إشكاليات الفكر السياسي من منظور مختلف
الرأسمالية، الاشتراكية، الديموقراطية لا تزال في مقدمة إشكاليات الفكر السياسي المعاصر رغم التحولات الكبرى التي طاولته منذ الثلث الأخير من القرن الماضي. فهل الرأسمالية هي قدر التطور الانساني ام الاشتراكية ام الديموقراطية؟ وأيها هو القادر على الاستمرار والاستجابة للتوجهات الاساسية للمجتمع الانساني؟ ألا تعاني جميعها على السواء من معوّقات تكوينية تهددها من داخلها؟
هذه الاسئلة بالذات هي ما يضفي الراهنية على كتاب عالم الاقتصاد الاميركي النمساوي الاصل جوزف أ. شومبيتر «الرأسمالية والاشتراكية والديموقراطية» ترجمة حيدر حاج اسماعيل، المنظمة العربية للترجمة 2011.
هذا الكتاب كما يصفه مقدمه ريتشارد سويدبيرغ هو أحد أعظم الكتب الممتازة في ميدان علم اجتماع القرن العشرين نظراً الى رؤيته الخاصة الى الرأسمالية والاشتراكية والديموقراطية. فقد طبع ثلاث طبعات في أربعينيات القرن الماضي، واستقبل استقبالاً جيداً من قبل الاقتصاديين المحترفين، وتمت ترجمته الى اكثر من اثنتي عشرة لغة، وليس ثمة إشارة لتضاؤل الاهتمام به مع انه كتب منذ اكثر من خمسين سنة. ولعل ما يجعله مستحقاً للقراءة اليوم بصورة واسعة كما في الأمس محاولته المتوازنة لتحديد ما بقي من قيمة لماركس، وتأويله المعقول والمبتكر لأفكاره، فضلاً عن تحليله لطريقة عمل الاقتصاد الرأسمالي وقوله بانحدار الرأسمالية المحتّم. وهذا بالذات ما حدا بشومبيتر الى البدء من ماركس مناقشاً تأويله الاقتصادي للتاريخ باعتباره أحد أعظم الإنجازات الفردية الخاصة بالسوسيولوجيا، وتحديده للاستغلال الطبقي باعتبار الانتاج الرأسمالي في جوهره انتاجاً ل«القيمة الفائضة» وليس مجرد انتاج بضائع.
والاستغلال الطبقي عند ماركس في رأي المؤلف ليس محصوراً في نمط الانتاج الرأسمالي بل هو قضية التاريخ كله، من المشاعية البدائية الى نمط الانتاج الاقطاعي، الى نمط الانتاج الرأسمالي الى النمط الشيوعي اللاطبقي. وكل ذلك معناه أن تاريخ البشر ما هو الا تاريخ انماط انتاج طبقية ودول طبقية دكتاتورية، فكل دولة تاريخية حتى لو سميت ديموقراطية هي دكتاتورية. طوباوية ماركس ينتقد شومبيتر نظرية الطبقات الاجتماعية الماركسية لكونها أضعف الحلقات في السلسلة الماركسية، وفي كلامه على العمال اعتبر ان هؤلاء هم الاصعب تحولاً الى الاشتراكية. وقد رأى في أفكار ماركس «ايديولوجيا طوباوية» تماماً مثل اي معتقدات نلقاها عند الطوباويين. وفي رأيه ان الحركة العمالية ليست اشتراكية بالضرورة، كما ليست الاشتراكية عمالية او بروليتارية بالضرورة. ولم يكن ماركس وانجلز سوى «مفكرين بورجوازيين نموذجيين» لا يثقان بنقابات العمال بقدر ما كانا غير موثوقين منها. لكنه كان يعتقد ان الرأسمالية سيصيبها الاخفاق بداعي نجاحها ذاته، مقدماً تصوره لـ«التدمير الخلاق» بفعل تغيرات مؤسساتية، منها كون المقاول الى زوال مع ظهور الشركة، وزوال معنى الملكية القديم، وكون المثقفين على عداء دائم مع الرأسمالية. بيد أن الاشتراكية يجب ان تؤسس على مقدمات مثل التقدم التكنولوجي وتمركز