة غير ناجحة في معالجة المديونيات المتعثرة، وذلك من عدة وجوه (93) .
أ - الربط القياسي للديون:
وهو تقويم قيمة الديون، قروضاً أو بيوعاً مؤجلة أو مهوراً أو نحوا ذلك، بسعلة أو مجموعة من السلع أو عملة حقيقة أو اعتبارية؛ مناسبة للقوة الشرائية للنقود.
ويتم الربط القياسي بتثبيت قيمة القرض، وذلك بمعرفة قيمة السلعة أو السلع أو العملة التي جُعِلَتْ قياساً للديون في وقت عقد الدين أولاً، ثم تعرف قيمة السلعة أو السلع أو العملة التي جُعِلَت قياساً للديون عند تاريخ الاستحقاق، والفارق هو التغير في قيمة النقود، وعلى الطرفين استلام وتسليم ما هو موافق للقيمة، ودفع الفارق بين السعرين (94) .
وبالاطلاع والمعرفة يتضح عدم جواز ربط الديون بسلعة، أو مجموعة من السلع، أو بعملة حقيقية كانت أم اعتبارية، وهذا ما أكَّدته الندوة العلمية حول (ربط الحقوق والالتزامات الآجلة بتغير الأسعار) ، التي انعقدت في البنك الإسلامي للتنمية في الفترة ما بين 37/ شعبان - 1/ رمضان / 1407ه الموافق 25 - 28نيسان-إبريل/ 1987م، وقد نظمها المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب في البنك المذكور مع المعهد العالمي للاقتصاد الإسلامي لإسلام آباد (95) .
ب - نظرية الظروف الطارئة (96) :
الظرف الطارئ هو: (لكل أمر يؤدي إلى اختلاف كبير في السعار (أسعار الجملة أو السلع) بحيث يجعل المدين (أحد الطرفين) يتحمَّل عبئاً مرهِقاً جداً للأشخاص العاديين، ولم يكن ذلك الظرف متوقعاً عند التعاقد، مقل الحرب أو الزلزال، حيث تقلُّ السلع أو ترتفع أسعارها) (97) .
وفي مسألة المديونيات المتعثرة يمكن تطبيق هذه النظرية في حال لجوء أحد طرفي العقد إلى القضاء، فعند ذلك ينظر القاضي إلى الدعوى فإنْ تبيَّن له أنَّ القضية ينطبق عليها تعريف الظرف الطارئ، فإنَّه يُحَدِّدُ فرق السعر بين يوم الالتزام أي التعاقد، وبين يوم الاستحقاق أي الأداء، فيقسم هذا الفرق بين الطرفين؛ الدائن والمدين، بحيث يتحمَّل كل منهما نصف فرق السعرين.
وقد أقر المجتمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة، في دورته الخامسة المنعقدة ما بين 8-16/14 /1402ه، فحوى ومضمون نظرية الظروف الطارئة، وذلك في القرار رقم (7) بشأن الظروف الطارئة وتأثيرها في الحقوق والالتزامات العقدية (98) .
4. الجحود والإنكار:
الإنكار في اللغة (99) : نفي الشيء المدَّعى، أو المسؤول عنه، والإنكار: الجحود.
والإنكار في الاصطلاح، يأتي بمعنى الجحد والجحود، وفي اللغة: الجحد والجحود: نقيد الإقرار، والجحود: الإنكار مع العلم (100) .
ويتحقق الإنكار بالنطق، والامتناع عن الإقرار وبالسكوت.
وإذا ثبت أن المدين ينكر قيمة الدين المترتبة عليه، ويجحد هذا الحق للدائن، فإن الإنكار يواجه بالإثبات والبينة؛ من خلال الوثيقة المكتوبة، وخط كاتبها، والشهود، إلى غير ذلك من وسائل إثبات الحقوق المادية.
وفي حالة الورقة التجارية فإن إنكارها ليس بالأمر السهل، وأي إنكار يعود على صاحبه بالفشل، فمتى أنكر المدين وثبت للقاضي صحة الورقة حكم المنكر بقيمة الورقة التجارية، وبأتعاب المرافعات القضائية، وفي حال تأخر صدور الحكم يحكم القاضي بدفع تعويض مناسب للدائن؛ فالمدين قد يكون مفتعلاً هذا الإنكار للمماطلة وهو موسر.
وللعلم، فإن جحود المدين للدين وإنكاره، يوقعه في الإثم والمعصية ويكون مرتكباً لكبيرة من الكبائر، يقول الله تعالى: (ولاَ تَأُكُلُوا أَمْوَالِكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ) (البقرة:2/188) .
قال ابن عباس: (هذا في الرجل يكون عليه مالٌ، وليس عليه فيه بينة، فيجحد المال، ويخاصم إلى الحكام، وهو يعرف أَنَّ الحقَ عليه، وهو يعلم أنَّه أثمٌ أكلٌ للحرام) (101) .
