العلاقة بين التنشئة الوطنية والإستقرار
وحيد بن حمزة هاشم
مقدمة
تسهم التنمية والتنشئة الوطنية الصحيحة في تدعيم قاعدة الأمن والاستقرار الاجتماعي والسياسي الذي يعد قاعدة الأمن والاستقرار الوطني. ومن هنا فإن الاهتمام بتنمية المجتمع وتطويره بهدف تحقيق التنمية الوطنية الشاملة والتقدم في شتى مجالات الحياة الإنسانية وخصوصا في مجالات التنمية السياسية والاجتماعية, والاقتصادية, والعلمية – التقنية, تتطلب صياغة أو إعادة صياغة آليات وأساليب التنشئة الاجتماعية والتنشئة السياسية بأخلاقياتها وقيمها ومبادئها المطلوبة والمتوائمة مع احتياجات ومصالح الدولة والتي نطلق عليها هنا في هذه الدراسة مسمى “ التنشئة الوطنية”.
ولا شك أن التنشئة الوطنية الفاعلة ( التي من المفترض أن تختلف من دولة لأخرى وبالتالي من مجتمع لآخر) التي يتم تدعيمها وتقويتها بمشاعر الولاء والانتماء القوي للوطن تلعب دور كبير في الحفاظ على أمن واستقرار المجتمع والدولة، وهو الهدف الإستراتيجي الأوحد الذي كان ولازال يعد محور اهتمام القيادات السياسية بصفة عامة والعلوم السياسية والاجتماعية بصفة خاصة ومنها السياسات المقارنة وعلم الاجتماع السياسي.
ولا شك أن القضايا والمشاكل والتحديات والأزمات الخطيرة التي شهدتها ولا زالت تشهدها معظم إن لم يكن جميع المجتمعات الإنسانية في العصر الحديث وبالتحديد مع بداية القرن العشرين الماضي( المملكة العربية السعودية تشهد بعض منها في الوقت الراهن) عادة ما تكون نتاج لعمليات متواصلة وسريعة من قوى التداخل والتفاعل السلبي لمجموعة من العوامل والمتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بل وحتى النفسية على المستويين الداخلي لكل دولة على حدة ( أو لمجموعة من الدول كما هو الحال بالنسبة للدول العربية والقضية الفلسطينية) ومع المستوى الخارجي للبيئة الدولية أو الإقليمية.
لذلك لم تعد قضايا الأمن والاستقرار من جهة, ومن جهة أخرى مخاطر عمليات الإرهاب والعنف السياسي التي تجتاح العالم حكرا في دراستها على مجال دراسي علمي معين من مجالات العلوم الاجتماعية، وإنما باتت مهمة دراستها والبحث والتقصي عنها لمعرفة سلبياتها ومخاطرها, مهمة عالمية في الهدف شاملة وكلية تخضع لكافة المجالات العلمية بداية بالعلوم السياسية والأمنية ونهاية بالعلوم الاجتماعية.
ولا شك أن أهمية القضايا الأمنية المعاصرة وخطورتها على أمن واستقرار المجتمع الإنساني بدون استثناء أو تخصيص تتطلب تعاون علمي وثيق وجهود علمية مكثفة تضع نصب أعينها ظاهرة الإرهاب والعنف السياسي كهدف رئيسي لا مناص من التعامل معه بجدية وإيجاد الحلول الناجعة والفاعلة لمعالجة تلك الظاهرة والقضاء عليها, وهي مهمة علمية شاقة تتطلب توظيف الأساليب والطرق التحليلية المختلفة (على كلى المستويين الكلي والجزئيMacro and Micro - levels of Analysis ) للعلوم الاجتماعية بكاملها.
ولا شك أن معالجة القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية (وخصوصا التعليمية والتربوية) في المجتمعات الإنسانية الحديثة في عصر “ ظاهرة الإرهاب” أصبحت مطلب استراتيجي ومصيري هام بعد أن غدت ظاهرة الإرهاب نتاج طبيعي لعملية التفاعل السلبي بين بعض من المكونات الداخلية للمجتمع, أو تظهر كنتاج للتفاعل السلبي الخطير بين بعض من المكونات الداخلية للمجتمع مع ضغوط العامل الخارجي الدولي أو الإقليمي.
الحراك الاجتماعي والحراك السياسي
لكل حركة إنسانية في شكل فعل طبيعي أو غير طبيعي ( بمعنى مصطنع أو مقصود) حركة أو حركات مضادة في شكل ردود أفعال طبيعية أو غير طبيعية ( إرادية أو غير إرادية). ومن هنا فإن الحركة الاجتماعية السريعة يتمخض عنها حركات أو ردود حركات مختلفة منها الايجابي ومنها السلبي. كما وأن الحركة الاجتماعية الفجائية أو الغير منظمة قد يتمخض عنها أيضا بالضرورة ردود حركات مختلفة في أشكال متنوعة منها السلبي ومنها الايجابي.
ومن الواضح أن العنف بصفة عامة والإرهاب بصفة خاصة نتاج لعملية حراك اجتماعي معينة تم تحريكها بتفاعل قوى عوامل مختلفة منها العوامل السياسية والعقائدية والنفسية والاقتصادية بل وحتى العوامل الاجتماعية ذاتها. لذلك فإن المخاطر الناجمة عن عملية التحرك الاجتماعي السلبي ( الحراك الاجتماعي السلبي) سواء تجاه ألذات أو في الاتجاه الخاطيء تتطلب ضرورة البحث والتقصي في عوامل ومسببات ظهورها الداخلية والخارجية وعلاقاتها الوظيفية بالبيئة الاجتماعية وبالبيئة السياسية وبالبيئة الثقافية العامة السائدة وذلك لمعرفة مدى تأثرها بقوى التغير الداخلي أو التغيرات الخارجية الناجمة عن عمليات التغير في مكونات البيئة الإقليمية أو الدولية وخصوصا البيئة المادية والعلمية التقنية.
ومن الواضح أن مسيرة التحرك الاجتماعي للمجتمع عادة ما تتأثر بشكل مباشر بعمليات التطور والتحديث التي تطبقها الدول في مجتمعاتها التقليدية ( أو حتى غير التقليدية). من هنا فإن معرفة دور تلك السياسات التنموية في تفعيل مسيرة التحرك الاجتماعي وتنمية المجتمع غدت مطلبا وطنيا استراتيجيا ملحا في العصر الحديث وخصوصا فيما يتعلق بالتنشئة الاجتماعية والسياسية (التنمية الوطنية) للأجيال ودورها في تحقيق التنمية الوطنية الشاملة التي بدورها تسهم في الحفاظ على الأمن والاستقرار الوطني.
