مقدمة :
تعتبر الإستراتيجية من المفاهيم التي أعطت إضافة نوعية للمجال السياسي الاستراتيجي. فكلمة إستراتيجية تستخدم استخداماً واسعاً من قبل الأكاديميين و الباحثين خاصة في الشؤون العسكرية، فحينما نتكلم عنها لابد أن نتكلم عن الحروب والصراعات الدولية، لكون تعبير الإستراتيجية متعلق بالحرب. و قد ظهر ذلك منذ العصور القديمة, و التي تعتبر الصين أبرزها لتطور فنها الحربي, إذ تعتبر أول من أسس فن الحرب و أول من وثقه, حيث يعد كتاب "فن الحرب" للجنرال "سون تزو" أول كتاب في المجال العسكري و الذي كتب منذ حوالي 25 قرنا.و الإستراتيجية كلمة يعود استخدامها إلى الإغريق، و هي من حيث المضمون متصلة بفن القائد أو فن القيادة كما أراد لها الإغريق في بادئ الأمر، و بما أنها كلمة متحركة فقد أصبح يستعان بها على بيان نشاط أو فعل في ميدان من الميادين المتنوعة في السياسة، و لذلك فإن سعة مضمونها لها صلة بمعنى السياسة، كما أن فحواها الضيق من حيث ارتباطها بالقيادة( و في الأرجح القيادة العسكرية ) قد اتسع ليندرج تحت لواء الإستراتيجية نشاطات سياسية واقتصادية واجتماعية وإلى غير ذلك. و بات من المألوف في أدبيات العلوم الاجتماعية في الوقت الراهن أن نعثر على مفردة الإستراتيجية في أكثر من مكان و أكثر من معنى. [1]
و قد تنوعت التعاريف التي أعطيت لهذا المفهوم منذ العصور القديمة حتى العصر المعاصر، حيث تعرض الكثير من المفكرين لهذا المفهوم و كل أعطاه تعريف تبعا لاجتهاده الخاص، و كان ابرز التعاريف تعريف الجنرال "سون تزو" في كتابه "فن الحرب" على أنها "فن تنظيم الجيوش و وضع الخطط العسكرية في المعركة"[2]، ثم تعريف اندريه بوفر "بأنها فن استخدام القوى العسكرية للوصول إلى نتائج حددتها السياسة".[3]
و تطور الفكر الاستراتيجي على مر الزمن، حيث كانت ابرز فترة شهدت فيها الإستراتيجية تطورا بارزا هي فترة الحرب العالمية الثانية، ففي هاته المرحلة برزت أسلحة حربية جد متطورة خاصة في مجال الطيران الحربي و المدفعية. و هذا ما يفسر حجم الدمار الذي عاشته أوروبا و الخسائر المادية و البشرية إبان تلك الفترة، و التي انتهت باستعمال الولايات المتحدة الأمريكية للسلاح النووي أول و أخر مرة في التاريخ ضد اليابان بضرب كل من هيروشيما و نكازاكي.
و بالتالي فقد شهد الفكر الاستراتيجي في هاته الفترة تحول جذري، فبالإضافة إلى ظهور أسلحة متطورة و فتاكة، فقد انتقل الفكر الاستراتيجي للتطبيق في مجلات أخرى بعد الحرب كالمجال الاقتصادي و الاجتماعي ومنهية احتكاره في المجال الحربي العسكري .
إذن، ما هي ملامح الفكر الاستراتيجي غداة الحرب العالمية الثانية ؟ و كيف ساعدت هذه الحرب في إغناء الفكر الاستراتيجي ؟
الفرضيات :
- تطورت الأسلحة الحربية بشكل كبير في الحرب العالمية الثانية، خاصة في الطيران الحربي و المدفعية.
- من نتائج الحرب العالمية الثانية، تراجع دور أوروبا في العالم، و سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية و الاتحاد السوفياتي، حيث سيقسم العالم إلى معسكرين شرقي و غربي.
- ظهور السلاح النووي أول مرة، و استعماله كوسيلة لفرض السلام في العالم خوفا من الدمار المترتب عن استعماله.
- بداية انتقال الجانب الاستراتيجي إلى مجالات و ميادين أخرى، لا تكون عسكرية بالضرورة كالميادين المدنية و الاقتصادية..
و سنعالج هذا الموضوع على شكل التصميم التالي :
أولا- الأسباب الرئيسية لقيام الحرب العالمية الثانية ثم الاحداث التي جرت خلالها.
ثانيا- الاستراتجيات العسكرية و السياسية خلال الحرب العالمية الثانية .
ثالثا- تأثير الحرب العالمية الثانية على الفكر الاستراتيجي .
أولا- الأسباب الرئيسية لقيام الحرب العالمية الثانية ثم الأحداث التي جرت خلالها.
1- أسباب قيام الحرب العالمية الثانية.
فمن بين أهم نتائج الحرب العالمية الثانية، معاهدة فرساي، هاته الأخيرة التي فرض فيها الحلفاء على الدول المنهزمة في الحرب بعض الشروط المجحفة، و من بينهم ألمانيا التي اعتبرت مسؤولة عن الحرب، و كان الثمن فادحا لا تحتمله أكثر الشعوب خضوعا و ذلة فما بالك بالشعب الألماني بعظمته و زهوه بنفسه.
و في وسط هذا الجو ظهر أدولف هتلر الذي اشترك في إنشاء حزب الاشتراكيين الوطنيين سنة 1920، و حدد الحزب مطالبه في البداية في اتحاد جميع الألمان في دولة مركزية واحدة، و إلغاء معاهدات الصلح و إرجاع المستعمرات الألمانية، و تأسيس جيش وطني. و تمكن أدولف بمعاونة جرينج و الطيار جيبيز من الوصول إلى السلطة و ساعدته عدة عوامل:
- معاهدة فرساي و قسوتها على الألمان و تطلعهم لحكومة قوية تستطيع نبذ هذه المعاهدة، و أن تسير بألمانيا إلى طريق المجد مرة أخرى.
- الخلافات التي نشأت بين الحلفاء، و روح الخوف و نزوحهم إلى السلم بأي ثمن[4].
و في أغسطس 1934 انتهز هتلر فرصة موت الرئيس هندنبرغ فتسلم منصبه في رئاسة الجمهورية، و منذ ذلك التاريخ أخذ هتلر يعمل بأقدام ثابتة لتحقيق برنامجه الذي رسمه مستغلا روح المهادنة و الخوف من الحرب التي سيطرت على أعداء ألمانيا من الانجليز و الفرنسيين و غيرهم. و قد أعلن هتلر صراحة عن عزمه على تمزيق معاهدة فرساي و استرداد ألمانيا لمكانتها كدولة عظمى، و مما أثير عنه قوله،" إن الريخ الأول هو دولة بسمارك، و الريخ الثاني هو جمهورية فرساي، أما الريخالثالث فهو دولتي"[5].
