مسؤولية المعماريين بين القواعد العامة و القواعد الخاصة
د. ويس فتحي
أستاذ محاضر جامعة تيارت كلية الحقوق و العلوم السياسية
مقدمة
في البداية لم تكن هنالك أحكام خاصة بالمسؤولية المعمارية حيث كانت الأحكام العامة للمسؤولية المدنية تنظم علاقة المعماريين من مقاولين و مهندسين معماريين بالمستفيدين و مقتني المباني و المنشئات التي يشيدها هؤلاء ، و كانت أحكام المسؤولية العقدية هي السارية في هذا الشأن تؤازرها في بعض الحالات أحكام المسؤولية التقصيرية .
لكن في مرحلة لاحقة جاء القانون المدني الفرنسي لسنة 1804 فأخضع المهندسين و المقاولين إلى نظام مسؤولية خاص بموجب المادتين 1792 و 2270 منه ، يقوم هذا النظام على وضع قرينة مسؤولية مفترضة كانت تجد جذورها التاريخية في القانون الروماني أين كانت المسؤولية تقوم على فكرة مفادها أنه حتى على الرغم من انتهاء مهمة المعماريين بتمام الإنجاز و التسليم ، إلا أنهم يبقون مسؤولين طيلة عشر سنوات عن سلامة ما أنجزوه من بناء من كل عيب يهدد وجوده أو صلاحيته .
و الملاحظ أنه إلى غاية هذه الفترة فإن المسؤولية لم تكن تتعلق إلا بالأعمال الكبرى حسب ما كان يفهم من المادة 2270 من القانون المدني الفرنسي . غير أنه مع توالي التعديلات التشريعية في فرنسا لا سيما بالقانون 67/3 ثم بالقانون 78/12 اتسع نطاق تلك المسؤولية من حيث الموضوع و من حيث الأشخاص على حد سواء ، فصار بذلك الأمر يتعلق بكافة الأعمال سواء الكبرى أو الصغيرة بل امتد في مرحلة لاحقة حتى إلى حسن سير عناصر التجهيز الصغيرة التي توجد بالمباني و المنشئات حيث صار المعماريون ملزمون بحسن اتمام الإنجاز و حسن تشغيل عناصر التجهيز المختلفة مهما صغرت و صغر دورها في البناء و في المنشئات الثابتة الأخرى .
و من الناحية الشخصية فإن نطاق تلك الصور الجديدة من المسؤولية توسع هو الآخر ليشمل المهندسين المدنيين و مكاتب الدراسات و كافة المتدخلين في المشاريع المعمارية . و في مرحلة لاحقة و مع تنامي عمليات البناء الضخمة في أوربا عقب الحرب العالمية الثانية و ظهور النشاط الجديد و المتميز لما أصبح يعرف بالمرقي العقاري أصبحت المسؤولية تشمل هؤلاء المرقين العقاريين الذين صاروا يخضعون إلى نموذج متكامل من المسؤولية المدنية و الإدارية و الجزائية على حد سواء . (1)
لكن السؤال الذي يثور و أحاول الإجابة عنه في هذه المداخلة هو ما إذا كانت مسؤولية المرقين العقاريين و باقي المتدخلين في أعمال الترقية العقارية كلها مسؤولية خاصة أم أن قواعد المسؤولية العامة المعروفة في القانون المدني لها نصيب في تنظيم علاقة هؤلاء المعماريين برب العمل و بالغير خاصة و أن قواعد المسؤولية الخاصة و الصور الجديدة للمسؤولية كلها وجدت لتنظيم علاقة المعماري بالمستفيد و ليس بالغير الأجنبي عن العلاقة التعاقدية .
