التخلُّف الثقافيCultural lag
عجز أقسام ثقافية بعينها عن مواكبة التغيرات التي تحدث في أجزاء أخرى مرتبطة بها. وكان عالم الاجتماع الأمريكي وليم ف. أوجبرن أول من استخدم هذا المصطلح في عشرينيات القرن العشرين. لاحظ أوجبرن أن التقدم التقني قد أحدث تغيرات سريعة في الثقافة المادية بما فيها السكن والآليات والعمليات الصناعية، ولكنه لاحظ أن الثقافة غير المادية بما في ذلك الأفكار والقيم والنظم الاجتماعية، تكون في الغالب متخلفة عن الثقافة المادية.
ويرى أوجبرن أن مشكلات اجتماعية كثيرة تنجم عن التخلف الثقافي. فالاختراعات الحديثة ـ مثلاً ـ قد تحل محل الكثيرين من العمال . وتُعدُّ الفترة التي يستغرقها هؤلاء العمال في تعلم مهارات جديدة والحصول على أعمال أخرى تخلفًا ثقافيًا يؤدي إلى البطالة.
وقد أدرك علماء الاجتماع في الوقت الراهن أن التغيرات في الأفكار والنظم الاجتماعية قد تسبق أحيانًا التغيرات الثقافية. ويسمي علماء الاجتماع الوضع الناجم عن تغير الأجزاء المختلفة لثقافة واحدة التنافر الثقافي.
الثـقـافة مصطلح يستخدمه علماء الاجتماع للإشارة إلى طريقة الحياة الكُلية لشعب من الشعوب. وقد تُشير كلمة الثقافة في المحادثات اليومية إلى ضروب النشاط في مختلف الميادين مثل الفن والأدب والموسيقى. ولكن بالنسبة إلى علماء الاجتماع، فإن ثقافة شعب من الشعوب تشتمل على كل ما صنعه وابتدعه من الأفكار والأشياء وطرائق العمل فيما يصنعه ويوجده.
فالثقافة تشتمل على الفنون والمعتقدات والأعراف والاختراعات واللغة والتقنية والتقاليد. ويُماثل مصطلح الثقافة الحضارة، غير أن المصطلح الأخير يُشير في الأغلب إلى طرائق الحياة العملية الأكثر تقدماً. أما الثقافة فهي أي أسلوب للحياة، بسيطاً كان أم معقداً.
وتتكون الثقافة من الطرق التي يتعلمها ويكتسبها الإنسان للعمل، والشعور، والتفكير، أكثر من كونها وراثية أي محددة بالمقومات البيولوجية. وهناك بعض الحيوانات البسيطة التي تتصرف على أساس المعلومات التي تحملها في مورِّثاتها، أي أجزاء الخلية التي تشكل الصفات الوراثية. وهذه المعلومات البيولوجية المورثة قد تشتمل حتى على الطرق التي يحصل بها الحيوان على الطعام والمأوى. ولكن الإنسان هو الذي بمقدوره أن يجرب وأن يتعلم وأن ينشئ أساليبه لصنع هذه الأشياء. وهذه عملية مستمرة لا تتوقف أبداً.
والقول بأن الثقافة مكتسبة لا يعني بالطبع عدم الارتباط بينها وبين العناصر البيولوجية للإنسان. إنها بالعكس، يمكن النظر إليها كمجموعة من التمديدات والإضافات البسيطة لأجزاء الجسم المختلفة. وقد قارنها عالم النفس النمساوي سيجموند فرويد بتلك الأجهزة والأدوات مثل الأطراف الصناعية، ونظارات العيون، والأسنان الصناعية. وذلك على اعتبار أن الثقافة، مثل هذه الأشياء، تُمكن الناس من فعل الأشياء التي قد لا تساعدهم عضلاتهم وحواسهم وحدها على القيام بها وفعلها. مثال ذلك، أن الإنسان لا يحتاج إلى المخالب ما دامت لديه السهام. كما أنه لا يحتاج إلى الجري بسرعة، ما دام قد روَّض الحصان أو استعمل السيارة. وبدون الثقافة لم يكن بمقدور رواد الفضاء، أن يصلوا إلى القمر، ولا أن يعيشوا هناك. ذلك أن الجسم الإنساني في حاجة إلى الأكسجين، وإلى درجة معينة من الحرارة كي يحافظ على حياته. وعلى أية حال، فقد مكنت هذه الوسائل والأدوات الثقافية الإنسان من التغلب على بعض أوجه القصور، فظل على قيد الحياة في البيئات الخشنة القاسية.