5. المماطلة:
المماطلة في اللغة (102) ، من مَطَلْتُ الحديدة إذا مدتها وطولتها، ومنه مَطَله بدَينه إذا سوَّفه بوعد الوفاء مرة بعد أخرى ويمكن تعريف المماطلة بأنها: تسويف وتأخير دفع الالتزام المترتب على القادر المتمكن من أدَّاء الدين الحالَّ.
ويُعَدُّ المطل من الكبائر؛ فصريح الحديث النبوي يشير إلى أنَّ المطل ظلم، وأنَّ فاعله يعاقب.
ويُعَدُّ المطل من الكبائر (103) ؛ فصريح الحديث النبوي يشير إلى أن المطل ظلم، وأن فاعله يعاقب.
ولئن كان تفسير أهل العلم سابقًا للعقوبة: بالحبس، وجل العرض: بالشكاية، فهو تفسير لبعض معاني العقوبة وأنواعها، إذ الغرض من العقوبة: الزجر والردع ودفع الظلم، ويمكن أن يتم ذلك بالتعويض عن الضرر المترتب.
وتعويض الدائن عن ضرره نتيجة تأخير المدين في موعده مبدأ مقبول, ولا معارض له من النصوص الشرعية، وتقدير الضرر وتعويض الدائن, يجب أنْ يراعى فيه العدل، إذ لا يجوز دفع ظلم بظلم، ولا يجوز دفع ضرر بضرر أفحش منه (104) .
والتقدير الصحيح يكون عن طريق القضاء، استناداً إلى رأي أهل الخبرة، فالقاضي يشكّل لجنة من الخبراء المحلَّفين, تكون مهمتهم تقدير الأضرار الناتجة عن تأخير أداء الدين، وتحديد ما يستحقه الدائن (105) .
فإذا امتنع المدين عن أداء الدين، فمن الواجب أن يُنْظَر إلى سبب هذا الامتناع، ونَتَخَذُ الإجراءات اللازمة لمعالجة ومواجهة السبب.
فإذا كان سبب الامتناع عن الدفع هو الإعسار (106) ، فالواجب الشرعي هو العمل بقول الله تعالى: (فنظرة إلى ميسرة) (البقرة 2/280) .
وإذا كان سبب الامتناع عن الدفع هو الإفلاس، فالأمر للقاضي في توزيع أموال المدين على دائنية (107) .
وإذا كان سبب الامتناع عن الدفع هو رخص قيمة النقود أو غلاؤها فإنه ينظر إلى حقيقة التغير الحاصل بين التغير المفاجئ، والتغير الطبيعي (108) .
وإذا كان سبب الامتناع عن الدفع هو مجرد الإنكار للجحود, فإنَّ المدين يُواجَه بالإثبات والبينة (109) .
وإذا كان سبب الامتناع المماطلة، فإنه يستحق عقوبة, ولقد أجمع الفقهاء السابقون على عقوبة الحبس والجلد.
أما التعويض المادي عن الضرر الحاصل نتيجة التأخير, فقد اختلف فيه فقهاء العصر، فأجازه الشيخ مصطفى الزرقا (110) والدكتور الصدق الضرير (111) ، ويرى الدكتور أحمد الحجي الكردي أن العقوبة المالية التي يحكم بها القاضي على المدين المماطل ليست من حق الدائن، بل تحل إلى بيت مال المسلين؛ فهي عقوبة مقررة شرعاً بنص الحديث، ولا نص على جواز إعطائها للدائن (112) .
ومنعه الدكتور محمد زكي الدين شعبان (113) ، والدكتور نزيه حماد (114) ، والدكتور عبد الناصر عطار (115) ، والدكتور علي السالوس (116) .
والباحث يرجح جواز التعويض المالي عن التأخير بشرط أن يوكل (يكون من اختصاص) ذلك إلى قرار القاضي بعد الإطلاع على تقرير أهل الخبرة, والتعويض المالي عن التأخير يختلف عن الربا من حيث إنه إعطاء صاحب الحق حقه, بخلاف الربا الذي هو الزيادة المشروطة مسبقاً.
والدائن قد أعطى المدين فرصة زمنية، وحدَّد له أجلاً لسداد ما عليه، فلمَّا حلَّ الآجَل وتبيَّنَ أنَّ المدين ليس معسراً، ولم يكن المدين سوى الإنكار أو الجحود أو المماطلة، فإنَّ من حق الدائن أنْ يحصل على دَينه، وأنْ يُعَوّض عن الضرر الحاصل له من تاريخ حلول الآجَل إلى زمن سداد المدين ما عليه، مع ملاحظة أنْ يكون ذلك بحكم القاضي بعد استشارة الخبراء المختصين.