و منذ وصول هتلر للسلطة قام بعدة إجراءات، مثل:
- انسحاب ألمانيا في أكتوبر 1933 من مؤتمر نزح السلاح، و خروجها من عصبة الأمم.
- اتجاهها من ذلك الحين للتسلح علانية و وقوف الدول الغربية مكتوفة الأيدي أمام استخفاف النازيين بقرارات مؤتمر الصلح في فرساي، كما وقفوا مكتوفي الأيدي أيضا إزاء عدوان اليابان في عام 1934 على منشوريا و توسعها على حساب الصين متحدية عصبة الأمم.
- في عام 1935 اتخذت الإجراءات للبت في مصير إقليم السار و العجيب أن فرنسا أحجمت عن مساعدة الجماعات المعارضة للنازية في الإقليم، لذلك حصل النازيون على أكثرية ساحقة عند التصويت على مصير الإقليم و أقدمت ألمانيا في مارس 1935 على إدماج السار إلى ألمانيا .
- عقب ذلك مباشرة أعلن هتلر صراحة أن ألمانيا ترفض المواد العسكرية في معاهدة فرساي الخاصة بعدم تسلحها، فأدخل التجنيد الإجباري في البلاد و عجزت الدول الغربية عن الوقوف في وجهه، و وصل الأمر إلى أن انجلترا عقدت اتفاقا في عام 1935 يقضي بتحديد بناء السفن في ألمانيا بحيث لا يتجاوز أسطولها 35 في المائة من قوة الأسطول البريطاني.
- و في مارس 1936 أقدم الزعيم الألماني على مغامرة أخرى لتحطيم معاهدات الصلح فأرسل قواته لاحتلال منطقة السين المنزوعة السلاح و اقتصر موقف انجلترا من هذا النقض الصريح لمعاهدة فرساي على الاحتجاج و التنديد بالعدوان[6].
بالإضافة إلى ما سبق، وقعت حوادث مهمة أدت في النهاية إلى اشتعال نيران الحرب العالمية الثانية من أهمها:
- التسابق للتسلح، حيث أعلن هتلر عن عزم ألمانيا استرداد مستعمراتها، و رد رئيس وزراء بريطانيا برفع ميزانية التسلح في بريطانيا إلى 400 مليون جنيه إسترليني، كما أعلن بصراحة عدم جدوى العقوبات الاقتصادية التي تفرضها عصبة الأمم.
- غزو النمسا، في مارس 1938 أرسل هتلر قواته فاستولت على النمسا و ضمتها لألمانيا، و هكذا ضاع استقلال دولة عضو في العصبة دون أن تحرك العصبة ساكنا لنجدتها، و اعترفت إيطاليا بضم ألمانيا للنمسا و اختفت النمسا من الوجود كدولة مستقلة و لم تظهر إلا في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
- غزو تشيكوسلوفاكيا، كانت تشيكوسلوفاكيا التي وجدت بعد صلح فرساي، تمثل خليطا من عدة عناصر متباينة كان منهم 3,5 من السوديت الألمان، وكان هؤلاء يطمعون في الانضمام لألمانيا فأثاروا القلائل في أوائل 1938 و تحركت القوات الألمانية للحدود لنجدتهم.
- استيلاء إيطاليا على ألبانيا، في 7 أبريل 1939 بدأ الغزو الإيطالي لألبانيا و تلقب ملك إيطاليا بلقب ملك إيطاليا و ألبانيا، و إمبراطور الحبشة، و كان الخوف من أن يتبع ذلك الاستيلاء على اليونان فأصدرت انجلترا و فرنسا في 13 أبريل تصريحا بأنهما ستقدمان لليونان و رومانيا كل مساعدة ممكنة إذا اعتدى على أي منهما.و لما أعلن هتلر إنهاء الاتفاق الذي وقع بين ألمانيا و انجلترا في العام 1935، رد تشمبرلين بتصريح في مجلس العموم البريطاني أعلن فيه أن بريطانيا ستبدأ في التجنيد لمواجهة مسئولياتها الدولية.
- الاعتداء على بولنده، كان الاعتداء على بولنده هو الشرارة التي أشعلت نار الحرب العالمية الثانية[7].
2- أحداث الحرب العالمية الثانية.
في سبتمبر 1939 هاجمت القوات الألمانية بولنده فلم تجد فرنسا و انجلترا بديلا عن إعلان الحرب على ألمانيا و هكذا بدأت الحرب العالمية الثانية التي شملت قارات العالم. و يمكن تقسيم أحداثها إلى قسمين:
- القسم الأول: من 1939 إلى 1941.
وفي هذه الفترة نجح الألمان في غزو بولنده، كما اقتسمت هي و روسيا دويلات (استونيا و لتوانيا و فلنده)، و دخلت الجيوش الألمانية هولندا و بلجيكا، وانتهت حرب ألمانيا بدخولها باريس عام 1940 و بقيت بريطانيا تقاتل وحدها[8].
- القسم الثاني: من 1941 إلى 1945.
تبدأ أحداث هذه المرحلة في يونيو 1942 بشن ألمانيا الحرب على حليفتها السابقة روسيا، و دخول الولايات المتحدة الحرب، و امتدت الحرب إلى الشرق الأقصى بتوتر العلاقات بين اليابان و الولايات المتحدة و إعلان الحرب بينهما، و في منتصف عام 1942 بدأ الحلفاء هجومهم في مختلف الميادين الذي انتهى بسقوط برلين في أيديهم و استسلام اليابان عام 1945.
و يمكن أن نمر بشيء من التفصيل أكثر على هذه الأحداث التي أجملناها فيما مضى:
- غزو بولندا: حيث قامت القوات الألمانية بحرب خاطفة استخدموا فيها قواتهم البرية و الجوية فلم يمضي أسبوع واحد حتى قاموا بتدمير المقاومة البولندية، ثم قامت القوات الروسية بضربها من الخلف، و هكذا سقطت بولندا.
- غزو الدنمارك و النرويج: بعد معاهدة السلم التي أبرمها الدانماركيون مع الألمان، قام هؤلاء الأخيرون بالهجوم عليهم و على النرويج في نفس اليوم و ذلك لتأمين قاعدة العمل البحري و الجوي في بحر البلطيق و ضمان حصولهم على الحديد الخام اللازم لصناعتهم الحربية من السويد.
- معركة فرنسا: في ماي 1940 استطاع الألمان اختراق خط دفاع الحلفاء بالقرب من سيدان و استمروا في زحفهم قرب الموانئ الفرنسية على القتال الإنجليزي فوصلوا للساحل و هاجموا كاليه و أخذت القوات الفرنسية الإنجليزية تتقهقر دون انتظام. و أعلن موسوليني في 10 يونيو الحرب على بريطانيا و فرنسا ليضمن لنفسه و بلاده نصيب المنتصرين في الحرب، و في 16 يونيو 1940 سقطت باريس و قدمت الحكومة الفرنسية التي يرأسها بول رينو استقالتها و تشكلت حكومة جديدة وقعت هدنة مع الألمان في 22 يونيو 1940.