الصناعة في شركات ذات تنظيم بيروقراطي، فضلاً عن الاستعداد السياسي والقبول السيكولوجي بالأفكار الاشتراكية، فـ«الاشتراكية غير الناضجة لا تفيد سوى الذين هندسوها»، والديموقراطية الاشتراكية قد تكون مزعزعة من الداخل لأن المجتمع الاشتراكي يفتقر الى فصل قوي بين السلطات. نقد الديموقراطية وكذلك انتقد شومبيتر ديموقراطية العدد الأكثرية التي لا تمنع الاستبداد، ورأى ان المجموعات السياسية قادرة على تشكيل الارادة الشعبية وصياغة ارادة الشعب، ولذلك ان الارادة العامة هي نتاج العملية السياسية وليست القوة الدافعة لها، وارادة الأكثرية ليست هي ارادة الشعب. ويعتقد شومبيتر بالحتمية لأن البشر ليسوا احراراً في خياراتهم، فالديموقراطية لا تعني ان الشعب هو الذي يحكم فعلياً، بل ان افراد الشعب لديهم فرصة للقبول بالأشخاص الذين سيحكمونهم او رفضهم، الديموقــراطية هـي «حكم السياسي».
ختاماً نقول إن كتاب شومبيتر يتميز فضلاً عن إسهامه في تطوير نظرية الديموقراطية بأفكاره الجديدة والمفاجئة والمثيرة حقاً والمدعومة بثروة كبيرة من المعلومات والوقائع على حد تعبير مترجمه حيدر حاج اسماعيل اما اهم هذه الافكار فيتلخص في:
أ – تمييزه بين الديموقراطية كقيمة ميتافيزيقية عليا يراد تحقيقها، اي ارادة الشعب، والديموقراطية كطريقة لانتخاب القادة، وقوله تالياً ان الاكثرية لا تمثل «الشعب» وانما الاكثرية وحدها.
ب – تصوره بأن الرأسمالية الى زوال بعوامل من داخلها ومن صنعها، فكلما ازداد نجاحها ازداد اقترابها من نهايتها.
ج - الاشتراكية انواع وليست نوعاً واحداً، وعلاقة اشتراكيي زمن عدم النضج بالحركات الطبقية كانت عرضية، بينما صارت مع ماركس علاقة مبدئية جوهرية.
د – تعريف الديموقراطية بأنها حكم السياسيين المنتخبين وبتأثير مجموعاتهم السياسية الضاغطة، والاعتقاد بأنها حكم الشعب ما هو إلا تعريف خاطئ ومضلل.
ه – حياد المؤلف الايديولوجي، وتأكيده ان كل ما قام به لا يعدو ملاحظة واستقراء الأحداث واتجاهاتها والتكهن بما ستكون عليه صورة المستقبل.
و – مع احترامه للتحليل الموضوعي للتاريخ، أبقى دوراً هاماً للعامل الشخصي القيادي الذي يجب أن يُنظر اليه في عداد الحقائق الموضوعية، من دون أن يعني ذلك ان التاريخ يصنعه الرجال، وإضفاء اهمية استثنائية على دور «البطل».
اهمية كتاب شومبيتر في انه يوحي دائماً بالمناقشة، سواء وافق الانسان على وجهة نظره او خالفها. وان كانت وقائع التاريخ وسيرورته قد خيبت كثيراً من اطروحاته ان بصدد موت الرأسمالية او زوال معنى الملكية القديم، او الرهان على عداء المثقفين للنظام الرأسمالي، فإنه استطاع خضّ عقل القارئ وجعله يفكر. وهذا ما اراده هو بالضبط: التفكير الموضوعي البريء من العقائد الجامدة والتطرف الذميم والانحيازات السياسية، حتى لو انتهى ذلك الى السلبيات الثلاث: الديموقراطية الكلاسيكية هراء، الاشتراكية اشتراكيات، والرأسمالية منتحرة لا محالة.
جوزيف أ. شومبيتر، الرأسمالية والاشتراكية والديموقراطية، ترجمة حيدر حاج اسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، 2011، 816 صفحة.