فبالرغم من أن الأحكام الخاصة المنصوص عنها في المواد 1792 و 2270 واسعة جدا إلا أنها لا تشمل كل حالات النزاع ، فهذه المسؤولية ليست دائما حصرية ، إذ يمكن أن تتماشى قواعد ضمان حسن الإنجاز لمدة سنتين مع القواعد العامة . و حتى في حالات حصريتها فإنها لا تكون كذلك إلا في نطاق تطبيقها أما خارج ذلك النطاق فتبقى القواعد العامة للمسؤولية هي التي تطبق و هذا حال مسؤولية المعماريين في مواجهة الغير . لكن حتى في علاقته مع رب العمل تثور في بعض الحالات مسؤولية المعماري التي تخضع للقواعد العامة .(2)
و على هذا يمكن القول أن للقواعد العامة نصيب في تنظيم المسؤولية المعمارية ، إلى جانب القواعد الخاصة بها ، وهذا ما يستدعي التطرق لكل حالة من حالات المسؤولية على حدة ، على أن يكون البحث في القانون الفرنسي بوجه خاص كونه الرائد في هذا المجال .و لذلك سأتطرق للمسؤولية المعمارية وفق القواعد الخاصة ثم وفق القواعد العامة في مبحثين اثنين .
المبحث الأول: المسؤولية المعمارية وفق القواعد الخاصة
المطلب الأول : طبيعة المسؤولية و نطاقها الشخصي
الفرع الأول : طبيعة المسؤولية
لقد تطورت طبيعة المسؤولية في فرنسا عبر عدة مراحل تميزت باختلاف نظرة التشريع لتلك الطبيعة و تبعه في ذلك الفقه و القضاء الذي كان يحاول تفسير وبيان تلك الطبيعة من خلال تفسيره للنصوص القانونية التي تعاقبت في تنظيم هذه المسؤولية .
أولا : في القانون المدني لسنة 1804
منذ سنة 1804 أخضع المشرع الفرنسي المقاول و المهندس المعماري إلى نظام خاص للمسؤولية بالمواد 1792 و 2270 مختلف عن القواعد العامة بحيث وضع في مواجهة هؤلاء قرينة مسؤولية ، مما شكل حالة أصيلة منفردة و مميزة ضمن نظام عام للمسؤولية على أساس الخطأ المثبت . و هذه الفكرة تشكل اليوم أساس الضمان العشري في تعديلها بقانون 3 جانفي 1967 ثم قانون 4 جانفي 1978 .
و في تفسيره لنصوص قانون 1804 قال الفقه أنه ليس من المؤكد أن المشرع أراد وضع نظام مختلف عن القواعد العامة ( DEROGATOIRE) ، لذلك فإن الكثير فسر قائلا أنه ماعدا فيما يتعلق بالمدة الطويلة المحددة بعشر سنوات فإن نظام المسؤولية هذه ليس سوى تطبيقا للقواعد العامة للمسؤولية العقدية . و في هذا الاتجاه تبنت محكمة النقض الفرنسية تفسير الفقيهين أوبري و رو في قرارها المؤرخ في 13 جوان 1863 قائلة أن هذه النصوص أسست قرينة خطأ في مواجهة المقاول و المهندس و لكن فقط في حالة عقود الجزافMARCHE TRAITE A FORFAIT . (3)
و على هذا فإن مسؤولية المعماريين حسب القانون المدني 1804 لا تتميز بقواعد خاصة إلا في نطاق ضيق يتمثل فيما يلي :
1/ حالة العقود الجزافية MARCHET A FORFAIT
2/- بعد استلام البناء
3/- بالنسبة للعيوب الخفية التي تصيب الأجزاء و الأشغال الكبرى
أما في خارج هذه الحالات فإن المسؤولية تخضع للقواعد العامة المتعلقة بالخطأ الواجب الإثبات .
ثانيا : بالقانون 1967
إن المشرع الفرنسي هنا وسع نطاق المسؤولية المفترضة و أخضع لها كل المتدخلين في عملية البناء دون التفرقة بين طبيعة العقد المنعقد ( TOUT TYPE DE MARCHE) .و في هذا القانون صحح المشرع وضعية شاذة تتعلق بالعيوب التي تصيب الأجزاء الصغيرة و التي كانت تخضع للقواعد العامة و التقادم الطويل 30 سنة و صارت المدة سنتين بالمادة 2270 .