- معركة بريطانيا: وقفت بريطانيا بمفردها بعد هزيمة حليفتها فرنسا، وكانت بريطانيا نفسها قد خسرت العدد الكبير من جنودها و سلاحها، و قد قام هتلر بخطأ اعتبره تشرشل فادحا فعوض أن يقضي نهائيا على بريطانيا انشغل بإكمال فتح فرنسا و دعم فتوحاته، فأعطى بذلك فرصة لبريطانيا استغلتها على أكمل وجه لإعادة تنظيم صفوفها و تدريب قواتها و تعويض ما فقدته. و كانت القوات الألمانية تلقي بقذائفها المهلكة طوال صيف و خريف1940 على المدن الساحلية في الجنوب الشرقي من انجلترا و ركزوا غاراتهم على القوافل التجارية و المطارات، كما شنوا هجمات ليلا نهار على لندن...و ظل الشعب البريطاني قوي العزيمة واثقا من النصر، فواصلت بريطانيا الحرب تؤيدها مستعمراتها تأييدا قويا و تمدها بالرجال و العتاد و رد البريطانيون علة غارات الألمان بغارات على المنشآت الصناعية الألمانية في الزهر والموانئ و أحواض السفن الألمانية بل تعرضت برلين نفسها للغارات. و بعد أن عجز هتلر عن تحقيق أهدافه بالحرب الجوية و أيقن أن الانجليز لن يستسلموا نتيجة الخسائر الفادحة التي أنزلها بهم الطيران الألماني، رسم خططه على وسيلتين هما حرب الغواصات و الحرب في البحر المتوسط، ففي الأولى وضعت ألمانيا خطتها بهدف قطع تموين انجلترا من المواد الغذائية و المواد الأولية و خاصة البنزين حتى ترغم بريطانيا على الخضوع، لكن بريطانيا صمدت و جعلت ألمانيا تخفق [9].
- هتلر يعلن الحرب على روسيا: في 22 يونيو 1941 أعلن هتلر الحرب على روسيا و أرسل بفرقه المصحفة و ملايين مقاتليه عبر الحدود الروسية، و قد اصطدم هتلر باعتراض الزعماء العسكريين في جيشه الذين كانوا يريدون أن يصرف جميع الجهد لمواجهة انجلترا، و كان من الواضح أن صنع الدبابات و المدفعية اللازمة لحرب روسيا سيعني الإبطاء في صنع الغواصات اللازمة لحرب انجلترا. و استمرت المعارك مع روسيا إلى أن وصل الشتاء، الذي وجد الألمان على أبواب موسكو و لننجراد التي استعصى عليهم فتحها فوقفوا حيارى أمام هذا العدو الجبار الذي لا تنفذ موارده من العتاد و الرجال رغم ما لحق به من خسائر، و قد دافع الروس بضراوة منقطعة النظير عن ستالنجراد حيث خسر الألمان ما يقرب من مليون مقاتل- و تحول الأمر إلى ارتداد عاجل-فأكره الألمان على الجلاء عن القوقاز و ما جاء منتصف يناير 1943 حتى تمكن الروس من رفع الحصار لننجراد و موسكو المحاصرتين من طرف القوات الألمانية، و كانت هجمات الروس في الجبهة الروسية متفقة مع هجمات الحلفاء و أوقف الشتاء الروسي بزمهريره الشديد القتال في جميع القطاعات، ثم استأنف بعد ذلك و كانت عودت الروس قوية و بدأت باسترجاع الأراضي من الألمان، ووصل الروس في الشمال إلى حدود استونيا و في الوسط إلى القرب من حدود بولنده و الجنوب تجاوزوا حدود رومانيا. و هكذا كانت الحملة الروسية وابلا على هتلر[10] .
- حرب اليابان: بعد سقوط حليفتها وقفت اليابان بمفردها فركزت الولايات المتحدة و بريطانيا جميع مواردها و قواتها لقتالها، و كانت القوات البريطانية قد أوقعت هزيمة باليابان في أوائل 1945 كما أحرز الأمريكان نصرا على اليابان في جزر الفلبين و دخولا العاصمة مانيلا في 4 فبراير 1945، و اقترب القتال تدريجيا من الجزر اليابانية ذاتها فاستولى الأمريكان على أوكناوا و جزر غينيا الجديدة و بريطانيا الجديدة، و في 26 يوليو عقدت بريطانيا و الولايات المتحدة و الصين مؤتمرا في بنسدام و تقرر تقديم إنذار نهائي إلى اليابان تخير فيه بين الاستسلام دون قيد أو شرط أو ينزل بها الحلفاء الدمار و الخراب، و لما تجاهلت اليابان الإنذار الموجه لها ألقت طائرة أمريكية على هيروشيما في 6 أغسطس 1945 القنبلة الذرية الأولى التي استخدمت في الحرب فأحدثت تدميرا لم تشهد له البشرية مثيلا، فقد بلغ عدد القتلى من اليابانيين نتيجة هذه القنبلة وحدها 80000 قتيلا و 120000 جريح، و بعد ثلاث أيام ألقيت قنبلة أخرى على ناكازاكي، و في 10 غشت 1945 طلبت اليابان الهدنة و الاستسلام و وقعوا وثيقة التسليم علة ظهر باخرة أمريكية في خليج طوكيو[11].
و هكذا انتهت الحرب العالمية الثانية و خلفت نتائج جديدة كان لها الأثر على العالم حتى وقتنا الحالي.
3- نتائج الحرب.
رأت دول الحلفاء الكبرى المنتصرة أن من واجبها إعادة تنظيم العالم وبناء نظام دولي جديد، وقد حاولت ذلك بتأسيس منظمة الأمم المتحدة، لكن سرعان ما ظهر الخلاف بين حلفاء الأمس أنفسهم بسبب اختلاف مصالحهم في السياسة الخارجية، واختلافهم في المفاهيم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهذا ما أدى إلى انقسام العالم إلى معسكرين شرقي شيوعي يتزعمه الاتحاد السوڤييتي وغربي ليبرالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. فلم تعد الشيوعية تسيطر على دول أوربا الشرقية فحسب، بل على الصين أيضاً. وانضوت دول أوربا الغربية تحت جناح الولايات المتحدة، وأصبح إعادة أعمارها من شأنها واحتفظت بقواتها فيها. واحتلت ألمانيا و عاصمتها برلين وقسمت إلى أربع مناطق أمريكية وبريطانية وفرنسية وسوفيتية. واحتلت الولايات المتحدة اليابان وأعادت أعمارها بإدارة ماك ارثر. وتلاشى نفوذ كل من بريطانيا وفرنسا وفقدتا هيبتهما، وثارت شعوب آسيا وإفريقيا المستعمرة مطالبة باستقلالها، وتفككت الإمبراطورية الإيطالية. واتخذ الصراع بين الدول الكبرى مساراً جديداً حين أصبح صراعاً حول نظم الحكم والمذاهب السياسية والاقتصادية والفكرية. من جهة أخرى، بلغ عدد القوات التي عبئت للحرب نحو 92 مليون نسمة، منهم 32 مليون ينتمون إلى دول المحور، وتراوح عدد الخسائر البشرية بالأرواح ما بين 3560- مليون نسمة من عسكريين ومدنيين. ولحقت أكبر الخسائر البشرية بكل من الاتحاد السوڤييتي (18مليون قتيل) وبولندا (8.5 مليون)، وألمانيا (2.4مليون) واليابان (2مليون)[12].