من البدائل والتخريجات والمقترحات:
الإقرار أمام القاضي:
جاء في الغرر البهية في شرح البهجة الوردية:
(شرطه) على المقترض (الإقرار عند القاضي وكافلا والرهن والإشهاد به) أي: بالمقرض في الصور الأربع (فالاثنان) أي: الشرط والقرض (جميعاً جادا) أي: جيدان صحيحان؛ لأن هذه الأمور توثيقات لا منافع زائدة، فله إذا لم يوفي المقترض بها الفسخ على قياس ما ذكر في اشتراطها في البيع...
على أن في التوثق بذلك عم إفادته أمن الجحد في بعض وسهولة الاستيفاء في آخر صوم العرض، فإن الحياء والمروءة يمنعانه من الرجوع بغير سبب، لخلاف ما إذا وجد سبب؛ فإن المقترض إذا امتنع من الوفاء بشيء من ذلك كان المقرض معذوراً في الرجوع غير ملوم.
تجديد الدين:
وذلك باستبدال دين جديد بالدين الأصلي، حيث نص الفقهاء على جواز فسخ عقد المداينة الأولى وتجديدها في عقد أخر بتراضي المتداينين (117) ، كما إذا كان زيد مديناً لبكر بمبلغ عشرين ديناراً أجرة منزل مملوك لبكر استأجره زيد منه، فيتفق معه على أن يبقى ذلك بذمته على سبيل القرض.
ولا يخفى أنه إذا فسخ عقد المداينة الأولى وصار تجديده بعقد آخر سقط الدين الواجب بالعقد الأول، ويترتب على المدين دين جديد بالعقد الثاني) (118) .
والذي يمكن أن يكون برهن كبير بتراضي.
*خاتمة:
أهم النتائج:
يصح اشتراط توثيق الديون، بالإقرار أمام القاضي، مما يوصل إلى سرعة معالجة التأخير بعد حلول الأجل، فإن كان السبب المماطلة أوقع القاضي عقوبة عن المدين المماطل.
إن اشتراط الزيادة في أصل عقود الديون غير جائزة؛ إذ هي صورة الربا الواضحة.
وإذا تم وصح الاشتراط فينبغي ألا ينتفع بهذه الزيادة: المقرض إنما ينتفع به المجتمع: والمقترح: أن تأخذ هذه الزيادة لصالح صندوق القرض الحسن.
هذا بعض ما انتهيت إليه فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمن نفسي.
وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يلهمني الصواب في القول والعمل.
والحمد لله رب العالمين.
------------------------------------------------------
(1) القانون المدني (السوري) ، المادة رقم (510) . إعداد وتنسيق ممدوح عطري، ص 91.
(2) يُنظر: لسان العرب، ابن منظور، والقاموس المحيط، الفيروز آبادي.
(3) الإبهاج في شرح المنهاج، علي بن عبد الكافي السبكي، 1/206، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل، الحطاب، 2/295، وحاشية إعانة الطالبين، الدمياطي، 1/26.
(4) يُنظر: لسان العرب، ابن منظور، والقاموس المحيط، الفيروز آبادي.
(5) حاشية: ابن عابدين، 416.
(6) يُنظر: الموسوعة الفقهية، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الكويت، 21/102.
(7) يُنظر: لسان العرب، ابن منظور.
(
الدر المختار، ابن عابدين، 4/179.
(9) حاشية الدسوقي الشرح الكبير، الدسوقي، 3/222.
(10) مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، محمد الخطيب الشربيني، 2/117.
(11) الروض المربع، البهوتي، 2/190.
(12) القانون المدني - السوري -، المادة رقم (506) ، ص 91.
(13) يُنْظَر: الموافقات في أصول الفقه، الشاطبي، 1/273.
(14) ينظر: حاشية ابن عابدين، 1/401.
(15) ينظر: الموافقات، الشاطبي، 1/283 - 285.
(16) ينظر: المبسوط السرخسي، 5/85، و13/14، وبدائع الصنائع، الكاساني، 5/174.
(17) يُنظر: المبسوط، السرخسي، 19/41.
(18) يُنظر: الأشباه والنظائر، السيوطي، ص 453، التنبيه، الفيروز آبادي، 1/90، وإعانة الطالبين، الدمياطي، 3/57،والإقناع، الشربيني، 2/298.
(19) ينظر: المهذب، الشيرازي، 1/404، والتنبيه، الفيروز آبادي، 1/138، والمبدع في شرح المقنع، ابن مفلح، 4/57، والإنصاف، المرداوي، 4/350.
(20) ينظر: بدائع الصنائع، الكاساني، 5/169، وشرح فتح القدير، السيواسي، 6/444.
(21) ينظر: بادية المجتهد، ابن رشد، 2/121.
(22) ينظر: بادية المجتهد/، ابن رشد القرطبي، 2/94.
(23) ينظر: مغني المحتاج، الخطيب الشربيني، 2/33.
(24) المغني، ابن قدامة، 4/157.
(25) فتاوى ابن تيمية، 29 / 126 وما بعدها حتى 17