و في تفسيره لهذا القانون يرى القضاء أن قانون 1967 أزال الغموض الذي كان يثور بسبب وجود نصين هما المادة 1792 و 2270 مما كان يثير التساؤل حول مدى وحدة المسؤولية بين المقاول و المهندس أم مدى اختلافها لكن نفس القانون خلق إشكالا آخر عندما فرق بين الأشغال الكبرى و الأشغال الصغيرة .
كما أن تطبيق القانون 1967 أدى إلى مشاكل كبيرة في ضل تزايد حالات سوء البناء و الغش و انعدام التأمين و عسر مؤسسات البناء إذ تميز ببطء الإجراءات و سوء تحديد المسؤول و جزافية التعويضات بلا أساس . و من أجل الإصلاح نصبت لجنة SPINETTA التي أشارت في تقريرها إلى ضرورة حماية المستعمل و وضع قواعد أخلاقية لمهنة البناء و مسؤولية المعماريين ، و بهذا صدر القانون 4 جانفي 1978 .
ثالثا : قانون 4 جانفي 1978
خلافا لقانون 1967 فإن قانون1978 أعاد كليا و جذريا صياغة المادتين 1792 و 2270 ، فبموجب القانون 1967 كان المقاولون و المهندسون و باقي مؤجري الخدمات ملزمين لمدة 10 سنوات في الأشغال الكيرى و لمدة سنتين في الأشغال الصغري يضاف إليها مسؤولية المقاولين لمدة سنة PARACHEVEMENT ، و تحسب كل المدد ابتداءا من استلام الاشغال لكن قانون 1978 احتفظ بنقطة بدء المسؤولية أي لحظة استلام الأشغال إلا أنه أزال الغموض و قرر إجبارية الضمان السنوي للمقاولينPARACHEVEMENT . (4)
و قد عرف هذا القانون بدقة الضمان العشري و بين بأنه يتعلق بالبناء و بعناصر التجهيز الغير قابلة للفصل و عرف الضمان الثنائي و بين بأنه يتعلق بباقي عناصر البناء . و من أهم التعديلات توسيع نطاق المسؤولية من الناحيتين الموضوعية و الشخصية . فمن الناحية الموضوعية أصبح يشمل كل أشغال البناء بما فيها الهندسة المدنية و من الناحية الشخصية توسعت المسؤولية لتشمل المراقب التقني و مصنعي العناصر التركيبية . كما أصبحت التفرقة بين الضمان العشري و الضمان الثنائي لا تتوقف على الأشغال الكبرى أو الصغرى وإنما على مدى إمكانية فصل عناصر التجهيز عن البناء فالتي يمكن فصلها يشملها الثنائي و التي لا يمكن فصلها يشملها الضمان العشري الذي يشمل البناء كله أيضا . هذا و قد دخل قانون 1978 حيز التنفيذ في 1 جانفي 1979 بموجب المادة 14 منه .و العبرة ببدء المشروع و ليس بتاريخ إبرام العقد . (5)
و من المستجدات فإنه بدل الضمان الثنائي تحديدا أصبح القانون الجديد ينص على ضمان مدته الدنيا سنتين دون تحديد مدته القصوى و لكن بقي عمليا أن أغلب مؤسسات البناء تضمن لمدة سنتين فبقيت التسمية مستعملة .و مما أصبح راسخا في ضل تطبيق هذا القانون هو أن الضمان العشري مسؤولية ذات طبيعة خاصة تختلف عن القواعد العامة .