ثانيا- الاستراتجيات العسكرية و السياسية خلال الحرب العالمية الثانية .
1- مفهوم الإستراتيجية .
و الإستراتيجية كلمة يعود استخدامها إلى الإغريق، لكنها لا يمكن أن تكون بأي حال من الأحوال حكرا عليهم دون سواهم من الشعوب التي عرفت القتال و الحرب بصيغة أو أخرى أو على مستوى معين. و الكلمة من حيث المضمون ذات صلة بفن القائد أو فن القيادة كما أراد لها الإغريق في بادئ الأمر، و لكن بما أن المفردة متطورة المعنى فإن معناها لا يقتصر على تحديد مطلق و ثابت. إنها كلمة متحركة و يستعان بها على بيان نشاط أو فعل معين في ميدان من الميادين المتنوعة في السياسة بصورة عامة، و لذلك فإن سعة مضمونها لها صلة بمعنى السياسة، كما أن فحواها الضيق من حيث ارتباطها بالقيادة قد اتسع ليندرج تحت لواء الإستراتيجية نشاطات سياسية و اقتصادية و اجتماعية و إلى غير ذلك، و بات من المألوف في أدبيات العلوم الاجتماعية في الوقت الراهن أن نعثر على مفردة الإستراتيجية في أكثر من مكان و أكثر من معنى. و مما ترتب على ذلك أن اللجوء إلى توصيف أشياء عديدة بكلمة إستراتيجية أثقل مضمون الكلمة بمعاني قد لا تمت لها بقرابة، و غدى شائعا أن تكون الكلمة ذات معنى سياسة أو خطة ...فضلا عن معناها الدقيق. إن المرونة في استخدام كلمة إستراتيجية جعلها أكثر غموضا في حين أنها في واقع الأمر يراد منها أن تكون ذات دلالة على الهدف الذي ينشده الفعل، و لكن إذا شددنا على المعنى الضيق للإستراتيجية فإننا سنكون في دائرة النشاط الإستراتيجي ليس إلا، و لما كانت السياسة في عصر الدولة القومية ذات صلة وثقى بالدولة و أهدافها فإن الإستراتيجية بدورها تكون على ذات الصلة و إن كانت الإستراتيجية من حيث سلم العلاقة تابعة للسياسة. و بالتالي تصبح المرونة في الاستخدام لمفهوم الإستراتيجية، و على الرغم من الغموض أمرا لا مفر منه في السياسة في الجملة و في السياسة الدولية على الخصوص. لقد جاء في قاموس أكسفورد بأن " الإستراتيجية فن القائد العام و كذلك فن عرض و توجيه الحركات العسكرية الكبيرة و العمليات للحملة، و أنها تتميز عن التعبئة التي هي إدارة القوات في المعركة أو عندما يكون وجود العدو مباشرا ". في حين جاء في قاموس للعلوم السياسية بأن الإستراتيجية " هي خطة عمل لدحر عدو أو لتحقيق هدف ما، و تشير الإستراتيجية إلى خطة شاملة أو للأمد الطويل و تتألف من سلسلة الحركات من أجل هدف عام، في حين تتألف التعبئة من حركة واحدة أو طور محدود من الخطوات صوب أهداف وسيطة في إطار خطة إستراتيجية كبيرة "[13].
و قد اختلفت تعاريف الإستراتيجية حسب اختلاف المفكرين، حيث عرفها كلوزفيتش في كتابه"De la Guerre" بأنها: “ la stratégie est l’usage de l’engagement aux tins de la guerre, a proprement parler, elle ne s’occupe que de l’engagement, mais sa théorie doit intégrer dans ses considération l’agent de cette activité spécifique, c’est-a-dire les forces armées en elles-mêmes et leurs principales relations, l’engagement étant déterminé par elles, et exerçant sur elles ses effets immédiats. L’engagement lui-même doit être étudié sous l’angle de ses résultats possibles ainsi que des forces morales et intellectuelles les plus importantes qu’il met en jeu.[14] “
و التي هي:"الإستراتيجية هي استخدام الالتزام وقت الحرب، بالمعنى الدقيق للكلمة، إنها تتعامل بالالتزام فقط، ولكن هاته النظرية يجب أن تدرج في نظرها الأشخاص النشطون في هذا المجال ، أي القوات المسلحة أنفسهم وعلاقاتهم الرئيسية، وهذا الالتزام يجب أن يدرس في حد ذاته و من حيث نتائجه المحتملة، فضلا عن القوى المعنوية والفكرية المهمة من أجل المشاركة".