كانت الثقافة المبكرة وسيلة لتحسين المهارة للحصول على الطعام، والبحث عن المأوى، والعناية بالنسل. وحَظي أسلاف الإنسان بالأفضلية في الصراع من أجل البقاء، لأنهم نجحوا في تطوير الأدوات والآلات وجوانب الثقافة الأخرى. فأصبحوا ـ من ثم ـ أكثر ملاءمة للاستمرار والتكاثر من تلك المخلوقات التي تفتقر إلى هذه الميزات. ونتيجة لهذا نمت القدرة على ابتكار الثقافة من جيل إلى جيل.
خصائص الثقافة
عرّف عالم الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) البريطاني السير إدوارد بيرنت تايلور مصطلح الثقافة كما يستخدمه العلماء في الوقت الحاضر. فقد عَرَّفَ تايلور الثقافة في كتابه الثقافة البِدائية بأنها ذلك الكُل المعقد الذي يشتمل على المعرفة، والعقيدة، والفن، والأخلاق، والقانون، والتقاليد، وما إلى ذلك من القدرات والعادات التي يكتسبها الإنسان من حيث هو عضو في المجتمع. ويشتمل هذا التعريف الذي ساقه تايلور على ثلاث خصائص من أكثر خصائص الثقافة أهمية وهي: 1- أن الثقافة اكتساب إنساني يتم من خلال عملية تسمى التنشئة الثقافية. 2- أن الشخص يكتسب الثقافة باعتباره عضواً في المجتمع. فالحياة الاجتماعية تُصبح مستحيلة دون وجود التفاهم والممارسات المتبادلة التي يشارك فيها الناس جميعاً. 3- أن الثقافة كلٌّ معقد تتمثل وحداته فيما يُسمى السمات الثقافية. وهي قد تشتمل على أماكن دفن الموتى المتعارف عليها، أو بعض الأدوات والآلات، كالمحراث مثلاً، أو إيماءة، كالمصافحة بالأيدي. وتسمى المجموعة المتقاربة من السمات الثقافية النمط الثقافي. مثال ذلك التقاليد المرتبطة بالزواج والمراحل السابقة له والتودد، وتشكل هذه المجموعة نمطاً ثقافياً محدداً.
ولمعظم الجماعات الكبيرة سماتها الثقافية الخاصة التي تلائم ظروفها وحاجاتها وتُؤَمِّن بقاءها واستمرارها. ومثل هذه المجموعة من السمات الثقافية يمكن تسميتها ثقافة. وتمتلك الأمم ومعظم القبائل، وحتى بعض القرى، الثقافة بهذا المعنى.
وعلى كل حال، فإن لكل عائلة تقليدها الثقافي الخاص بها. وهو تقليد يشتمل على كثير من السمات التي تشترك فيها العائلة مع الآخرين ممن يعيشون في نفس المنطقة، وينتمون إلى الطبقة الاجتماعية ذاتها. علاوة على ذلك، تمتلك العائلة السمات الثقافية الخاصة بها. وهو الحال نفسه بالنسبة إلى شركات الأعمال، والقرى وما إلى ذلك من الجماعات الاجتماعية. فلكلٍّ منها تقاليدها الثقافية الخاصة بها. ويستخدم علماء الاجتماع أحياناً مصطلح الثقافة الفرعية للإشارة إلى مجموعة السمات الثقافية التي توجد في جماعة واحدة فحسب، الأمر الذي يعني أن للكثير من الجماعات المهنية، مثل جماعة الأطباء، وجماعة سائقي الشاحنات والجماعات العرقية ثقافتها الفرعية الخاصة بها، بالإضافة إلى مشاركتها أيضاً في ثقافة جماعة الأغلبية.
ومن الصعوبة أن توجد الثقافة في مكانين في آن واحد. فأولاً، لابد أن توجد في البيئة، حيث تظهر على شكل مصنوعات فنية (أي الأشياء التي صنعها الإنسان)، أو على شكل سلوك. وقد تدوم بعض مظاهر الثقافة التي توجد في البيئة طويلاً، وذلك مثل الإيماءة أو طريقة قص القصص أو القصة المكتوبة أو الفأس الحجرية. ثانياً، أن الثقافة تكون في داخل العقول والأذهان كمجموعة من الأفكار حتى يتيسَّر فهم وتقويم الأشياء وسلوك الأفراد. أما الشيء المصنوع الذي لا يفهمه أحد فيُعتبر ثقافة ناقصة وغير كاملة. كما لا تُعتبر الفكرة التي لا يدركها الآخرون ثقافة. فالأشياء التي توجد في البيئة تصل إلى داخل عقول الناس من خلال التعلم والتنشئة الثقافية. على حين تنتقل الأشياء من داخل عقول الناس إلى العالم الخارجي بوساطة السلوك والمناقشة والاختراع.