أما عن طبيعة الضمان الثنائي في قانون 1978 فإنه إذا كانت عناصر التجهيز الغير قابلة للفصل تخضع للضمان العشري الذي يخضع لقواعد مسؤولية خاصة تقوم على أساس المسؤولية المفترضة فإن عناصر التجهيز القابلة للفصل تخضع للضمان الثنائي أو ما يسمى ضمان حسن التشغيل . و هنا خلافا لما كان يبدو للبعض من أن المشرع أراد أن يخضع هذا الإلتزام إلى قواعد مسؤولية موضوعية من القواعد العامة ، إلا أن الفقه و القضاء رأى بأن الأمر يتعلق بمسؤولية مفترضة أيضا و لكن مدتها سنتين فقط ما لم يتفق على تمديدها مع عدم جواز التغيير في أحكامها أو الإعفاء منها أو الحد من نطاقها .و لهذا فإن هذا الضمان يخضع لقواعد مسؤولية مشابهة للمسؤولية العشرية حتى في أسباب التخلص منها و الإعفاء منها .(6)
أما المستفيد من هذا الضمان فهو بلا شك رب العمل و كل متلقي للبناء خلال مدة السنتين أما المتلقي بعد انقضاء هذه المدة فلا يستفيد . أما الملزمون بهذا الضمان فإنه بسبب صياغة المادة 1792/3 فإن الملزمين بهذا الضمان ليسوا كل المعماريين كما هو الحال في الضمان العشري و لكن كل من يتحمل المسؤولية في التصميم أو الإختيار أو التصنيع أو التركيب أو مراقبة عناصر التجهيز الهامة ، أما من لا تربطه أي علاقة بهذه الأشغال فلا يلزم بها مثل الرصاص و الكهربائي . (7)
و الجدير بالملاحظة هنا أن الإجتهاد القضائي قرر أنه لا يجوز لرب العمل أن يستند على قواعد المسؤولية العامة في وجود هذه القواعد الخاصة و من هذا المنظور يظهر الإلتزام الثنائي كتقييد و حد من المسؤولية المعمارية في إطار القواعد العامة . (
و في الأخير فقد ثبتت الطبيعة التضامنية لمسؤِولية المعماريين في مواجهة رب العمل و المستفيد ، إذ استقر الإجتهاد القضائي على اعتبار جميع المتدخلين في عملية البناء مسؤولين بالتضامن تجاه رب العمل و المستفيد . (9)
الفرع الثاني : النطاق الشخصي لهذه المسؤولية
يقصد بالنطاق الشخص الأشخاص الملزمون بها و أولئك المستفيدون منها
أولا : الأشخاص الملزمون بها
في الأصل إن القانون المدني الفرنسي لم يكن يتكلم في باب المسؤولية إلا عن المهندس المعماري و المقاول وهذا سر بقاء العبارة في القانون المدني الجزائري رغم أن نطاق المسؤولية ما فتئ يتوسع بقانون 3 جانفي 1967 الذي أضاف للمادة 1779 من القانون المدني عبارة " و التقنيين" . و للمادة 1792 عبارة " و كل الاشخاص المرتبطين مع رب العمل بعقد إيجار خدمات " كما شملت المسؤولية البائع قبل الانجاز بموجب المادة 1646 /1
ثم جاء قانون 4 جانفي 1978 بتوسعة ثانية لنطاق المسؤولية شملت على الخصوص مكاتب المراقبة التقنية و صانعي عناصر التكوين COMPOSANTS و المرقون البائعون بعد الإنجاز و كل وكيل عن رب العمل . أما المرقي العقاري فكان له معنيين ، إما من يأخذ المبادرة و عناية إنجاز مشروع ترقوي و إما ذلك المهني مقدم الخدمات الذي يتعامل مع رب العمل بعقد ترقية عقارية وفق المادة 1831/1 ، و هذا الأخير صار ملزما وفق القواعد الخاصة بمسؤولية المعماريين بالقانون 1971 الذي خلق عقد الترقية العقارية إذ قررت محكمة النقض الفرنسية أنه لا يجوز له الرجوع على باقي المعماريين إلا على أساس الخطأ .(10)
أما المرقي بوجه عام و هو الذي عرفه القضاء بأنه من يأخذ المبادرة فإن الإشكال أدق ، إذ بالرغم أنه غير مرتبط بالضحية فإنه ملزم بتحقيق نتيجة هي تسليم بناء صالح و خال من العيوب لكن هذه المسؤولية أساسها القواعد العامة و ليس المواد 1792 و ما بعدها حسب الإجتهاد القضائي الفرنسي. أما إذا ظهر بمظهر البائع قبل أو بعد الإنجاز فإنه يصبح مسؤولا على هذا الأساس بناء على قواعد خاصة . (11)
ثانيا : المستفيدون من المسؤولية
يتمثل هؤلاء فيما يلي :
1/- رب العمل : أي مالك البناء خاصة لما يكون الضرر هو عيوب أو خلل في البناء و الذي بحسب طبيعة الضرر يستطيع التمسك إما بقرينة المسؤولية المنصوص عنها في المادة 1792 و إما بالمسؤولية على أساس القواعد العامة .