وهناك من يصنف الإستراتيجية في عامة وخاصة، فالإستراتيجية العامة هي التي تهتم بدراسة متطلبات السياسة والحرب وتسعى إلى إيجاد السبل لتحقيقها. والإستراتيجية الخاصة تهتم بدراسة متطلبات نشاط محدد من الأنشطة التي تعنى بها الأمة، كإستراتيجية الاقتصاد وإستراتيجية الزراعة وإستراتيجية التربية وغيرها. وثمة آخرون يصنفون الإستراتيجية في مستويات أو طبقات فيقال إستراتيجية عليا أو كبرى وإستراتيجية دنيا أو صغرى، غير أن التعريف المعجمي للإستراتيجية يرتبها على النحو التالي:
في المجال السياسي الاقتصادي للدولة أو لمجموعة الدول، في مجال العلم العسكري، في مجال فن الحرب، في مجال التطبيق العسكري، في المعنى المجازي للمصطلح، في الاستعمالات العصرية. ومع تعدد التعريفات السابقة واختلاف وجهات النظر يمكن القول إن خيطاً ناظماً يجمع بينها قوامه أن الإستراتيجية علم وفن يُعنيان بدراسة الطاقات والقوى المتاحة، وتوفير الخطط والوسائل لتحقيق أهداف السياسة تحقيقاً مباشراً أو غير مباشر. فهي علم لأنها تبنى على نظريات علمية متعددة الأوجه تشمل العلوم الاجتماعية والعلوم البحتة والعلوم العسكرية وغيرها. وهي فن لأن ممارستها وتطبيقاتها تختلف بين شخص وآخر سواء أكان سياسياً أم عسكرياً. و ترتبط الإستراتيجية بالسياسة ارتباطاً وثيقاً وتعتمد عليها وتستجيب لمتطلباتها، وتنفذ المهام التي تسندها إليها. وتتبوأ الإستراتيجية مكان الصدارة من فن الحرب، وهي تحيط بجميع المسائل النظرية والتطبيقية التي لها علاقة بإعداد الدولة وقواتها المسلحة للحرب وبوضع خطط الحرب وخطط العمليات الإستراتيجية وإدارة دفتها حتى تتحقق الغايات المرسومة لها وفق المبادئ التي يحددها مذهب الدولة العسكري ونظامها الاجتماعي. و تؤلف الإستراتيجية العسكرية، من الناحية النظرية، منظومة المعارف العسكرية التي تتناول قوانين الحرب ومبادئها وطابعها وأساليب خوضها، وهي التي تحدد الأسس النظرية للمذهب العسكري، ولبناء القوات المسلحة واستخدامها، وأسس تخطيط العمليات والإعداد لها وتنفيذها. و من الناحية التطبيقية تشمل الإستراتيجية العسكرية النشاط العملي الذي تمارسه القيادة الإستراتيجية لبناء القوات المسلحة و وضع الحلول المناسبة للمهام التي تحددها لها القيادة السياسية في ضوء الإمكانات الحقيقية للدولة وكمونها الحربي وقواتها المسلحة، كما تشمل أعمال القيادة الرامية إلى تحديد المهام الأساسية للقوات المسلحة في الأحوال الراهنة، وإعداد مسارح العمليات الحربية، وتوزيع القوى عليها، وتحديد مهام الجبهات والأساطيل والجيوش بحسب أهمية الاتجاهات الإستراتيجية التي سوف تعمل فيها، مع مراعاة الشروط الموضوعية للموقف. و لقد اصطلح على تمييز إستراتيجية الحرب كلها من إستراتيجية خوض الحرب على اتجاهات معينة لتحقيق أهداف محدودة أو لتنفيذ عمليات مفردة. والإستراتيجية عامة واحدة للقوات المسلحة، وفروضها واجبة على أنواع القوات المسلحة كافة. أما العلاقة بين الإستراتيجية وفن العمليات والتكتيك (الأجزاء المكونة لفن الحرب) فهي علاقة جدلية تتغير بتغير وسائل الصراع المسلح ودرجة تجهيز القوات المسلحة. وتحتل الإستراتيجية المكانة الأولى بينها، فهي التي تحدد مهام فن العمليات وفن التكتيك، وتضع الأطر النظرية لهما، وتعتمد عليهما وتستفيد من نجاحاتهما في تحقيق الأهداف المرجوة، إذ كان نجاح الإستراتيجية في الحروب السابقة مرهوناً تماماً بالنجاحات التكتيكية، ثم توسط فن العمليات بينهما في الحروب الحديثة. و مع ظهور السلاح الصاروخي النووي اكتسبت العلاقة بين هذه المستويات الثلاثة مضموناً جديداً، فوضعت في تصرف القيادة الإستراتيجية وسائل تدمير تمكنها من تدمير العدو وتنفيذ بعض المهام الإستراتيجية والتكتيكية المهمة من دون وسيط. وتملكت القيادتان العملياتية والتكتيكية، في المقابل، وسائل تدمير بعيدة المدى تمكنها من تنفيذ مهام كبيرة العمق والمساحة ذات أهمية إستراتيجية مباشرة. و تتبدل مضامين الإستراتيجية بتبدل أهداف الدولة السياسية والموقف الدولي ونسبة القوى ومستوى الاقتصاد وكفاية وسائل الصراع المسلح وكميتها، وتختار كل دولة (أو حلف دول) إستراتيجيتها الخاصة بها في كل مرحلة تاريخية بما يتلاءم مع سياستها وإمكاناتها ووضعها الجغرافي والسياسي والعسكري وخصائص مواطنيها[15].
2- الإستراتيجية العسكرية أثاء الحرب العالمية الثانية.
و بما أن هتلر كان أبرز محاربين الذين بزغ نجمهم في الحرب العالمية الثانية فإننا سنركز على الإستراتيجية العسكرية لهتلر، حيث قدم هتلر في أبعادا جديدة لإستراتيجية الهجوم غير المباشر من الناحيتين النفسية و المادية و على الصعيدين المدني و العسكري، و لكنه أتاح بعد ذلك لأعدائه فرصا كثيرة ليستخدموا ضده مثل هذا النوع من الهجوم. يقتضي المنطق و العقل خلال الحرب عدم الإقلال من شأن العدو، و معرفة طريقة عمله و أسلوب تفكيره، و هذا أساس كل عمل جدي يهدف إلى التكهن بأعماله و مناوراته و اعتراض سبيلها، و كم ضاعت فرص من الحلفاء بسبب تباطؤهم في توقع و اكتشاف الضربة التالية التي يستعد هتلر للقيام بها ضدهم.
إن مصلحة كل دولة أن يكون في إداراتها الحكومية قسم للعدو مهمته الاهتمام بكل قضايا الحرب و دراسة مشاكلها من وجهة النظر المعادية و توقع نوايا العدو و مخططاته مقدما على أساس منطقي، و لا شك أن المؤرخين سيصابون في المستقبل بدهشة كبيرة عند دراسة أسباب عجز دول الحلفاء عن معرفة أهداف هتلر، لأن التاريخ لم يعرف رجلا طموحا مثله كشف بكل وضوح طريقته الخاصة و تسلسل في تنفيذها للوصول لهدفه، و يلقي كتاب ' كفاحي' و خطبه نورا ساطعا حول اتجاهه العام و تسلسل أعماله المقبلة، لقد كشف بنفسه أفكاره بكل جلاء مما يثبت أن نجاحه لم يكن وليد الصدفة أو استغلال الظروف، إن نابليون لم يبد أبدا مثل هذه الاستهانة بخصومه أو بالأخطار التي يمكن أن تترتب عن كشف نواياه، و لكن إهمال هتلر الواضح في هذا الصدد يبين كيف تعمى أبصار بعض الناس عن رؤية الحقيقة الماثلة أمام عيونهم، و يؤكد أن الصراحة التامة قد تكون أفضل طريقة للمحافظة على السر، و أن الهجوم المباشر يكون في بعض الحالات أقل توقعا من غيره و أن فن السرية يعتمد في كثير من الأحيان على التحدث بصراحة تامة في عد كبير من الموضوعات بشكل يبعد الشك عن بعض الأمور الأخرى الهامة فعلا. و لهتلر وجهات نظر مشتركة مع لودندورف حيث قد اتفق معه حول فكرة الجنس و الدولة، و حق ألمانيا في السيطرة على العالم، لكنهم اختلفوا بصفة خاصة فيما يتعلق بأساليبهما و طرقهما في العمل، فقد طالب لودندورف بشئ يبدو غريب و هو أن تقوم الإستراتيجية بالإشراف على السياسة أي أن تختار الإدارة بنفسها نوع عملها، و قد توصل هتلر إلى حل المشكلة بإدماج كلتا الوظيفتين في شخص واحد و استفاد من المزايا نفسها التي استمتع بها الاسكندر الأكبر و يوليوس قيصر في التاريخ القديم، و فردريك و نابليون في التاريخ الحديث، مما أعطاه إمكانية تحضير و زيادة وسائطه للوصول إلى هدفه، دون أن يستطيع استراتيجي أخر إيقافه، لقد أدرك مبكرا أن العسكري المحترف لا يستطيع أن يعترف بسهولة أن السلاح العسكري ليس إلا واسطة من الوسائط التي توضع في خدمة الحرب و سلاحا من ضمن الأسلحة التي توضع تحت تصرف الإستراتيجية الكبرى[16].