التعددية الثقافية
تختلف المجتمعات عن بعضها البعض في مدى انفتاحها على غيرها ومدى انغلاقها عن ذلك الغير. ففي هضبة التيبت وبعض الجزر الباسفيكية وإفريقيا، مثلاً، توجد مجتمعات منغلقة على نفسها، وتكون النتيجة الطبيعية لهذا هي بقاء تلك المجتمعات بثقافة واحدة لكل منها. وعلى العكس من ذلك فإنّ المجتمعات الأمريكية والأوروبية التي تنفتح على غيرها، تعتبر بالتالي متعددة الثقافة.
يجد الكثير من الأفراد صعوبة في تقبل الثقافات الأخرى، ويميلون بالتالي للبحث عمن يشبهونهم من الأفراد في العادات والأفكار، أي ضمن ثقافة متجانسة. ويسمى الضيق الذي يشعر به هؤلاء حين يمتزجون مع من لايشبهونهم وما ينتج عن ذلك من رفض للاختلاف صدمة ثقافية. وقد تزول هذه الصدمة إذا ما عايش الفرد الثقافة المغايرة فترة تكفي لفهم تلك الثقافة.
التعايش المشار إليه يحدث على مستوى الأفراد أو الجماعات الصغيرة نسبيًا التي تنتقل للعيش ضمن مجتمعات أكبر ذات ثقافة مختلفة ومهيمنة. ويؤدي ذلك التعايش أحيانًا لفقدان أولئك الأفراد أو الجماعات سماتهم الثقافية المميزة واندماجهم في الثقافة المهيمنة في عملية يطلق عليها الامتصاص الثقافي. وما حدث للكثير من الهنود الحمر نتيجة الهجرة الأوروبية إلى أمريكا الشمالية مثال لذلك الامتصاص، كما أن ما حدث للكثير من الجماعات العرقية التي دخلت الإسلام طوال التاريخ الإسلامي مثال آخر. وكذلك هو الحال مع بعض المسلمين الذين بقوا في الأندلس بعد انتهاء الحكم العربي الإسلامي هناك. فقد ذابت تلك المجتمعات في الثقافة الجديدة سواء كان ذلك طوعًا أو كرهًا.
غير أن التعايش الثقافي قد لايؤدي إلى الامتصاص وإنما يبقى تعايشًا يحفظ فيه الكثير من السمات الثقافية للجماعات الصغيرة والكبيرة على حد سواء. يطلق على ذلك الوضع تعددية ثقافية، وتعتبر الولايات المتحدة الأمريكية مثالاً واضحًا لتلك التعددية، فعلى المستوى اللغوي لم يؤد انتشار الإنجليزية إلى القضاء على اللغات العرقية للأقليات، كالأسبانية والصينية والعربية. كما أن الأقليات ظلت تحتفظ بالكثير من خصائصها الثقافية كالعقيدة الدينية وأنواع الطعام والاحتفالات الوطنية. فأماكن التعبد كالمساجد والكنائس والمعابد الوثنية تتجاور كما يتجاور طعام الهامبورجر الأمريكي مع المأكولات الصينية والمكسيكية والهندية والعربية. وما يحدث في الولايات المتحدة يحدث في أماكن أخرى كثيرة كبريطانيا وألمانيا وفرنسا والوطن العربي والهند، مع اختلاف واضح بين هذه الأماكن في درجة التعدد والتسامح مع الاختلاف.
غير أن التعددية الثقافية لاتعني تساويًا بين الثقافات المتعايشة ضمن تلك التعددية. وفي الولايات المتحدة الأمريكية حيث جرت وتجري واحدة من أبرز التجارب التاريخية في التعددية لم يؤد ذلك إلى تساوي الثقافات المتعايشة في التأثير، فالحضارة الغربية الأنجلوسكسونية التي جلبها المستوطنون الأمريكيون الأوائل معهم في القرن السادس عشر الميلادي، سواء تمثلت في الإنجليزية كلغة أو في النصرانية كدين أو في الديمقراطية العلمانية كنموذج سياسي وثقافي، ماتزال هي المهيمنة. وتنسحب تلك التجربة الأمريكية على ما يحدث حاليًا على مستوى العالم، حيث تنتشر المؤثرات الثقافية الغربية، الأمريكية بالدرجة الأولى في مختلف الأماكن في عملية تعرف بالعولمة.
كيف تتماثل الثقافات
لكل الثقافات ملامح تنتج من الحاجات الأساسية التي يشارك فيها الناس جميعاً. فلكل ثقافة طرقها للحصول على الطعام والمأوى، ولها وسائلها المنظمة لتوزيع الطعام والسلع الأخرى. كذلك فإن لكل ثقافة نظامها لتقسيم القوة والسلطة والحقوق والمسئوليات. كما توجد أيضاً طريقة أو أخرى لحفظ النظام وفض المنازعات ـ كنظام الشرطة، والمحاكم، والسجون، على سبيل المثال.