2/- في حالة انتقال البناء منه إلى المستفيد يصبح هذا الأخير هو المستفيد من قواعد المسؤولية و لكن الإجتهاد القضائي الفرنسي قرر أن رب العمل يحتفظ بصفته كضحية و يمارس الدعوى طالما كانت له مصلحة مباشرة و مؤكدة INTERT CERTAIN ET DIRECT ، كما لو كان هو مهددا بالمتابعة من طرف المستفيد ، و هذا ما أكدته محكمة النقض الفرنسية(12). و قد تأكد هذا الرأي القضائي بالمادة 1792 بعد تعديلها في 1978 حيث صارت تنص على أن كل معماري مسؤول تجاه رب العمل أو تجاه المستفيد ..." وأضحى يكفي هنا إثبات المصلحة بالمعنى الإجرائي .
و يستفيد متلقي ملكية البناء من صفة الضحية إذا ظهر العيب بعد انتقال البناء إليه بالبيع و في هذه الحالة يعود على البائع على أساس المادة 1646/1 في حالة البيع على مخطط و إما يعود على المعماري الأول على أساس المادة 1792 و ما بعدها ، و إما على أساس المسؤولية في القواعد العامة حسب ظروف القضية . كما يستفيد أيضا من انتقال الحق في الضمان العشري و هذا حسب الإجتهاد القضائي أولا ثم بموجب قانون 1978 و ذلك باعتبار هذا الضمان من ملحقات البناء .(13) و لكن في المقابل و حسب الاجتهاد القضائي فإن هذا يحرم المستفيدين المتتالين من التمسك بالمسؤولية التقصيرية.(14) و لكن بعد إعادة صياغة المادة 1792 بالقانون 1978 فإنها قررت استفادة رب العمل و المستفيد من المسؤولية الملقاة على عاتق المعماريين في قواعدها الخاصة مما أصبح يغني عن البحث في أساس المسؤولية .
و خلاصة القول أنه لا يستفيد من القواعد الخاصة لمسؤولية المعماريين المنصوص عنها في المواد 1792 و 2270 إلا رب العمل و المستفيد من البناء دون غيرهم .و لذلك فلا تطبق تلك القواعد الخاصة على دعوى المسؤولية التي يرفعها المقاول ضد المقاولين من الباطن التي تخضع للقواعد العامة في المادة 1147 . (15) و تخضع لقواعد التقادم في القواعد العامة .(16)
كما لا تطبق هذه القواعد الخاصة على العلاقات بين المهندس المعماري و المقاول و المهندس المدني و باقي المتدخلين في البناء و أن رجوع بعضهم على بعض تحكمه القواعد العامة و لذلك فإن من يلزم بالمسؤولية تجاه رب العمل لا يجوز له الرجوع على باقي المتدخلين بقرينة المسؤولية المنصوص عنها في المادة 1792 .