كان هتلر يعتمد في سياسته على ضرب البلاد المنعزلة أو الضعيفة بصورة مفاجئة و بشكل يلقي عبء الهجوم الأكبر على عاتق العدو نفسه، و كان يحترم القوة الدفاعية الحديثة و يؤمن بها أكثر مما يؤمن بها الرجال العسكريون في دول الحلفاء، و لقد سمحت له الفرصة للعمل كما يرغب دون صعوبات كبيرة فدفعته إستراتيجيته إلى عقد حلف مع روسيا لضمان حيادها، و ما أن تم عقد الحلف حتى أصبح مستعدا تماما، فإذا أعلن الحلفاء الحرب ضده للوفاء بالتزاماتهم و تعهداتهم فسيجدون أنهم فقدوا ميزات الدفاع و اندفعوا مرغمين في إستراتيجية هجومية في ظروف غير ملائمة و إمكانات غير كافية، و إذا و قفوا أمام خط سيجفريد عاجزين ظهر ضعفهم و ضاعت هيبتهم و إن تابعوا هجومهم زادت خسائرهم و ضعف أملهم في مقاومة الهجوم الألماني الذي سيتجه نحو الغرب بعد تأمين الجبهة الشرقية، و لم يكن أمام الحلفاء للخلاص من هذا المأزق مع عرقلة حرية عمل هتلر سوى استخدام سياسة العقاب و الحصار الاقتصادي و السياسي بالإضافة إلى إمداد الدول المعتدى عليها بالسلاح، و كانت هذه الطريقة حينئذ أفضل من إعلان الحرب و تشكل مفيدا لأزمة بولونيا مع تعريض مخططات الحلفاء و هيبتهم إلى أقل ضرر ممكن. و لقد أثبتت الوقائع ذلك حيث لم يؤثر هجوم الفرنسيين على خط سيجفريد و أدت الطريقة السيئة التي نفذ بها هذا الهجوم إلى إضعاف هيبة الحلفاء، و ترتب على هذا الهجوم الفاشل و الانتصارات الألمانية السريعة في بولونيا ازدياد خوف الدول المحايدة من ألمانيا و إضعاف ثقتها بالحلفاء[17].
و قد كانت الجيوش الألمانية تسير بتكتيك يتلاءم مع إستراتيجيتها فتتجنب الانقضاض المباشر و يبحثون باستمرار عن النقاط الضعيفة لتتسرب منها و تستغل النجاح على خط المقاومة الأضعف، و عندما كان ساسة الحلفاء العاجزين عن فهم فن الحرب الحديث يطلبون من جيوشهم صد الغزو الألماني بهجمات عنيفة متلاحقة كانت المدرعات الألمانية تلتف حول وحدات المشاة المشلولة و تجتازها دون أن تهاجمها لتتابع تقدمها في العمق، و بينما كان قادة الحلفاء يفكرون في التحضير للمعركة، كان القادة الشبان الألمان يتحاشونها و يعملون على شل عدوهم استراتيجيا باستخدام القاذفات المنقضة و المظليين الذين زادوا الفوضى و الاضطراب في مواصلات العدو. و لا يمكن تفسير الانتصارات الألمانية الرائعة بأنها ترجع فقط لاستخدام الإمكانيات الحديثة و التكتيك و الإستراتيجية فقد كان من رأي هتلر أن فن الحرب يتطلب استخدام الهجوم غير المباشر على مستوى واسع، لقد أخذ في هذا المجال درسا من الثورة البلشفية و استفاد من أساليب الآلية التي وضع الإنكليز أسسها، و كانت طريقته في الحرب صورة لما فعله المغول بقيادة جنكيزخان. و هكذا كان يستخدم الهجوم الجبهي في الحرب لمجرد الخداع و التمويه، و يعطي الدور الأساسي للهجوم على المؤخرات بكل أشكاله، كان يسعى دائما لشل إرادة الخصم بدلا من قتله لأن عملية القتل و التدمير أصعب و أكثر نفقة[18].
و واجه هتلر الواقع الجيوستراتيجي نفسه الذي واجه نابليون، فلكي تهزم بريطانيا يتعين عليك أولا أن تعبر جزرها و قد أعطى هزيمة القوة الجوية الألمانية في معركة بريطانيا فرصة للنجاة من الغزو، و كان استعداد سلاح الجو الملكي لتلك المعركة و التطوير التكنولوجي و الصناعي للرادار و نظام الطياران و القيادة نتيجة مباشرة لتشكيل هذا السلاح سنة 1917، و قد ثبتت أهمية هذا الاستثمار في الحرب، و يستفاد اليوم كثيرا من إمكانات الحرب الممكنة بشبكات الاستطلاع أو الحرب الاستطلاعية القائمة على فكرة تكوين تصور فوقي لميدان المعركة بفضل القدرة على جمع و تقييم المعلومات من مصادر متعددة و التصرف بناء عليه، و قد خاضت قيادة القوة المقاتلة في سلاح الجو الملكي بنجاح أول معركة حرب استطلاعية من خلال استطلاع و تحليل قدرتها على الاشتباك مع العدو[19].
ثم كانت الإستراتيجية النووية خاتمة تلك الحرب و خاتمة جميع الحروب العالمية، حيث قامت الولايات المتحدة الأمريكية بقصف اليابان بالقنبلة النووية، و قد كانت قوة خاصة هي المجموعة المركبة 509 من القوة الجوية العشرين قد شكلت لغرض واحد هو إسقاط القنبلة، و في الساعة 8:16 من صباح 6 أغسطس 1945 أسقطت القنبلة النووية فوق هيروشيما، و كانت قنبلة 'الطفل الصغير'، حيث قتلت صدمة الانفجار المباشرة 66000 شخص و جرحت 70000 من أصل 255000 نسمة عدد سكان المدينة قبل الانفجار، و بين عامي 1950 و 1980 مات 97000 آخرون نتيجة سرطانات مرتبطة بالإشعاع النووي الناتج عن التفجير. و من ثم أسقطت قنبلة أخرى بقوة الأولى و اسمها 'الرجل السمين' على نكازاكي يوم 9 أغسطس فقتلت 39000 و جرحت 25000 من أصل سكان المدينة البالغ عددهم قبل القصف 195000نسمة، و قد أجبر اليابان إلى جانب إعلان الاتحاد السوفياتي الحرب عليها و هجومه على منشوريا في اليابان، على الاستسلام في 14 أغسطس 1945[20].