ولهذا السبب أصبحت التنمية الوطنية (ودورها في تحقيق الأمن والاستقرار) الهدف الرئيسي والشغل الشاغل لحكومات الدول في العالم الثالث (سواء كانت تنمية كمية أو تنمية نوعية)، ليس وحسب لأهميتها الوطنية الأمنية والاستقرارية هذه وإنما لدورها في إطلاق قوى التغير في جميع المجالات الإنسانية ( على الرغم من معرفة تلك الدول بصعوبة التحكم في قوى التغير) من جهة، ومن جهة أخرى الدور الكبير الذي لعبته في تحقيق التنمية الجزئية أو التنمية الغير مكتملة ( أو المشوهة)، مما أدى إلى ظهور العديد من المشاكل والتحديات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ( خصوصا التحديات الأمنية) التي ساهمت بدورها في ظهور مؤشرات عدم الاستقرار السياسي الذي عادة ما يهدد الشرعية السياسية لتلك الحكومات.
مشكلة الدراسة
إن معظم دول العالم الثالث التي تعاني من عدم استقرار سياسي واجتماعي ومن تحديات أمنية داخلية جاءت نتيجة لتفاعلات اجتماعية سلبية خطيرة تمخضت بدورها عن ضخ كميات ضخمة من عمليات التطوير والتحديث الاقتصادية والاجتماعية والتربوية ( كرفع مستوى التعليم ) في شرايين المجتمع بهدف تحقيق التنمية الوطنية الشاملة السريعة.
من هنا يمكن القول أن معظم عمليات الإرهاب والعنف السياسي التي يواجهها العالم منذ سنوات طوال واستفحلت مخاطرها الكمية والنوعية منذ إحداث 11 سبتمبر من عام 2001م نتاج لتنامي حدة المشاكل والتحديات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية العديدة (وخصوصا الدينية والعقائدية) في بعض المجتمعات الإنسانية، التي بدورها تمخضت عما حدث في تلك المجتمعات من تغيرات كمية ونوعية في جميع مجالات الحياة الإنسانية الاجتماعية والمادية والروحية من جهة, ومن الجهة الأخرى لكون تلك ألتغيرات الضخمة والسريعة لم يواكبها تغيرات مماثلة في عمليات التنشئة الاجتماعية والسياسية الصحيحة للأجيال الشابة لاستيعاب جميع مكونات تلك التغيرات الكمية والنوعية والمتغيرات المادية المستحدثة.
أهمية الدراسة
تتضح أهمية الدراسة في فعالية ارتباطها بتوظيف أدوات وأساليب ومناظير مختلفة من العلوم ألاجتماعيه مثل: التربية أو التنشئة الاجتماعية, والتنشئة السياسة, وسياسات التنمية والتطور والتحديث في مختلف مجالاتها النظرية والتطبيقية لفهم ودراسة وتحليل العوامل التي تسهم في تحقيق الأمن والاستقرار الوطني ووضع استراتيجية وطنية لتثقيف المجتمع وتنمية قدراته لمواجهة كافة التحديات والمخاطر التي تواجهه وفي مقدمتها مخاطر الإرهاب والعنف السياسي التي تهدد الأمن والاستقرار الوطني بل والعالمي.
ولعل المتطلبات الإنسانية الرئيسية المطلوبة لنجاح التنمية الوطنية الشاملة ترتأى ضرورة توفير جميع متطلبات التربية والتنشئة الاجتماعية والسياسية وخصوصا في جانبها السياسي ( الهوية الوطنية وتقوية الولاء والانتماء للوطن) للمواطن المخلص والمنتج الذي يعد قاعدة التنمية الوطنية الشاملة وعاملا أساسيا من عوامل تحقيق الأمن وألإستقرار والحفاظ عليهما.
الدراسة في المجال النظري تهتم بمعالجة مشكلة آنية ملحة مطروحة على بساط البحث والتحليل لكونها هدفا وطنيا استراتيجيا يراد تحقيقه في جميع دول العالم دون استثناء. ولذلك فإن عمليات التطور الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للوطن وللمواطن في المجتمعات النامية تتطلب تنمية مشتركة ومتوازنة ومستقرة بين هذه المكونات الرئيسية, والتي بدورها تتطلب أيضا إعادة تنشئة الأجيال الحالية والقادمة بشكل صحيح وصحي وقويم يساعدها على التعايش الايجابي مع الواقع الحالي بجوانبه السياسية والاقتصادية والمادية. أخيرا فإن الوضع الجديد برمته يتطلب إحداث تغيرات جوهريه (تطبق بشكل تدريجي ومنظم) في مجمل المفاهيم والإيديولوجيات التقليدية التي تحكمت في المشاعر والعقليات ألشعبيه لعقود طويلة من الزمن.
أهداف الدراسة
يحاول البحث بنظرة تحليلية شاملة معرفة دور التنشئة الوطنية في تحقيق الأمن والاستقرار الوطني من خلال تطبيق لبعض من نظريات العلوم الاجتماعية بداية بالعلوم السياسية وخصوصا علم الاجتماع التربوي وعلم الاجتماع السياسي. إذ أن دراسة تأثير التغيرات الاجتماعية ( وغيرها من تغيرات) على الأمن والاستقرار غدت مطلبا إنسانيا ملحا ليس فقط لمحاولة التفاعل الايجابي مع قوى التغير وضغوط المتغيرات, وإنما لمواكبتها واستثمارها خصوصا في تحديث منظومة التربية أو التنشئة الاجتماعية والسياسية ( التنشئة الوطنية) بجوانبها التربوية والتعليمية والثقافية لتغدو أكثر مرونة وبالتالي قدرة على مواجهة التحديات والمستجدات ومقاومة السلبيات والمخاطر وخصوصا المتعلق منها بالإرهاب والعنف لسياسي.
ويتضح تأثير التغيرات الاجتماعية والسياسية على عمليات التنمية والتنشئة الوطنية فيما لو جرت محاولات علمية كمية ونوعية لقياس حجم ونسبة المشاكل والتحديات والمخاطر التي عادة ما تنجم عن تلك التغيرات وخصوصا إن كانت من التغيرات السريعة التي قد تفضي إلى حدوث مشاكل عدم الاستقرار. هدف عملية التحديد ومن ثم القياس العلمي لتأثير قوى التغير الاجتماعي والسياسي على المجتمع ( وبالتالي الدولة) وضع تصور علمي لماهية التغير وآليته وطرائقه ومساراته والوسائل والطرق التي يمكن تبنيها للحد من مخاطر وسلبيات التغير من جهة, واستخدام التغير كوسيلة لتحقيق غاية وطنية. بمعنى آخر الاستفادة من ايجابيات التغير وتفادي سلبياته ومن ثم توظيفه لتحقيق التنمية الوطنية الشاملة الصحيحة في الاتجاه الصحيح وبالقدر الصحيح.