المطلب الثاني : نظام المسؤولية
إن النظام الخاص للمسؤولية الخاصة بالمعماريين هو نفسه سواء تعلق بالضمان العشري أو الضمان الثنائي إذ يقوم على أساس المسؤولية المفترضة و لا يختلفان إلا في مدة سقوط دعوى المسؤولية . و دراسة هذا النظام الخاص تقتضي التطرق لأربع مسائل هي : أولا قرينة المسؤولية ، ثانيا السبب الأجنبي المعفي من المسؤولية . ثالثا مدة التقادم و رابعا الإتفاقات المعدلة لأحكام المسؤولية و الضمان .
الفرع الأول : قرينة المسؤولية
عرفت المادة 1792 ثلاثة صياغات متتالية بالقانون 1804 ثم 1967 ثم 1978 و لم يختلف القضاء في كون هذه المادة وضعت قرينة المسؤولية في صياغاتها الثلاث . (17)، ففي البداية كان الإعتقاد السائد بأن هناك مجرد قرينة خطأ أو افتراض الخطأ و لكن فيما بعد و خاصة بعد إعادة الصياغة بالقانون 1967 استقر الأمر في أوساط القضاء على وجود قرينة مسؤولية أو مسؤولية مفترضة و التي لا تنتفي إلا بإثبات السبب الأجنبي . (18)
و صارت النصوص اليوم تصرح صراحة بوجود تلك القرينة حيث تصف المادة 1792 المسؤولية بأنها مسؤولية بقوة القانون و تقوم على الإفتراض . أما عن مدى هذه القرينة فيتعلق في النطاق الشخصي بكل المتدخلين في عملية البناء في علاقتهم برب العمل أو المستفيد و ذلك بصرف النظر عن أخطائهم و أنه على هؤلاء أن يلقوا بالمسؤولية على بعضهم بإثبات الخطأ ، و نظرا لتعقد عملية البناء فإن القضاء في فرنسا غالبا ما يلجأ للخبرة لتحديد الخطأ و نسبته لصاحبه من بين المتدخلين .
أما عن طبيعة التزام المعماريين وفق القواعد الخاصة فإنه إلتزام بتحقيق نتيجة يتمثل في تسليم بناء خال من كل عيب أو ضرر يهدد بقاءه أو سيره ، وأن كل واحد من المتدخلين مسؤول مسؤولية مشتركة عن هذه النتيجة التي إن لم تتحقق يسأل الجميع بشكل تضامني . (19)
و في هذا الصدد أجاز بعض الإجتهاد القضائي التخلص من المسؤولية المفترضة بنفي علاقة السببية بين الفعل و النتيجة و ذلك على أساس تداخل عدة عوامل في الضرر قد يكون واحد منها فقط مسؤول عنه . و في هذا المجال فإن الإلتزام بتحقيق نتيجة ليس مخالفا للقواعد العامة التي تعتبر التزام المقاول و كل متدخل في البناء التزاما بتحقيق نتيجة لأن عملية البناء لها خصوصية فنية تسمح بجعل الإلتزام هكذا تطبيقا للمادة 1147 من القانون المدني . و هذه الطبيعة للإلتزام تشمل الإلتزام بالتنفيذ الخاص بالمقاول كما تشمل الإلتزام بالتخطيط و الإستشارة الخاصين بالمهندس المعماري و المهندس المدني ، و كذا بالالتزام بالرقابة الخاص بالمراقب التقني . و في هذا الصدد يعلق الفقه بأن المسؤولية انتقلت من مرحلة افتراض الخطأ الذي يمكن التخلص منه بنفي الخطأ إلى مرحلة افتراض المسؤولية التي لا يمكن التخلص منها إلا بإثبات السبب الأجنبي .