ثالثا- تأثير الحرب العالمية الثانية على الفكر الاستراتيجي.
1- تأثيرها فكريا:
لقد كانت الحرب العالمية الثانية مرحلة مهمة في مراحل تطور الفكر الإستراتيجي، حيث كانت هناك تغييرات مهمة في الفكر الإستراتيجي، فنجد مثلا تعريف الإستراتيجية حيث أعطت المدرسة الأمريكية تعريفا لها يجمع بين الاستخدام الفعلي للقوات المسلحة أو التهديد بها، و يبدو أن هذا الفهم الثنائي الجانب له ما يبرره، فالتطورات الحديثة في الترسانة الحربية بعد 1945 جعلت مسألة اللجوء إلى القوة أمرا ليس من الأمور الميسورة، فالاحتكام إلى الردع النووي و الخوف من مخاطر الحرب النووية دفع التفكير إلى اعتماد مسالك أخرى، فجاء في عام 1959 بأن الإستراتيجية هي " فن و علم استخدام القوات المسلحة للدولة لغرض تحقيق أهداف السياسة القومية عن طريق استخدام القوة أو التهديد باستخدامها ". و أن إدخال عنصر التهديد ينم عن مغزى سياسي-دبلوماسي يتواءم مع الوقائع السائدة في السياسية الدولية، إن استخدام القوات المسلحة ليس وحده مادة الإستراتيجية بل إن الأصح في وقتنا الراهن هو عملية توظيف الموجود من القدرات العسكرية لبلوغ هدف محدود من دون الحاجة إلى القوات المسلحة النووية في معركة[21].
ثم بعد الحرب العالمية الثانية، أصبحنا نتحدث عن انتقال الإستراتيجية إلى مجالات أخرى ليست بالضرورة عسكرية، إلى مجالات مدنية، فنجد:
- الإستراتيجية السياسية : و تتمثل هذه الإستراتيجية في المبادئ و الخطط التي تعتمدها الدولة في تصريف شؤونها في الساحة الداخلية و في ميدان العلاقات الدولية الخارجية، و لقد كان الرأي السائد قبل كلوزوفيتش أن السياسة تتعطل عندما تبدأ العلاقات بين الأمم تدار عن طريق السلاح، و لكن كما اتضح فيما بعد أن الحرب ليست سوى امتداد للسياسة، و أن العلاقات بين الأمم المتحاربة لن تتوقف، كما أن خيار اللجوء إلى العنف أو التهديد يصبح خيارا أكثر احتمالا، كما أن الدبلوماسية لن تقدر على أن تعمل من دون وجود قوة عسكرية تكون ظهيرا لها.
- الإستراتيجية الاقتصادية : توجد علاقة وثقى بين الإستراتيجية و الاقتصاد و أن التطورات و التغييرات في القوى الإنتاجية و في البنى الاقتصادية تؤثر بصورة شاملة في الإستراتيجية الشاملة للدولة، و في الوقت الراهن يتبين لنا أن لا يكمن تحمل صراع كوني سياسي و اقتصادي و عسكري بين القوى الدولية دون أن يكون لها اقتصاد يعينها على تبني إستراتيجية تتواءم مع المهمات المطلوب تأديتها، و للنهوض بالاقتصاد لابد من إستراتيجية تسير عليها الدولة لتحقيق ذلك .
- الإستراتيجية النفسية-الاجتماعية-الثقافية : و هي الإستراتيجية التي ترعى العوامل النفسية للمواطن و الجندي و كذلك تعنى بتطوير الحالة الاجتماعية و الثقافية للأمة مهتدية بالقيم و المبادئ و التقاليد الحضارية و تنشد الارتقاء بالمضمون الحضاري لحياة الشعب و الأمة إلى المستوى الذي تجسده الأيديولوجية[22].
بالإضافة إلى مجموعة الكتابات التي همت مجال الفكر الإستراتيجي و الإستراتيجية، ثم لجوء أغلب الدول إلى تدريس الفكر السياسي كفرع قائم بذاته نظرا لأهميته المطلقة و من أجل الحصول على نخبة متخصصة في هذا المجال.
2- التأثير الممارساتي:
و كانت تأثير الحرب العالمية الثانية على الفكر الإستراتيجي من حيث الممارسة متمركزة في المجال العسكري، فقد قام هتلر بإدخال أساليب جديدة في فن الهجوم الإستراتيجي التي تتضمن تطوير و تنسيق جميع ألوان النشاط الحربي و جميع الوسائل التي يمكن استخدامها للتأثير على إرادة العدو[23].
بالإضافة إلى التطور في الأسلحة سواء البرية أو البحرية أو الجوية، لكن كان أبرز إضافة هي السلاح النووي. حيث أحدثت الإستراتيجية الذرية أو بالأحرى استفادت الإستراتيجية من أثار السلاح الذري، فأحدثت انقلابات هامة في مفهوم استخدام القوى للحرب أو للحفاظ على السلم، حيث قد كنست الإستراتيجية النووية كل المفاهيم الإستراتيجية للقرن 19 و بخاصة مفاهيم مدرسة كلوزفيتش التي فهمها أنصارها فهما خاطئا، ثم ينبغي أن تشتمل هذه الإستراتيجية الجديدة على التبديلات الهامة التي أخلتها الطاقة العلمية و الصناعية على تطبيق دفاع البلد، حيث تشتمل على تبدل مقياس مسائل الدفاع بسبب مدى و قدرة الأسلحة، و تشتمل على تغير طابع مسائل الدفاع فأضحى التحضير أكثر أهمية من التنفيذ لأن امتلاك وسائل متفوقة-كالسلاح النووي- أكثر حسما من استخدامها، إن هذا هو الانقلاب الكامل في فن الحرب الذي قال عنه نابليون 'أنه فن كله تنفيذ' و من هذا الواقع فإن مفهوم الأمن الذي كان مرتبطا في الماضي بالحماية المباشرة للقوى الداخلة في الصراع يتخذ الطابع المجرد للتقدم في التحضير فاستبدلت المخافر الأمامية بالتجسس العلمي و أضحى مفهوم المناورة أكثر تجريدا[24].