تمتلك كل ثقافة بعض الوسائل التي تحمي بها نفسها ضد المهاجمين. كما توجد بها العلاقات العائلية التي تشتمل على أشكال الزواج وأنساق القرابة. وكذلك تمتلك الثقافة معتقدات دينية ومجموعة من الممارسات التي تعبر بها عن هذه المعتقدات. وتملك كل المجتمعات أشكالاً للتعبير الفني، كالنحت، والنقش، والرسم، والموسيقى. أضف إلى ذلك أن لكل ثقافة نمطاً أو نوعًا آخر من المعرفة العلمية. وقد تكون هذه المعرفة تراثاً شعبياً عن النباتات التي يأكلها الناس، والحيوانات التي يصطادونها، أو قد تكون علماً بالغ التطور.
كيف تختلف الثقافات
تختلف الثقافات في دقائقها وتفاصيلها من منطقة لأخرى من مناطق العالم. مثال ذلك، أن الأكل حاجة بيولوجية. ولكن ماذا يأكل الناس، ومتى وكيف يأكلون، وكيفية طهي الطعام وإعداده، كلها أمور تختلف من ثقافة إلى أخرى. ويسمى الإقليم الجغرافي الذي يشترك فيه الناس في عدد كبير من السمات والأنماط الثقافية منطقة ثقافية.
وللاختلافات البيئية دور في الاختلافات الثقافية. فالعوامل المختلفة مثل المناخ، وأشكال الأرض، والموارد المعدنية، والنباتات الطبيعية، والحيوانات تؤثر جميعاً في الثقافة. مثال ذلك، أن معظم الناس في المناطق الحارة يرتدون ملابس فضفاضة، تتكون من قطعة طويلة أو أكثر من قماش يلتف حول الجسم، بينما يرتدي الناس الذين يعيشون في مناطق أكثر برودة في العالم، ملابس مخيطة بعد تفصيلها لتناسب الجسم، لأن الملابس المخيطة تُعطي قدراً من الحرارة أكثر من الأغطية المُسْدلة.
ولا يدرك الناس القدر الذي تؤثر به الثقافة في سلوكهم حتى يُلموا مصادفة بالطرق الأخرى التي تُصنع بها الأشياء؛ فعندئذ فقط يدركون أنهم كانوا يفعلون الأشياء بطريقة ثقافية، أكثر من كونها طريقة فطرية.
وهناك على سبيل المثال، كثير من الغربيين الذين يعتقدون أن من الطبيعي أن ينظر المرء مباشرة في عيني الشخص أثناء الكلام، بينما تعتقد بعض الشعوب الآسيوية أن من الوقاحة أن يفعل الإنسان ذلك؛ فتلك ثقافة أثرت في السلوك.
ويشعر الناس بأنهم أكثر ارتياحاً وهم داخل ثقافتهم الخاصة، كما يُفضلون صحبة من يشاركونهم ثقافتهم. وعندما يتعين على الناس أن يتعاملوا مع أشخاص من ثقافات أخرى، فإن الاختلافات الثقافية تشعرهم بشيء من القلق والارتباك. وتُسمى الصعوبة التي يعانيها الناس عندما يتركون ثقافتهم الخاصة ويحتكّون بثقافة أخرى الصدمة الثقافية. كما يُسمى الموقف الذي يرى فيه الإنسان أنَّ ثقافته الخاصة هي الأفضل، وأنها الأكثر طبيعية الاستعلاء العرقي.
تاريخ الثقافة الإنسانية
تطورت أسس الثقافة الإنسانية في عصور ما قبل التاريخ. وتتضمن الخطوات المهمة في نمو الثقافة 1- تطور الأدوات والآلات، 2- بداية الزراعة، 3- نمو المدن، 4- تطور الكتابة.
تطور الأدوات والآلات. بدأ هذا التطور قبل نحو مليوني سنة. ففي ذلك الوقت عاش الإنسان على جمع الثمار، والحشرات، وأوراق الأشجار الصالحة للأكل، وبإمساك الحيوانات الصغيرة بيديه. ثم تعلَّم كيف يصنع الأدوات ويستخدمها، وهكذا بدأت الخطوات الأولى نحو تطوير الثقافة. وكان الكثير من هذه الأدوات من الصخور المسنونة الأطراف التي كانت تُستخدم في القطع والكشط. أما الطرف الحاد فكان الإنسان يصنعه بحك أو شظي قطعة من الصخر بقطعة أخرى. والأرجح أن شعوب ما قبل التاريخ صنعت أيضاً أدوات من العظم والشعر، والجلد والخشب.