و هذه القرينة لا يستفيد منها إلا رب العمل و من بعده المستفيد من العقار دون غيرهم أما الملزم بها فتقع هذه القرينة على كل المعماريين المتدخلين في عملية البناء من مقاول و مهندس و مهندس مدني و مراقب تقني و عموما كل من يرتبط برب العمل بعقد عملا بالمادة 1792/1 . و يلحق بهؤلاء بموجب نصوص خاصة بائع البناء على التصاميم و المرقي العقاري . و لا تقع هذه القرينة على المقاولين من الباطن و هؤلاء كثيرون في عملية البناء و يخضعون في علاقتهم برب العمل لقواعد المسؤولية العامة بالمادة 1382 و في علاقتهم بالمقاول الأصلي بالمادة 1147 . (20)
أما الأضرار و العيوب المشمولة بهذه القرينة فيتعلق الأمر بكل الأضرار و العيوب المغطاة بالضمان العشري و الضمان الثنائي و هو النطاق الذي توسع كثيرا منذ قانون 1804 .و قد تأكد هذا بالنص الصريح للمادة 1792 فقرة 2 في صياغتها بالقانون 1978 التي تنص صراحة على أن « une telle responsabilite n’ a point lieu si le constructeur prouve que les dommages proviennent d’ une cause etrangere » . (21)
و إن قوة هذه القرينة تبقى نفسها سواء بالنسبة للأضرار المشمولة بالضمان العشري أو تلك المشمولة بالضمان الثنائي الخاصة بعناصر التجهيز القابلة لفصل . كما أن هذه القرينة تتمتع بنفس القوة سواء في مواجهة المقاول أو المهندس المعماري و باقي المتدخلين الملزمين بها . (22)
الفرع الثاني : السبب الأجنبي المعفي من المسؤولية
في الأصل فإن السبب الأجنبي يأخذ ثلاث فرضيات و هي القوة القاهرة و خطأ الغير و خطأ الضحية .و هذه الفرضيات اعتمدها في هذا المجال القضاء الفرنسي قبل صدور قانون 1978 و عليه فإن إثبات بأن الضرر أو الخلل راجع إلى سبب أجنبي يسمح بقطع علاقة السببية المفترضة بين نشاط المتدخل في البناء و تلك العيوب .و مع ذلك فإن القضاء ضل يقبل للتخلص من المسؤولية إثبات أن العيوب التي حدثت تخرج عن مجال عمل المتدخل ، مثلما أشارت إلى ذلك صراحة المادة L 111 من قانون البناء و التعمير الفرنسي التي أشارت إلى أن المراقب التقني يبقى مسؤولا مسؤولية مفترضة في حدود مهمته .
أولا : القوة القاهرة
لا توجد قواعد خاصة هنا و إنما يكفي للقول بالقوة القاهرة إذا ما توفرت شروطها حسب القواعد العامة و هي ضرورة أن تكون الواقعة غير متوقعة و لا يمكن ردها و خارجية كما يشترط أن تكون واقعة لاحقة على التسليم ، أما ما يحدث من نقص أو تدهور في البناء قبل التسليم فتحكمه القواعد العامة لا سيما المواد 1788 و 1789 مدني .و لذلك يخرج عن هذا المفهوم العيوب التي تكون راجعة لحادث داخلي في البناء كعيب الأرض أو عيب التصميم أو أن البناء يخدم ( travaille). و من غريب التشدد أن القضاء الفرنسي لم يعتبر من قبيل القوة القاهرة الفيضانات القوية ما لم تقرر السلطة الإدارية أنها كارثة طبيعية تنهض معها مسؤولية التأمين . (23)
ثانيا : فعل الغير