وتهدف الدراسة أيضا إلى شرح وتحليل عملية التنشئة الاجتماعية والسياسية الوطنية باعتبارها متطلب أساسي لمواكبة التغير من جهة, ومن جهة أخرى لتحقيق الأمن والاستقرار الوطني الذي يساعد بدوره على نجاح عمليات التنمية الوطنية الشاملة. وأيضا استنباط ما يمكن أن تسهم به سياسة تحديث العملية التربوية والتعليمية لأساليب ووسائل وطرق التنشئة الاجتماعية والسياسية للمواطن ودورها أيضا في إحداث تغيرات ايجابية وموضوعية في فكر وسلوك الأجيال القادمة تتضمن مفاهيم ومعتقدات تدعوا إلى التسامح والتعايش والتأقلم وتقبل الاختلاف مع الآخرين, والتي يمكن أن تتضح من خلال:
- رصد الاتجاهات التربوية والتعليمية ( التنشئة الوطنية) في مرحلة التنمية الاجتماعية والتنمية الاقتصادية.
- الكشف عن الآثار الاجتماعية والتربوية والنفسية المتوقعة في عمليات التحول الاجتماعي وأثرها على المؤسسات المدنية الحالية.
كما وتحاول الدراسة شرح وتحليل عملية التنشئة الاجتماعية والسياسية الحديثة كمتطلب أساسي لتحقيق الأمن والاستقرار الوطني من جهة, ومن الجهة الأخرى لتحقيق هدف التنمية الوطنية الشاملة المطلوبة للحفاظ على الأمن والاستقرار الوطني وذلك بالتركيز على ثلاثة متغيرات رئيسيه:
المتغير الأول يهتم بعرض وتحليل علاقة العلوم الاجتماعية بالتنشئة الوطنية (التنشئة الاجتماعية والسياسية).
المتغير الثاني يتطرق لأهم نظريات التنشئة الوطنية في العلوم الاجتماعية وربطها بالأمن والاستقرار وبالتنمية الوطنية.
ويتوصل المتغير الثالث إلى وضع إطار علمي لدور التنشئة الوطنية في تحقيق الأمن والاستقرار وبالتالي في نجاح عملية التنمية الوطنية الشاملة.
التنمية الوطنية والظاهرة الإنسانية
الظاهرة الإنسانية ظاهرة معقدة ومتشابكة ذات أبعاد متعددة لها جوانبها التربوية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والنفسية، ولفهم تلك الأبعاد والجوانب لا بد من معرفة وفهم خلفيات وحقائق تلك الجوانب والأبعاد والتعامل معها بمنظور كلي وشامل للتوصل إلى معرفة سلبياتها وإيجابياتها المختلفة. فالإنسان كان ولا زال مصدر الفعل والحركة والأنشطة ومصدر الفكر والسلوك بمعنى آخر أشمل وأعم الإنسان مصدر الحياة بكافة أوجهها ومجالاتها ومستوياتها, ولهذا فإن صلح الإنسان صلح المجتمع والعكس أيضا صحيح.
ومن جهة ثانية فان التنمية الوطنية المستقرة تتطلب إعداد المواطن الواعي المنتج إعدادا يؤهله للمشاركة ألأساسية ألصحيحة ألفاعلة في عملياتها وتفاعلاتها والتي هي بدورها عملية متعددة الأبعاد وتفاعلاتها تتخطى قوة ومدى المنظور الأحادي المنفرد لأي فكر أو علم، ولذلك لا بد من دراستها وتحليلها من مختلف المناظير العلمية للعلوم الاجتماعية وخصوصا من خلال الدراسة المقارنة بين المتغيرات التنموية الرئيسية الثلاث: المتغير السياسي, المتغير الاجتماعي, والمتغير الاقتصادي.
المتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية
التغير واقع حتمي وحركة طبيعية متواصلة لا سبيل لإيقافها أو منعها لأنها سنة من سنن الله في خلقه وكونه. فالكون برمته يخضع للتغيرات المتواصلة عبر ملايين السنين, والإنسان بدوره ( بحضارته وثقافته ومعارفه) يخضع لعمليات تغير متواصلة ومستمرة منذ فجر التاريخ وفقا لعلاقة تداخل وتفاعل تبادلية متواصلة في الحركة مستمرة في الأداء بينه ( أي الإنسان) وبين البيئة الجغرافية والطبيعية ( عامل المكان) بجميع مكوناتها المادية وغير المادية من جهة, ومن جهة أخرى فيما بينهما وبين عامل الزمن.
أما المتغيرات فهي المجالات أو القوى التي من خلالها وبموجبها تتم عملية التغير. وعادة ما تكون المتغيرات مستقلة أو متغيرات تابعة تبعا لعلاقتها بمجال الحركة أو التغير. ويمكن القول أن المتغيرات بدورها تخضع لتأثير عامل التغير سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة, جزئية أو كلية وذلك تبعا لموقعها من قوى بؤرة التغير ومجال مركزه.
وبصفة عامة توجد علاقة إيجابية متبادلة بين التنمية الاجتماعية والتنمية السياسية والتنمية الاقتصادية. على سبيل المثال فإن تبني قرار تطبيق سياسة التعليم العام الموحد (الذي يعد قرار سياسي اجتماعي) على كافة المواطنين يستخدم كوسيلة رئيسية وأداة هامة من أدوات التنمية الاجتماعية والسياسية والثقافية المتماثلة التي عادة ما تسهم بدورها في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستقرة.
ومن جانب آخر تسهم سياسات التنمية الاقتصادية في إحداث تغيرات اجتماعية جزئية وأحيانا شبة شاملة (سواء في سلوكيات ومفاهيم وتطلعات الأجيال الجديدة الشابة) تجاه المجتمع والبيئة المادية والعلمية والتقنية المحيطة به وخصوصا البيئة الخارجية. وكذلك من المفترض أن تسهم التغيرات التنموية الاقتصادية في حدوث تغيرات سياسية مؤسساتية لاستيعاب تلك التغيرات الاقتصادية والتغيرات الاجتماعية بالتحديد.
بيد أن الذي حدث حتى الآن, أن التغيرات الاجتماعية التي نجمت عن التنمية الاقتصادية وأدت إلى تغيرات جوهرية في الهياكل والمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية لم يواكبها كما أو نوعا تغيرات مماثلة في المؤسسات السياسية وخصوصا مؤسسات المجتمع المدني المختلفة التي بمقدورها التحكم في مختلف مكونات ومصادر القوى الاجتماعية من خلال استيعابها وامتصاص اندفاعها وحماسها أو تشغيل طاقاتها في مجالات مختلفة.
الفجوة بين نتاج حركية التغيرات الاجتماعية والاقتصادية وثبات الحركة السياسية ( مخرجات السياسة) أدت إلى ظهور فجوة اجتماعية – أخلاقية ووظيفية كبيرة في البنية الاجتماعية لم تعد تخضع للقوانين التقليدية في ذات الوقت الذي لا زالت تبحث فيه عن قوانين حديثة أو جديدة تتلاءم مع واقعها الجديد.