تعلَّم الإنسان في العهود المُبكرة كيف يصنع الأدوات والآلات الحجرية ويقتل الحيوانات لأكلها. ولكي تصاد الحيوانات الضخمة، كان على الناس أن يعملوا معًا كجماعة. وتظهر القيادات إذا أعطى عضو من أعضاء الجماعة الأوامر وأطاعه الآخرون. أما الجماعات التي طوّرت بعض قواعد السلوك ونُظم تحديد المكانة وتقسيم السلطة فقد تمتعت بميزة التفوق على تلك الجماعات التي لم تفلح في ذلك.
كذلك تعرَّف الصيادون على عادات الحيوانات التي اصطادوها، وكان هذا التعلم بمثابة نوع بسيط من المعرفة العلمية. وعندما يعجز العِلْم الذي يملكه الإنسان عن تفسير الأحداث الطبيعية، فإنهم يستنبطون تفسيراً ويخترعونه، ويمكن أن تصبح هذه التفاسير بعد قرون، جزءًا من الاعتقادات الدينية.
أصبح الإنسان بشكل مطرد أكثر مهارة في الصيد. ومع تزايد حجم الصيد، تحسنت المؤونة، وزاد عدد السكان، مما جعل الصيادين يقتلون المزيد من الحيوانات. وبعدما أضحت الحيوانات الضخمة من الندرة بمكان، تعين على بعض الناس أن يتحولوا إلى زراعة المحاصيل وإلى تربية الحيوانات للحصول على الطعام. وأصبحوا تبعا لذلك من الزراع الأوائل.
بداية الفلاحة (الزراعة) (الزراعة). ظهرت نحو عام 9000 ق.م، وتُعد واحدة من أهم الخطوات في تطور الثقافة الإنسانية. فبعد نحو مليوني عام قضاها الناس صيادين يتجولون ويرتحلون من مكان لآخر بحثاً عن الصيد المناسب، أصبح بمقدور بعض الناس أن يستقروا في مكان واحد من أجل إنتاج الطعام.
استطاع الزراع الأوائل إنتاج مقادير كافية من المحاصيل إلى حد مَكّن بعض الناس من التحرر من مهمة الزراعة الشاقة، ومن ثمّ أُتيح لهؤلاء تطوير بعض المهارات الجديدة، مثل صناعة الفخاريات، والنسيج، وغير ذلك من الأشغال والحرف. كما قاموا بتوزيع الطعام وغيره من المنتجات بوساطة نظم الأسواق وبدفع الضرائب لقادتهم ورؤسائهم الذين كانوا يُعيدون بعدئذ توزيع الثروة. واستمرت أعداد السكان تنمو وتتزايد، وتطلبت الأعداد المتزايدة والإقامة الدائمة طرائق جديدة لإدارة شؤون المجتمع المحلي الصغير وتقديم الخدمات للناس. وظهرت نتيجة لذلك أشكال مختلفة جديدة من الحُكم.
نمو المدن. في نحو عام 3500 ق.م، كانت المدن قد ظهرت، وطور قاطنوها على نحوٍ متزايد المهن المتخصصة، فأصبح بعضهم فنانين وبنائين، وبعضهم الآخر قضاة. وأفضت كل معرفتهم ومهاراتهم الجديدة إلى تطور الثقافة ونموها.
جذبت المدن الناس من خلفيات ثقافية متنوعة. واختلط هؤلاء الناس بعضهم ببعض، وتعلم كل منهم من الآخر عن طريق تبادل الأفكار. وبذا يعتبر التبادل الثقافي واحدًا من أهم العناصر في تاريخ الحضارة.
تطور الكتابة. كان تطور الكتابة خطوة من أهم الخطوات في نمو الثقافة الإنسانية. وظهر أول نظام للكتابة نحو عام 3500 ق.م. فيما يُعرف حالياً بجنوب شرقي العراق. كما ظهرت بعض النظم والأشكال الأخرى في الصين في الوقت نفسه تقريباً. ومَكّنت الكتابة الناس من تسجيل أفكارهم واكتشافاتهم لاستخدامها فيما بعد، وللاتصال عبر المسافات الطويلة. كما بدأوا يسجلون مظاهر ثقافتهم وينقلونها مُدونة من جيل إلى جيل.
كيف تتغير الثقافة
تتغير كل ثقافة بصفة مستمرة. وقد يكون معدل التغير سريعاً أو بطيئاً. ولأن الثقافة تتكون من عدة أجزاء مترابطة، فإن أي تغير في أحد الأجزاء لابد أن يؤثر في الأجزاء الأخرى. ويعتقد بعض علماء الاجتماع أن كثيراً من المشكلات الاجتماعية تظهر لأن بعض أجزاء الثقافة تتغير على نحو أبطأ مما تتغير به الأجزاء الأخرى. ويشير مصطلح التخلف الثقافي إلى هذا الميل في بعض أجزاء الثقافة للتخلّف وراء الأجزاء الأخرى المرتبطة بها.