إن التابعين للمقاول و المقاولين من الباطن و العمال الخاضعين لأحد المتدخلين ليسوا من الغير و كذلك الأمر بالنسبة للموردين بالمواد لأن المقاول ضامن لجودة المواد التي يستعملها . غير أن المتدخلين المختلفين في عملية البناء فإنهم يعتبرون من الغير في مواجهة بعضهم البعض . و على هذا فإن المقاول يمكنه إثارة خطأ المهندس باعتباره خطأ الغير و العكس صحيح . و قد قبلت المحاكم الفرنسية هذا في عدة قرارات و لكن في القرارات الحديثة أصبحت المحاكم الفرنسية لا تقبل بذلك و تعتبر مسؤولية الجميع مشتركة ما لم يثبت المتدخل أن مهمته لا علاقة لها مطلقا بالجزء من البناء الذي ظهر به العيب . أما الغير من الغرباء عن المشروع فلا شك أنه يشكل صورة من صور القوة القاهرة و لكن الفرضيات نادرة جدا مثل سوء استعمال المستأجر لعنصر من عناصر التجهيز . (24)
ثالثا : خطأ رب العمل
و هنا يشترط وجود رابطة سببية واضحة بين خطأ رب العمل و الضرر فمثلا عدم اكتتاب تأمين من طرف رب العمل ليس بالسبب الذي يعفي المقاول و المهندس من المسؤولية وعلى هذا فإذا أراد المقاول أو المهندس التخلص من المسؤولية المفترضة عليه أن يثبت علاقة السببية بين خطأ رب العمل أو المستفيد و بين الضرر الواقع . (25)
الفرع الثالث : مدة التقادم
القانون القديم كان يفرق في لحظة بدء التقادم بين فرضيتين الأولى إذا تم التسليم بدون تحفظ فتبدأ المدة من يوم التسليم ، أما إذا تم بتحفظ فلا تبدأ إلا بعد إصلاح الخلل محل التحفظ و رفع التحفظ . أما في ضل تطبيق القانون 1978 فإن بدء مدة التقادم يبدأ في الفرضين من يوم التسليم و هذا ما يسمح بتفادي ازدواجية الأحكام . أما فيما يتعلق بالمدة أو الأجل فهناك أجلين للضمان الأول عشر سنوات والثاني سنتين و قد رأينا نطاق كل مسؤولية .أما بالنسبة لمدة عشر سنوات فهي مدة اختبار للبناء و لذلك فإنها مدة سقوط وليست مدة تقادم و لذلك فإنها لا تقبل الوقف و كذلك الحال بالنسبة لمدة السنتين . لكن هاتين المدتين تقبلان الإنقطاع بأحد سببين إما المطالبة القضائية و إما الإعتراف بالمسؤولية حسب القانون الفرنسي. (26)
الفرع الرابع : الإتفاقات المعدلة لأحكام المسؤولية
في الحقيقة يمكن توسيع نطاق المسؤولية مثلما هو الحال في ما يفرضها المقاولون على أنفسهم من ضمان حسن الإنجاز لمدة سنة من يوم التسليم بموجب الإتفاق مع رب العمل هذا السلوك الذي كان يتم بالإتفاق و تم تشريعه بنص المادة 1792/6 بالقانون 1978 الذي جعله ضمانا إجباريا . كما يمكن تمديد مدة الضمان الثنائي أكثر من سنتين .أما الشروط و الإتفاقات المعفية و المخففة من المسؤولية فقد كانت أحكام المحكمة العليا في فرنسا تقرر بأن أحكام الضمان من النظام العام لا يجوز الإعفاء منها أو تحديدها و هذا ما تأكد بعد تردد قديم بعد صدور القانون 1978 الذي منع سواء الإتفاقات المعفية أو تلك التي تحد من الضمان لمصلحة الملزم به ، حيث اعتبرت المادة 1792/5 كل اتفاق من هذا النوع باطل .و بهذا صارت كل الضمانات المنصوص عنها بالقانون 1978 تتعلق بالنظام العام . (27)
المبحث الثاني: المسؤولية الخاضعة للقواعد العامة
تتفرع هذه المسؤولية في علاقة المعماري برب العمل و في علاقته مع الغير و لذلك سأتناول كل نوع منها على حدا .
المطلب الأول : مسؤوليته تجاه رب العمل
خلافا لما يعتقد البعض فإن هناك حالات للمسؤولية التي تخضع للقواعد العامة في للمسؤولية العقدية كلما كنا خارج نطاق تطبيق الأحكام الخاصة . كما أنه في حالات نادرة نكون أمام حالات مسؤولية تقصيرية بالرغم من وجود عقد بين الطرفين .