و أيضا أن تطور إستراتيجية الردع يتجه إلى تقليص المساحة الخاصة بحرية عمل القوة تدريجيا، و من هذا الواقع نرى أن من الممكن حل النزاعات بأعمال جانبية تبدو متواضعة جدا هذه النزاعات التي كانت تمتص في الماضي كمية هائلة من الطاقة و الموارد، وهكذا فإن الحرب لو نشبت فستكون خناك فرص كبيرة لبقائها محدودة و أن تتقرر نتيجتها بالنقط لا بالضربة الحاسمة و مثال ذلك الأزمة النووية بكوبا. و هناك أيضا، استطاعة الردع النووي توليد فن حقيقي للسلم،عندما يقاس التقدم الذي تحقق في هذا المجال في عشرة أعوام نجد أنه من الممكن أن نتوصل في المستقبل إلى تنظيم أكثر عقلانية للسلم و أكثر فاعلية من الأسس السابقة المعتمدة على العوامل الانفعالية و المعنوية، و تستطيع إستراتيجية السلم هذه أن تنفذ إلى توازن ثابت يسمح بالإشراف على التسلح أو يشرع بإنشاء قوة قادرة على تحطيم التوازن على حساب كل معكر للسلم[25] .
خاتمــــــــــــة :
لقد كانت تجربة الحرب العالمية الثانية التي خاضها العالم لثاني مرة بعد الحرب العالمية الأولى، دليلا قاطعا على أن الحلول الحربية لا تصنع إلا الدمار و الدمار فقط، و كون الإنسان العنصر الأبرز فيه، و قد تميزت هذه الفترة بعدة خصائص مهمة، كان أبرزها ما يتعلق بالفكر الإستراتيجي و كيفية إدارة الأعمال الخارجية بين الدول، حيث أظهرت ألمانيا في شخص هتلر قوتها العسكرية و إبداعها في المجال الإستراتيجي و فن الحرب و التكتيك، ثم مدى قوة تنوع السلاح، فكان السلاح الجوي البريطاني هو منقذ البلاد من الغزو الألماني، و عامة التطورات التي شهدها العالم على مستوى الإستراتيجية العسكرية.
إضافة إلى انفجار نموذج الحرب الصناعية بين الدول، و ذلك منذ ظهور السلاح النووي سنة 1945 على يد كل من الصناعة و الابتكار التكنولوجي، فكان هذا السلاح هو نقطة التغيير في موازين القوى العالمية حتى اللحظة و في تغيير الأدبيات الإستراتيجية، بانتقالها إلى المجال المدني بكل تخصصاته، و ذلك بعدما رأى العالم مدى حجم الدمار الذي يسببه ظهور السلاح النووي و أصبح هذا الأخير كردع للحروب و فرض للسلم بطريقة غير مباشرة. و لم تعد الجيوش الصناعية الحاشدة تجدي نفعا في مواجهة سلاح التدمير الشامل كما راح الروس يسمونه، فكانت الحرب الصناعية المباشرة مستحيلة في مثل تلك الظروف، ولكن التهديد بقي و تلك كانت قصة الحرب الباردة بين القطبين العالميين الإتحاد السوفياتي و الولايات المتحدة الأمريكية[26].
المراجع :
§ كاظم هاشم نعمة، الوجيز في الإستراتيجية، أكاديمية الدراسات العليا و البحوث الاقتصادية، طرابلس-ليبيا، طبعة موسعة، مطبعة أديتار، كالياري،2000.
§ اندريه بوفر، مدخل إلى الإستراتيجية العسكرية،تعريب أكرم ديري، دار الطليعة للطباعة و النشر، بيروت،الطبعة الاولى، 1968.
§ شوقي عطا الله الجمل، تاريخ أوروبا،من النهضة حتى الحرب الباردة، المكتب المصري لتوزيع المطبوعات، القاهرة، سنة 2000.
§ الجنرال روبرت سميث، جدوى القوة في العالم المعاصر، ترجمة و تحقيق مازن جندلي، دارالعربية للعلوم ناشرون،2008.
§ سون تزو، فن الحرب، اعداد و تقديم،رءوف شابيك، 2007.
§ ليدل هارت، الإستراتيجية و تاريخها في العالم، ترجمة الهيثم الايوبي، دار الطليعة، بيروت، 1978.
§ مصطفى طلاس، الإستراتيجية السياسية العسكرية، دار طلاس للنشر، 1991.
§ روجيه جارودي، الولايات المتحدة طليعة الانحطاط ، ترجمة مروان حموي، دارالكتاب للطباعة و النشر، دمشق، 1998.
§ الموسوعة العربية، www.arab-ency.com
o -Hervé Coutau-Bégarie , Traité de stratégie, Economica , 1999.
o .-Carl Von Clausewitz, De la Guerre , les éditions de miniut
[1]- كاظم هاشم نعمة، الوجيز في الإستراتيجية، طبعة موسعة، مطبعة أديتار، كالياري، 2000، ص 117 .
[2]- سون تزو، فن الحرب، اعداد و تقديم رؤوف شابيك، 2007، ص 3.
[3]-اندريه بوفر، مدخل الى الاستراتيجية العسكرية، تعريب أكرم ديري، دار الطليعة للطباعة و النشر، بيروت، الطبعة الاولى، 1968، ص15.
[4]- شوقي عطا الله الجمل، "تاريخ اوروبا،من النهضة حتى الحرب الباردة"، المكتب المصري لتوزيع المطبوعات، القاهرة، سنة 2000، ص 255.
[5]- شوقي عطا الله الجمل، مرجع سابق، ص 257.
[6]- شوقي عطا الله الجمل، مرجع سابق، ص 258-259.
[7]- شوقي عطا الله الجمل، مرجع سابق، ص261-262.
[8]- شوقي عطا الله الجمل، مرجع سابق، ص264.
[9]- شوقي عطا الله الجمل، مرجع سابق، ص 272.
[10]-شوقي عطا الله الجمل، مرجع سابق، ص 280.
[11]-شوقي عطا الله الجمل، مرجع سابق، ص 290.
[12]- الموسوعة العربية،
http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=9678&m=1
[13]- كاظم هاشم نعمة، مرجع سابق، ص 118.
[14]- كارل كلزوفيتش، De la Guerre، ترجمة دينيس نافيل، les édition de minuit، ص 181.
[15]- الموسوعة العربية،
http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=387&vid=
[16]- ليدل هارت، الإستراتيجية و تاريخها في العالم، ترجمة، الهيثم الأيوبي، دار النشر الطليعة، بيروت، فبراير 1978، ص 200-201.
[17]- ليدل هارت، مرجع سابق، ص 204.
[18]- ليدل هارت، مرجع سابق، ص 206.
[19]- الجنرال روبرت سميث، جدوى القوة في العالم المعاصر، ترجومة و تحقيق مازن جندلي، دارالعربية للعلوم ناشرون،2008، ص 169.
[20]- الجنرال روبرت سميث، مرجع سابق، ص 181-183.
[21]- كاظم هاشم نعمة، مرجع سابق، ص 146.
[22]- كاظم هاشم نعمة، مرجع سابق، ص 157-160.
[23]- ليدل هارت، مرجع سابق، ص 207.
[24]- مصطفى طلاس، الاستراتيجية السياسية العسكرية، دار طلاس للنشر، 1991،ص 90.
[25]- مصطفى طلاس، مرجع سابق، ص 92.
[26]- الجنرال روبرت سميث، مرجع سابق، ص 183.