وتتصاعد مخاطر الفجوة بين الحركة الاجتماعية والحركة السياسية فيما لو تصاعدت أيضا مخاطر كبر حجم المعضلة الاجتماعية التي تتمخض عن ارتفاع الطلب الاجتماعي على الوظائف والأعمال في مقابل ضعف العرض منها. ذلك لأن محور المعضلة الاجتماعية – الاقتصادية – الأخلاقية يرتكز على كبر حجم التوقعات الفردية - والجماعية في المجتمع المطلوب أو المتوقع تحقيقه في مقابل انحسار الفرص الفردية والجماعية الوظيفية في الواقع الحقيقي أو الفرص المعروضة بالفعل. وتتعمق المعضلة الاجتماعية أكثر في حال قلة المعروض من الوسائل الترفيهية ووسائل شغر أوقات الفراغ المتاحة للشباب, وما يمكن إنجازه أو تحقيقه على مستوى طموحات الفرد والجماعة في المجالات والنشاطات الرياضية.
وبمنطق مقارن من الملاحظ أن عمليات التغير الاجتماعية أو التغيرات الاقتصادية التي حدثت في العالم الغربي صاحبها تغيرات مؤسساتية مدنية مواكبة لاستيعابها، بمعنى أن التنمية القومية الغربية كانت تنمية شاملة ومتكاملة الجوانب وخصوصا فيما يتعلق بالجانب المؤسساتي السياسي والاجتماعي المدني. فالتغيرات الاجتماعية تؤدي إلى تغيرات سياسية واقتصادية, ومن الجانب الآخر فإن التغيرات السياسية عادة ما تؤدي إلى حدوث تغيرات اجتماعية واقتصادية مماثلة. كما وأن التغيرات الاجتماعية والاقتصادية عادة ما تؤدي إلى تغيرات سياسية مماثلة أيضا. وهذا ما حدث بالتحديد في العالم الغربي إذ تلاقت التغيرات مع المتغيرات وتواصلت حتى تمكنت من إيجاد معادلة متزنة ومتوازنة فيما بينها أدت إلى تحقيق الأمن والاستقرار وقطع شوط كبير في الأخلاقيات المدنية المتمدنة الحديثة كالتنظيم والتقيد بالقوانين والأنظمة والتعليمات والحفاظ على النظام العام واحترام الحقوق الخاصة وتقبل الاختلافات مع الآخرين واحترام معتقداتهم ووجهات نظرهم وطرائق حياتهم ومعيشتهم.
وبنظرة مقارنة أيضا فإن القاعدة التنموية المتبادلة ( أو التبادلية ) التي حدثت في معظم دول العالم الثالث خصوصا في عملية التأثير بين مختلف القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية لم تتمكن من تحقيق جميع مكوناتها في معظم عمليات التنمية والتطوير والتحديث التي طبقتها غالبية تلك الدول سواء كان ذلك بسبب المرحلة المتأخرة زمنيا في عمليات التنمية والتطور الوطنية، أو بفعل ضغوط وتأثير القوى الخارجية السلبي على سياسات وعمليات التنمية في دول العالم الثالث ( سواء جاءت تلك الضغوط الخارجية في شكلها الاستعماري أو في شكلها الإمبريالي), أو بسبب وجود عوائق وعقبات حضارية وثقافية وعقائدية داخلية. وأخيرا بفعل وجود تناقضات جوهرية بين المفاهيم السياسية والعقائدية من جهة, ومن الجهة الأخرى لبروز خلل في السلوكيات الاجتماعية والاقتصادية التي نتجت عن عملية التحول الاجتماعي المفاجيء والسريع.
النتيجة التي يمكن أن نلمسها في معظم المسارات التنموية التي سلكتها تلك الدول تتمثل في عدم قدرة المؤسسات السياسية والمؤسسات المدنية على مواجهة قوى التغير الاجتماعي والاقتصادي بفعالية واحتوائها بايجابية، بل وعدم قدرتها على تحقيق أدنى مستوى من مستويات المرونة الوظيفية أو العملية في القدرة على التعامل مع قوى التغير الاجتماعية والاقتصادية، سواء عن طريق توسيع نطاق ودائرة المشاركة الاجتماعية أو السياسية أو بتطوير تلك المؤسسات لمواجهة ارتفاع الاحتياجات والمطالب الاجتماعية.
النتيجة ظهور مشاكل عدم الاستقرار السياسي في بعض الحالات, وفي حالات أخرى ظهور مشاكل ومخاطر ألإرهاب والعنف السياسي, الأمر الذي أعلن عن ظهور حقبة جديدة لبداية خطيرة حقيقية لظهور مشاكل عدم الأمن والاستقرار الداخلي على مستوى الدول والخارجي على مستوى العلاقات بين الدول.
ومن الواضح أن النتيجة في هذا الوضع بالذات حتمية فإطلاق سياسات التطوير والتحديث بكميات ضخمة وبجرعات كبيرة بهدف تحقيق التنمية الوطنية الشاملة في أسرع وقت عادة ما يصاحبها تغيرات اجتماعية كميه سلبية خطيرة (ارتفاع في أعداد السكان وارتفاع في المطالب العامة والخاصة, وزيادة في الاحتياجات والرغبات والطموحات الفردية والجماعية) وكذلك حدوث تغيرات اجتماعية سلبية نوعية خطيرة ( خصوصا في تغيير نمطية السلوك الاجتماعي وعدم استقراره، واختلاف في العادات والتقاليد والقيم وانحراف في الأخلاقيات وضعف في المباديء والمفاهيم, وأيضا حدوث تدهور في نوعية الحياة المادية والاجتماعية).
المتغير الاجتماعي والمتغيرات النفسية والثقافية والعقائدية
تؤثر الاتجاهات النفسية التي تفسر مضمون الرسائل Messages التي تنتقل عبر أجهزة وقنوات الاتصال السياسية التي تربط بين أطراف المتغيرات المختلفة على كافة المستويات والأصعدة الداخلية أو المحلية والدولية أو العالمية. على سبيل المثال إذا كان الاتجاه السائد مثلا، يميل إلى تحديث عملية التنشئة الوطنية وإعادة بلورتها وبرمجتها لتتلاءم مع التطورات والتغيرات الدولية, فمن الضروري أن يتم ذلك تحت غطاء سياسات الإصلاح والتعديل والتطوير الوطني تبدأ بعملية تسويق سياسية عامة وشاملة وتوظف جميع وسائل الإعلام لإنجاحها. وأخيرا تتطلب تعبئة اجتماعية وسياسية مركزة لكافة القوى الاجتماعية والسياسية الواعية والمدركة لأهمية التغير والانتقال من وضع لوضع وفقا لمسيرة حراك اجتماعي مخطط ومدروس.
وعلى المستوى الدولي فإذا ما كان الاتجاه السائد في العلاقات بين الدول يميل إلى اتجاه سلبي معين نتيجة لمواقف عدائيه معينة أو لعداء تقليدي استمر لعدة قرون أو حقب زمنية، أو النظر إليه من منطلق عدائي، فان تفسير كل اتصال يجري معه سيتم بشيء من الخوف وعدم الثقة بل والتحامل، حتى وأن أظهر ذلك الطرف اتجاها مرنا،
أو مهادنا، أو متفهما، أو عبر عن رغبته في الاتفاق حول مسألة مختلف عليها،
ويطلق على ذلك بالتصور القومي National Perception أو التوجهات القومية National Attitude تجاه الدول والشعوب الأخرى.