وظهرت في العصور الحديثة كثير من مظاهر التخلف الثقافي في العادات والأفكار والنواحي غير المادية في ثقافة بعض الشعوب.فالعلم والتقنية يتغيران على نحوٍ سريع جداً لدرجة أنهما تجاوزا أحياناً الثقافة غير المادية. ففي الدول الغربية، على سبيل المثال، أدى نمو قوى الدفع الآلية خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين إلى تشييد المصانع. وكانت ظروف العمل في المصانع الأولى سيئة. وفي القرن التاسع عشر الميلادي أمكن للتغيرات الاجتماعية اللحاق بالتغيرات التقنية التي كانت قد أنشأت المصانع. واشتملت هذه التغيرات الاجتماعية على النقابات العمالية، ونظم التأمين، وتحديد أيام العمل، وإلغاء تشغيل الأطفال.
ومع ذلك فقد حدث في بعض المجتمعات والأزمنة التاريخية أن وقعت التغيرات في الأفكار قبل التغيرات في الثقافة المادية. مثال ذلك، أن الأطباء كانت لديهم المعرفة الكافية للقيام ببعض العمليات طوال آلاف السنين، ولكن لم يكن من الممكن إجراء العمليات الجراحية بصورة واسعة النطاق حتى اكتشاف المطهرات والمسكنات في القرن التاسع عشر الميلادي. وهناك عدد من العوامل التي قد تُسبب تغير الثقافة. وأهمها :
1ـ التغيرات التي تحدث في البيئة 2ـ الاحتكاك بالثقافات الأخرى 3ـ الاختراع 4ـ التطورات التي تحدث في داخل الثقافة ذاتها.
التغيرات في البيئة. يؤدي أي تغير في بيئة الجماعة إلى تغيرات في ثقافتها. فمثلاً، بعد انتهاء العصر الجليدي منذ نحو 10,000 سنة، أصبح المناخ في المناطق المعروفة حالياً باسم نيفادا ويوتا في الولايات المتحدة بالتدريج أكثر جفافاً ودفئاً. ومثلما تغير المناخ، تغيرت أيضاً ثقافة الهنود الذين كانوا يعيشون في تلك المناطق؛ إذ أصبح متعيناً على الهنود أن يأكلوا كثيرا من النباتات، نظراً لأن الصيد أصبح قليلاً ونادرًا. وفي آخر الأمر صارت المنطقة على درجة من الجفاف حتى أصبحت أشبه بالصحراء. وتعلم الهنود أكل الحشرات والجذور لأول مرة.
الاتصال بالثقافات الأخرى. ينتج عن أي اتصال بين مجتمعين مختلفي الثقافة تغير في كلا المجتمعين. إذ يقتبس كل منهما سِمات ثقافية من الآخر، وخاصة إذا كانت السمة الجديدة التي يتم نقلها أفضل من السمة التقليدية. ونتيجة لذلك تميل السمات والأنماط الثقافية إلى الانتشار من المجتمع الذي وُجدت فيه أصلاً. وهذه العملية هي ما يُسمى الانتشار.
يعتبر الانتشار واحدًا من أكثر أسباب التغير الثقافي شيوعًا، وقد انتشر الإسلام بوصفه ثقافة دينية وسلوكية نتيجة الاتصالات والمراسلات والوفود التي أرسلها الرسول ص، وبعد ذلك عن طريق الفتوحات وترحيب الشعوب الأخرى به بسبب معاناتها من سيطرة المحتلين ورغبتها في الخلاص، حيث وجدت فيه ما يلائم روحها ويحقق لها إنسانيتها. وانتشرت النَّصرانيَّة نتيجة جهود رجالها في التنصير وخاصة في البلاد التي عرفوها حديثًا في إفريقيا وأمريكا. كما أدخل المكتشفون الأسبان الخيول إلى المكسيك في القرن السادس عشر الميلادي، ولكن استخدام الحيوانات انتشر سريعاً لدرجة أن كثيراً من القبائل الهندية امتطت الخيول قبل أن يروا أي أوروبي بسنوات طويلة.
يُسْفر الاحتكاك المتواصل بين الثقافات عن التثاقف، أي العملية التي يتم بمقتضاها تبني أصحاب ثقافة معينة، سمات ثقافة أخرى. وفي كثير من الأحيان، قد يحدث ذلك عن طريق الغزو والفتح. فمثلاً هزم الرومان الإغريق في القرن الثاني ق.م تقريبًا، وخلال القرون التي تلت ذلك، تبنى الرومان الكثير من ملامح الثقافة الإغريقية، بما في ذلك الفن الإغريقي، والأدب والدين. وفي معظم حالات التثاقف، تقتبس كل ثقافة من الثقافات الأخرى. مثال ذلك، أنَّ كثيرًا من الثقافات تبنت مزالج الكلاب (الْزَلاّقات) التي تجرها الكلاب، وسترات الفرو، وأحذية الثلج من الإسكيمو. وبالمقابل تبنى الإسكيمو الزوارق ذات المحركات والبنادق وكاسحات الثلج من الثقافات الأخرى.