وتلعب القيم Values والمعتقدات Beliefs دورا مباشرا في سياسة الدولة الداخلية والخارجية والتي يعتبرها هولستي نتاج عملية التنشئة السياسية، وهي العملية التي تتأثر بظروف البيئة الاجتماعية، وبطبيعة التوعية المذهبية، وبالخبرات والتجارب التي يمر بها الأفراد ويحصلون عليها. والقيم هي القاعدة التي ترتفع فوقها الاتجاهات وبالتالي فإنها من أهم المعايير التي يرجع إليها في تقييم عناصر السلوك الذاتي وسلوك الآخرين.[1]
وتؤثر المذاهب والإيديولوجيات بشكل مباشر في توجهات وتصورات صانعي السياسة الداخلية والخارجية وبالتالي تؤثر في قراراتهم الداخلية والخارجية. والمذاهب هي مجموعة من المعتقدات الواضحة والمحددة التي تحاول أن تفسر الواقع، وأن توفر أحساسا بالهدف لأي سلوك سياسي سواء في الداخل أو في الخارج. وقد يتسع نطاق المذهب وتتعدد أبعاده وتتنوع عناصره، ليشكل ما يعرف بالأيديولوجية التي يتجاوز تأثيرها مجرد تقرير الأهداف أو تبرير السلوك، إلى التأثير بعمق في رؤية واضعي القرارات الداخلية والخارجية وصبغها بلون محدد.
فالأيديولوجية تساعد على بلورة الإطار الفكري أو العقلي الذي من خلاله يرى صانعوا القرار السياسي الداخلي والخارجي الواقع الداخلي والخارجي الذي يتعاملون معه. كما وتضع الأيديولوجية صانع القرار الداخلي والخارجي في حالة تصور للمستقبل، وتعين له ما يجب أن تكون عليه أهدافه البعيدة المدى والوسائل ألمحققه لتلك الأهداف. وتساعد الإيديولوجية على عقلنة المفاضلة من بين الخيارات العديدة التي تطرحها ظروف الموقف الخارجي والوضع الداخلي، كما وتوفر الايديولوجيه مجموعة من المعايير الأدبية والأخلاقية التي يستند إليها صانع القرار الخارجي في تقييم الاتجاهات والتصرفات سواء ما يتعلق منها بالذات أو بالآخرين.[2]
العلاقة بين التغيرات والمتغيرات وأثرها على الأمن والاستقرار الوطني
من أجل الحفاظ على الأمن والاستقرار ولمكافحة مخاطر العنف والإرهاب, أصبح الاهتمام بمعالجة القضايا والمشاكل والمسائل ألاجتماعيه السلبية يتصدر الأولويات العلمية وكذلك السياسية على مستوى صناع القرار السياسي. ولذلك غدت مهام إعادة صياغة المفاهيم والمعتقدات والقيم التربوية والتعليمية والسياسية الوطنية لتواكب متطلبات العصر واحتياجاته ولمواجهة تحدياته ومخاطره مهمة مشتركة تضطلع بمسؤولياتها جميع العلوم الاجتماعية. الهدف بالطبع معالجة كافة الجوانب ألاجتماعيه والتربوية والتعليمية السلبية وتجديد علاقاتها الوظيفية بالثقافة الاجتماعية السائدة وكذلك بالثقافة السياسية الوطنية، لتفعيل تأثيرها على عملية التنشئة الوطنية.
إذا فإن قضية إعادة أقلمة وتحديث البنية الاجتماعية والسياسية وتجديد مكونات عملية التنشئة الوطنية لمواكبة قوى التغير من أهم المواضيع والقضايا التي تشغل بال الباحثين في مجال العلوم الاجتماعية. فمواكبة التغير الاجتماعي الناتج عن تشابك وتداخل الإحداث الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتأقلم معها، والتفاعل معها بإيجابية وفعالية للحفاظ على الأمن والاستقرار الوطني أصبحت من أهم ما يتطلع إلى تحقيقه صانعوا القرارات السياسية في جميع دول العالم وخصوصا العالم الثالث. الهدف الرئيسي بالطبع تحقيق مصالح الدولة والحفاظ على أمن واستقرار المجتمع.
فالتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والنفسية التي تحدث نتيجة لتطبيق سياسات التنمية الوطنية الشاملة ( خصوصا في المجالين الاقتصادي والعلمي - التقني) وكنتيجة لتفاعلها مع عوامل التغير الطبيعية في المجتمعات الإنسانية تتطلب بدورها إحداث تغيرات مؤسساتية سياسية واجتماعية- ثقافية مماثلة لاستيعابها وتفعيلها وتوجيهها في الاتجاه الصحيح.
وبنفس المنطق فان التغيرات السياسية التي تطرأ على هياكل ومؤسسات الدولة نتيجة لعوامل التغير الطبيعية أو المفروضة أو حتى المفتعلة، لابد وأن يصاحبها أيضا تغيرات اجتماعية مماثلة ومواكبة لها في هياكل ومؤسسات المجتمع، بل وفي الثقافة العامة لمواجهة نتائج تلك التغيرات وآثارها.
ولذلك فان المجتمع بأنساقه المختلفة - تربوية واجتماعية واقتصادية وسياسية - وما يتضمنه من ظواهر عديدة مثل: التغير، والتكامل، والحراك الاجتماعي، والتدرج الاجتماعي، وغيرها من جوانب الحياة الاجتماعية، لابد وأن يحقق نقطة التوازن بين ما هو واقع بالفعل من فكر وسلوك, وبين ما كان عليه الحال أو الوضع في الماضي وذلك بهدف الحفاظ على مقومات الاستقرار الاجتماعي التي تعد من أهم متطلبات الاستقرار الأمني والسياسي، والعكس أيضا صحيح.
ولما كان موضوع الدراسة يتناول بصفة أساسية متطلبات التنشئة الوطنية ودورها في تحقيق الأمن والاستقرار الوطني من جهة, ومن الجهة الأخرى دورها في إنجاح عمليات التنمية الوطنية والاستقرار الوطني، فإننا سنركز على دراسة وتحليل النسق التربوي والاجتماعي وعلاقته بالنسق المؤسساتي عامة والنسق السياسي خاصة ودورهما في تحقيق التنشئة والتنمية الوطنية.
دور التنشئة الوطنية في عملية التنمية الوطنية الشاملة
تعد العملية التربوية الإنسانية بصفة عامة، والتنشئة الوطنية ( التنشئة الاجتماعية والسياسية) بصفة خاصة إحدى المعطيات المنبثقة عن الحياة في الجماعات الإنسانية، والتي بدورها تنجم عن معطيات البيئة الوظيفية والبيئة المادية لتلك الجماعات المتضمنة لقوالب ونماذج معينة للفكر وللسلوك، والمنطوية على نماذج من التصورات الجماعية المشتركة التي تصدر عن الجماعة وتستمر بالجماعة ومن اجلها تعمل على دعم ظواهرها ومكونات بنائها ومؤسساتها الوظيفية وعاداتها التقليدية والمستحدثة على السواء.
البيئة الإنسانية هي التي تسعى إلى تحريك وتطوير واقعها في الاتجاه الذي من شأنه أن يحقق متطلباتها ويواجه احتياجاتها ويحل مشكلاتها وينمي طاقاتها. ويتخذ كل مجتمع من التربية وسيلة لضمان استمرار بقائه مشدودا بتراثه وماضيه متطلعا إلى مستقبله وأمانيه. ومن ثم كانت التربية عملية ديناميه في محتواها، ايجابية في تأثيرها، خاصة إذا كانت هادفة إلى تحقيق تغير اجتماعي وسياسي وثقافي واسع النطاق بعيد المدى.[3]
أي أن العملية التربوية الوطنية تتولى مراحل التشكيل المختلفة في حياة الفرد، وتتدخل في تحديد استجاباته وصياغة مواقفه الفكرية لتعده فكرا وسلوكا لخدمة وطنه، ولتنمي فيه مشاعر الولاء والانتماء الوطنيين لنظامه السياسي.
من المعروف أن كل مجتمع ما هو إلا شبكة معقدة جدا من العلاقات والمكونات والمتغيرات التي تتفاعل في إطار فكري وسلوكي لعدد كبير من الجماعات الصغيرة المترابطة والمتشابكة، والتي تقوم بينها علاقات تفاعل مستمر. ومن بين هذه الجماعات التي تؤدي خدمات للمجتمع: الأسرة، وجماعات الرفاق، المدرسة، والنقابات، والأندية والجمعيات المختلفة، التي تلعب بدورها دورا كبيرا في عمليات التنشئة الوطنية (الاجتماعية والسياسية).
وكل فرد يعيش في المجتمع ينتمي إلى أكثر من جماعه في نفس الوقت سواء كانت أوليه أو ثانوية. وتعمل كل جماعة منها بالتضافر مع الجماعات الأخرى على تنشئته اجتماعيا وثقافيا، وتتدخل في تحديد أنماط سلوكه وقيمه وآرائه، وهكذا يظل الفرد - شاء أم أبى _ مجالا للتشكيل وإعادة التشكيل وفقا لمواقف ومقتضى الحال ونتيجة لازمة لعمليات التفاعل التي تحيط به، وهذه المواقف تشكل ظاهرة تربوية.[4]
وفي ضوء ما تقدم تعرف الظاهرة التربوية من وجهة النظر الاجتماعية بأنها نظام اجتماعي يقوم بدور وظيفي في إعداد وتنشئة وتشكيل النشأ من خلال وسائط ومؤسسات وأجهزة لها فاعلية تكوين الفرد وتهيئته من النواحي الجسمية والعقلية والأخلاقية ليكون عضوا في مجتمعه يحيا حياة سويه في بيئته الاجتماعية.[5]
ومن الملاحظ أن هذه النظرة الاجتماعية مهمة وواقعية ولكنها أهملت المنظور السياسي المتعلق بمتطلبات التنشئة السياسية في المجتمع. إذ أن عمليات التشكيل والتحديث والتطوير للعملية التربوية والتعليمية لتحقيق أهداف التنشئة الاجتماعية والثقافية الوطنية لا بد وأن تخضع للقرار السياسي وتتأثر بالمناخ السياسي السائد في ذلك المجتمع بعقيدته وأنظمته السياسية والعقائدية التالي تساهم بدورها في تشكيل الثقافة السياسية والاجتماعية للفرد.
وبهذا المعنى يرى محمد الجوهري أن التربية عملية عامه ومستمرة لإعداد الفرد للتكيف مع بيئته الاجتماعية والثقافية والايديولوجية...، ولإمداده بعناصر مدنيته وحضارته، ولتزويده بمظاهر التحضير وبإنجازات العلم والتكنولوجيا، وبإرشاده بوسائل تبصره وتوعيه.[6]
إلا أنه في تحليله ذلك أهمل بدوره أهمية التربية في إعداد الفرد للتكيف مع البيئة السياسية التي تمثل الإطار الشرعي والقانوني لوجوده ولسلوكياته منذ الصغر وطوال حياته. إذ أن جميع العمليات التربوية والتعليمية التي تطبق في المجتمع عادة ما توجه وتنظم من قبل النظام السياسي وبدورها تطبق من خلال مؤسسات التربية (الموجهة من قبل النظام السياسي) التي توفر تفاعلا اجتماعيا بهدف توظيف مفاهيم التنشئة الوطنية وتضمينها في الشخصية الوطنية للأجيال. ومن هذا المنطلق يمكن النظر إلى التفاعل الاجتماعي بين الفرد وبيئته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على أنه المحور الذي يتوجب أن ترتكز عليه الإجراءات التربوية التي تعد الفرد وتشكل شخصيته الاجتماعية والسياسية وترسي مقومات ثقافته العامة وتعلمه على أدبيات وأخلاقيات التعامل مع الآخرين باختلاف نطاقها وتعدد نوعياتها.
ولما كانت البيئة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تتأثر بالظروف المحيطة بها ( خصوصا البيئة الدولية)، وحيث أن هذه الظروف بالنسبة للمجتمعات النامية بصفة عامة والشرق الأوسط بصفة خاصة، قد تغيرت بتغير الأوضاع في الشرق الأوسط، أصبحت قضية التنمية الوطنية في المنطقة تمر اليوم بمرحلة جديدة من مراحل تطورها (البحث عن الهوية الوطنية أو القومية) لمواجهة التحديات والمخاطر العالمية بداية من مخاطر ضعف الهوية الوطنية خصوصا الولاء والانتماء الوطني, ومرورا بضعف الثقافة الوطنية وعدم قدرتها على مواجهة الثقافات الخارجية, ونهاية بمخاطر التبعية والوقوع تحت براثن الهيمنة الخارجية.
لذا فان السؤال الذي يبدو طبيعيا ومنطقيا في آن واحد في هذا الوقت بالذات هو: هل سيغدو بمقدور التنشئة الاجتماعية والثقافية الحالية أن تخلق أجواء الاستقرار الاجتماعي والثقافي الملائمة للتنمية السياسية الوطنية الشاملة وضمان استمراريتها في المستقبل؟ ويقودنا هذا السؤال لسؤال آخر, هل سيغدو بمقدور الأنظمة السياسية الحالية في الشرق الأوسط إحداث تغيرات ملائمة ومتماشية مع متطلبات التنمية الاجتماعية والاقتصادية ألقائمه الآن والتي تواجه تحديات داخلية وخارجية عارمة؟
أخيرا نتساءل: إلى أي مدى يمكن للعلوم الاجتماعية وخصوصا علم السياسية وعلم الاجتماع التربوي وعلم الاجتماع السياسي (التنشئة السياسية) بمعطياتها النظرية وأسسها العلمية وإسهاماتها التطبيقية أن تقدم النموذج التربوي التعليمي الوطني المناسب في هذه المهمة الوطنية المصيرية؟
دور العملية التربوية في التنشئة الوطنية
لما كانت التربية ترتبط ارتباطا وثيقا بأوضاع المجتمع وظروفه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والأخلاقية واللغوية - نظرا لكونها أحدى ظواهر المجتمع الاجتماعية - فإنها إلى جانب ذلك ترتبط في نشأتها وتطورها ووظائفها بالمجتمع وظواهره الاجتماعية الأخرى.