وهناك عملية أخرى تُسمى المماثلة أو التمثُّل أو التقليد أو المحاكاة أو الامتصاص التي يغلب عليها طابع الاستعارة أو الأخذ من جانب واحد. ويقع التمثُّل عندما يتبنى المهاجرون أو الوافدون الجُدد ثقافة المجتمع الذي يستقرون فيه. وقد يؤدي التمثُّل إلى اختفاء ثقافة الأقلية، نظراً لفقدان أعضائها الخصائص الثقافية التي كانت تميزهم عن الآخرين.
الاختراع. هو ابتداع أداة جديدة أو منتج جديد. وعلى مدى التاريخ، غيرت كثير من الاختراعات الثقافة الإنسانية، مثال ذلك، أن الثورة الصناعية في القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر الميلادي جلبت معها بعض الاختراعات كالنول الآلي والمحرك البخاري، وهي آلات أحدثت تغيرات ضخمة في أسلوب حياة الناس وطرائق معيشتهم.
التطور الدَّاخلي للثقافة. ينجم التغير عن التطور الداخلي للثقافة؛ مثال ذلك، أن المجتمع قد يتحول من مرحلة جمع الطعام إلى الزراعة نتيجة لنمو السكان، ولاختفاء الحيوان. كما أن الأعداد السكانية الأضخم لا تزال تجلب في المقابل مزيداً من التخصص وتقسيم العمل، الأمر الذي يعقبه ظهور أشكال مختلفة من التنظيم الاجتماعي، وغيرها من التغيرات. وتتغير الثقافة بتغير شروط البيئة أو عند ظهور أساليب جديدة لصنع الاحتياجات المطلوبة لحاجة البشر.
وبعدما يتبنى الناس الطرق الجديدة والأفضل لصنع الأشياء لا يرجعون ثانية إلى طرقهم العتيقة إلا نادرًا. مثال ذلك أن الناس بعد أن عرفوا استعمال النقود، لن يعدموا أبدًا وسيطاً للتبادل. وبعد أن تعلموا إشعال النار، لن يعيشوا مطلقاً بدونها. وقد يتم استبدال مثل هذه الوسائل كالعملات، وعلب القدح. ولكن النقود والتحكم في استخدام النار سيبقيان ماثلين في أذهان الناس .
التغير الثقافي في العصر الحاضر
تزايد معدل التغير الثقافي بشكل سريع منذ منتصف القرن التاسع عشر. وحدثت هذه الزيادة بالدرجة الأولى نتيجة لكثير من مظاهر التقدم في العلم والتقنية. كما أصبح التبادل الثقافي منذ منتصف القرن التاسع عشر أكثر انتشاراً وسرعة. وبسبب الطائرات والأفلام السينمائية، والمذياع والتلفاز أصبحت معظم التقاليد الثقافية في العالم على اتصال دائم ومستمر. فبمقدور الشخص أن يجد موسيقى الجاز الأمريكية والكيمونو الياباني في أية مدينة كبيرة.
يشهد العصر الحاضر تشكل ثقافة عامة وعالمية نتيجة لسفر الناس على نطاق واسع، وانتشار التلفاز في كل أنحاء العالم. إضافة إلى ذلك، فإن الكثير من أنواع الموسيقى، والرياضة، والعمليات الصناعية، هي نفسها موجودة في كل مناطق العالم. ويخشى بعض الناس أن تؤدي هذه المماثلاث إلى تشابه كل الثقافات، ولكن الناس يُنشئون ثقافات محلية جديدة، بنفس السرعة التي يتعلمون بها هذه الثقافة العالمية. ولأن الثقافة العالمية لا تغطي سوى نطاق محدود من الثقافة المعروفة، فإنَّ هذا يسمح للثقافات الجديدة المحلية بالنمو والازدهار.
ثقافة الحيوانات
اعتقد العلماء فيما مضى أن الإنسان وحده هو صاحب الثقافة. ولكن معظمهم يعتقد الآن، أن الحيوانات تمتلك أيضاً بعض عناصر الثقافة. مثال ذلك أن بعض الحيوانات تصنع الأدوات وتستخدمها، كما يتصل أعضاء كثير من الأنواع بعضها ببعض بوساطة الإشارات.