وسواء نظرنا للتربية باعتبارها ظاهرة اجتماعيه ونظاما اجتماعيا أو عملية اجتماعيه، فان نظرتنا لها تؤكد على أهمية دورها الوظيفي التربوي بالنسبة للمجتمع. فهي كنظام أكاديمي تسهم في دعم المجتمع وتأكيد مقوماته وقيمه لدى أعضائه. بالإضافة إلى ما تسهم به بالنسبة لإكساب أعضائه من الخبرات والمهارات ما يمكنهم من شغل أدوارهم في المجتمع.[7]
وتعتبر التربية وسيلة رئيسية هامة من وسائل عمليات التنشئة الاجتماعية والسياسية في المجتمع (التنشئة الوطنية) نظرا لفاعليتها المباشرة في إعداد وتكوين شخصية الفرد وتدعم قدراته بتزويده بالعادات والتقاليد والمفاهيم والقيم الحضارية والثقافية وعوامل التكامل الاجتماعي والوظيفي.
من هذا المنطلق تعتبر التربية نظاما اجتماعيا قائما بذاته نظرا لما تسهم به من تنظيم للسلوكيات الفردية والجماعية وتحديد العلاقات السلوكية بين الفرد والجماعة وتوجيهها سواء من حيث طريقة التفكير أو من حيث عمليات التفاعل
الاجتماعية في الاتجاه الذي تقره الدولة والمجتمع لتحقيق الأهداف والمصالح الاجتماعية والسياسية والمحافظة عليها.
وعرفت التربية Education: بأنها التنشئة، والتدريب الفكري والأخلاقي، وتطوير القوى الأخلاقية والعقلية وخاصة عن طريق التلقين المنظم سواء في الأسرة أو المدرسة.[8]
ولقد أستخدم مصطلح التربية في قاموس التربية ليشير لجميع العمليات التي يتم بواسطتها تنمية قدرات الشخص واتجاهاته وأشكال سلوكه الأخرى، وتنمية القيم الايجابية التي يؤكد عليها المجتمع الذي ينتمي إليه.[9]
بناء على ذلك فان التربية عملية اجتماعيه تتضمن جميع أساليب وأشكال الأعداد الرسمية وغير الرسمية لشخصية الفرد، والتي تسهم في نقل المعرفة المنظمة عبر الأجيال والتي تساهم في ضمان استمرارية الحياة الاجتماعية والسياسية بمقوماتها الحضارية والثقافية والعقائدية.
ويعتبر كيفين هاريس K. Harris التربية ضرورة اجتماعيه اقتضتها حاجة المجتمع لنقل المعرفة، وتراكمها بين أجياله المتعاقبة. وبذلك يستخدم هاريس مصطلح التربية هنا ليشير لعملية أو لمجموعه معينه من العمليات التي تجيزها النظم الاجتماعية لنقل المعرفة، واكتساب الخبرة وتعلمها في مختلف المؤسسات التربوية.[10]
وأكد بيرتون كلارك في دراسته للأنساق التربوية وعلاقتها بالمجتمع ارتباط التربية ونظمها بالأوضاع الاجتماعية والثقافية للمجتمع، وبمختلف الظواهر والعمليات الاجتماعية في المجتمع.[11]
أما التعريفات المعاصرة والمتداولة للتربية، فإنها تنظر للتربية باعتبارها عملية تفاعل وتكيف بين المتعلم وبيئته الطبيعية والاجتماعية. والتربية بذلك عملية تطبيع اجتماعي وثقافي لحياة الفرد في نطاق المحيط الاجتماعي والثقافي لمجتمعه.[12]
دور علم الاجتماع التربوي وعلم الاجتماع السياسي في التنشئة الوطنية
احتلت علاقة علم الاجتماع بالتربية، ومن ثم بعلم الاجتماع التربوي وعلم السياسية مكانة مرموقة من قبل التربويين وعلماء الاجتماع والسياسية، خاصة بعد أن تطورت العلاقة بين هذه المتغيرات لتعد فرعا من فروع علم الاجتماع وأصبحت تسمى بعلم الاجتماع التربوي, وعلم الاجتماع السياسي الذي بدأ يمثل بحد ذاته مجالا للتخصص من قبل التربويين والاجتماعيين وعلماء السياسة على حد سواء.
نتيجة لذلك الاهتمام ظهرت العديد من المؤلفات العلمية التي اهتمت بمعالجة قضايا علم الاجتماع التربوي والتربية والمجتمع وعلم الاجتماع السياسي والعلاقة القوية التي تربط بينهم. أضف إلى ذلك تم اللجوء إلى استخدام عمليات الفهم الاجتماعي في مجال الممارسات التربوية والسياسية، وتحليل الأنساق التربوية والسياسية، وما يرتبط بينهما من نظم وتنظيمات اجتماعيه لمعرفة الكيفية التي بموجبها يمكن تحديث عملية التنشئة الوطنية، الأمر الذي دعم الاتجاه الاجتماعي والسياسي لفهم التربية وتطوير وتنمية مفاهيمها وطرقها وأساليبها التربوية لتوظيفها في سياسات التنمية الوطنية الشاملة.
ومن جهة أخرى يدرس علم الاجتماع السياسي المجتمعات الإنسانية والظواهر الاجتماعية والسياسية وعلاقات الناس فيها، والسلوكيات الاجتماعية والسياسية، التي هي بالطبع مختلفة في المواقف والتوجهات، ومتعددة من حيث الكم والنوع. كما ويتناول علم الاجتماع دراسة المجتمع ككل ويسعى إلى تحديد خصائص الظواهر الاجتماعية, فيما يهتم علم الاجتماع السياسي بذات الاهتمامات ومعها الظواهر السياسية والعلاقات المتبادلة بينها وبين الظواهر الاجتماعية.
لذلك تعددت تعريفات علم الاجتماع واختلفت باختلاف وجهات النظر والجوانب التي تنطلق منها أو ترتكز عليها. فبينما يرى لستر واردLaster Ward أن “ علم الاجتماع هو علم المجتمع باعتبار أن المجتمع عبارة عن سلوك أي جماعة تحيا حياة معا بتفاعل وعلاقات متبادلة”[13]. يؤكد عالم الاجتماع ادوارد روس Edward Ross على أن علم الاجتماع هو “علم الظواهر الاجتماعية” وهو تعريف يتفق مع تعريفات كل من اوجست كونت وهربرت سبنسر وإميل دوركهايم.[14]
ومن ناحية أخرى يرى هنري جيدينجز Henry Giddings أن علم الاجتماع هو “الدراسة العلمية للمجتمع”.[15] بينما يرى سمول A.W. Small أن علم الاجتماع هو “علم العمليات الاجتماعية.[16] ومن ناحية أخرى يعرف فيرشيلد H.P. Fairchild علم الاجتماع بأنه” دراسة الإنسان وبيئته في علاقاتهما ببعضهما البعض”.[17]
وبذلك يمثل علم الاجتماع الدراسة العلمية للمجتمع وللتفاعل الإنساني، ومجموعة المعارف التي تنبثق عن هذه الدراسة، ويهتم علم الاجتماع بدراسة السلوك الإنساني للوصول إلى مباديء وقوانين عامة لوصفه وتفسيره وتحليله والخروج بتعميمات عامه Generalization بخصوصه.[18]
ويشير التفاعل الإنساني الذي يركز على دراسته علم الاجتماع إلى العملية التي يستجيب بها الفرد لسلوك فرد آخر أو أكثر في موقف اجتماعي. ولا يقتصر هذا التفاعل على علاقات المواجهة Face to Face Relations فقط، بل يتعداها ليشمل أي عملية اتصال Communication ذي أثر على الآخرين.
وبدوره يدرس علم الاجتماع السياسي الحياة الاجتماعية الإنسانية وعلاقاتها على كافة المستويات الاجتماعية والسياسية ككل متكامل بمختلف مؤثراتها وتفاعلاتها السياسية، إذ يركز على مجال الفعل الاجتماعي Context of Social Action من جهة, ومن جهة أخرى الفعل السياسي. فيدرس مجموعة العوامل الاجتماعية التي تحدد وتشكل وتوجه السلوك الإنساني, وكذلك العوامل السياسية التي تحدد وتشكل وتوجه السلوك الاجتماعي. وبذلك يؤكد علم الاجتماع السياسي على دراسة الجماعة الاجتماعية والجماعية السياسية وليس الفرد.[19]
الوظيفة الاجتماعية والسياسية والثقافية للتنشئة الوطنية
يرى عالم الاجتماع هربرت سبنسر أن الإعداد التربوي لأعضاء المجتمع من الأفراد يستهدف حفظ التراث، وتكوين الرابطة ألعائليه، والحصول على ضروريات الحياة، وتنظيم العلاقات الاجتماعية والسياسية المناسبة في المجتمع.[20]
كما وأن وجود الأفكار والقيم والمعايير الاجتماعية المشتركة بين أفراد المجتمع الواحد تساعد على تنمية المشاعر العامة والتوجهات ألعامه تجاه الأحداث والتطورات وتجاه الآخرين. أضف إلى أن وجود الأفكار والمعارف والقيم والمعايير المتنوعة ألمشتركه بين أفراد المجتمع الواحد تحقق التجانس الاجتماعي والثقافي فيما بينهم الأمر الذي يساهم في عمليات التفاعل الاجتماعي ويساعد على تحقيق الضبط الاجتماعي والسياسي, وهما من المطالب الأساسية لعملية التنشئة الوطنية.
ويرى أميل دوركهايم أن المجتمع في قيامه بعملية التنشئة الاجتماعية يحدد القيم والمعتقدات والمعايير الاجتماعية التي يريد أن يغرسها في أفراده. ولما كانت التربية تقوم بعملية التنشئة الاجتماعية وإعداد أفراد المجتمع للحياة الاجتماعية بمجتمعهم، فقد أكد دوركهايم على ضرورة تخطيط التعليم. ويرى أن التخطيط التربوي ليس عملية مستقلة وإنما لابد وأن يتم التخطيط التربوي في ضوء التخطيط الشامل للمجتمع لكي يتناسب مع احتياجاته وحاجات أفراده وطبيعة العصر. وأعتبر دوركهايم أن الدولة مسئولة عن تحديد الأساسيات التي ترى أن المدرسة يجب أن تؤكدها والأهداف التي ترى المدرسة يجب أن تحققها.[21] وفي هذا التحديد المناط بالدولة تتضح أهمية علم الاجتماع السياسي ودوره في تحقيق تلك المسؤولية الوطنية.
وبنفس المنطق فان التنشئة الاجتماعية تساهم بدورها (وفقا لأهداف الدولة وتوجهاتها السياسية والعقائدية) في غرس المعتقدات والقيم والمفاهيم الاجتماعية والسياسية في عقول الأفراد منذ بداية حياتهم، وهي بذلك تساهم في نجاح عملية التنشئة الوطنية ( التنشئة الاجتماعية والسياسية) للمجتمع.
وتعد استمرارية الثقافة Continuity of Culture من أهم الوظائف الاجتماعية لعملية التنشئة الوطنية، فلكل جماعة ثقافتها الخاصة بها (العقائدية والسياسية) التي تميزها عن بقية المجتمعات الأخرى.
ولما كانت الثقافة تمثل الحصيلة التاريخية لكل ما تعلمه أفراد جماعة معينة أو مجتمع معين وفقا لطرق معيشتهم وطرق تفكيرهم ومشاعرهم تجاه الآخرين واتجاهاتهم وقيمهم وفنونهم ومعارفهم ومعتقداتهم وعاداتهم وتقاليدهم، فان استمرارية هذه الثقافة تعتبر أساسا لبقاء المجتمع بل واستمراريته.
وتتجلى أهمية الثقافة العامة أو الثقافة المدنية في المجتمعات الانسانيه لكونها المصدر الأساسي الذي يزود الفرد بالمعرفة الانسانيه (العقائدية والسياسية والاقتصادية) وبالمهارات وطرق التفكير وأساليبه واتجاهاته، والمعتقدات والمفاهيم وأساليب السلوك وطرقه المختلفة التي تساعده على فهم نفسه في علاقاته بالآخرين في مجتمعه، وعلى فهم بيئته الاجتماعية والسياسية الطبيعية ألماديه التي يعيش فيها وتفسيرها وفقا لأنماطها وتوجهاتها ومعتقداتها الفكرية، والتعامل معها بإيجابية والمحافظة عليها، والاستفادة منها وفقا لإمكانياته الفردية، ووفقا لما تتيحه له بيئته من وسائل وإمكانيات وفرص.
ويتعلم الفرد أيضا من ثقافته الاجتماعية النماذج المختلفة المحددة ثقافيا للإثابة والعقاب والطرق المشروعة لتحقيق الأهداف المحددة ثقافيا.[22]ولذلك فان استخدام الأنماط السلوكية المحددة ثقافيا وتكرار استخدامها يكسبها الصفة التلقائية فيتبعها الفرد ويستجيب لها كمتطلبات مجتمعه دون مواجهة صعو