ويتوقف صُنع الأدوات أساساً على أخذ شيء موجود في البيئة واستخدامه لغرض آخر غير وظيفته الأصلية. فالفيلة تقتلع فروع الأشجار وتحركها بوساطة خرطومها لتهُش الذباب بعيداً عنها. كما تمسك الشمبانزي بالنمل الأبيض وذلك بأن تقشر غصنًا وتُدخل طرفه اللزج في رابية النمل. وعندما يجذب الشمبانزي الغصن إلى الخارج، يجد النمل ملتصقا به. وتتعلم صغار الشمبانزي هذه الطريقة للإمساك بالنمل الأبيض عن طريق الاقتداء بالكبار في جماعتها. وهذه التقنية بمثابة سمة ثقافية انتقلت من جيل من أجيال الشمبانزي إلى الجيل الذي يليه.
وتستخدم الكثير من الحيوانات أنواعاً مختلفة من الإشارات للاتصال بعضها ببعض. مثال ذلك، أن الكلاب تنبح وتميل آذانها إلى الوراء، كما تتصل الدلافين فيما بينها عن طريق النباح، والقرقعة والصفير، وغير ذلك من الأصوات. وعلم العلماء الشمبانزي كيف تتكلم مع الناس بالإشارات. ومهما كان الأمر، فإن معظم العلماء يتفقون على أن أية ثقافة ينبغي أن تتضمن استخدام الرموز حتى يمكن اعتبارها ثقافة حقيقية.
الثَّقْب الأَسْوَدُBlack hole
اسم يُطلق عادةً في الفيزياء الفلكية على نجم قد اندثر وأصبح غير مرئي. وللثقب الأسود جاذبية قوية بدرجة تمنع انفلات أي شئ يمر قريبًا من سطحه. ولا يمكن رؤية الثقوب السوداء لأنها تجذب الضوء. وللثقوب السَّوْداء جاذبية قوية لأنها تحتوي على كمية ضخمة من المادة التي حصِرت في مساحة بالغة الصغر. فإذا كان من الممكن أن تضغط الكرة الأرضية لتصبح ثقبًا أسود فستكون بحجم بِلية صغيرة. ويعتقد معظم علماء الفلك أن مجرة درب اللبانة تحتوي على ملايين الثقوب السوداء.
التكوين. يعتقد العلماء أن الثقب الأسود يتكون عندما يفقد النجم الضخم المحروقات الذرية وتسحقها قوة جذبها الخاصة. وعندما يشعل النجم الوقود يحدث دفعًا إلى الخارج يقاوم الجذب الداخلي. وعندما لا يبقى وقود ينخفض الضغط الداخلي، ولا يتحمل النجم وزنه الهائل، فتُقذف طبقاته الخارجية في انفجار ضخم. وفي الوقت نفسه، ينهار الجزء المركزي منه.ويمكن أن تُحوِّل الجاذبية قُطره الذي يبلغ 15,000 كم إلى 15كم فقط في ثانية واحدة.
يتحول عدد قليل جدًا من النجوم إلى ثقوب سوداء عند أفولها. وتنهار معظم النجوم الضخمة لتصبح نجوم نيوترون، وهي نجوم كثيفة تتكون بالكامل تقريبًا من النيوترون . ويؤكد العلماء أن نجوم النيوترون تتكون بالانهيار. ولكنهم يظنون أن الثقب الأسود يتكون بالطريقة نفسها إذا كان الجزء المحترق من مركز النجمة يساوي على أقل تقدير ثلاث مرات حجم الشمس.
الدليل على وجود الثقوب السوداء. تقوم فكرة الثقب الأسود على نظرية الجاذبية للفيزيائي ألبرت أينشتاين المعروفة بالنسبيَّة العامة. وتقول نظرية أينشتاين: إنّ الثقب الأسود الذي يتكون بفعل انهيار نجم يكون أصغر من الشمس بحوالي 100,000 مرة، وليس له أي معالم تقريبًا. ولهذا فإنه من الصعب جدًا أن يُحدَّد الثقب الأسود بكثير من الدقة.
يجد الفلكيون فرصة طيبة في العثور على الثقب الأسود في نظام النجم الثنائي الذي يطلق الأشعة السينية. وفي مثل هذا النظام يدور الثقب الأسود، والنجم العادي الذي يُمكن رؤيته عن قرب حول مركز جاذبية مشترك، بحيث يسلب الثقب الأسود الغاز من النجم العادي. ويسقط الغاز بقوة نحو الثقب الأسود ويسخن بالاحتكاك بين ذرات الغاز، وترتفع درجة الحرارة خارج الثقب الأسود مباشرة إلى عشرات الملايين من الدرجات. وتنطلق الطاقة من الغاز في هيئة أشعة سينية يُمكن رؤيتها بمنظار أشعة سينية. ويتوقع الفلكيون أن تتحول ثلاثة نجوم ثنائية إلى ثقوب سوداء.